|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
التاريخ 7/21/2007 6:49:18 PM
|
من أشهر المحاكمات التاريخية
|
محاكمة سقراط
من كتاب اشهر المحاكمات
خمسمائة قاض وقاض جلسوا ، الواحد بجانب الاخر ، على المدرج ذي المقاعد الخشبية المغطاه بالحصر ، وفي مواجهتهم ، رئيس المحكمة محاطاً بكاتبه والحرس . وفي اسفل المدرج وضع الصندوق الذي سيضع فيه القضاه احكامهم بعد انتهاء المحاكمة . الجلسة علنيه . ولا يسمح فيها لغير الرجال بالحضور . اما الطقس ، فقد كان جميلاً ، مما ادخل الارتياح الى نفوس الجميع وجعلهم يأملون بجلسة كاملة لا يربك مجراها مطر يهطل على الرؤوس او برد يعطل تواصل الافكار . واذا بدا لنا ان انعقاد محكمة في الهواء الطلق امر مستغرب بل وطريف ، اليوم ، فلنتذكر اننا في اثينا ، في صباح من اصبحة ربيع عام 399 قبل الميلاد .
اثينا هذه التي قدمت الديمقراطية للعالم ، تعيش فترة عصيبة ، لقد هزمتها سبارطة في حرب دامت بينهما سبعاً وعشرين سنة ، وفرضت عليها شروطاً قاسية . منها نظام "الثلاثين مستبداً " بقيادة احد ابنائها ، كرينياس ، الذي تخلص منه الاثنيون منذ وقت ليس ببعيد . في هذا الجو من القنوط الوطني . كثرت الاحقاد وتعددت حوادث تصفية الحسابات لكن العدالة ظلت تعمل والقضاة في اثينا ، وعددهم ستة الاف ، مواطنون متطوعون يجري اخبارهم سنوياً بشكل عشوائي . وهم يوزعون ، بعد الاختيار، في اثنتي عشرة محكمة في كل واحدة منها خمسمائة قاض وقاض .
متهم اليوم شيخ ذو لحية بيضاء وثياب رثة . انه ابن النحات سوفرونيسك والقابلة فيلا ريت وهو الملقب بسقراط . لكن ما هي التهمة التي سيحاكم اليوم على اساسها؟ لقد اتهمه احد المواطنين ، ويدعى مليتوس ، بالكفر بالالهه وبادخال شياطين جديدة الى المدينة وافساد الشبية . وهي تهمة تستحق عقوبة الموت . ومن هو سقراط هذا ؟ انه رجل بلغ السبعين من عمره ، قبيح المنظر بعينية الجاحظين وانفعه الافطس ووجهة الممتلئ ناهيك عن ثيابه المهملة والمكونة من معطف صوفي لا ازرار له ولا حزام . وفوق كل ذلك ، فأنه لا يمشي الا حافي القدمين ، في الصيف كما في الشتاء . ولد سقراط في اثينا عام 469 ق .م في عائلة تعمل في النحت وعبثاً حاول ابواه تعليمه المهنة . كان لا يميل الا للحوار ومناقشة الاخرين حول مختلف المواضيع داعياً اياهم الى التفكير معه والتأمل . كان يجوب المدينة يتحدث الى المار ويستوقف الشباب يفقههم في امور الوجود وجوانب الحياة . واثينا في ذلك العصر من الديمقراطية ، كانت تعج بالفلاسفة ورجال السياسة والاخلاق يسعى الناس اليهم عنهم اصول الفكر وكان هؤلاء يتقاضون عن تعليمهم اتعاباً باهظة في معظم الاحيان . اما سقراط فكان يرفض بيع فكره كان يعتبر ان الفلسفة ممارسة عضوية ويومية ، وانها وبالتالي ، نمط حياة . وغنى عن القول ان سقراط لم يكن مواطناً اثينيا كالاخرين . فهو لم يأبه لماديات الدنيا على لارغم من زواجة وانجابه ثلاثه اولاد بل كان دائم الزهد في ما يشغل الناس . وهذا ما جعله غامضاً ، بل وموضع سخرية في الكثير من الاحيان . غير ان سقراط لم يعدم وسيلة لتوضيح حقيقة أمره كان يرد على مسامع محاوريه ان حقيقة الهية تدفعه للتصرف وان هذه الحقيقة يمكن ان لا تكون سوى ضميره القابع في اعماق نفسه . تلك المشاعر وهذه الافكار هي التي لم ترق للبعض ، وهي التي اوصلته لان يمثل اليوم امام المحكمة ، باعتبار انه " يفسد الشبيبة ولا يؤمن بالهة المدينة " .
في بدء الجلسة ، ولم يكن في نظام المحاكمات انذاك ما يسمى اليوم بالادعاء العام ، وقف المدعي الاول مليتوس يتكلم عن مفاسد سقراط في المجتمع . واعقبه مدعيان اخران ليكون وانيتوس وكلهم طلبوا الحكم بالاعدام على " العجوز الشرير " . ولانيتوس هذا مبرر اخر للادعاء على سقراط فقد كان ابنه تلميذا من تلاميذ الفيلسوف و " مضللاً به " وهذا ما يفسر انشغاله عن صنعه ابيه وهي الاتجار بالجلود . يضاف الى ذلك ان سقراط تهكم عليه مرة امام الناس خلال مناقشة ظهر فيها الجاهل وحديث النعمة على قدر كبير من السخف . ومن سوء طالع العجوز ايضاً ، ان كريتياس ، المستبد الدموي والعميل لسبارطة ، كان من بين تلاميذه ، في فترة من فترات حياته . اتخاذه كريتياس واخرين غيره ممقوتين في مجتنعهم تلامذه له هو من قبيل انفتاحة على الجميع ودون النظر الى ارائهم الساسية والفلسفة او الى نمط الحياة التي يعيشون . واذا توخينا الاختصار ، قلنا ان سقراط ، بأفكاره ومناقشاته ، بدأ يصبح شخصاً مزعجاً ، ليس للسلطات فقط ، بل للاباء الذين راى بعضهم ابناءه يخرجون عن طاعته ويلحقون بالمعلم.
بعد انتهاء المدعين الثلاثة من كلامهم ، جاء دور المتهم . ومن اجراءات المحاكمة الاثينية في ذلك العصر ان يتولى المتهم شخصياً الدفاع عن نفسه . واذا كان غير قادر ، فان محترفاً يقوم بتلقينه الدفاع وتحفيظه اياه عن ظهر قلب . يجب ان يستغرق الوقت الذي استغرقه الادعاء لا اكثر . بدأ سقراط دفاعه برد التهم ومن ثم ، بالانتقال الى الهجوم ، قال ان من يدعي العلم ، من بين كل من ناقشت وحاورت ، وانما هم جهلة ولا يفقهون من العلم شيئاً والحقيقة هي اني أعلم الناس . ذلك لان الناس يعتقدون انهم يعرفون شيئاً وهم ، في الواقع ، لايعرفون اي شئ . اما انافأني اعرف اني لا اعرف . وانتهى سقراط بتحذير القضاه من الحكم عليه بالموت . وأن فعلوا فانهم لن يجدوا مثله وسيغرقهم الاله والاثنيين في سبات ابدي . أما اذا لم يفعلوا فسيعود الى نشر افكاره كما فعل دائماً وكما اوحى له ضميره . لم يستدر سقراط عطف القضاه كما يفعل عادة المتهمون الماثلون امام مثل هذه المحكمة . لقد قال ما قاله وجلس دون اي انفعال . اما القضاه ، فقد بدأوا ينزلون المدرج ليضع كل واحد منهم حكمة في الصندوق . هذا الاقتراع هو أولي . انه ينحصر في تقرير تجريم او عدم تجريم المتهم .
قضت نتيجة التصويت بتجريم سقراط بفارق بسيط في الاصوات : 281 صوتاً ضد 220 . ويقتضى القانون الاثيني ، في هذه الحال ، ان يعين المتهم نفسه العقوبة التي يراها ، هو مناسبة . وقف سقراط وأعلن انه يسره ان تتعهده البريتانية ! وتعالى الصخب وصياح الاستنكار من الحضور الذين رأوا في كلامه تهكماً وسخرية من هيئة المحكمة ومن كل الموجودين . ذلك لان البريتانية مؤسسة اثينية تتعهد عظام الرجال وتتولى تأمين معيشتهم بشكل لائق وكريم .
ما أن سمع القضاة كلام سقراط ، حتى قرروا ان يصتوا بأنفسهم على نوع العقوبة ومستواها . نزلوا ثانية الى حيث الصندوق وصوتوا على ان يكون الحكم بالاعدام هو الجزاء الذي يجب ان يناله سقراط وذلك بأغلبية كبيرة . لقد اوقع الرجل نفسه في التهلكة بعد ان كان يمكنه ان ينقذها بتصرف اخر اكد للجميع انه يسعى للموت بكل رغبة وحماس .
مضى شهر على صدور الحكم . اما طريقة للتنفيذ فهي الاسهل من بين لائحة لا يخلو بعض بنودها من العنف : تجرع كمية من سم يحضر خصيصاً للمناسبة . خلال هذا الشهر . جاءه كريتون ، احد تلامذته المخلصين ، عرض عليه ان يقبل الهرب من السجن ، بعد ان يتدبر كريتون امر رشوة الحراس ، فرفض سقراط قائلاً بوجوب احترام العدالة وقوانينها ، حتى ولو كانت هذه القوانين جائزة .
هذا الشهر الذي فصل بين صدور الحكم وتنفيذه ، امضاه سقراط بهدوء أدهش المتصلين به من حراس ونزلاء . اما لماذا ابقي شهراً كاملاً ينتظر مصيره ، فهذا يعود الى ان تنفيذ احكام الاعدام لم يكن مسموحاً به في الشرائع الدينية انذاك الا بعد عودة الكهنة من جزيرة ديلوس .
وفي اليوم التالي لهذه العودة ، تجمهر تلامذته في السجن ووصلت زوجته . وما ان رأته والحراس يفكون اصفاده تمهيداً للاعدام ، حتى اجهشت بالبكاء ونتفت شعرها ومزقت ثيابها:
- اه يا زوجي ! هذه اخر مرة تتكلم واخر مرة ترى فيها اصدقاءك ! .. تأثر سقراط وطلب اليها ان تذهب . ثم التفت نحو اصدقائه وبدأ يحدثهم ويتناقش واياهم في مواضيع مختلفة في الفن والموت والروح .... وبينما هو كذلك ، اذ بالجلاد يقاطعه :
- لا تتحرك كثيراً يا سقراط ، والا يفقد السم مفعوله وللمرة الاولى ينفعل سقراط ويقول للجلاد:
- لماذا لا تضع كمية مضاعفة ؟ هذه مهنتك .
