اسم المستخدم: كلمة المرور: نسيت كلمة المرور



 

     
 
 
سعيد عبد الله
التاريخ
11/30/2005 4:25:20 AM
  المبادىء العامة للعقد فى الشريعة الاسلامية       

                       المبادئ العامة للعقد في الشريعة الإسلامية

     إعداد

وحدة الأبحاث القانونية

مقدمة :

نشأت الحاجة إلى العقد متلازمة مع الحاجة إلى التعامل وهو أمر قديم قدم المجتمعات الإنسانية ولذلك كان العقد دائمًا وعلى مراحله في كل مجتمع انعكاسا لطبيعة العلاقات السائدة فيه ، ومن ثم فإن العقد أمر مطروح منذ القدم على المجتمعات المختلفة ولا يزال مطروحًا وسيظل ، نظرًا لحتمية التعامل بين الناس والمجتمعات .

وفي الشريعة الإسلامية يندرج العقد في ما يسمى بفقه المعاملات ، والشريعة الإسلامية في هذا الإطار أجملت ما هو متغير في مواجهة تفصيل ما هو ثابت من العبادات ، وإذا كان العقد كنظرية لم يتعرض لها الفقهاء، إلا أن استخلاصها من جملة العقود التي تعرضوا لها مثل عقد البيع والاستصناع والرهن والإيجار وغير ذلك يضحى أمرًا ميسورًا خاصة وأن الشريعة الإسلامية الغراء قد قدمت في مجال العقد ثوابت كان الوصول إليها في المجتمعات التي تعد غالبية القوانين السائدة في العالم الغربي وغيره وريثة لها منتهى التقدم والرقى القانوني . فقد عرفت الشريعة منذ البداية مبدأ سلطان الإرادة وهذا المبدأ لم تصل إليه غالبية المجتمعات إلا بعد أطوار مختلفة من الإقدام والإحجام ، مما يجعل القول بتقدم الشريعة الإسلامية وسموها أمرًا لا يحتاج إلى ترديد ، وإذا كان القول بأن الشريعة الإسلامية أخذت بمبدأ سلطان الإرادة في التعاقد إلا أن ذلك يأتي في إطار النظَام العام الذي وضعته ، ولذلك فإنه لا مجال للقول بتلك القاعدة في عقود محرمة كالربا ونحوها ، ذلك أن الشريعة الإسلامية جاءت بكل لا يتجزأ وبتناسق واضح وجلي في أحكامها .

وتأتى هذه الدراسة المتواضعة كمحاولة لإلقاء الضوء على الخطوط العامة لنظرية العقد في الفقه الإسلامي مرتكزين في ذلك على مذهب الإمام أحمد بن حنبل يحدونا الأمل في تكثير الإسهامات العلمية في هذا المجال، خاصة وأن المكتبة الإسلامية الغراء ذاخرة بالكثير من مؤلفات أعلام الفقه الإسلامي ممن تعرضوا للعقد في الشريعة الإسلامية ، وإن كان ذلك يثير وجها لا مجال لإنكاره من الاستغراب ، وهو أنه في عصر المحبرة كثرت المؤلفات والبحوث في هذا المجال وقلت في عصر المطبعة ، رغم أن الزمن لا يتوقف والنوازل لا تنتهي والشريعة الإسلامية فيها لكل العصور والمجتمعات ما يكفى لصلاحها، فقط نحتاج إلى مزيد من القراءة ومزيد من البحث والتقصي ، وإذا كانت مؤلفات السلف الصالح قد وضعت الأساس، فإن ذلك ليس معناه الجمود وليس معناه أيضًا التحرك خارج الإطار ، ولكن يضحى المطلوب إضافة يحتاجها المجتمع في العصر المتغير الذي يشهد معاملات كثيرة لم ترد على الفقهاء من قبل ، ولا يستطيع أحد أن ينكر وجود مثل تلك الإضافات وتعرض الباحثين والفقهاء المحدثين لكثير من النوازل، إلا أنه تبقى الحاجة إلى المزيد من التفصيل والتأصيل ، وندعوا الله تعالى ضارعين أن نوفق ، وحسبنا أجر المجتهد .

