والله اشتقنا يا بيروت
منذ اللحظة الأولى التي وطأت أقدامي فيها بيروت وأنا اشعر بنظرات اللبنانيين تحمل مشاعر عديدة ، ليس بينها الترحيب بي كمصري.
التابعون لتيار المستقبل يشعرون أن الدعم المصري لهم لا يتضمن دعما ماديا كما تفعل السعودية ، ولا يتضمن ضغطا كافيا على المقاومة وتشهيرا بها كما تفعل الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
والمقاومة اللبنانية تشعر بالأسى والغضب بسبب التواطؤ المصري ضدها وتحريضها لقوى لبنانية ضد قوى لبنانية أخرى ، استكمالا لدورها المخزي أثناء الحرب.
أكاد أصرخ في الجميع أنني غير مسئول عن قرارات هذه الحكومة الغبية التي تسير في ركب الأمريكان وبدلا من أن تعمل على حل الأزمة بين خصوم سياسيين يتبعون وطن واحد ، تنحاز برعونة لفريق ضد الأخر.
لكن أي من اللبنانيين لم يوجه لي نقد أو حتى عتاب صريح!
ليس هناك حديث في بيروت سوى عن الإضراب العام الذي دعى إليه اتحاد العمال اللبناني بعد ثلاثة أيام للمطالبة برفع الأجور ،و كذلك رد فعل حزب الله والمقاومة اللبنانية على قرارات حكومة فؤاد السنيورة بإقالة وفيق شقير مدير أمن المطار وتفكيك شبكة الاتصالات السلكية لحزب الله.
الجميع يترقبون نتيجة دعم المعارضة لإتحاد العمال في مطالبهم المشروعة ، ورد فعل حزب الله على القرارات الاستفزازية للحكومة اللبنانية ، فشبكة الاتصالات السلكية لحزب الله مقامة منذ سنوات ، وهي التي تحميهم من التجسس الإسرائيلي، وتفكيكها يعني فضلا عن التجسس إمكانية تحديد أماكن رموز المقاومة ومن ثم اغتيالهم وعلى رأسهم نصر الله نفسه.
إقالة وفيق شقير وتعيين خلفا له تابع لتيار المستقبل والحكومة يعني سيطرة فريق واحد على المطار بعد أن كان من يدير المطار شخصيه عسكرية محايدة مثل وفيق شقير.
تصور تيار المستقبل انه بهذه القرارات سوف يورط حزب الله في رد فعل عنيف يسمح لهم بإيجاد تبرير لوضع لبنان تحت الوصاية الدولية ، والدولية تعني الولايات المتحدة تحديدا ، ليسهل عندها الانقضاض على حزب الله والمقاومة اللبنانية.
لم يكن مأزقا بسيطا لحزب الله والمقاومة اللبنانية ، فقبوله لتفكيك شبكة الاتصالات يشبه فعليا تسليمه لسلاحه وترك لبنان لقمة سائغة أمام إسرائيل.
وتصديه لهذا القرار سوف يعني استخدامه للقوة واستدراجه لقتال قد يسفر عن تدخل الجيش وبالتالي انقسامه ومن ثم حربا أهليه في لبنان ، لن يستفيد منها سوى الولايات المتحدة وإسرائيل.
-1-
الأحد 4 مايو
ما لا تنشره الصحف
شباب يقودون درجات نارية يطعنون عائلة شيعية ويفرون.
إطلاق نيران كثيفة على بعض منازل الشيعة وإصابة البعض وفرار المعتدين.
-2-
الأثنين 5مايو
" يا أخي بيقولوا إن إيران عم بتدعم حزب الله ، ماشي لو صحيح فهي بتدعمه في مواجهة إسرائيل ،، لكن السعودية تدعم تيار المستقبل اللبناني في مواجهة الشيعة اللبنانيين! طيب مع مين بدك تقف لوكنت مكاننا؟"
بهذه الجملة أجابني طوني ، الشاب اللبناني على تساؤلي حول دعم إيران لحزب الله .