وعاد الى التحدث مع تلامذته الذين لم يتمكنوا من اخفاء اعجابهم ودهشتهم . لقد استطاع هذا الانسان ان ينتصر على غرائزه وعلى مخاوفه . وعندما اقترب الوقت المخصص لتجرع السم ، دخل سقراط غرفة مجاورة ليستحم وهو يقول :
- اريد ان اوفر على النساء تنظيف جثة ميت . طال الاستحمام والجلاد ينتظر على الباب . ولما خرج سقراط ، اقترب منه الجلاد وفي يده كأس السم . قدمه اليه وقال له :
- سقراط اعرف انك لن تشتمني كما يفعل الاخرون . انت عاقل وتستطيع ان تتحمل قدرك .
- مرحى لك ! هيا . ماذا علي ان افعل ؟
- لا شئ سوى خطوات قليلة بعد التجرع . وعندما تشعر بثقل في ساقيك ، عليك ان تستلقي والباقي يتولاه السم نفسه .
وتناول سقراط الكأس وتجرعه دفعة واحدة بكل هدوء . لم يتمالك تلامذته مشاعرهم فانفجروا يجهشون بالبكاء مثيرين غضب المعلم :
- ماذا تفعلون ؟ لقد أمرت زوجتي بالرحيل حتى لا أرى ما يشبه مظاهر الضعف هذه أريد ان أموت بصمت الخشوع . فتمالكوا مشاعركم .
وصمت الجميع فوراً . بعدها استلقى سقراط كما اشار جلاده . وجاء الجلاد يقيد رجليه ويقول له :
- هل تشعر بشيء؟
- كلا
وطفق الجلاد يشرح للحاضرين ان الموت يصل الى القلب بعد تبلغ البرودة الرجلين والبطن.
وعندما شعر سقراط بهده البرودة تصل الى بطنه ، اشار الى تلميذه المخلص كريتون بالاقتراب ليقول له بصوت ضعيف :
- كريتون ، في ذمتنا ديك لا يسكولاب . ادفع له ثمنه دون نقاش .
- حاضر يا سيدي . هل تريد شيئاً اخر ؟
لم يجب سقراط . لقد اغمضت عيناه ...
" ديك لايسكولاب " انها لا شك عبارة اراد بها سقراط التهكم على اله الطب . لم يوفر سخرياته على الالهة ، حتى وهو على وشك ان يموت ! وما الموت بالنسبة له ؟ اليس هو التحرر ؟ اليس الشفاء من مرض هو الحياة ، كما كان يردد دائماً ؟
هذه الجمله التي قالها سقراط قبل موته ، والتي تمثل التشاؤم الهادئ والساخر بأبرز معانيه ، كانت عبارة رسالة من اول رجل أعدم في التاريخ بسبب افكاره .
محاكمة لافال – حكومة الماريشال بيتان
من كتاب اشهر المحاكمات
في الرابع من شهر تشرين الاول – اكتوبر من عام 1945 ، بدأت محاكمة بيار لافال ، رئيس وزراء فرنسا في حكومة الماريشال بيتان . لافال الذي يرى فيه معظم الناس المسؤول الاول عن معاناة لاشعب الفرنسي في الفترة ما بين عامي 1940 – 1944 وهي الفترة التي كانت فيها فرنسا محتلة من قبل المانيا النازية .
ولهذه الغاية ، تشكلت محكمة عليا ، نظرت في البدء في قضية الماريشال بيتان رئيس الدولة الفرنسية السابق ما بين تموز – يوليو واب – اغسطس سنة 1945 . وها هي اليوم تنظر في قضية لافال ، وبعد ذلك ، في قضايا جميع الوزراء والنافذين في حكومة فيشي .
وهيئة المحلفين في هذه المحاكمة في هذه المحاكمة كانت قد تألفت من ستة وثلاثين محلفاً ، نصفهم من عناصر المقاومة والنصف الاخر من اعضاء مجلس النواب المنتخب في ظل الجمهورية الثالثة .
غير ان هذا العدد عاد واختصر الى اربعة وعشرين : اثنا عشر منهم من البرلمانيين والاثنا عشر الاخرون من غير البرلمانيين . هذا التوزيع اثار انتقادات لاذعة من قبل الفرنسيين، ذلك ان الانتخابات النيابية لم تكن قد جرت بعد عندما تقرر ذلك . وهي لم تجر الا بعد ثلاثة اسابيع من بدء المحاكمة . يضاف الى ذلك ان الجمهورية الثالثة كانت غير قائمة فعلاً . فقد سبق واولت هذه الجمهورية كافة صلاحياتها الدستورية الى الماريشال بيتان . اما الجمهورية الرابعة ، فانها لم تبدأ قانوناً الا بعد انتخابات العاشر من تشرين الثاني – نوفمبر والثامن من كانون الاول – ديسمبر من سنة 1945 .
كل هذا يعني ان ما تقرر بالنسبة لتشكيل هيئة المحلفين ، انما تقرر في الفراغ الدستوري ، وبالتالي ، يعتريه عيب جوهري . وقد اثار محامو بيتان هذه النقطه اثناء محاكمته . لكن المحكمة ردت الاعتراض واعتبرت نفسها صالحة للنظر في القضية . وهذا ما تم بالفعل . لذلك لم يعد من المفيد العودة الى هذه النقطة في محاكمة لافال .
بدأت المحاكمة بعد ان احتل كل من الرئيس والاعضاء وهيئة المحلفين اماكنهم . اما المتهم ، فقد كان في القفص شاحباً ، مما يوحي بأنه كان مريضاً . مقاعد الدفاع وحدها كانت شاغرة . لماذا ؟ هذا السؤال طرحه الحضور كل على نفسه . وسرعان ما أتى الجواب عندما قرأ الرئيس كتاباً من محامي الدفاع الثلاثة يقولون فيه ان " التحقيقات التي سبق وطلبناها لم تؤمن ، على الرغم من الوعد بتأمينها . ونحن نخشى ان تؤدي السرعة في اجراء المحاكمة ، والتي املتها ضغوطات سياسية ، لا اعتبارات قضائية الى التضحية بالعدالة . يتضح هذا من قول رئيس المحكمة انه سينتهي من المحاكمة باكملها قبل الانتخابات ، ولو اضطره ذلك الى وصل الوقت صباحاً وظهر ومساء ".
ولو علمنا ان الانتخابات عينت في 21 تشرين الاول – اكتوبر ، وان المحامي الذي كتب الرسالة باسمه واسم زميلة هو من قدام المقاومة ، ولا يكن بالتالي اي تعاطف مع المتهم ، وقد عينته المحكمة نفسها ، لاتضح الثقل الذي ارخت به الرسالة على المحكمة ، والاحراج الذي سببة لها .
والواقع ان التحقيقات بمعظمها اختزلت ، ان لم نقل نسفت . فبعد ان كان قاضي التحقيق يزمع اجراء خمس وعشرين جلسة ، انزل العدد الى سبع ، ودون اي تعليل . هذا بالاضافة الى ثغرات اخرى في ملف الدفاع نفسه . وثغرات التحقيق والدفاع هذه حصلت بالطريقة عينها في ملف محاكمة بيتان التي تمت .
غير ان مكابرة رئيس المحكمة ادت الى اعتبار رسالة محامي الدفاع نوعاً من الابتزاز وها هو يصرخ من على القوس منفعلاً :
قلت واكرر انني لن اؤخذ بالمناورات . ولن اسمح بالعودة الى هذه النقطة !
وتلاه المدعي العام الذي استنكر هو الاخر رسالة الدفاع ، لا سيما ما جاء فيها من ان المحكمة تتأثر بضغوطات سياسية .
لكن لافال ينتفض في قفصه ليصرخ في وجهه :
- لكن الواقع هو ان هذا صحيح . وانت نفسك كنت في حكومتي ! واليوم تسوق ضدي تهماً من انواع مختلفة ، لا يحق لكم ذلك ، بامكانكم فقط قتلي . اما ما عدا ذلك فلا .
ويعود المدعي العام لينتفض في وجه المتهم ملصقاً به مسؤولية ما حل بفرنسا من احتلال ومعاناة طوال خمس سنوات . واما عن اختصار التحقيقات ، فقد رد الملاحظة معتبراً انها تفتقر لاي دليل.
لكن لافال اجاب مدافعاً :
- اذا كنت اقف متهماً في هذا القفص ، فلاني حاولت تجنيب بلادي ويلات الحرب . صحيح انني قابلت هتلر وموسوليني وستالين والبابا ، لكن الصحيح ايضاً انني فعلت ذلك من اجل فرنسا. وقد كنت مستعداً لمقابلة الشيطان والتحدث معه من اجل هذه الغاية .
وساد في القاعة صمت عميق . صمت قطعة المتهم عندما اكمل قائلاً :
- غلطتي الكبرى هي انني وثقت بالماريشال بيتان . هذا الرجل لم يكن رجل الظرف . واذا كنتم تعتقدون انكم باتهامي تدافعون عن فرنسا ، فاني اقول لكم انكم بالاستماع الي تعرفون كم خدمت بلدي . اما عن التحقيقات ، فاني اطلب تمديد مهلتها ثمانية ايام للتوسع فيها .
ولم تقبل المحكمة الطلب . فينتقض لافال ثانية ويقول :
- غريب هذا الامر فعلا ! اعتقد ان مثل هذا الطلب هام ، حتى ولو جاء في قضية سرقة واحد من المخازن الكبرى .
ويلتفت الى المدعي العام ليقول في وجهه :
- قرأت قرار الاتهام الذي نظمته بحقي . انه عبارة عن مقال رديء في صحيفة . فالاتهامات التي تلصقها بي رهيبة . الهدنة ؟ الا ترى انه كان لا بد منها وانها كانت مطلب 99% من الفرنسيين ؟
ويضيف بعد تنهد :
- عندما يحارب العسكريون عندنا ، فانما يحاربون بشكل سيء جداً . أما عندما يتدخلون في السياسة ، فان تدخلهم يكون أسوأ بكثير .
وحتى يعرف الجميع ان المقصود بهذه الملاحظة هو الجنزال ديغول ، فقد اضاف :
استميح الجنرال ، الذي هو الان في السلطة ، عذراً لكنني اعتبر ، وهو في هذا الموقع ، انه مدني ليس الا .
وتجري ملاسنة حادة بين المدعي العام والمتهم ، يصرخ في نهايتها هذا الاخير في وجه خصمه قائلاً :
- لن تتمكنوا من السيطره على افكاري وعلى مشاعري . يمكنكم الحكم علي فوراً بالاعدام . احكموا علي فهذا سيكون اكثر وضوحاً .
وهنا ، ينفعل الرئيس ويأمر الشرطة باخراج المتهم . فيرد هذا قائلاً :
لا لزوم لذلك . سأخرج وحدي .
ويخرج فيصفق له احد الوزراء في حكومة فيشي .
وعندما عاد الهدوء الى القاعة ، أعلن الرئيس انه يرفع الجلسة لتعقد في اليوم التالي ، ولو دون وجود المتهم .
