سمير أمين باعترافه الصريح مفكر ماركسى واشتراكى وشيوعى.. وماركس عنده يمُثل الفكر النقدى..نقد كل شىء: الحقيقة، الواقع الحقيقى ونقد التصورات المختلفة عن هذا الواقع الحقيقى... سمير أمين من المفكرين القلائل الذين يتمسكون فى كتاباتهم بمصطلحات يعتبرها الكثيرون من زمن فات من عينة «مصالح البرجوازية حليفة الاستعمار»، «صراع الطبقات»، «التبعية»، «العلاقة بين المركز والأطراف».
سمير أمين لمن لا يعرفه هو من أبرز المفكرين العربى فى زمن عز فيه الجادون والمُخلصون لأفكارهم بغض النظر عن مضامينها، فما بالك لو كان المضمون من العيار الثقيل كأحدث كتب المفكر اليسارى الذى صدر قبل أيام عن دار العين.
الكتاب بعنوان: «فى نقد الخطاب العربى الراهن» وفيه يبحث سمير أمين عن ماركس المفقود فينتقد بمنهجية ماركسية صارمة أنماط الخطاب العربى كما تجلت فى خطاب الرأسمالية، خطاب القومية، خطاب الدين السياسى.
وكان أمين واضحاً منذ البداية حين أشار إلى أن دراساته التى يضمُها الكتاب تسعى إلى «إظهار التباس المفاهيم المستخدمة فى هذه الخطابات» التى لا تعدو كونها «مقولات لفظية تعتمد اللغة التى فرضتها «الموضة» المستوردة من الولايات المتحدة». ولكى يزيل الالتباس لجأ دون مواربة إلى استخدام المفاهيم العلمية التى أدخلتها الماركسية فى تحليل الظواهر الاجتماعية وتجديد معانيها فى ضوء التطور الذى وصل إليه المجتمع الحديث.
لا ينتظر قارئ الكتاب إذن أن يجد تحليلاً مبسطاً سطحياً كمثل الذى يجده غالباً فى «الكتابات السريعة» السائدة التى تكتفى بمس الظاهرة مساً خفيفاً لا يترك أثراً، فالكتابة هنا غائرة.
ولم يطرح المؤلف فى الواقع موضوعه بشكل مباشر لكنه انطلق من قراءة متعمقة لما كتبه الآخرون، على سبيل المثال الأفكار التى وردت فى كتاب «مصير الجماعة العربية، نقد فكر سمير أمين» لمؤلفه السورى شمس الدين الكيلانى، مقال الكاتب الباكستانى أمين خان حول الإسلام السياسى والمنشور فى دورية «منثلى ريفيو» الأمريكية اليسارية، وغيرهما.
نقد خطاب الرأسمالية:
يرى سمير أمين أن خطاب تعميم ونشر الرأسمالية باعتبارها الحل الأمثل لنشر الديمقراطية وسيادة السلم على الصعيد العالمى وتحقيق الفائدة لكل الشعوب هو باختصار «تصور خيالى».. فالرأسمالية ترتكز على نظرة استعمارية للعالم وتحمل فى طياتها عدم التكافؤ والاستقطاب على مستوى عالمى، وهكذا تصبح العولمة أبرز تجليات الرأسمالية مرادفاً لمصطلح الإمبريالية.
والمؤكد، يشير أمين، أن ثمة نتائج اجتماعية ترتبت على سيادة هذا النمط من عدم التكافؤ أبرزها التهميش والفقر والإقصاء لأقسام ملحوظة من الشعوب..
لا وجود إذن للزمن الجميل، وليس حقيقياً كون الفرد قد أصبح صانعاً للتاريخ بفضل استخدامه لأذرع العولمة التكنولوجية وهى وسائل الاتصال الحديثة: «الفرد المعنى يبقى كائناً اجتماعياً حبيس القهر والاستغلال الذى يقوم عليه مجتمعنا المعاصر».
وبعد تحليل مستفيض ينقد فيه سمير أمين خطاب الرأسمالية السائد من وجوه عديدة يخلُص إلى القول بأننا «نعانى من أزمة حضارة، وأن الرأسمالية أصبحت نظاماً بالياً غير قادر على الاستجابة لتحديات ومشاكل الإنماء، وبالتالى يتوجب تجاوزه» ويدعو الحركات الاجتماعية لأن تقوم بهذه المهمة.
خطاب القومية:
يشير سمير أمين إلى أن هناك قاسماً مشتركاً يجمع التيارات القومية العربية المعنية هى أنها تُضفى أهمية رئيسية لإنجاز وحدة الوطن العربى وتعتبر تحقيق هذه الوحدة مفتاحاً متميزاً للتقدم بصفة عامة وعودة لأمجاد الشعوب العربية.
ويعترف المؤلف بأنه لا يختلف بشكل عام مع هذا التوجه فهو على حد وصفه «صديق العروبة» لكنه يعيب على التيارات القومية إغفالها للعلاقة والتى يراها حاسمة التى تربط بين النضال من أجل إنجاز الوحدة العربية بالصراع الطبقى.