تقسيم :

سوف نعرض من خلال تلك الدراسة إلى ثلاثة مباحث تتناول ما يلى :

المبحث الأول : تعريف العقد وتقسيماته

المبحث الثاني : أركان العقد

المطلب الأول : التراضي

المطلب الثاني : المحل

المطلب الثالث : العاقدان

المبحث الثالث : فسخ العقد

                                    المبحث الأول

                               تعريف العقد وتقسيماته

العقد في اللغة هو الربط والشد ويعني بذلك الجمع بين أطراف الشئ وربطها. وهذا المعنى للربط بين الأطراف في لغة التعريف هو ما يفسر الربط المعنوي بين أطراف العقد ، كما أن للعقد أكثر من تعريف يقترب من المعنى المتقدم ومن ذلك تعريفه بالضمان والعهد وأحكام الشئ وتقويته .

والعقد في المعني الشرعي : هو ارتباط الإيجاب الصادر عن أحد العاقدين بقبول الآخر على وجه يثبت أثره في المعقود عليه ومن هذا التعريف تتضح خصائص العقد وهو :

أولا : ضرورة وجود إيجاب وقبول وارتباط بينهما والارتباط هو بموافقة الإيجاب للقبول .

ثانيا : أن يتصرف الإيجاب والقبول إلى إحداث أثر في المعقود عليه ( المحل ) مثل نقل الملكية في البيع .

ثالثا : إن ذلك التعريف ينم عن اتجاه الفقه الإسلامي إلى النزعة الموضوعية في مواجهة النزعة الشكلية التي عرفت في النظم القانونية الأخرى ولا يزال لها أثرها حتى الآن وإن كان على نحو ضيق .

والعقد في الاصطلاح القانوني : هو توافق إرادتين على إنشاء التزام أو على نقله وقد ميز البعض بين العقد والاتفاق على اعتبار أن الأخير هو توافق إرادتين أو أكثر على إنشاء التزام أو نقله أو إنهائه، معتبرين أن كل عقد هو اتفاق والعكس غير صحيح. إلا أن البعض الآخر من الفقهاء القانونيين قد قلل من أهمية هذا التمييز على اعتبار أنه إذا كان الداعي له هو الأهلية على اعتبار أنها تختلف في العقد عن الاتفاق فإن ذلك غير صحيح لأن الأهلية في العقد ذاته تختلف فهي في عقود التبرع غيرها في عقود المعاوضة ، ونظرًا لذلك فلا حاجة إلى تلك التفرقة. ولعل التعرض بمعنى العقد في القانون الوضعي يبرز بجلاء سمو الفقه الإسلامي. فإذا كان العقد في الشريعة يكفي لانعقاده الإيجاب والقبول بشروطهما، فإنه لم يكن كذلك في أعرق القوانين الوضعية مثل القانون الروماني. وكما يقول الأستاذ الدكتور السنهوري الذي يلفت النظر في أحكام العقد قاعدة أساسية قررها الفقهاء ، قضي بأن الإيجاب والقبول وحدهما كافيان في تكوين العقد. ووجه الغرابة في ذلك أن هذه القاعدة على بساطتها وكونها من بديهيات القانون الحديث ، لم يصل القانون الروماني على عراقته إلى تقديرها كقاعدة عامة ، حتى في آخر مراحل تطوره، ولعل السر في وصول فقهاء الشريعة الإسلامية إلى هذه القاعدة ما كان للدين من الأثر البالغ في تقرير قواعد الفقه أصولاً وفروعاً ) .