وخرج الحضور وفي اذهانهم ان شيئا ما غير طبيعي يحدث في هذه المحاكمة وان لافال كان على صواب عندما اشار اليه بوضوح . في اليوم التالي ، بدأت الامور مختلفة بعض الشىء . فقد اعلن الرئيس ان المحلفين رجوه بالاجماع ان يسمح للمتهم بالعودة الى القاعة شرط ان لا يعاود سلوكه بالامس ، تحت طائلة طرده نهائياً منها . اما محامو الدفاع ، فقد قطعوا امتناعهم عن الحضور واتوا جميعاً ليحتلوا مقاعدهم . جديد اخر ، وهو ان الاستماع الى رئيس الجمهورية السابق ، البير لوبرون ، قد ارجىء الى وقت اخر سيعلن فيما بعد .
بدأ محامي الدفاع الجلسة بتوضيح اساب عدم حضوره بالامس ، هو وزملاؤه ، قائلاً ان مستندات التحقيق لم تودع اياهم كلها . ولهذا استوجب " اعلان ذلك للملاً ، حتى يأخذ الرأي العام علماً به وبالتالي ، بالحد من حقوق الدفاع المقدسة " .
ثم انتقل الى انتقاد سوء معاملة موكله طوال فترة التوقيت . فالزنزانة التي وضع فيها لا مثيل لها في السجن لاي موقوف من الموقوفين السياسيين . هذه الملاحظة لم ترق للرئيس مما تسبب في تعكير الجو ، لولا ان تدخل نقيب المحامين ورطب الاجواء بعض الشيء. لكن الاعصاب كانت اصبحت من التوتر بحيث تنذر بما قد لا تحمد عقباه .
وانهى محامي الدفاع ملاحظاته بطلب اعادة القضية برمتها الى قاضي التحقيق لاستكمال الملف وسد الثغرات فيه . ويذكر ان المتهم طلب نفسه في جلسة الامس . وقد قال المحامي في هذا الصدد :
- لماذا لا تكون قضية بيار لافال كبيرة قدر كبره ؟ لماذا نحرمه من ابسط مبادىء العدالة ونمنع عليه ضمانات تعتبر من المسلمات التي لا نقاش حولها ؟ اليس في هذا مناسبة لالقاء الضوء على سنوات اربع من تاريخنا الدراماتيكي ؟
وتلاوه زميله ، محامي الدفاع الثاني ، جاك بارادوك ، ليؤكد الطلب ، مبرراً اياه بصعوبة استدعاء السياسيين الذين يزمع دعوتهم للشهادة ، في خضم المعركة الانتخابية التي تخوضها البلاد . وانهى المحامي طلبه بهذا التساؤل ، والذي طرحه بنبرة الاتهام المبطن:
- ما هي الاوامر التي وجهت اليك ، سيدي الرئيس ، للتتغاضى عن مثل هذه النواقص ؟ ويستشيط الرئيس غضباً واحراجاً ويرد على المحامي قائلاً :
- امنعك من ان تكلمني بهذه اللهجة . وعليك ان تعلم انني لا اتلقى امراً من احد. وهذا نهجي منذ خمس واربعين سنه ، اي منذ بدات اتولى منصب القضاء .
وهنا يتدخل المتهم ليطلب من المحكمة ان تستكمل ان تستكمل اجراءات التحقيق وسط صخب اضطر الرئيس لرفع الجلسة بحجة التداول من الدفاع .
استمر رفع الجلسة ثلاثة ارباع الساعة خرجت هيئة المحكمة في اثرها ليعلن الرئيس ان طلب الدفاع مردود وان ملف التحقيقات لن يعاد الى قاضي التحقيق .
وصرخ لافال من قفصه :
- هذا معيب . انها فضيحة . انكم لا تحاكمون هنا شخصاً بقدر ما تحاكمون سياسة .
ويرد عليه المدعي العام :
- صحيح . نحن نحاكم سياسة . لكنها سياسة صنعها وجسدها هذا الشخص .
فيردف لافال قائلاً :
- طالما انكم ترفضون طلب استكمال نواقص التحقيق ، فاني اطلب ادراج الطلب ومناقشتة في الجريدة الرسمية . لعل في هذا تعويضاً عن الاجحاف وطعن العدالة .
- لقد استعاد لافال ذاته . انه يتحدث ، كما كان بالامس كرئيس للوزراء ، لا كمتهم . يتحدث وهو جالس بملء راحته على كرسيه في قفص الاتهام . وقد يكون هذا السلوك من دواعي الامتعاض الذي بدا واضحاً على وجوه اعضاء المحكمة وهيئة المحلفين .
ويكمل الرئيس استجوابه وسط هذا الجو المشحون .
- الم تكن تمارس سيطرتك وتأثيرك على الرئيس بيتان بما كان يتخذه من قرارات ؟
- ابداً .... كان يكفي ان ابدي له رأياً ليعمل بعكسه .
- لكنك كنت في فترة من الفترات وزير دولة ومرشحاً لخلافة بيتان .
- وزير دولة ! واي يد لي في هذا المنصب ؟
لم يكن التقليل من دور لافال امام الماريشال بيتان بالامر الجديد . لقد حاول ايهام الجميع بهذا منذ الجلسة الاولى ، ساعة لمح الى الخلافات المستمرة بينه وبين رئيسه .
ويسترسل قائلاً :
- لم يكن موضوع خلافة بيتان بالامر المهم بالنسبة لي ، واذا كنت قد فكرت به في يوم من الايام ، فذلك حتى لا أترك الساحة ، بعد رحيل الماريشال ، لاي عسكري مثله ، كنت مقتنعاً بأن رجلاً مدنياً يتسلم السلطة خير من اي عسكري . وهذا تفكير مبدئي لا يدخل الاشخاص في تكوينه. وهو ينطلق من مصلحة البلد العليا .
ثم يكمل مدفوعاً بالحماسة ، التي شحنته بها عبارته عن البلد ومصلحته العليا ، وكأنه على منصة بلقي خطاباً سياسياً خطيراً :
- واذكركم ، انفعلت عندما رأيت مرة تلك العبارة " نحن ، فليب بيتان" يتوج بها توقعيه . قلت يومئذ في نفسي ان التاريخ يعيد البلد الى الوراء ، الى عهد الملكية . وهذا ما اغاظني في العمق .
- وهل ابديت احتجاجاً على هذا ؟
- وهل ينفع احتجاج مع الماريشال ؟
- لكنك مع ذلك ، قبلت منصباً رفيعاً في حكومته .
- لا منصب رفيعاً معه ، لانه يملك كل الصلاحيات . كان دون سواه ، كل شيء . ولازلت اذكر ما قتله له ذات يوم من انه يحكم كما لم يحكم اي ملك من ملوك فرنسا ، ابان عهود الملكية المتمادية . لم يجبني . لكنه ، في اليوم التالي ، واثناء اجتماعي به ، قال لي : " هل تشك بأن صلاحياتي تفوق بكثير ما كان لويس الرابع عشر بملك " ؟ .
- ومع ذلك احتفظت بمنصبك في حكومته !
- احتفظت به كما احتفظ به الجميع ، كل في الموقع الذي هو فيه .
في هذا الجو ، انتهت جلسة اليوم . وفي اليوم التالي ، في السادس من تشرين الاول – اكتوبر ، بدأ المتهم الجلسة بطلب الكلام . اثار قضية غيار – بوراجاس ، الذي حكم بالاعدام غيابياً لاشتراكه في عملية بيع صحيفة مارسيلية الى الالمان والتجسس لحسابهم . وكان اسم لا فال قد تلوث بها ، لكنه لم يحاكم ، كما لم يمثلل امام المحكمة لوجوده انئذ في اسبانيا ، لقد أراد المتهم من اثارته لهذه القضية ان يربك المحكمة عن طريق اعادتها الى قوانين اصدرتها حكومة فيشي بضغط نازي . وهذه القوانين هي التي طبقتها المحكمة في القضية المذكورة ، لكن المدعي العام رفض هذه العودة الى الوراء قائلاً للمتهم :
- لكن هذه القوانين اقترنت بتوقيعك عندما كنت في الحكم .
- وانت طبقتها .
- ابداً .
وتدخل الرئيس لحسم الجدال واعادة بعض الهدوء الى القاعة ، وسأل المتهم :
- بالامس سألتك كيف بقيت في منصبك في حكومة فيشي وسط هذا الجو المشحون بالضغوطات النازية وبفرض اراده المحتل . والجواب لا شك هو ان الالمان هم الذين وضعوك في هذا الموقع وارادوا لك الدور .
- لا ، سيدي الرئيس .
- بلى – علماً بأني لا اود ان اتخذ صفة الاتهام . لكني القي ضوءاً ربما يكون في ذلك بعض الفائدة .
هنا ، بدأت همهمة في القاعة . صحيح ان معظم الحضور لا يتعاطف مع لافال ، لكن تنصيب الرئيس نفسه في مركز الاتهام لم يرق لهم . فهذا مخالف لابسط قواعد اصول المحاكمة وطعن للعدالة في الصميم .
وينتزها لافال ليهاجم . وتدب الفوضى في القاعة . ووسط هذه الفوضى ينطلق المتهم كالنمر في وجه الرئيس والاعضاء :
- امام ما خلقته بمخالفتك للاصول وكذلك ما يحويه ملف التحقيق من ثغرات وانحرافات ، ارى نفسي امام صعوبات لست مسؤولاً عنها .....
- ولست مسؤولاً كذلك عن افعالك طوال اربع سنوات من العمالة اليس كذلك ؟
- طالما ان المحكمة تطرح السؤال وتعقيبه بالجواب ، فأني أرى ان نتوقف عند هذا الحد ، حفاظاً على حرمة العدالة وجلالها .
ويتدخل احد المحلفين للدفاع عن موقف الرئيس فتختلط الاصوات وتدب الفوضى . ويحاول صوت الرئيس ان ينفذ ليسال المتهم :
- الكلمة الان للمحكمة . هل يرغب المتهم بالاجابة عن اسئلتها ؟
- لا .
- احذرك من مغبة هذا الموقف . مرة ثانية ، هل تجيب عن الاسئلة .
- كلا ، طالما ان الطريقة في طرح الاسئلة هي اياها ، وطالما ان الاسئلة تطرح . بروح عدائية.
- حسناً . رفعت الجلسة .
قال الرئيس هذا وهو يغلي حنقا وحرجاً .
ويعود الهرج والمرج على اشده . حتى ان بعض المحلفين توصل الى رفع الايدي في وجه المتهم والى اغراقه بالسباب والشتائم :
- محرض ...!
- سوف تلقاها ، رصاصاتك الاثنتي عشرة !
- بل حبل المشنقة !
- سنسمعك تعوي بعد خمسة عشر يوماً !
وعندما قال له محلف اخر بلهجة مليئة بالحقد :
- لم تتغير !
أجابه :
- ولن اتغير .
ظلت الجلسة مرفوعة بعض الوقت . وعندما عادت والتأمت ، بدأها المتهم بقوله :
- ان الطريقة التي تعاملني بها محكمتكم تطعن العدالة في الصميم . وحتى لا اكون شريكاً في هذه الجريمة تساق ضد العدالة ، فاني اعلن امتناعي عن الكلام .
ويرد عليه الرئيس بقولة :
- يعني ذلك انك لا زلت ترفض الاجابة ، اليس كذلك ؟
أجل .