كنا جلوسا في إحدى مقاهي الحمرا ببيروت- قهوة تاء مربوطة - و كان الحضور موزعا بين مؤيد للمعارضة اللبنانية بزعامة حزب الله ، وبين مؤيد لقوى 14 آزار بزعامة تيار المستقبل ، فضلا عن بعض الضيوف العرب من يمنيين و ومغاربة ومصريين ، نحاول أن نفهم من الشباب اللبناني الذين لم تلوثهم الحسابات المعقدة للقوى اللبنانية كيف يمكنهم الجلوس معا ومقدمات لحرب أهلية بدأت بالفعل في شوارع بيروت !.
اصحاب المقهى خفضوا من صوت التليفزيون وانضموا للنقاش الذي ازدادت سخونته ، وصاح أحدهم في شاب لبناني يجلس بجواري ، يا محمد هل تقبل تفكيك شبكة اتصالات حزب الله السلكية؟ ولمصلحة من؟
أطرق محمد خجلا ثم صاح " طبعا لا وهم يعلمون – يقصد تيار المستقبل - أن هذا يعني يجعل حزب الله والسيد نصر الله هدف سهل لإسرائيل ، يا أخي جنبلاط ورطنا في الشغلة هادي".
الأربعاء 7 مايو
-3-
لم تكن الساعة قد تجاوزت التاسعة مساء ، بيروت تحولت لمدينة أشباح ، الشارع الذي يربط بين الفندق والمقهى تم إغلاقه خلال الساعتين اللتين قضيناهما في المقهى ، ويقف بجوار الحواجز بعض الشباب يحملون السلاح ، لم نكن نعرف لأي فريق ينتمون! بدلنا طريقنا و توجهنا لشارع أخر لعله يكون مفتوحا ، استوقفنا شاب كان يجري وصاح بنا ، لا تكملوا هذا الشارع ، فهناك شباب من جماعة المستقبل يفتشون المارة ويضربونهم و هربت منهم بصعوبة ! شعرنا بالارتباك هل نكمل ونخبرهم أننا ضيوف لا شأن لنا بالمقاومة أو تيار المستقبل ؟ أم نبحث عن شارع اخر ؟
قررنا العودة من حيث أتينا والبحث عن شارع أخر.
وصلنا عبر زقاق ضيق لشارع الحمرا ، مشينا بعرض الشارع ونحن نتحدث بصوت مرتفع في موضوعات تافهة ، فقط لنكسر الصمت المخيف الذي خيم على قلب بيروت وأجمل شوارعها .
صوت رصاصات سريعة تكسر الصمت ، يعقبه صوت سيارات مسرعة تهدر من خلفنا ، قفزنا نحن الخمسة على الرصيف لتمرق خمسة سيارات شيروكي محملة بشباب والرشاشات تبرز من النوافذ .
قبل الفندق بنحو خمسون مترا ، توقفت السيارات الخمسة وقد ترجل منها بعض الشباب مدججين بالسلاح ، كانوا ثائرون ويسبون نصر الله والشيعة ، فهمنا أنهم تابعون لتيار المستقبل ، لم يكن ممكنا العودة ، وكذلك يحفل الاستمرار بالمخاطر ، والخوف كل الخوف من التوقف !!
قبل ان نصل إليهم سمعنا أحدهم وهو يصيح فيهم "بينا على كورنيش المزرعة " أطلقوا زخة من الرصاص في الهواء قبل أن ينطلقون بسياراتهم مرة أخرى.
-4-
خطاب مفتي لبنان مليئ بالانحياز والتحريض ضد الشيعة ومتواطئ تيار المستقبل.
خطاب مفتي لبنان يدعو للفتنة الطائفية ويحرض على الحرب الأهلية بدلا من الحوار ودعوة تيار المستقبل لوقف استفزازه للمقاومة.
الخميس 8مايو
-5-
طريق المطار مازال مغلقا ، وشركة طيران الشرق الأوسط علقت رحلاتها من وإلى بيروت.
حكومة السنيورة و تيار المستقبل يصرون على قرار تفكيك شبكة اتصالات حزب الله وإقالة وفيق شقير ويحاولون إستدراج الجيش للتدخل .