وفيما يتعلق بتقسيم العقود، فإنه وكما أسلفنا القول، فإن الفقهاء لم يتعرضوا للعقد في ذاته كنظرية مثلما الحال في القانون الوضعي ، وعلى ذلك فإن كتب الفقه تعرضت لمجموعة من العقود مثل البيع ، الرهن ، الاستصناع ، الوقف ، الإيجار ، الوكالة ، الصلح ، الشركة ، المضاربة ، الهبة ، المزارعة ، المساقاة ، الوديعة …. وغيرها من العقود دون أن يعنوا بدراسة العقد بشكله النظري ولم تضطرد الأمة على ترتيب معين للعقود فهي واردة في مؤلف على ترتيب يختلف عن غيره في مؤلف آخر دون مراعاة إلى صلة ظاهرة بينها وبين غيرها ، وليس ذلك بالقاعدة العامة إذ أنه تم التعرض إلى تقسيم للعقود بالنظر إلى كونها لازمة أو غير لازمة، وهذا هو التقسيم الذي ورد فى المغنى ج4 ص119 – 122 ( والعقود على أربعة أضرب ( أحدها ) عقد لازم يقصد منه العوض وهو البيع وما فى معناه. وهو نوعان ( أحدهما ) يثبت فيه الخياران، خيار المجلس وخيار الشرط وهو البيع فيما لا يشترط فيه القبض في المجلس، والصلح بمعنى البيع والهبة بعوض على إحدى الروايتين, والإجارة في الذمه نحو أن يقول استأجرتك لتخيط لي هذا الثوب ونحوه. فهذا يثبت فيه الخيار لأن الخيار ورد في البيع وهذا في معناه ، فأما الإجارة المعينة فإن كان مدتها من حين العقد دخلها خيار المجلس دون خيار الشرط لأن دخوله يفضي إلى فوت بعض المنافع المعقود عليها أو إلى استيفائها في مدة الخيار، وكلاهما لا يجوز وهذا مذهب الشافعي. وذكر القاضي مرة مثل هذا ومرة قال يثبت فيها الخياران قياسًا على البيع وقد ذكرنا ما يقتضي الفرق بينهما .

( الضرب الثاني ) لازم لا قصد به العوض، كالنكاح والخلع فلا يثبت فيهما خيار لأن الخيار إنما يثبت لمعرفة الخط في كون العوض جائزًا لما يذهب من ماله والعوض هنا ليس هو المقصود وكذلك الوقف والهبة لأن في الخيار في النكاح ضررًا ذكرناه قبل هذا .

( الضرب الثالث ) لازم من أحد طرفيه دون الآخر كالرهن لازم في حق الراهن جائز في حق المرتهن فلا يثبت فيه خيار لأن المرتهن يستغني بالجواز في حقه عن ثبوت خيار آخر، والراهن يستغني بثبوت الخيار له إلى أن يقبض وكذلك الضامن والكفيل لا خيار لهما لأنهما دخلا متطوعين راضيين بالغين ...

( الضرب الرابع ) عقد جائز من الطرفين كالشركة والمضاربة والجعالة والوكالة والوديعة والوصية، فهذه لا يثبت فيها خيار استغناء بجوازها والتمكن من فسخها بأصل وضعها .

( الضرب الخامس ) وهو متردد بين الجواز واللزوم كالمساقاة والمزارعة والظاهر أنهما جائزان فلا يدخل خيار وقد قيل هما لازمان، ففي ثبوت الخيار فيهما وجهان...

( الضرب السادس ) لازم يستقل به أحد المتعاقدين كالحوالة والأخذ بالشفعة فلا خيار فيهما لأن من لا يعتبر رضاه لا خيار له . وإذا لم يثبت في أحد طرفيه لم يثبت في الآخر كسائر العقود ويحتمل أن يثبت الخيار للمحيل والشفيع لأنها معارضة يقصد فيها العوض فأشبهت سائر البيع )

- وإذا كان تعرض الفقهاء للعقد قد تم على هذا النحو في كتب الفقه، فيبقي السؤال: هل تلك العقود مذكورة على سبيل الحصر ؟ وهل يعرف الفقه الإسلامي غير تلك العقود ؟