ويهز الرئيس كتفة مبدياً بوضوح عجزه في الامر . وبعد ذلك يأمر بمباشر المحكمة ان يدخل الشاهد الاول .
لكن مهزلة جديدة تبدأ وسط الفوضى والضجيج . لم يكن منتظراً ان يستدعى الشهود في هذه الجلسة . ذلك ان استجواب المتهم كان سيستغرق جلسات ، مما لم يتم معه استدعاء اي شاهد هذا اليوم .
أمام الواقع المخزي ، اعلن الرئيس تعليق الجلسة ، أسرع في ارسال الامر المباشر ليفتش في طول باريس وعرضها عن واحد من شهود الادعاء الاربعة ، رئيس الجمهورية السابق البير لوبرون ، السفير ليون نويل ، الجنرال وأمين سر مجلس الشيوخ السابق دي لا بومراي .
في هذه الاثناء ، ارسل رئيس المحكمة ايضاً احد موظفية الى المتهم ليقنعه بالعدول عن موقفة والتجاوب مع المحكمة برده على اسئلتها . لكن موقف لافال كان صلباً :
- لا تراجع . كل ما يجري هو من صنع المحكمة . فليحكموا علي ، انما لن يحاكموني .
وعادت المحكمة الى الانعقاد وسط احراج لها كبير . فلا المتهم ولا محاموه الثلاثة ، الذين تضامنوا معه ، حاضرين في مقاعدهم . مخرج صغير اتيح بشق النفس : لقد حضر ، او أحضر، شاهد واحد من الاربعة ، وهو الرئيس السابق للجمهورية ، البير لوبرون ، وقف هذا الشاهد ليعلن انه ليس لديه ما يقوله وما يمكن ان يكون مفيداً . اكتفى بسرد بعض الوقائع عن تسلم الافال الحكومة وعن الهدنة . وكلها لا تؤثر في صلب سير المحاكمة او في القضية من قريب او بعيد .
كان من المتوقع ان يستمر المناقشات ما يقرب من ثلاثة اسابيع . لكن السؤال هو كيف لهذا الوقت ان يملأ وملف التحقيق شبه فارغ ؟ ناهيك عن اصرار المتهم على عدم المثول امام المحكمة !
وهكذا كانت جلسة الثامن من الشهر تتخبط في جو باهت من الفراغ في الشكل وفي الاساس . فمقاعد المتهم ومحامية فارغة . اما المناقشات ، فكانت تافهة لدرجة انها لم تثير اهتمام احد . حتى الشهود الادعاء ، ومنهم الجنرال دوايين وامين السر العام لمجلس الشيوخ وعضو اتحاد العمال ، فكثيراً ما كانوا يغرقون الاخرين من تفاصيل مملة وسخيفة . واللحظة الوحيدة ، طوال هذه الجلسة والتي وجد فيها الحاضرون انفسهم مشدودين بعض الشىء الى أمر على قدر من الاهمية ، هي تلك التي قال فيها عضو الاتحاد هذا كيف ان الافال كان يستعجل فيها حكام المقاطعات على القاء القبض على العمال المعارضين لسياسته وزجهم في السجون . وقد بلغ عددهم خمسين الفاً ذهبوا ولم يرجعوا .
وجاء دور شهود الدفاع : ادوار هيريو ، بول بونكور ، البيرسارو ، بول رينو ، ليون بلوم والجنرالات دونين وبريدو ودي بيناي .
والغريب ان احداً من هؤلاء لم يكن حاضراً . جميعهم ، وهم من السياسين ، كانوا منهمكين في معاركهم الانتخابية بعيداً عن باريس .
وبغية كسر الجليد الذي تراكم منذ بداية هذه الجلسة ، فقد امر المدعي العام كاتب المحكمة بقراءة الشهادة الخطية المقدمة من السيد غازيل ، وهو دبلوماسي فرنسي سابق عمل في اسبانيا . ولشد ما كانت الدهشة مروعة للمحكمة بكافة عناصرها عندما لوحظ ان هذه الشهادة لا تمت للقضية بصلة وأنها ضمت سهواً الى الملف !
وحتى يستوعب الاستهجان الذي بدا واضحاً على الوجوه ، صرخ الرئيس بوجه الكاتب قائلاً له :
- ما هذا الذي تتلوه ؟!
وبذلك اضيف مهزلة الى المهازل المتراكمة في تلك المحاكمة ، التي تنظر في الواقع ، بأربع سنوات من حياة فرنسا ، اربع سنوات ، ربما كانت الاخطر في تاريخ هذا البلد الطويل .
بعد ذلك ، وللتخلص من الورطة ، أمر الرئيس برفع الجلسة لتعقد بعد قليل وفي بداية الجلسة التالية ، رأت المحكمة أن تقرأ الصفحات الخمس عشرة ، التي يتألف منها ملف التحقيقات . لكنها، وقد وجدت ان القراءاة ستستغرق وقتاً قليل ، طرحت فكرة قراءة مقتطفات فقط . ولم تحتج الى عناء لاقناع هيئة المحلفين بالفكرة فموافقتها جاءت فورية ، وهذا دليل اخر ، يضاف الى الالة السابقة ، على استهتار وسطحية ، قلما لوحظ مثلهما في محاكمة اخرى .
هذا الجو استمر في جلسة التاسع من الشهر ، وبعمق اكبر . كان على المحكمة ان تستمع في هذه الجلسة الى شهادة ليون نويل ، سفير فرنسا الذي سبق وأدلى بشهادة في قضية الماريشال بيتان . تقدم هذا الشاهد الى المنصة . وعندما طلب منه الرئيس حلف اليمين ، رفض قائلاً انه سبق ان حلفها قبل شهادته المدونة في ملف التحقيق ، وانه لا يرى مسوغاً لحلفها طالما ان المتهم ومحاميه متغيبون ، وبالتالي ، لا يسعهم مناقشتها والدفاع فيها .
وغادر الشاهد القاعة ملقناً المحكمة درساً في اصول المحاكمات ، وكذا في الحفاظ على حد ادنى من الاعتبار للعدالة وحرمتها .وسط الضيق والحرج اللذين سببهما هذا التصرف للمحكمة بكامل هيئتها ، وقف المدعي العام يلقي مرافعته . كان بارداً ، بل ومتعباً . وبكلمة مختصرة ، كان غير موفق .
ومما زاد الطين بلة ، انه لم يتورع عن القول ان هذه المحاكمة ينقصها الوضوح في الرؤية والصفاء في المعطيات . قالها وكأنه غير مسؤول ، مع سائر المسؤولين ، عن هذا الواقع . وأضاف متسائلاً :
- كيف لا تكون هذه المحاكمة كذلك ، والمتهم اصر منذ الجلسة الاولى على عدم المشاركة ؟
ويضاف اختصار الى اختصار . فقد كانت مرافعة المدعي العام قصيرة ولم تعقبها مرافعات الدفاع او ملاحظات المتهم . وهكذا ، في الساعة الرابعة والدقيقة العاشرة ، بدأت خلوة المداولة ولم تستمر اكثر من ساعة واحدة . ساعة واحدة في قضية على هذا القدر من الاهمية والتشعب .
وصدر الحكم المنتظر . الاعدام بسبب " محاولة قلب نظام الحكم الجمهوري والتعامل مع العدو والخيانة العظمى " وأعقب هذا الحكم ملحق بمصادرة ممتلكات لافال بكاملها لصالح الامة .
وعندما ابلغ المحكوم الحكم ، استمع اليه بهدوء ثم قال :
- مؤسف لانهم لم يتركوا لي مزيداً من الوقت لاكتب صفحات اخرى من تاريخ فرنسا . وأضاف:
- ليس في نيتي التقدم بطلب التماس للعفو .
كانت الضجة التي احدثها هذا الحكم كبيرة في فرنسا . لم يكن الاحتجاج عليه لانه انزل عقوبة بمن تعاون مع العدو النازي ، لكن الثغرات التي لم تستكمل في التحقيقات وتحيز المحكمة طوال المحاكمة هي التي القت بظلال كثيفة على القضية واحاطتها بأكثر من علامة استفهام .
وهرع محامو لافال الى محاولة ، بل محاولات انقاذ موكلهم . في العاشر من الشهر ، طلبوا مقابلة رئيس الحكومة ، الجنرال ديغول وفي الحادي عشر منه ، توجهوا الى شخصيات عدة يمكن ان تكون مفيدة في هذا الاطار . منها رئيس الحكومة السابق ، بول رينو ، الذي قبل ان ينشر في جريدته ، النظام ، مقالاً ينتقد اجراءات المحاكمة دون جوهرها .
اما ليون ، صرح بأنه لا يعتقد ان لافال كان طيباً بقدر ما يعتقد انه كان مسالماً اكثر من اللازم . واستغرب كيف ان فوتت فرصة عدم التوسع في المحاكمة .
ذلك انها ، في نظره ، مشوقة ومفيدة في ان معاً .
في اليوم التالي ، اي في الثاني عشر ، وعند الساعة السابعة مساءً ، استقبل الجنرال ديغول المحامين الثلاثة في مكتبه . كانت المقابلة بروتوكولية . وبعدما شرح احد المحامين وجهة نظره وطلب اعادة المحاكمة ، سألهم الجنرال عماً اذا كان لديهم ما يضيفونه ، ووقف منهيا المقابلة ومودعاً اياهم بلباقة كلية .
وكان الجنرال في ظهيرة اليوم نفسه ، قد صرح لصحفين انكليز جاؤوا يسألونه عن القضية انه لن تكون هناك " محاكمة ثانية للافال " .
خرج المحامون من مكتب الجنرال . وفي الغرفة الملاصقة ، حيث مكتب مدير قضايا العفو ، رأوا مدير مكتب الرئيس ، غاستون بالوسكي ، يدخل عند الرئيس وفي يده نسخة من مجموعة القوانين . وها هو يخرج بعد لحظات ليعلن للمحامين الثلاثة ان الرئيس سيطلب استشارة من حارس الاختام الموجود حالياً في مدينة رين لادراة حملته الانتخابية .
وعلى هذا ، فانه سيرسل اليه غداً رسالة محمولة بالطائرة مع احد موظفي وزراة العدل لهذه الغاية .
اسرع المحامون الى الكاتب فرنسوا مورياك لينشر في جريدة الفيغارو مقالاً اخر يضيفه الى مقالاته التي باشر بنشرها منذ ايام ، وفيها ينتقد سياية التصفيات التي تتبعها المحاكم للتخلص من خصوم غير مرغوب فيهم . وقد اراد المحامون بهذه الخطوة دفع الحكومة والمحكمة العليا لتقرير اعادة المحاكمة ، خوفاً من التلوث في الاتهام بنحر العدالة .
لم يكتب مورياك المقال . لكنه كتب ، بعد شىء من النقاش ، رسالة الى حارس الاختام حملتها الطائرة ، التي حملت رسالة ديغول .