فهو يرى صراحة أن إنجاز الوحدة المطلوبة أمر مستحيل دون «الخروج من الرأسمالية» بمعناه الشامل، أى بمعنى الخروج من المنظومة الرأسمالية المعولمة من جانب، واستبدال علاقات اجتماعية رأسمالية الطابع بعلاقات ذات طابع اشتراكى فى إدارة المجتمع المحلى من الجانب الآخر.
لكن الواقع أن التيارات القومية لا تهتم بهذا التساؤل وتغفل أهميته وتذهب إلى تصور إمكانية إنجاز الوحدة المطلوبة دون «ثورة جذرية معادية للرأسمالية». وهذا أيضاً دور الطبقات الشعبية.
من جهة أخرى سعى أمين إلى نقد مرتكزات الخطاب القومى المستندة على ادعاء وجود سمات يُفترض أن تُثبت وجود القومية العربية من سيادة لغة مرجعيات ثقافية ودين واحد.
فعلى سبيل المثال يشير إلى أنه لو كان حقيقة أن اللغة العربية الفصحى هى لغة النخب المثقفة فإن سيادة اللغات الدارجة للجماهير تظل العنصر المتحكم لدرجة أن الجماهير الشعبية لا تزال تعانى صعوبة حقيقية فى التفاهم المتبادل.
أما فيما يخص الدين فينبه إلى أن «المجتمع العربى» فى عصره الذهبى (القرون الهجرية الثلاثة الأولى) لم يتسم كونه وسطاً عربياً إسلامياً متجانساً كما تزعم خرافة العروبة بل اتسم هذا المجتمع باختلاط وتفاعل عناصر ثقافية ولغوية، بل ودينية من أصول متباينة، ويوضح أن هذه العروبة الناقصة لم تُمثل عالماً سلبياً، بل على النقيض أصبح هذا التنوع عالماً إيجابياً فى ازدهار الفكر والحضارة.
والانتماء العروبى هو الآخر محل تساؤل من قبل أمين الذى يُلاحظ عن حق أن الأفراد الذين يُضفون بالفعل الأولية للانتماء «العروبى» ويُنكرون بالنسبة لأنفسهم أى انتماء آخر لا يمثلون سوى أقلية صغيرة وسط أقلية أخرى تحتل فضاء «المسيسين»، وتصور أن ما يقول به أفراد هذه الأقلية هو صحيح بالنسبة إلى الجماهير، إنما هو «إسقاط تعسفى لميول طيبة لا أكثر». لا حاجة إذن إلى «اختزال تاريخ الشعوب العربية فى مجرد إشهار عروبتها».
نقد الخطاب الدينى السياسى:
يؤكد سمير أمين أن الإسلام السياسى ظاهرة حديثة وليس استمراراً لظاهرة قديمة وقال إن جميع المذاهب والحركات النشطة فى العالم المعاصر والفاعلة فى المجالات المختلفة الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية هى «حديثة» «لأنها بكل بساطة لا يمكن فصلها عن واقع الرأسمالية» لكن تبقى المشكلة فى ضرورة تحديد معناها وتوضيح أوجه التباين بينها.
ويعتبر أمين أن الإسلام السياسى المعاصر (وكذلك الهندوسية السياسية والبوذية السياسية والمسيحية الأصولية الأمريكية وغيرها) ينتمى إلى تلك المجموعة التى تقدم إجابات لا تعتمد على تحديد علمى لطابع التحدى وبالتالى «تروى أوهاماً خطيرة حول قدرتها على تغيير العالم».
ويُشير إلى أن تناول موضوع الإسلام السياسى عبر خطاب عام يغفل تنوع الظروف الملموسة المحيطة والمتغيرة من قطر إلى آخر يحمل بالتأكيد مخاطر حقيقية فينبغى تفادى هذا الجمع. لذلك اقترح التمييز بين الإسلام السياسى فى السعودية وباكستان من جانب وفى البلاد الأخرى – على الأقل- من جانب آخر.
فالوهابية فى الجزيرة العربية على سبيل المثال تعد ظاهرة خاصة وتجلياً لنمط غليظ للعقيدة هو نتاج لمجتمع ظلت تحكمه أشكال عتيقة من الممارسات المجتمعية تجاوزتها المجتمعات الإسلامية الأخرى منذ زمن بعيد سابق على الإسلام نفسه.
بل إن هذا المذهب أصبح أيديولوجية لدولة هى نفسها أصبحت حليفاً مرؤوساً للولايات المتحدة. ويرى أن الثروة النفطية قد خلقت ظروفاً مناسبة لانتشار المذهب الوهابى فى صفوف الإسلام السياسى السنى المعاصر ترتبت عليه ردات تدميرية واضحة فى سلوك رجعى لأقصى حد خاصة بالنسبة إلى النساء واختزال العقيدة فى شكلية طقوسية وعنصرية طائفية متعصبة فى مواجهة الشيعة.