وللإجابة على ذلك فإن الفقهاء قد تعرضوا لتلك العقود وليس على سبيل وضع حصر لها، بل لأنها هي العقود الغالب وقوعها في الحياة العملية في زمنهم ، فمن استقراء العقود والنظر إلى الشريعة الإسلامية في مجملها ومضمونها يتضح بما لا يقبل مجالاً للشك أن حصر العقود لم يكن إلا على اعتبار أن وقوعها هو الغالب في الحياة العملية ، ومن ثم فإن الفقه الإسلامي لا يحصر العقود فيما ذكر في كتب الفقه ، وعلى هذا الأساس وبالنظر إلى القواعد الكلية للشريعة ومنها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " المسلمون عند شروطهم " فإن الفقه لم يحصر في عقود مسماة فحسب، بل إن الشريعة الإسلامية تعرف غير تلك العقود إذا ما توافرت فيها المقتضيات الشرعية الواجبة. ولعل الفقه الحديث قد سار على نفس القاعدة فلم يحدد عقود مسماة وأخرى غير مسماة واعتبرت أن ذلك التقسيم هو من عمل الفقه لا من عمل السلطة التشريعية وعلى ذلك سار التقنين المدني المصري والألماني والسويسري .

ومن ذلك فإن الشريعة الإسلامية تعرف العقد كحالة ذاتية طالما أن حرية التعاقد قد تمت في حدود النظَام العام الذي هو قواعد الشريعة الإسلامية ، ولذلك فإن حرية التعاقد هي الأصل في الشريعة الإسلامية ولا يفيد منها إلا حدود التزامها بالنظَام العام ، فلا تستطيع الإرادة أن تنشئ عقدًا من عقود الربا وغيره مما يخالف قواعد الشريعة .

                                 المبحث الثاني

                                  أركان العقد

الركن هو ما يتوقف عليه وجود الشئ بحيث إذا انتفى الركن انتفى تبعًا له الشئ فوجوده لازم لقيام الشئ. فالركوع والسجود وقراءة القرآن أركان في الصلاة هذا في العبادات، أما في المعاملات فإن الإيجاب والقبول هو ركن العقد وتأتى باقي الأركان من محل وعاقدين كضرورة لابد منها لتكوين العقد، إذ لا يتصور إيجاب وقبول بغير عاقدين، كما لا يتصور أن يرد الإيجاب والقبول على غير محل "، ويرى جانب من الفقهاء أن للعقد أركانًا ثلاثة هي: عاقد ومعقود عليه وصيغة وهو معنى يقترب إن لم يكن يطابق المعنى الأول. فالعقد يقابل العاقدين، والمعقود عليه يقابل المحل والصيغة مقابل الإيجاب والقبول .

                                 المطلب الأول

                                   التراضي

تسمى العبارات الدالة على اتفاق طرفي العقد بالإيجاب والقبول،بالتراضي وتعريفهما عند الحقيقة. والإيجاب هو إثبات الفعل الخاص الدال على الرضا أولاً من كلام أحد المتعاقدين أو ما يقوم مقامه سواء وقع من الملك أو التملك والإيجاب على هذا النحو في عقد البيع مثلاً قد يصدر من البائع مثل ( بعت ) أو المشتري ( اشتريت بكذا ) فهو الإيجاب ،

والقبول ما ذكر ثانيًا من كلام أحد المتعاقدين أو موافقته ورضاه بما أوجبه الأول .

وعند غير الحقيقة فإن التعريف لا يختلف عن التعريف السابق ومسمى الإيجاب والقبول هو فقط مسمى ويعبر الفقهاء القانونيون عن الإيجاب والقبول بالإرادتين المتطابقتين ، والمعنى سواء في التعريف الشرعي أو القانوني لا يختلف في شئ إذ أن مضمونهما واحد .

ونتناول في هذا الركن (1) صيغة العقد . (2) تطابق الإرادتين في مجلس العقد .