يوم الثالث عشر ، لم يرشح اي خبر من رئاسة الحكومة . اليوم التالي ، كان يوم أحد . ويوم الاحد لا تنفذ احكام اعدام . مساء ذلك اليوم الطويل ، رن جرس التلفون في مكتب احد المحامين، الاستاذ البيرنو ، ليعلن المتحدث عبر الخط :
- سيدي ، انا مكلف من الرئاسة بابلاغك ان بيار لافال سيعدم غداً صباحاً . اللقاء امام قصر العدل ، حيث ستكون بانتظارك سيارة تنقلك الى مكان التنفيذ .
- وهكذا حسم الموضوع ، ولن تكون هناك اعادة للمحاكمة . ما ان انتهت تلك المخابرة الهاتفية حتى توجه المحامون الى السجن حيث يقبع موكلهم في احدى زنزاناته .
دخلوا اليه بعد اذت خاص ، وبعد ان اشير اليهم بعدم ابلاغه موعد تنفيذ الحكم . وقد وجدوا لافال اخر ، لم يعد ذلك الرجل القوي والمتغطرس ، لقد حل محله انسان اخر ، انسان يتمسك بالحياة ويريد ان يستمر فيها . وها هو يتوجه الى محاميه يطلب ان يتصلوا بشخصيات ، سماها لهم ، ممن يمكن ان يكونوا مفيدين في اطار طلب العفو او اعادة المحاكمة . ولم يكتف بذلك ، بل اشار اليهم ان يمسكوا اقلاماً وورقاً ليملي عليهم رسائل بهذا الشأن . كان عصبياً ومتشنجاً وهو يردد :
أرفض ان أموت . أرفض .
انه يرفض ان يموت ، ولكن اليس بعد فوات الاوان ؟ وارتبك المحامون . اطاعوه في كتابة الرسائل ولم يكتشفوا له السر الرهيب .
كانت الساعة تدق الثامنه صباحاً ، يوم الرابع عشر من شهر تشرين الاول – اكتوبر من عام 1945 ، عندما بدأ المكلفون بالتنفيذ ، من رسميين وسواهم ، بالصعود الى السيارات التي ستقلهم الى السجن . وصلوا ودخلوا زنزانة لافال . اما سائر الزنزانات ، فقد اغلقت شبابيكها الصغيرة المطلة على الممر حتى لا يرى المحكومين الاخرون ترتيبات تنفيذ حكم باعدام محكوم زميل لهم.
فتح الحارس المكلف زنزانة لافال الذي كان نائماً . لحق به المدعي العام وربت على كتفه ليوقظه . نهض المسكين ، فقال له المدعي العام :
- بيار لافال ، حان الوقت ، تهيأ للموت بشجاعة .
لم يجب لافال . ولم يتحرك . تقدم أحد محاميه وهزه قليلاً قائلاً له :
- أرجوك يا سيدي . من أجلك ، من أجل محاميك ، من أجل التاريخ ، تشجع .
واستمر لافال في جموده بعض الوقت . أخيراً ، التفت ببطء وأفلت زجاجة صغيرة فارغة كان يمسكها بيده . لقد تجرع السم . ويتقدم الطبيب الشرعي بسرعة ليتفحص الزجاجة ويقول :
- انه السيانور
وتسترعي انتباه الحضور قصاصة ورق كتب عليها :
- ارفض ان أموت برصاصات فرنسية . لا اريد ان يشترك جنود فرنسيون في قتل القانون . لقد اخترت موتي بسم الرومان . هذا السم ، سبق وخبأته في طيات ثيابي .
وأسرع طبيبي السجن الى اسعاف لافال المحتضر ، بعد ان رفض الطبيب الشرعي هذه المهمة متذرعاً بموقف انساني . اسرع الى الحقن اللازمة وغسيل المعدة . وقد دام هذا الاسعاف قرابة ساعتين .
وحوالي الساعة الثانية عشرة ظهراً ، وكان لافال قد تماثل الى الشفاء ، اذاعت وزارة العدل بياناً فيه من البلية ما يضحك : قال البيان :
" لم تعد حياة بيار لافال في خطر " وهذا يعني ان الاعدام سيتم .
وبعد لحظات ، كان لافال قد لبس ثيابه ووضع باقته البيضاء ووشاحه ذا اللونين . كما كان قد مشط شعره ووضع قبعته على رأسه . أرادوا ايجلسوه على كرسي لينقلوه الى حيث الاعدام فرفض قائلاً :
- رئيس وزراء فرنسا يموت واقفاً . سأستجمع قواي لاصمد هذه اللحظة التي بقيت في حياتي .
وبسبب الحالة الصحية التي وصل اليها فقد رأى أولو الامر ان ينفذ الحكم في فناء السجن ، لا في قلعة شاتيون ، كما كان مقررا .
والتفت الى القضاه الذين حكموا عليه وقال لهم :
- لقد اردتم حضور هذا المشهد . ابقوا اذاً حتى النهاية .
وعندما طلب ان يسمح له باعطاء الامر ، هو ، للجنود المكلفين بالاطلاق النار ، رفض طلبه لانه " مخالف للقانون " .
عندما ، التفت الى هؤلاء وقال لهم :
- انا اسامحكم . فأنتم غير مسؤولين . صوبوا نحو القلب . تحيا فرنسا
وقبل ان ينهي مرة ثانية عبارة " تحيا فرنسا " كان كل شيء قد انتهى . مات بيار لافال وكانت الساعة تشير الى الثانية عشرة والدقيقة الثانية والثلاثين ظهراً .
قضية كالاس
تبدأ القصة صباح يوم 14 تشرين الاول – اكتوبر من عام 1761 ، ساعة شهدت الطريق المؤدية الى بلدية مدينة تولوز الفرنسية القائد ديفيد بودريغ يسوق خمسة أشخاص ألقي القبض عليهم منذ قليل . هؤلاء الاشخاص هم جان كالاس وزوجته آن روز وابنهما بيار واخرين هما فرنسوا لافايس والخادمة جانيت .
منذ اربع ساعات فقط ، وجد مارك انطون ، الابن البكر لجان كالاس ، مقتولا في دكان ابيه ، تاجر القماش . ماذا سبق هذا " الحادث " والمفجع ؟
في الساعة السابعة من مساء 13 تشرين الاول – اكتوبر ، أغلق جان كالاس متجره وتوجه الى بيته لينضم ، على العشاء ، الى عائلته المكونة من زوجته وولديه ، وكان عندهم ضيف هو الشاب فرنسوا لافايس . عند انتهاء العشاء ، توجه الجميع الى البهو ، باستثناء جان مارك ، الذي كان يبدوا شاحباً ومرتجفاً ، مما دفع الخادمة جانيت الى سؤاله :
- هل تشعر بالبرد يا سيدي ؟ لماذا لا تتغطى ؟
- كلا ، على العكس ، اشعر بأني احترق !
وفي الساعة التاسعة والنصف ، استأذن الضيف ، فرافقه بيار ، الابن الاصغر لجان كلاس ، وبيده قنديل . نزل الاثنان السلم وما ان وصلا الى الممر الذي يحاذي الدكان وينتهي الى الشارع حتى وجدا باب الدكان مفتوحاً . وهذا مستغرب في تلك الساعة . نظرا الى الداخل ، فاذا بهما يريان مارك – انطون مقتولاً . هرع صاحب البيت والعدد القليل من المارة ليروا ما حصل ، كما فتحت الخادمة شباكها لتصرخ :
- يا الهي ، لقد قتلوه .
في الدكان ، كان القتيل جاثياً على اكداس القماش . لم يكن عليه اي اثر لجرح ، كل ما وجده طالب من طلاب الجراحة - احضر الى المكان - هو خط اسود يلف العنق . هذا يثبت ان القتيل مات منتحراً ، خنقاً او شنقاً . بعد ذلك وفي الساعة الحادية عشرة والنصف ، حضر قائد الشرطة ديفيد بودزيغ ومعه اربعون من رجاله . وما ان رآهم المتجمهرون حتى تعالت اصوات تردد : " لقد قتلوه ! قتله هؤلاء الهوغنوا" !
والهوغنو هم الكاثوليك . اما جان كالاس ، فكان بروتستنتيا لكنه معروف بتسامحه وبسعة صدره حتى خادمته جانيت كانت كاثوليكية . ومنذ خمس وعشرون سنة ، وهي تعمل لدى عائلة كالاس دون ان ترى منهم اية مضايقة .
عام 1732 ، ولد مارك – انطون . ومنذ نعومة اظفارة ، أظهر ميلاً نحو الخطابة والمسرح . وهذا ما دفعه ، عام 1759 ، عند نيله البكالوريا ، الى التوجه نحو كلية الحقوق . لكن باب الجامعة صد في وجهه : لم يكن مسموحاً لبروتستنتي انذاك بالوصول الى المرحلة الجامعية .هذه الصدمة جعلت مارك – انطوان في وضع نفسي متعب ، ولا خلاص له من هذا الحائط المسدود الا باعتناق المذهب الكاثوليكي . ويشاع في الحي الذي تسكنه عائلته ، ومعظم سكانه كاثوليك ، ان الشاب كان ينوي اعتناق الكاثوليكية . لكن عائلته قتلته ، مفضلة له هذا المصير على ان يحقق ما صمم عليه ...! هذه الشائعة هي التي دفعت القائد بودريغ لان يلقي القبض على العائلة باكملها بما في ذلك الضيف والخادمة . وقد خالفت بذلك كل الاصول القانونية التي تمنع القبض على شخص دون اذن بذلك .
عند استجواب الموقوفين ، اكدوا جميعهم ان مارك – انطون لم يكن ينوي تغيير مذهبه الذي توارثه عن اسلافه . وعن الجريمة ، اكد الاب ، بادىء الامر ، ان ابنه ذهب ضحية اشخاص دخلوا اليه من الشارع ، لكن ليس هناك ما يثبت ذلك ، فالدكان مغلق ولا اثر لكسر او لخلع ، وهذا ما يرجح ان الجناة ، انما قدموا من داخل البيت ، غير ان الاب نفسه عاد ، في اليوم التالي، ليتراجع عن اقواله تلك ، ويقول ان ابنه لم يقتل ، بل انتحر . و دعم كلامه بأن قال انه ، عندما دخل الدكان ، بعد صراخ ابنه الثاني ، رأى القتيل معلقاً بحبل . وقد قام ، هو والابن الاخر ، يقطع الحبل . ولكن ، بعد فوات الاوان . هذه الرواية ، عاد وأكدها اخ القتيل بشهادته ، كما اكدها الاخرون ، الام والضيف والخادمة .
هذا التراجع اثلج صدر قائد الشرطة . لقد كذبوا جميعاً ، بعد ان رأوا ان رواية الجريمة على اساس تغيير المذهب لن يكتب لها النجاح . وهل يكذب بريء ؟ لكن لماذا كذبوا ؟ الامر غاية بالبساطة ففي عام 1761 ، عام وقائع هذه القضية ، كان الانتحار يشكل جرماً شائناً تعاقب عليه الجثة بأن تسحل في الشوارع ويبصق عليها المارة . لذلك ، فقد اراد أهل القتيل اخفاء الانتحار بادىء الامر ، لكنهم عادوا وكشفوه ، عندما رأوا ان روايتهم عن القتل لن تكون مقبولة من أحد .
