لقد بحثت التشريعات الوضعية في هذا العذر، ونحن هنا نستعرض من التشريعات الوضعية ما يتصل فقط بالتطور التاريخي للعذر، فنبحث على ذلك القانون الفرنسي والقانون السوري.
أولاً: في القانون الفرنسي:
في عصر القانون القديم الذي كان قائماً قبل قيام الثورة الفرنسية مباشرة عاد للزوج مكانته السامية على الزوجة وبالتالي أصبح من جديد فعل الزنا بمثابة اعتداء على حقوق الزوج فحسب ومن ثم كان للزوج أن يقتل زوجته التي يفاجئها في حالة تلبس بالزنا، ومن باب أولى كان من حقه أن يصفح عن زوجته ولو أحيل الأمر إلى القضاء.
ولقد ظل هذا الوضع سائداً حتى بعد أن تحررت المرأة المتزوجة من سيطرة الزوج.
ولكن شيئاً فشيئاً لم يعد للزوج القاتل أي حجة أو ستار قانوني ليحول دون عقابه جنائياً ومع ذلك فلقد كان هذا العقاب الجنائي بمثابة عقاب نظري بسبب حصول الزوج على خطابات عفو بعد ادانته جنائياً إذا ما قتل زوجته حال تلبسها بالزنا.
وفي الواقع كان يُقضى بنفي الزوج القاتل لمدة تتراوح بين خمس وسبع سنوات حسب العادات والأعراف الجارية حينذاك وفي بعض الحالات كان يُقضى عليه بالغرامة، ولكن هذا التخفيف العقابي لم يكن يطبق على الزوجة المخدوعة إذا قتلت زوجها حال تلبسه بالزنا.
ومن ثم نصت المادة 324/2 على تقرير عذر للاستفزاز الناشئ عن حالة الزنا حيث نصت على أن: «إلا أنه في حالة الزنا المنصوص عنها في المادة 336، فان القتل الواقع من قبل الزوج على زوجته وعلى شريكها في لحظة مفاجأته لهما بالجرم المشهود في المنزل الزوجي يستفيد من العذر المخفف».
الا أن هذا العذر تأرجح بين مؤيد ومعارض، وأخيراً حسم المشرع الفرنسي هذا الخلاف بالغاء عذر الاستفزاز في عام 1975 مؤيداً بذلك رأي الأغلبية الذي اعتمدوا على الحجتين التاليتين:
1. إن الزوج ليس من حقه الانتقام الخاص كما في العهود الهمجية والبدائية وبالتالي فليس من المعقول أن يحميه القانون الجنائي في قتله لزوجته الزانية وأنه من الأحرى أن يُترك تقدير حالة الانفعال التي يوجد فيها الزوج المخدوع لحظة مفاجأته لزوجته متلبسة بالزنا للقاضي الجنائي لا للمشرع الجنائي.
2. ان الأخلاق العامة في فرنسا لم تعد تقبل السماح للزوج بأن يقتل زوجته الزانية حال تلبسها بجرم الزنا طالما أنه يستطيع أن يطلقها وفقاً للتشريع الفرنسي.
ثانياً: القانون السوري:
نص قانون العقوبات السوري على تقرير عذر محل من العقاب لمن يفاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنا المشهود أو في حالة الجماع غير المشروع فيقدم على قتل أحدهما أو كلاهما أو إيذائه بغير عمد، وعلى تقرير عذر مخفف لمن يفاجأ نفس الأشخاص في حالة مريبة مع شخص آخر فيقدم على قتل أحدهما أو كلاهما أو إيذائه بغير عمد، وذلك في نص المادة 548 من قانون العقوبات.
الا أن هذه المادة لم تبقى على نصها الأصلي إنما طرأ عليها بعض التعديل، فلقد كانت في الاصل تنص على ما يلي:
«1. يستفيد من العذر المحل من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنا المشهود أو في حالة الجماع غير المشروع فأقدم على قتل أحدهما أو إيذائه بغير عمد.
2. يستفيد مرتكب القتل أو الأذى من العذر المخفف إذا فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في حالة مريبة مع آخر».
والتعديل الذي أحدثه المشرع السوري، بمقتضى المرسوم التشريعي رقم 85 الصادر في 28/9/1953 اقتصر على الفقرة الأولى من المادة 548 والتي أصبحت بعد التعديل:
«1. يستفيد من العذر المحل من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنا المشهود أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر فأقدم على قتلهما أو إيذائهما أو على قتل أو إيذاء أحدهما بغير عمد».
