أحسنت مصر صنعاً إذا ما كانت قد سلمت فعلاً «القراصنة» الصوماليين إلى بلادهم، وعلى ما يبدو فإن هذا ما قد تم فى الأسبوع الماضى «بشكل مفاجئ ودون أى إعلان رسمى أو تنويه إعلامى» على نحو ما نشر فى جريدة «الدستور»، وتسليمهم هكذا فى جنح الظلام مفهوم، إذ إن فضيحة الدولة هنا بجلاجل، فقد أوهمتنا الدولة جميعاً أن الصوماليين الذين احتجزوا السفينتين المصريتين «ممتاز -١» و«سمارة» قراصنة محترفون يمتهنون اللصوصية فى عرض البحر ويسطون على أى سفينة مارة.
الواقع أن هذا التضليل قد تم عن عمد أو عن غفلة، ضمن خطة غربية للسيطرة على مداخل البحر الأحمر وبحر العرب واحتلال الصومال ذاته إثر انهيار الدولة وتفشى الفوضى وتقدم الحركات الإسلامية المسلحة، وقد حاولت الولايات المتحدة التدخل بشكل مباشر لدعم الحكام الذين تتالوا على رأس السلطة فى الصومال إلا أنها لم تنجح، ولم تنجح كذلك حليفتها إثيوبيا رغم احتلال عسكرى مفضوح، وعندما أرسلت إلى هناك قوة أفريقية مشتركة لإقرار السلام وضبط الأمن فشلت هى الأخرى، ولا تزال فى هذه المهمة.
وسط هذه الفوضى بدأنا نسمع، كما لو كان الأمر لأول مرة بظاهرة القرصنة واختطاف السفن التجارية وحتى العسكرية المارة بالقرب من شواطئ الصومال، بواسطة «قراصنة» تخيلناهم من فرط الأساطير التى حيكت حولهم كما لو كانوا قادمين من عصور وسطى مثل أولئك الذين يظهرون فى الأفلام برباط أسود على عين واحدة وسكين بين الأسنان، وفى أحيان أخرى نسمع أنهم يملكون أفضل ما أنتجه العصر الحديث من وسائل رصد واتصال وصواريخ متقدمة،
وواقع الأمر أن هذه صورة زائفة، إذ فى حين أنه من المؤكد أن بين هؤلاء «القراصنة» لصوصاً لا يمكن وصفهم بغير ذلك، فإن معظمهم رجال لديهم حس وطنى دفعهم لحماية ثروات بلادهم السمكية التى انتهز القراصة الحقيقيون من دول مختلفة فرصة الفوضى التى ضربت أطنابها فى الصومال لينهبوها، وهذا ما أكده الزعيم الليبى معمر القذافى فى خطابه الشهير الأخير فى الأمم المتحدة.
القراصنة إذن ليسوا هؤلاء الذين احتجزوا السفينتين المصريتين خمسة أشهر متواصلة منذ شهر مارس الماضى وعاد بهم بحارتنا مؤخراً، ولكن هم بحارة هاتين السفينتين الأربعون الذين استقبلناهم استقبال الأبطال وحشوا صفحات جرائدنا وساعات إرسال قنواتنا الفضائية بأكاذيب عن مغامرتهم، سرعان ما انفضحت عندما بدأت الروايات تترى عن تقاسم المغانم وتوزيع مكافآت أهل الخير والتقاضى أمام المحاكم، ولا أحد يعرف على وجه الدقة كم مرة ذهب قراصنتنا من قبل إلى المياه الإقيليمة الصومالية ونهبوا خيراتها، وكم مرة ذهب غيرهم. الذى نعرفه أن هذا ليس أول احتجاز لسفن مصرية هناك، فقد أصبح القراصنة المصريون أكثر القراصنة شهرة فى مياه الدول الأفريقية، سواء تلك المطلة على بحر العرب والمحيط الهندى شرق القارة أو المطلة على البحر الأبيض شمالها.
وفى نهاية القرن الماضى زرت إريتريا مرتين، وفى كل مرة كانت هناك أزمة بينها وبين مصر بسبب احتجاز قراصنة مصريين كانوا يصطادون السمك هناك دون ترخيص رسمى، ومنذ أن زرت اليمن لأول مرة عند قيام ثورتها فى ١٩٦٢، وحتى اليوم، وأسمع بانتظام عن سفن صيد مصرية تحتجز هناك لمخالفتها معاهدات الصيد العالمية، وقبل أسابيع قليلة أفرجت تونس عن قراصنة مصريين ببادرة حسن نوايا من الرئيس التونسى تجاه مصر.
يقول قراصنتنا عادة إنهم يلجأون إلى الصيد فى أعالى البحار أو فى مياه الدول الأخرى، لأن ثروة مصر السمكية فى البحرين الأبيض والأحمر شحيحة بالمقارنة ببحار أخرى، وهم على حق فى هذا، ويقولون أيضاً إنهم يخرجون من مصر لأن البحيرات المصرية التى كانت مصدر رزقهم قد انحسرت مساحتها تحت وطأة تعديات العمران وتغيرات المناخ وسيطرة الحيتان الكبار فى سوق الأسماك، وهم فى هذا أيضاً على حق،
إلا أن هذا كله ليس مبرراً على الإطلاق لمخالفة القانون ونهب ثروات الآخرين، وكان يجب على الصيادين ونقاباتهم، إن كانت لهم نقابات حقاً، أن يضعوا إصبعهم على موطن الخلل أولاً، وموطن الخلل هنا فى مصر، والمسؤول عن الخلل هو الدولة بتقاعسها وغفلتها المعتادة، وسكوتها على الفساد والإفساد، وفشلها المزرى فى حل المشكلات التى تواجه مواطنيها.