الجيش يعلن عن حياده وأنه لن ينساق للمشاركة في خلاف سياسي ، وأنه ينتشر للحيلولة دون إنتشار الاقتتال الداخلي.
الحواجز والمتاريس في الشوارع تزداد ، والتوتر يسود في جانب تيار المستقبل لعدم رد المقاومة وحزب الله على الاستفزازات ،وشبابهم وقد غرهم سكوت حزب الله يقومون بإطلاق النيران العشوائية والاعتداء على بعض المارة والصحفيين.
الطريق بين بيروت ودمشق الذي يستغرق ساعتين تم قطعه وسده بحواجز ترابية وإطارات محترقة.
قررنا التحرك نحو دمشق عبر طريق الشمال الذي يستغرق في الظروف الطبيعية نحو خمس ساعات.
خطاب السيد حسن نصر الله الذي سوف يبدأ في الرابعة عصرا سوف يحدد مستقبل لبنان.
استمعنا للخطاب ونحن في طريقنا إلى دمشق ، كان خطابا قصيرا وقويا وواضحا " شبكة الاتصالات هي الجزء الأهم في سلاح المقاومة ، و سوف نقطع الأيدي التي تمتد لها ، لن نُضرب في الشوارع بعد اليوم ، ليس من خيار أمام من يتبعون وليد جنبلاط سوى إلغاء القرارات الجائرة والجلوس على مائدة الحوار".
-6-
مازلنا في الطريق إلى دمشق .
تذكرت خطاب تأميم قناة السويس لعبدالناصر وكلمة السر التي تضمنها خطابه –ديليسبس- لتبدأ عملية التأميم.
فعقب انتهاء خطاب نصر الله وبعد أقل من ساعتين ، وقبل أن يبدأ خطاب سعد الحريري في الثامنة مساء ، كانت بيروت تمنح مفاتيحها للمقاومة اللبنانية بزعامة حزب الله.
خطاب سعد الحريري كان مليئا بالانكسار، فقد استولت المقاومة فعليا على بيروت ، ونفذ نصر الله تهديده بالرد القوي على استفزازات تيار المستقبل ، في نفس الوقت الذي لم يفرط فيه في استخدام القوة ، ليفوت على تيار المستقبل فرصة الدعوة لتدويل الأزمة في لبنان.
ولم يستدرج الجيش للتدخل.
-7-
الخميس 7مايو ، التاسعة مساء ، على الحدود اللبنانية السورية.
نظرة ساخرة من مواطن سوري لنا ، الحكومة المصرية لم تحضر مؤتمر القمة في دمشق ، الحكومة المصرية تدعم تيار المستقبل الأمريكي ،، الحكومة المصرية عار على كراسي الحكم في مصر.
تركنا لبنان ورائنا ، وقلوبنا في بيروت ، مع المقاومة ، مع المعارضة التي اكتفت بجعل المستندين على الأمريكان والسعوديين ومصر يدخلون جحورها.
المقاومة اللبنانية انحازت للشعب اللبناني وللعمال اللبنانيين في مطالبهم العادلة.
في أقل من ساعة كان يمكن للمقاومة اللبنانية والمعارضة أن يستولون على الحكم في لبنان ، لكنهم امتثلوا للشرعية والديمقراطية ، أعيد وفيق شقير لمنصبه ، أوقف قرار تفكيك شبكة الاتصالات السلكية ، وتسلم الجيش اللبناني دوره في حفظ الأمن ، وعادت المقاومة لمكانها الطبيعي في الجنوب حيث العدو الحقيقي-إسرائيل- يقبع على بعد أمتار قليلة ، ينعي حظه بوجود مقاومة حقيقة يلتف حولها الشعب اللبناني وليست مثل جيرانها الآخرين الذين يستأسدون على مواطنيهم ويلعقون ذيولهم أمام كلب الحراسة الأمريكي في المنطقة .. إسرائيل.
جمال عبدالعزيز عيد
عائد من بيروت.
منقول من مدونتي ومنشور بجريدة الدستور 12 مايو 2008
http://gamal.katib.org/node/73