وقد ورد في الأسباب الموجبة لاصدار المرسوم التشريعي رقم 85 المشار إليه سابقاً بصدد المادة 548 من قانون العقوبات مايلي:
«لما كانت عبارة (في جرم الزنا المشهود) وعبارة (في حالة الجماع غير المشروع) الواردتان في المادة 548 لا تدلان على حالتين مختلفتين، بل أنهما تدلان على حالة واحدة، الأمر الذي لم يقصده واضع القانون لذلك أبدلت العبارة الثانية بعبارة [في صلات جنسية فحشاء] والمقصود بها: الحالات التي يمكن وصفها بالجماع أو الزنا كخلو المرأة وهي عارية من ثيابها مع رجل أجنبي وما شابه ذلك من الأوضاع الفاحشة».
كما أنه من الأسباب التي دعت إلى تعديل هذه الفقرة أن استعمال عبارة «أقدم على قتل أحدهما أو إيذائه» يوهم القارئ أن الجاني لا يستفيد من العذر المحل إذا هو أقدم على قتل الاثنين معاً أي الزوجة الخائنة وشريكها مثلاً مما اقتضى تعديل هذه العبارة لتصبح: «أقدم على قتلهما أو إيذائهما أو على قتل أو إيذاء أحدهما».
فلسفة العذر
لقد نصت التشريعات الجزائية الوضعية على هذا العذر وقد اختلفت فيما بينها من حيث الأشخاص المستفيدين منه ومن حيث شروط تطبيقه، إلا أن هذه التشريعات لم تقرر هذا العذر بشكل اعتباطي إنما جاء تقريره نتيجة حكمة ارتأتها تلك التشريعات في تطبيقه ومنحه للجاني هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد جاء هذا العذر وبشكل خاص في القانون السوري نتيجة تطبيق للقواعد العامة للقانون الجزائي حيث افترض المشرع وجود الاثارة لدى الجاني عند اقدامه على القتل أو الايذاء في تلك الحالة وعلى هذا سوف نبحث في الحكمة من العذر و الافتراض القانوني للاثارة.
أولاً : الحكمة من العذر:
ان الحكمة من هذا العذر واحدة في جميع التشريعات الجزائية الوضعية وتتمثل في الحالة التي يوجد فيها الجاني عند اقدامه على ارتكاب فعل القتل أو الايذاء، فالوضع الذي يفاجأ الجاني به زوجته أو قريبته وضع حساس ومثير يبعث في نفس الجاني الغضب الشديد والاثارة نتيجة هذا المشهد الذي لم يتوقعه الجاني، فمفاجأه الجاني لزوجته أو قريبته في وضع الزنا يبعث في نفسه الاثارة الشديدة والغضب العارم مما يصح معه القول بأن الجاني قد دفُع دفعاً إلى ارتكاب جريمته تحت تأثير الغضب وهول المفاجأة التي سيطرت على نفسه فأنقصت من قوة ارادته وحرية اختياره أو أعدمتها فأحالته إلى انسان بدائي يتصرف وفق غريزته دون التفكير بعواقب فعله ورد الفعل الاجتماعي عليه، وهذا ماينقص من مسؤوليته الجزائية التي تقوم أصلاً على الادراك وحرية الاختيار.
كما أننا إذا نظرنا إلى هذا الجاني من وجهة نظر علم الاجرام نرى بأنه لم يعبر عن خطورة اجرامية حين إقدامه على ارتكاب الجريمة مما يُستبعد معه فرض عقوبات شديدة على هذا الجاني حيث أقدم على جريمته بشكل عفوي وغريزي بعيد عن التنظيم والتخطيط الذي يعبر عن الخطورة الاجرامية لدى الجاني.
وبذلك نرى أن الأساس الذي يقوم عليه العذر هو الاستفزاز العنيف الذي يبعث الاثارة في نفس الفاعل، ولكن ينبغي أن يكون مفهوماً أن القانون لم يمنح الحق أو يبيح للشخص القتل أو الايذاء وانزال العقاب بالمجني عليه جراء الفعل الذي اقترفه، فيغدو الجاني بذلك خصماً وحكماً يحكم ويقتص بنفسه من خصمه مما يجعل العذر أمراً مخالفاً للمصلحة العامة والعدالة كما يرى البعض.