لقد خدعتنا الدولة بالمسرحية الهزلية المسماة «قراصنة الصومال»، وحتى إذا ما كانت هذه الظاهرة حقيقية، وهى ليست كذلك، فقد فشلت الدولة بل فشل المجتمع الدولى كله فى مواجهتها، وإن كان مستمراً فى استخدامها لفرض هيمنته على الصومال، لكن مسؤولية مصر تسبق مسؤولية غيرها من الدول، إذ إن الإغارات على سفن الصيد فى المياه الصومالية ومياه بحر العرب تؤثر على المرور فى قناة السويس وعلى دخل مصر منها،
والأهم من ذلك إن دول المغرب تستغل الظاهرة للسيطرة على الصومال ومياه البحار المجاورة له، الأمر اذى يهدد الأمن القومى المصرى والعربى. والحل العاجل المؤقت للمشكلة هو منع القراصنة، مصريين كانوا أم غير مصريين، من الإغارة على مياه الصومال الإقليمية ونهب ثروته السمكية.
ويبدو أن هذا هو ما اعترفت به مصر أخيراً عندما قررت إعادة من سمتهم قراصنة الصومال الثمانية إلى بلادهم عندما اكتفت بالتحقيق معهم، بعدما أعلنت أنها ستحيلهم إلى النيابة العامة ثم إلى المحاكمة، وربما أن الذى تبين من التحقيق أن الخطأ ليس خطأهم، ولكنه خطؤنا نحن، ويعزز من هذا التفسير أن الخارجية المصرية حذرت شركات الصيد المصرية من الإبحار قبالة الشواطئ الصومالية.
لكن التراجع المصرى يبدو مهيناً ليس فقط باستقبال قراصنتنا بزفة فى العلن شاركت فيها الدولة بمختلف مستوياتها ثم إعادة الصوماليين فى الخفاء، وإنما يتمثل أيضاً فى أنها لم تعدهم إلى الجمهورية الصومالية بل إلى الإقليم الصومالى المسمى «بونت لاند»، وهو إقليم أعلن حكماً ذاتياً فى شمال الصومال منذ عام ١٩٩٨، عندما بدأت الدولة الصومالية فى التفكك، ولم تعترف به رسمياً دولة واحدة فى العالم كله حتى الآن، رغم أنه ينعم باستقرار نسبى، ولا يعفى مصر من الإهانة أن «قراصنة» الصومال خرجوا من هذا الإقليم بالذات،
إذ إن الدولة المصرية لا تعترف ببونت لاند من ناحية، كما أن المتعارف عليه فى العلاقات الدولية من ناحية أخرى هو أن تسلم الدولة «المجرمين» إلى دولة وليس إلى إقليم أو جماعة، كما لا يعفى من الإهانة أيضاً ما قيل من أن مصر تلقت وعداً من إقليم بونت لاند بأن «القراصنة» الذين سلمتهم له سيحاكمون هناك بشكل قانونى وعادل، فنحن نعرف قبل غيرنا أنهم يتمتعون برعاية نافذين فى الإقليم،
إما لأنهم يحمون مياهه، وإما لأنهم يجلبون دخلاً يتمثل فى الفدية التى يحصّلونها من كل سفينة يطلق سراحها بعد أسرها، كذلك فهم يتمتعون بشعبية جارفة، إذ يُنظر لهم هناك كما ينظر إلى شخصية روبين هود الخيالية البطولية الذى كان ينهب أثرياء الإنجليز، ويوزع ما نهبه على الفقراء، وبالفعل فقد أنعش احتجاز السفن ودفعها الفدية اقتصاد بونت لاند إلى حد كبير.
سوف يقول قائل إن طلب الفدية عمل غير مشروع، دعك من أسر السفن وبحارتها، وأن هذا العمل دليل على قرصنة الصوماليين، على أننا إذا نظرنا للأمر من وجهة نظر الصوماليين أنفسهم لوجدنا كثيراً من الوجاهة فى قولهم إن آخرين اقتحموا مياههم ونهبوا ثروات بحارهم، وأنهم يبيعون أسماكهم مقابل مبالغ طائلة، ويصبح اجتزاء جانب منها كفدية حقاً مشروعاً.
وسواء انحاز أى منا لهذا الرأى أو ذاك، فهناك حقيقة لا مناص منها هى أن نهب ثروات الآخرين لابد أن يتوقف، والاعتداء على سفن الصيد وغيرها فى مياه المحيط الهندى وخليج عدن لابد أن يوضع له حد، ولن تحسم هذا وذاك أى قوة بحرية عسكرية، سواء أجنبية لها مطمع أو عربية لها مصلحة.
الذى يعيد الاستقرار إلى مياه الصومال هو قيام دولة حقيقية فى الصومال، وهى المهمة التى تهاونت مصر وغيرها من الدول العربية فى القيام بها على نحو مشين بعد أن تهاوت مكانتها فى أفريقيا.
المصري اليوم
http://www.almasry-alyoum.com/article2.aspx?ArticleID=228086&IssueID=1549