أما مقولة أن الإسلام السياسى يحارب الولايات المتحدة الأمريكية وهى المقولة التى ترددها أمريكا ولا تستطيع أن تقول غيرها لأن الحرب التى تمارسها كنتيجة لهذه المقولة
تمنحها «شرعية» لمشروع السيطرة العسكرية على الكوكب باسم «محاربة الإرهاب» خاصة وسط الرأى العام فى الغرب
، هذه المقولة لابد من قراءتها عن كثب، فحركة طالبان مستعدة لأن تتحول إلى حليفة لواشنطن شرط أن تنسحب القوات الأجنبية وهنا تقع واشنطن فى فخ حقيقى فالانسحاب يلغى تماماً مصداقية الحجة القائمة على محاربة الإرهاب، فلا شك أن بن لادن يظل موجوداً وتصريحاته مفيدة تأتى دائماً فى الوقت المناسب.
وفى العراق لا يحارب الإسلاميون فقط قوات الاحتلال وخدامها: هل يمكن إغفال نجاح الخطة الأمريكية فى إثارة الحرب الأهلية بين السنة والشيعة؟ ولئن فشلت الخطة الأمريكية السياسية بمعنى أن السلطة المرؤوسة الحليفة لم تكسب بعد درجة من المصداقية تستطيع بها أن تحكم فى غياب قوات الاحتلال إلا أن المقاومة العراقية من جانبها تظل عاجزة عن دحر القوات الأمريكية.
فالمقارنة مع فيتنام فى غير محلها إذ إن الفيتناميين طردوا العدو عسكرياً، وذلك دون الاعتماد على دعوة دينية الطابع. فهل أيديولوجيا الإسلام السياسى بريئة من هذا الفشل؟ ويتساءل أمين: ألم يدخل حزب الله لبنان فى مأزق سياسى إذ أن مشروعه غير مقبول خارج الشيعة،
بالإضافة إلى أن مساندة جماهير الشيعة هى نفسها أمر مشكوك فيه؟
وهل أثبتت حماس فى فلسطين قدرة فى مواجهة العدو الإسرائيلى تفوق فعالية قوى بديلة محتملة؟
هل يمكن إغفال أن إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا شاركت فى إفشال هذه البدائل.
وهكذا يُشدد أمين على أن الإسلام السياسى لم يعلن الحرب ضد الولايات المتحدة.
والإسلام السياسى كما يتجلى فى خطابه من وجهة نظر سمير أمين ليس حركة «إنعاش دينى» بل هو حركة سياسية توظف الخطاب الدينى بل توظف خطاباً سلفياُ دون تحفظ اختزل العقيدة معه إلى ممارسات طقوسية: «لقد كرس الإسلام السياسى العودة إلى مفاهيم عصر الانحطاط لا غير» و«فتح باب العودة إلى التمييز الطائفى وفتح باب التعصب وتصاعد الكراهية بين السنة والشيعة».
ويدعو المفكر الماركسى فى سياق نقده لهذا الخطاب إلى ضرورة تبنى خيار العلمانية: «نعم، أدافع عن العلمانية وفصل مجال السياسة والدولة فصلاً نهائياً» لأن «العلمانية هى شرط إقامة ديمقرطية خلاقة دون حدود، متحررة من واجب تدعيم مبادراتها بإعادة تفسير الماضى –الدينى وغيره- من أجل إضفاء شرعية للتغيير المطروح».
ويؤكد أن العلمانية لا تخص الشعوب المسيحية فقط كما يزعم الإسلام السياسى والسلفية المعاصرة، وإنما يهم إنجازها الجميع، مرة أخرى يقول: «المجتمعات الإسلامية لن تتقدم دون فصل الدين عن الدولة والسياسة».
لذلك يرى أن دحر أوهام الإسلام السياسى هو السبيل إلى إنجاز التقدم فى جميع مجالات الحياة الاجتماعية وتلك مسؤولية اليسار التقدمى.
عندما يقول سمير أمين كل ذلك يتمنى من القارئ أن يدرك تماماً موقع كلامه ونقاشه دون التباس فنقده موجه «لتسييس الدين» بمعنى تعبئة الإيمان فى خدمة مشروع سياسى أياً كان، كما يفعل الإسلام السياسى. أما تناول إشكالية «الفكر الدينى» فهو موضوع آخر.
فهدف أمين كما يُشير لم يكن كشف «الدين الصحيح»، وللمؤمن الحق المطلق فى البحث عما يراه الإيمان الصحيح فى إطار العقيدة الدينية التى ينتمى إليها، فللمؤمن الحق فى أن يختار السلفية، كما له الحق فى أن يختار مذهباً يدعو إلى تطوير تفسير العقيدة، «فتح باب الاجتهاد» إذا رأى ذلك ضرورياً لإنعاش الفكر الدينى نفسه.
أما الخلط بين تناول مشاكل الفكر الدينى وتناول مشاكل الفكر السياسى ولو زعم هذا الأخير أنه فكر دينى فهو «أسلوب أيديولوجى رخيص».
فى نقد الخطاب العربى الراهن
المؤلف: سمير أمين
عدد الصفحات:١٤٦
دار النشر: العين
http://www.almasry-alyoum.com/article2.aspx?ArticleID=228472&IssueID=1552