في اليوم الثالث لحصول الحادث ، يوم 16 ، استدعي الجميع لتمثيل الجريمة . اثناء ذلك وجد ان الانتحار لم يكن ليتم الا اذا تمكن المنتحر من الصعود على كرسي ورفسه ليتدلى ويموت . هذا الكرسي لم يوجد . اذا هل صحيح ان الموت حصل بسبب الانتحار ؟ الا يمكن كذلك ، ان يكون الكرسي قد اختفى من الدكان الذي ترك منذ الجريمة ، دون حراسة ؟ ان الشرطة تؤكد ان الموت لم يكن بسبب الانتحار .
توالى الشهود ، ومعظمهم مدفوعون بالتعصب ضد البروتستنتية او بالوعود المغدقة . وها هو احدهم ، جان بيريس ، يؤكد انه راى الاب يقتل ابنه في الدكان في الساعة التاسعة والنصف من مساء حصول الموت ، لكن بعض الشهود لم تأت شهادته متوافقة ورغبة بودريغ ، منهم شاهد اكد عدم نية القتيل على اعتناق مذهب غير مذهبة ، حتى ان هذا الشاهد ذهب ابعد من ذلك عندما كشف ان مارك انطون كان ينوي الدخول في الاكليروس البروتستنتي والسفر الى جنيف لهذه الغاية ، اذا الامر ليس كما يريد ان يصوره بودريغ بانه جريمة من الاهل لمنع ابنهم من اعتناق المذهب الكاثوليكي .
لكن بودريغ لم يلق سلاحه . لجأ الى اجراء اخر كان لا يزال سائداً انذاك . ويقضي بأن يعلن في كل الكنائس ، وعلى مدى ثلاثة اسابيع ، ان مارك – انطوان كان ينوي ترك البروتستنتية واعتناق الكثوليكية ، وعلى من لديه معلومات بهذا الخصوص ، ان يتقدم ويدلي بها امام الشرطة وهنا ايضاً ، لم تثمر الخطوة ، ولم يتقدم احد بأية معلومات . انتقل بودريغ الى مرحلة اكثر تقدماُ. عاد الى الاعلان في الكنائس ، ولكن مع تهديد كنسي بالحرم ، هذه المرة لكل من لديه معلومات ولا يدلي بها . هنا ايضاً ، لم يتقدم أحد . اخيراً ولما نفدت لديه كل الوسائل ، امر بودريغ بأن يجرى لمارك – انطون جناز كاثوليكي . وهذا يعني ان القتيل لم ينتحر وان في الامر جريمة . وقد رافق هذا الجناز دعاية ومديح لا مثيل لهما في تاريخ السلطة الاكليريكية . اربعون كاهناً رفعوا النعش على الاكف واوصلوه الى الكنيسة . وهناك ، رفعت لافتة بارزة كتب عليها بخط عريض : " الردة عن الهرطقة . امضاء : مارك – انطون كالاس " ولم تتخلف اية من السلطات الرسمية في المدينة عن حضور المأتم . هكذا ، صدر الحكم في قضية كالاس قبل محاكمته .
في العاشر من شهر تشرين الثاني – نوفمبر ، طلب المدعي العام الملكي ، ريكيه دي بونريبو ، الاعدام حرقاً حتى الموت لكل من الاب والام والاخ . كما طلب السجن المؤبد لفرنسوا لافايس . والسجن خمس سنوات للخادمة جانيت . وفي الثامن عشر من الشهر نفسه ، اصدرت المحكمة حكماً منسجماً مع مطالب المدعي العام . وبعد سماع اقوال دفاعية حثيثة ، عدل الحكم بحيث اصبح يقضي بالاعدام بالمقصلة للاب وبالمؤبد للام والاخ . أما الضيف والخادمة ، فقد برئا.
لكن هذا الحكم لا سيما الشق العائد للاعدام منه ، لن يصبح نهائياً ما لم يقترن بتصديق البرلمان . وقد راى البرلمان ان يصار الى تعريض الاب للتعذيب ، عله يعترف وعندها يصدق الحكم .
وهكذا ، في العاشر من شهر اذار – مارس ، سبق بودريغ المحكوم جان كالاس الى غرفة التعذيب. وقد جاء ليحصل بالاكراه على ما عجز عن الحصول عليه بالوسائل الاخرى مع تنوعها. وقبل ان يتولى الى الجلادين ، سأله بوديغ ، لاخر مرة سؤاله المعهود :
- هل صحيح انك عشت في ظل الدين الجديد ، الذي تدعي انه المتطور ، وانك نشات اولادك عليه ؟
- اجل
- هل صحيح انك انبئت ، صباح 13 تشرين الاول – اكتوبر عام 1791 ، ان ابنك مارك – انطون ينوي تغيير دينه .
- كلا . لم ينبئني احد بذلك .
ويكمل بودريغ وكأنه لم يسمع الجواب :
- هل صحيح انك صممت ، منذ تلك اللحظة ، على خنقه بالاشتراك مع زوجتك وابنك الاخر وخادمتك وضيفك السيد لافايس ؟
وعلى الرغم من ان جان كالاس كان واثقاً من مصيره وان الحكم عليه يعتبر صادراً مسبقاً فقد اجاب بحزم وشجاعة نادرين :
- لم يكن ثمة اي تصميم من هذا النوع .
تجاه هذا الاصرار ، امر بودريغ الجلادين بالبدء . ويقضي هذا بشد الذراعين باتجاهين متعاكسين . وكان الشد يزداد كلما وجد المحقق ان الجواب ليس الجواب المرغوب او انه غير كاف . ويستأنف بودريغ الاسئلة :
- هل قمت بتنفيذ جريمتك وحدك ام بالتنسيق مع الاخرين ؟
- لا انا نفذت ولا الاخرون .
- اذكرك يا كالاس ان الحقيقة تخفف عنك الكثير من عذابك .
- أكرر ان ليس هناك جريمة وكلنا ابرياء .
واشتد العذاب واستمر التعذيب وكالاس لا يتزحزح عن موقفه . ولما كانت مراحل التعذيب قد استنفدت بكاملها دون نتيجة ، فقد امر بودريغ بحل وثاق المتهم . وهذا ما تفرضه القوانين في هذه المرحلة .
وسيق كالاس الى ساحة الكنيسة ، حيث المقصلة ، وسط جمهور غفير من الكاثوليك فقط . وكان طوال الطريق يتلقى الشتائم من الواقفين وممن هم في النوافذ دون ان يفقد هدوءه او يحني راسه . واخيراً وصل الى المنصة ، وقرىء على مسمعه نص الحكم ، فلم يتهيب ولم يرهبه منظر المقصلة ، واستمر في نفيه الجريمة . هنا تقدم الجلاد منه ، وبضربات من عصا حديدية كسر اطرافه اربعه . ثم ربطه بقوة ليختنق طوال ساعتين اثنتين .هذا اذا لم يمت ميتة طبيعية خلال هذه المدة .
اخر ما قاله كالاس ، وهو يحتضر ، كان امام الاب بورغ ، الذي جاء ليستمع للاعتراف الاخير قال :
- لقد قلت الحقيقة . هل تعتقد بأن من الممكن ان يقدم اب على قتل ابنه ؟ سأموت بريئاً . ولست اسفا على حياة ستليها سعادة ابدية . كم ارثي لحال زوجتي وابني وخادمتي . وكم ارثي خاصة لحال المسكين السيد لافايس ، الذي قاده سوء طالعه لهذا المأزق .
مرت الساعتان دون ان يموت المسكين . هنا تقدم بودريغ وطرح عليه السؤال نفسه ، فلم يجب ، عندها ، تقدم الجلاد واجهز عليه ورمى بجثته في النار وسط هرج جمهور جاء ينفص حقده عليه.
مات جان كلاس بعد ان انقذ بشجاعته الاخرين . ذلك انه لو انصاع لاهوال التعذيب واعترف بجريمة لم يقترفها ، لكان كل المتهمين ولكانت اللعنة حلت بهم .
لكن قصة البروتستنتي لم تنته فصولاً ، لقد كان بين الجمهور الذي شهد التعذيب والاعدام تاجر مرسيلي يدعى اوديبير ، هذا الرجل هاله ما راى وتيقن من ان في الامر- بالاضافة الى خطأ عدلي - جريمة شائنة حركها تعصب ذميم . كان على اوديبير هذا ان يسافر الى جنيف لاشغال خاصة ، لكنه قبل ان يصل اليها ، عرج على صديق له يسكن بلده فرناي ، بالقرب من الحدود السويسرية هذا الصديق هو فولتير .
استمع فولتير الى اودبير . وطرح اسئلة واثار استفسارات ، بعد ذلك كتب الى اصدقاء له يستعلمهم الخبر . اخيراً ، ارسل بطلب الابن الاصغر لجان كالاس ، والذي كان خارج تولوز عند وقوع الحادث لاخيه . وبعد ان انهى استقاصاءاته كلها ، خرج هذا الفيلسوف المتحرر بنتيجة راسخة وهي ان الامر يتجاوز كل الحدود ويصل الى الفضيحة .
والقى فولتير بكامل ثقله في المعركة . جمع حوله من كبار رجال القانون وتولوا جميعاً مراجعة ملف الدعوى ابتداء من القاء القبض على عائلة كالاس حتى اخر لحظة من حياة رب العائلة . وقد وجدوا مخالفات وتجاوزات لا تفسير لها . اللهم الا الاصرار على الادانة ، ولو جاءت هذه الادانة زوراً وبهتاناً . تساءلوا : لماذا اوقف الخمسة دون امر بالتوقيف حسب الاصول ؟ لماذا لم ينظم المحضر الاول في اليوم نفسه ، بل ارجى الى اليوم التالي ؟ لماذا اخيراً امر بودريغ باقامة مأتم كاثوليكي لمارك انطوان قبل ان تبت المحكمة بالدين الذي مات عليه ؟
واذا كان ظاهر الحال ان فولتير يخوض معركة قضائية قانونية ليحق الحق ويدين المرتكبين فان الواقع هو انه يرمي الى ابعد من ذلك . لقد اراد ان يجعل من قضية كالاس رمزاً . كتب الى كل من له اتصال بهم في اوروبا من ملوك وأمراء ووجهاء وعلماء . كتب اليهم يستصرخ ضمائرهم ويحثهم على اسماع اصواتهم حتى لا تتكرر مأساة ذلك البروتستنتي ويتلطخ جبين العدالة في فرنسا . وسمعت كلمة فولتير . وفي الرابع من شهر حزيران – بونيو من عام 1764 ، قبل تمييز الحكم . وفي التاسع من شهر اذار – مارس من عام 1765 ، اي بعد ثلاث سنوات بالتمام والكمال من أرسال جان كالاس الى المقصلة ، صدر الحكم من مجلس الملك برد اعتبار المسكين وبتبرئة جميع المحكومين الاخرين .