فالقتل أو الايذاء ليس حقاً للجاني وهو غير مباح إنما مُنح العذر للجاني فقط جراء المفاجأة المفجعة التي قللت إلى حد كبير من ارادته وربما أنهتها بشكل تام نتيجة فعل تأباه القيم والتقاليد وترفضه جميع الأديان السماوية، وليس أدل على عدم اباحة فعل الاعتداء من أن هذا الفعل وان استفاد من العذر الا أن ذلك لا يسلخ عنه الصفة الجرمية بل يبقى هذا الفعل يشكل جريمة مما ينتج عنه أن المعتدى عليها إذا حاولت الدفاع عن نفسها فقتلت المعتدي تعتبر في حالة دفاع شرعي عن النفس مع شيء من التفصيل.
ثانياً : الافتراض القانوني للاثارة:
كما أن لهذا العذر حكمة في وجوده كذلك فإن تطبيق هذا العذر لا يشكل استثناءً على القواعد العامة في المسؤولية الجنائية ذلك لأن هذه المسؤولية تقوم على الادراك وحرية الاختيار وما أن يتأثر أحد هذين المبدأين بظروف تنقصهما أو تعدمهما حتى تغدو المسؤولية الجنائية ناقصة، مما يستوجب تخفيف العقاب، أو معدومة، فينتفي العقاب.
ويُلاحظ أن المشرع السوري فرق في المادة 548 عقوبات الناصة على هذا العذر بين حالتين:
1. الحالة الأولى: حالة من يفاجئ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنا المشهود أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر.
2. الحالة الثانية: حالة من يفاجئ زوجه أو احد أصوله أو فروعه أو أخته في حالة مريبة مع شخص آخر.
ففي الحالة الأولى يُمنح مرتكب القتل أو الأذى حق الاستفادة من العذر المحل، في حين يُمنح في الحالة الثانية حق الاستفادة من العذر المخفف فقط.
والمعيار الذي أخذ به المشرع السوري للتفريق بين هاتين الحالتين هو الواقعة التي يفاجأ بها المجني عليه، أما الحكمة في اعطاء العذر المحل للحالة الأولى والمخفف للحالة الثانية هي مقدار الاثارة التي توافرت لدى الجاني.
والواقع أن المشرع السوري قد افترض في الحالة الأولى بقرينة قانونية قاطعة لاتقبل اثبات العكس أن الشخص الذي اقترف القتل أو الايذاء في هذه الحالة وضمن الشروط التي حددتها المادة 548 عقوبات قد اعترته حالة من حالات الانفعال الشديد أفقدته وعيه وسلبته إرادته مما يقتضي اعفائه من كل عقاب طبقاً للمادة 227 عقوبات والتي تنص على أن:
«1. ان المهابة وحالات الانفعال والهوى ليست مانعة للعقاب.
2. على أنه إذا أفرط فاعل الجريمة في ممارسة حق الدفاع المشروع لايعاقب إذا أقدم على الفعل في سورة انفعال شديد انعدمت معها قوة وعيه أو إرادته».
أما في الحالة الثانية فيفترض المشرع السوري بقرينة قانونية قاطعة لاتقبل إثبات العكس أن الفاعل أقدم على ارتكاب فعله بثورة غضب شديد ناتج عن عمل غير محق وعلى جانب من الخطورة أتاه المجني عليه مما يقتضي معه تخفيف العقاب عنه طبقاً للمادة 242 عقوبات والتي تنص على أن:
«يستفيد من العذر المخفف فاعل الجريمة الذي أقدم عليها بسورة غضب شديد ناتج عن عمل غير محق وعلى جانب من الخطورة أتاه المجني عليه».
ومما يترتب على هذا الافتراض القانوني أن مجرد توافر شروط تطبيق العذر في حالة الجاني يفيده من هذا العذر دون البحث عن النقص الحاصل في قوة ارادته بشكل واقعي وليس لأحد عند توافر شروط العذر أن يدّعي بأن الجاني رغم توافر هذه الشروط فانه لم يفقد قوة ارادته ولم يصبها أي نقص.
وكذلك فانه في حالة فقدان شروط تطبيق هذا العذر فان الجاني لا يستفيد من القرينة القانونية القاطعة التي أتى بها نص المادة 548 عقوبات، الا أن الجاني هنا يبقى له الاستفادة من العذر المخفف إذا أثبت النقص الحاصل في قوة ارادته والاثارة التي توافرت لديه بموجب القواعد العامة.
ففقدان أحد شروط تطبيق العذر تسقط القرينة المقررة لصالح الجاني ويبقى له الاستفادة من الأعذار القانونية الأخرى إذا توافرت شروطها.