واكثر من ذلك ، فقد رأى الملك التعويض على السيده كالاس عما لقيه زوجها وابنها الثاني من تعذيب ، وعما لقيته هي من قهر وحرمان ، فأمر بمنحها تعويضاً مالياً بلغ ثلاثين الفاً من امواله الخاصة .
جرى كل هذا وقضاة البرلمان في تولوز مصرون على موقفهم من ادانة كالاس . لقد اعتبروا ان مجلس الملك لا يملك الصلاحية للنظر في قضية كهذه . لكن التناقض وذالك الظلم لم يكونا سوى مقدمة تمهيدية للقيام من الافق . بعد خمس وعشرين سنة على هذه القضية ، انفجرت الثورة الفرنسة وانفجرت معها احقاد متراكمة خلفتها ممارسات ظالمة من اعداء العدالة والحق هم صانعو الثورة الحقيقيون .
محاكمة جان دارك
من كتاب اشهر المحاكمات
نحن الان في 21 شباط – فبراير من عام 1431 . في ذلك اليوم ، وفي قاعة باردة من قصر روان ، حيث جلس بشكل نصف دائري خمسة واربعون من رجال الكنيسة بدأت محاكمة جان دراك في مركز الدائرة ، وعلى كرسي صغير جلست المتهمة " الساحرة " مكبلة بالاصفاد - امام هؤلاء الرجال . افتتح الكاهن كوشون المحاكمة بسيل من المتهم صبها على رأس المسكينة وتتراوح بين الشعوذة والفجور . والواقع ان احداً من الحضور لم يكن مخدوعاً بحقيقة الامر . فالتهم التي ذكرت ليست سوى تغطية لما هو أدهى وأكثر خطرا على البعض . لقد طردت جان داراك هذه الانكليزية من اورليان عام 1492 . وبعد شهرين توجت ولي العهد ملكاً على فرنسا تحت اسم شارل السابع مكان الملك الانجليزي هنري السادس .
هذا هو سبب محاكمة " الساحرة " وهذا هو ايضاً سبب محاكمتها في روان ، التي تعتبر عاصمة الانكليز في فرنسا ، ومن قبل جماعة تعتبر عملية لانكلترا .
عندما طلب منها رئيس المحكمة كوشون ان تقسم على الانجيل بأن تقول الحقيقة في اجابتها عن اسئلة القضاء ، رفضت ان تقسم الا على ما يتعلق ، في هذه الاجابات ، بها وبعائلتها اما فيما يختص بالامور الاخرى ، كالوحى الذي ينزل عليها وينير خطواتها من وقت لاخر ، فقد اجابت بتصميم انها لن تفصح عنه الا لملكها شارل السابع ، حتى ولو كلفها رفضها هذا حياتها .
لم يفد اصرار رئيس المحكمة امام ثبات موقف جان . وعندما سألها ان تذكر اسمها والقابها ومكان ولادتها ، اجابت بكل هدوء ان اسمها جان وانها ولدت في دومريمي من أب فلاح وام علمتها الخياطه والحياكة ، اما الالقاب ، فليس لها شئ منها وقد انتهزتها فرصة لتذكر مآسي قريتها مع الجنود الانكليز الذين كثيراً ما كانوا يقومون بأعمال النهب والسلب والحرق فيها ، مما كان يدفع أهلها للنزوح والالتجاء الى اماكن اخرى مجاورة .
لم يرق للرئيس ، لكنه احتوى الانفعال . بعدها ، سألها :
- مم تشكين ؟
- من الاغلال التي تقيد رجلي
- هذه الاغلال وضعت لانك حاولت الهرب من السجن
- هذا طبيعي . فكل سجين يتمنى الهرب .
هنا انتقل الرئيس الى موضوع اخر وسأل المتهمة :
- متى بدأت بسماع الاصوات الخفية او ما تسميه الوحي ؟
- منذ سن الثالثة عشرة وكنت عندها في حديقة البيت ظهر احد الايام ، انه صوت آت من عند الله لهدايتي الى الطريق القويم.
- باي شكل ظهر عليك هذا الصوت ؟
- لن أعطي جواباً عن هذا السؤال . كل ما يمكنني قوله هو أن الصوت أمرني بالتوجه الى اورليان لتحريرها من الانكليز وتتويج ملك فرنسا عليها .
- هل استقبلك الملك بسهولة ؟
- نعم
- لماذا ؟
- لان الملك ، هو ايضاً ، لديه بعض الايحاءات .
- كيف ؟
- لا يمكنني الاجابة يمكنك ان تذهب عنده وتسأله .
هنا رفع الرئيس الجلسة لتعقد يوم السبت في 24 شباط فبراير وفي ذلك اليوم ايضاً حاول الرئيس كوشون مرة اخرى ان ينتزع من جان داراك ما عجز عن انتزاعه منها في السابق وهو ان تقسم على ان تقول كل شئ بما في ذلك حقيقة مصدر الوحي واسراره ولكن اصرار جان داراك على موقفها الرافض عمق لديه الخيبة ، وهذا الاصرار على ان علاقتها بربها هي علاقة مباشرة ولا تمر بأي وسيط والكنيسة وسيط جعل الفتاه تقع في الفخ الذي نصبه لها كوشون . هنا وبعد نجاح خطته ، أعطى الرئيس الكلام لعضو المحكمة جان بوبير ، الذي بدأ باستجوابها بما يلي :
- متى سمعت هذا الصوت اخر مرة ؟
- سمعته البارحة واليوم .
- في أية ساعة ؟
- سمعته ثلاث مرات ، صباحاً وظهراً ووقت القادس .
- ماذا كنت تفعلين البارحة عندما اتاك الصوت ؟
- كنت نائمة ، والصوت هو الذي ايقظني .
- كيف ؟ بهز الذراع ؟
- ايقظني دون ان يلمسني .
- هل كان الصوت في غرفتك ؟
- كلا ، كان في القصر .
- هل شكرت الصوت وركعت على ركبتبك ؟
- نعم . وطلبت منه ان يساعدني . والان ، يطلب مني هو ان أكون شجاعة .
وهنا ، التفتت الى كوشون ، كما لو كانت تنفذ ما طلب منها الصوت في شجاعة ، وقالت له :
- احذرك ، انت من تقول انك حاكمي ، مما تفعل . أنا مرسلة من الرب فتنبه للخطر ....
كان من الممكن ان يكفهر جو المحكمة لهذا التهديد يصدر بوجه الرئيس من فتاة بسيطة كجان دراك ، لولا أن احتواه كوشون على مضض ، ولولا ان تدخل بوبير على الفور قائلاً لها :
- وهل تعتقدين أن قول الحقيقة يغضب الله ؟
لم تعر جان أي اهتمام للسؤال ، بل أكلمت :
- لقد أوصاني الصوت ان أبوح به للملك دون سواه . وهذه الليله بالذات ، كلفني برسالة له على قدر كبير من الاهمية بالنسبة اليه . واريد ان تصل اليه .
- الا يمكنك اقناع صاحب الصوت ان ينقل الرسالة بنفسه الى الملك ؟
- لا أعرف . فهذا يتعلق بارادة الرب .
- هنا ، بدأ بوبير يفقد صبره :
- أليس لهذا الصوت وجه وعيون ؟
- لن أقول لك شيئاً من هذا .
- اتعتقدين انك تحت رحمة الرب ؟
- ان لم أكن كذلك ، فالرب يحيطني بها ، وان كنت ، فهو يديمها علي .
لقد أدهش الجواب الحضور ، وجلهم من كبار اللاهوتيين . وهذا الجواب ، بجرأته وعمقه وصفائه ، أعطى برهاناُ اخر على ان هذه الفتاه تنعم بسر الهي خارق .
لكن المحكمة معقوده ، لا لتظهر اعجابها ودهشتها ، بل لتحاكم جان دراك بتهمة الشعوذة لذلك ، كان لا بد من تبديد ما علق في الاذهان من ايجابيات للفتاة ، وهذا ما فعله كوشون عندما رفع الجلسة .
ولما عادت المحكمة والتأمت ، كان لا بد من محو الانطباع السابق المتألق في أذهان الحضور ، هذه المهمه اخذها بوبير على عاتقه :
- هل كنت تلعبين مع اولاد قريتك وترعين معهم القطعان ؟
- نعم . عندما كنت صغيره .
- هل تعرفين شجرة الجن ؟
- نعم . وكنت اذهب اليها احياناً مع بعض بنات القريه . لكني لم اجد ايه جنية . كما اني لا اومن بوجود الجن .
- هنا ايضاً ، لم يوفق بوبير في الايقاع بالفتاه المسكينة .
- هل تودين يا جان لبس ثوب امرأه ؟
- لا مانع لدي ، على الرغم من أن ما البسه يعجبني لان الرب لم يعترض عليه .
لقد قصد بوبير ان يبرز جريمة جان ، كما كان ينظر الى انذاك ، يلفت انتباه المحكمة الى ما تلبسه جان وهو بزة عسكرية يلبسها المحاربون ، دون سواهم .
- هل ينبعث امامك نور عندما يتحدث اليك الصوت ؟
- نور وهاج !
هذه الجرأة ، تبديها فتاه بسيطه امام محكمة بهذه الضخامة وذاك المقام ، كلفت جان اجراءات مشددة في سجنها فيوم السبت في 17 اذار – مارس 1431 ، كان قد مضى عليها اسبوع كامل دون ان تخرج من زنزانتها . واذا ما أضيف هذا التشدد الى اجراءات اخرى عرفنا مدى ما تركه موقفها من اثر سئ في نفوس حاكميها . لقد نقلت الى سجن علماني يحرسه جنود انكليز . ومعروف كم حاربت دارك الانكليز . وهذا مخالف للقانون الذي يفرض على من يحاكم كنيسة ان يحجز في سجن كنسي . يضاف الى ذلك ان يجب ان تكون في سجن نسائي ومحروسة من قبل حراس من النساء . ومما يبرز التحيز ، هو انه لم يعين محام للدفاع عنها . ناهيك عن ان اتعاب هيئة المحكمة كانت على عاتق الانكليز دون سواهم . والفضيحة الكبرى في هذه القضية هي ان المحكمة أعلنت ، منذ انعقادها في الجلسة الاولى ، ان جان ستسلم الى الانكليز لتحاكم من قبلهم ، اذا ما قررت المحكمة تبرأتها . كل هذا يعني بوضوح ان المحاكمة برمتها ليست سوى تمثيله يراد بها تغطية الحقيقة وهي مطالبة الانكليز لرأس من اقسمت على اخراجهم من فرنسا .
الجلسه الان تعقد في زنزانة السجينة . وفيها تولى جان دي لافونتين الاستجواب مكان بوبير :
- هل لك ان تقيمي حبك للكنيسة وخدماتك لها ؟
- أحب الكنيسة واتفانى في دعمها بكل ما اوتيت من قوة ، وأود لو تسمحون لي بحضور القداديس . اما اعمالي ، فأترك لرب السماء تقييمها ، الرب الذي ارسلني الى شارل ، الملك الحقيقي لفرنسا ، وبالمناسبة أقول لكم ان الفرنسيين سينتصرون على الانكليز في معركة حاسمة . تذكروا اني قلت لكم ذلك يوماً .
- هل تقبلين حكم الكنيسة مهما كان ؟
- انا اقبل بحكم الرب . ولما كان الرب والكنيسة واحداً ، فلماذا نوقع انفسنا في متاهات السؤوال؟
- هناك كنيسة مظفرة يذوب فيها الرب والقديسون والملائكة . وهناك كنيسة ملتزمة تشمل البابا والكرادلة والاساقفة . هذه الكنيسة معصومة عن اي خطأ لانها بأمره الروح القدس فهل تنصاعين للكنيسة الملتزمة ، الكنيسة الارضية ؟
سؤال محرج . هل ترد بالسلب وتعتبر خارجة على الكنيسة وتحاكم على هذا الاساس ؟
لقد فهمت المأزق . لكنها اختارت طريقها منذ وقت طويل .
- لقد أرسلت الى ملك فرنسا من قبل الرب . والى الرب اقدم حساب ما فعلت وما سافعل .
- هل تقبلين بالافصاح عما رفضت الافصاح عنه امام قداسة البابا ؟
- بالتأكيد . خذوني امامه وسأقول له كل شيء.
كان الجواب واضحاً ومحكماً . لكن المرسوم هو ان تقاد جان دارك امام الانكليز وليس امام البابا . وهذا السؤال يدل على النية المبيته من قبل لافونتين :
- هل يكره الرب الانكليز ؟
- لا أعلم مشاعر الرب اتجاه الانجليز كل ما اعرفه هو انهم سيطردون من فرنسا ، باستثناء من سيموت منهم على ارضها .
- من دفعك الرسم ملائكة بأذرع وأرجل وثياب ؟ هلى يظهرون عليك على هذه الصورة ؟
- هكذا هم مرسومون في الكنيسة .
- لماذا هم اثنان فقط ؟
- لان رايه الجيش المهاجم للانجليز يقودها الرب بواسطة القديسة كاترين والقديسة مارغريت . اللتين قالتا لي : " تسلمي انت هذه الرايه باسم رب السماء " ؟
- هل يعتمد الامل في النصر على الراية او عليك بالذات ؟
- انه يعتمد على الرب .
- لماذا كانت رايتك وحدك حاضرة عند تنصيب الملك وليست رايه سائر القواد ؟
- لانها هي التي جاهدت . فهي اذا التي تستحق هذا التكريم .
- هل تقبلين خلع لباسك العسكري ولبس ثوب نسائي للذهاب الى القداس ؟
- اقبل . ولكني سأعيد بزتي العسكري واعود الى الجهاد حالما اخرج من الكنيسة .
هنا ، وقد اخذ الضيق مأخذه في نفس رئيس المحكمة ، أمر برفع الجلسة . وما هي الا لحظات حتى رأت جان دارك نفسها ثانية في زنزانتها وجهاً لوجه امام حراسها الانكليز .
ثلاثة اشهر مرت والفتاة حبيسة الزنزانة . ثلاثة اشهر عاشت فيها بعذاب نفسي وجسدي فلما أصاب سجيناً اخر . ومع ذلك ، فانها لم تركع . ولما كان يقتضي الانتهاء من هذه القضية خوفاً من تفاقمها وانعكاساتها ، فقد قررت جامعة باريس ، الملتئمة بكامل هيئتها في 15 ايار- ما يو 1431 ، ان تتبنى لائحة من اثنى عشر اتهامياً رئيساً. هذه اللائحة قدمت من قبل كوشون نفسه مرفقه بكتاب من ملك انكلترا . جميع هؤلاء وجهوا الى جان داراك تهمة الشعوذة والهرتقة والوثنية ، كما وجهوا اليها تهمة قتل الانكليز والتعطش للدم المسيحي .
وفي 23 ايار مايو ، طلب من المتهمة العودة عن " اخطائها وتصرفاتها المشينة " لكنها رفضت باصرار " حتى ولو رات النار التي سيحرقونها بها تشتعل " .
24 ايار – مايو في هذا اليوم كان كل شئ قد هي للحكم وللتنفيذ . الحكم بالموت حرقاً . واستكمالاً لفصول المهزلة ، دعي الناس لحضور الجريمة . وعلى رأس هؤلاء ، ملك انكلترا الحقيقي ، اسقف ونشستر وهيئة المحكمة . ومقابل المنصة الرئيسية ، منصة الشرف ، وقفت جان داراك .
بدأ " الاحتفال " بخطاب القاه في وجه المتهمة المحامي غليوم ، صديق كوشون الشخصي :
- جان انت ساحرة ومهرتقة وخارجة على الكنيسة . وملكك الذي اراد استرجاع ملكه بواسطة امرأة هو ، في الواقع ، مثيلك . ثم أكمل بلهجة أكثر ليونة :
- انا ارثي لحالك . عودي عن اقوالك والا ، فان الحكم سيكون قاسياً عليك .
- انك تتعب نفسك كثيراً لتثني عن عزمى ولتحضني على انكار الحق .
هنا ، انبرى جاك كالو ، سكرتير ملك انجلترا ، وأخرج من كم سترته ورقة سطر عليها عليها بضعة أسطر ، هي الدليل على ان كل شئ قد هيء مسبقاً، صرخ غليوم ملتفتاً نحو جان :
- وقعي على هذه الورقة والا فانك ستنتهين الى النار .
أذعنت جان بصوت ضعيف . لكن مفاجأة غير متوقعة حصلت . فقد ثار الانكليز الموجودون في المنصة على الرئيس كوشون نفسه وسائر اعضاء المحكمة متهمين اياهم بنقض الاتفاقية والخيانة: لقد اعتبروا ان الورقة التي عرضت على جان دراك للتوقيع ستؤدي ، عند توقيعها ، الى تبرئة المتهمة وعدم تسليمها الى الانكليز . ماذا كانت تحوي هذه الورقة التي وقعتها الفتاه المسكينة بعد ان شنت عليها حرب نفسية رهيبة ؟ انها اعترف منها بالشعوذة ونكران لسماعها صوت الرب كما انها تعهدت بالامتناع عن لبس الثياب العسكرية . أما كوشون ، العميل الامين الاسياده الانكليز ، فقد سارع ، عندما ثارت ثائرة هؤلاء الاسياد ، الى تطمينهم ، وامعاناً في ذلك فقد عجل في اصدار حكمه على جان داراك : السجن مدى الحياة على الخبز والماء لتغسيل خطاياها ولتكف عن اقتراف غيرها .
امتقع لون المسكينة عند سماعها الحكم وعرفت انها وقعت في الفخ الذي نصب لها ، فتوقيعها على الوثيقة لم يكن الهدف منه سوى اهانتها وهدر كرامتها ، لانقاذها ، كما ذكر امامها.
اما الانكليز فقد ظلوا على انفعالهم . صحيح ان جان دراك ستمضي بقية ايامها في السجن ، لكن الصحيح ايضاً هي انها ستبقى حية ، في حين دبروا ما دبروا ودفعوا ما دفعوا لتنتهي عدوتهم الى النار وليتخلصوا منها الى الابد .
عادت جان دراك الى زنزانتها لتلبس ، كما تعهدت ، لباس امرأه لكن ، لم تمض سوى ثلاثة ايام حتى شوهدت تعود الى لبس الزي العسكري . فما الذي حدث حتى تنقض السجينة تعهدها ؟ الامر غاية في البساطة ، لقد امرها سجانها الانكليز بذلك بقصد اعادتها الى محاكمة جديدة وبالتالي ، اصدار الحكم بحرقها حية .وهكذا وفي اليوم الرابع للمحاكمة الاول، بعد يوم واحد من نقضها القسري لتعهدها ، عادت المسكينة لتواجه المحكمة والمصير المرسوم ، جرت المحاكمة – المهزلة وحكم على جان دراك بالاعدام حرقاً ، ورضي الانكليز .
خمسة وعشرون عاما مرت على موت جان دراك ففي 7 تموز سنة 1456 ، كان اناس كثيرون يتجمهرون في باحة قصر روان ليستمعوا خاشعين الى حكم اخر يقضي ، هذه المرة باعادة اعتبار الشهيدة . كبار رجال الكنيسة في باريس وريمس وكوتانس ومعهم شقيق جان دراك التأموا في اجتماع تاريخي ليعلن كاهن ريمس ياسمهم ما يلي .
" نعلن باسم الرب ، الحسيب الوحيد على اعمالنا ، ان المحاكمة التي ذهبت جان داراك ضحية انحرافها وعمالتها ، باطلة ، وان الحكم الصادر عنها هو ايضا باطل كما نعلن ان جميع الاتهامات بالشعوذه والهرتقة الموجهة الى الشهيدة باطلة ، هي الاخرى لذلك فاننا نحكم بالغائها جميعاً " .
ما ان انتهى الكاهن من قراءة وثيقة البراءة ، حتى ظهرت علامات الرضى على وجوه الحضور وهمهمات الموافقة على شفاههم . وامعاناً في التكريم ، توجه الجميع الى مقبرة سان
- اوين ، حيث انتزع، احتيالاً اعتراف جان دراك بالشعوذه وانكارها لسماع صوت الرب . وهناك قرأ كاهن ريمس حكم البراءة ثانية على مسمع من الحضور . وقد تكرس هذا الحكم من قبل البابا نفسه .
كان هذا تتويجاً لجهود دامت سبع سنوات ، سبع سنوات مليئة باجراءات باعادة محاكمة شاقة ومثيرة . اعيد النظر بكل الوثائق . فندت كل الاقوال ودحضت جميعاً . وقد اشرف على هذه العملية كبار القضاة ورجال القانون من الملك شارل السابع ، ملك جان دراك ، الذي تنبأت المسكينة بانتصاره على الانكليز وبعودته الى عرش بلاده . وقد صدقت النبوءة .
وهكذا انتهت اول محاكمة سياسية في تاريخ فرنسا . كانت محاكمة مثيرة اظهرت بوضوح ما يمكن ان تؤدي اليه عمالة ضعاف النفوس . ان جان دارك اصبحت بطلة وطنية ويطلق اسمها على الساحات والشوارع والمؤسسات في فرنسا وخارجها ، لكن الصحيح ايضاً هو انها ماتت حرقاً ، وهذا المصير ، لمجرد تخيله ، رهيب فكيف به عند المنفذ به ؟ واذا كان من عبره لهذا القضية برمتها ، فهي ان الحق هو المنتصر الاخير في الجولة الاخيرة ذاك هو منطق الامور . ولكن ... كم من الضحايا تسقط وكم من الرؤوس تتدحرج قبل ان تصل الامور الى نهاية منطقها او ، بالاخرى الى منطق نهايتها ؟ قد تكون التضحية بالذات هي القربان الامثل الذي يقدمه المرء لاحقاق حق او لابراز حقيقة . وهذا في نظر الكثيرين ، قمة العطاء .
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
الانتقال السريع
|
|
|
عدد الزوار 1976 / عدد الاعضاء 62 |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|