(1) صيغة العقد :

للعقد صيغة ينعقد بها ، والصيغة تكون باللفظ الظاهر الدال على الانعقاد ، واللفظ هو ما عني به فقهاء الشريعة باعتباره التعبير عن الإرادة ، فإذا كان اللفظ الظاهر واضحًا فإنه يكون كافيًا لانعقاد العقد إذا توافرت باقي الأركان الأخرى ، وانصراف الفقهاء إلى تقديم اللفظ على غيره يكون متسقًا في إطار فهم شمولية أحكام الشريعة ، وبالنظر إلى طبيعة مرحلة الفقه ، ذلك أن اللفظ يعتبر أرقى الأدلة في الإثبات ( الشهادة ) وقد يكون التعبير وذلك هو الغالب بصيغة الماضي على اعتبار أن الإرادة في تلك الحالة تكون قد تجاوزت طور التفكير والمفاوضة والمساومة إلى دور الحزم والحسم ، فإذا كان اللفظ بتلك الصيغة انعقد العقد. كقول البائع ( بعت ) وقول المشتري ( اشتريت )

غير أن العقد يمكن أن ينعقد بغير صيغة الماضي إذا أظهرت ظروف الحال اتجاه نية المتعاقدين لانعقاد العقد ، ويتضح من ذلك النزعة الموضوعية التي يسير عليها الفقه الإسلامي ، ويضحى واضحًا إمكان انعقاد العقد طالما دلت الظروف والملابسات على اتجاه النية لعقده ، ويتجلى في هذا المقام دور العرف السائد ، ويمكن أن يكون التعبير عن الإرادة بغير اللفظ. ونكتفي بهذا القدر من التعرض لطبيعة محدودية البحث وتركيزه على الحاجات العملية الغالبة الوقوع .

النصوص :

المغنى جـ4 ص4 (ولنا أن الله أحل البيع ولم يبين كيفيته فوجب الرجوع فيه إلى العرف كما رجع إليه في القبض والإحراز والتفرق ، والمسلمون في أسواقهم وبيعهم على ذلك ، ولأن البيع كان موجودًا بينهم، معلومًا عندهم ، وإنما علق الشرع أحكامه وأبقاه على ما كان فلا يجوز تغيره بالرأى والتحكم ، ولم ينقل عن النبى صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه مع كثرة وقوع البيع بينهم استعمال الإيجاب والقبول ، ولو استعملوا ذلك في بيعهم لنقل نقلا شائعا ، ولو كان ذلك لوجب نقله ، ولأن البيع مما تعم به البلوى فلو اشترط له الإيجاب والقبول لبينه صلى الله عليه وسلم بيانا عامًا ولم يخف حكمه، لأنه يفضي إلى وقوع العقود الفاسدة كثيرًا وأكلهم المال بالباطل ) .

(2) تطابق الإيجاب والقبول في مجلس العقد :

الإيجاب إذا صادف قبولاً في مجلس العقد إنعقد العقد فإذا ما أوجب أحد الطرفين فإن للآخر أن يستعمل خياره بالقبول طالما ظل في المجلس ، وعلى الجانب الآخر فإن الموجب يستطيع أن يرجع عن إيجابه طالما ظل المجلس منعقدًا .

وسوف نتعرض في هذا الخصوص إلى ما يلي :

أ – التعاقد بين الحاضرين :

صورة المتعاقدين الحاضرين هى مجلس العقد ، ومجلس العقد نظرية صاغها الفقه الإسلامي وأبدع في صياغتها ، فإذا أوجب أحد الطرفين فإن للطرف الآخر أن يتدبر أمره في روية ثم يصدر قبوله أو يرفض ، ومن ذلك فهو لا يلتزم بالرد فورًا، بل له فسخه من الوقت يتدبر فيها أمره للخيار ، غير أن ذلك ليس معناه التراخي إلى الحد الذي يضر بالموجب ، فالأمر وسط بين منح الطرف الآخر قسمة من الوقت وبين عدم الإضرار بالموجب بتأخيره إلى وقت يضر به ، ولذلك فإن مجلس العقد فكرة مكانية ترتبط بالنطاق الذي يجري فيه التعاقد والمساومة في العقد، فإذا انفض المجلس دون أن يصدر قبول فإن العقد لا ينعقد ، كما أن فكرة هذا المجلس تعطي الموجوب حق الرجوع في إيجابه ، وإذا كان المجلس فكرة يغلب عليه إمكانية يستطيع فيه كل طرف أن يعود عن إيجابه أو قبوله، كما يستطيع الطرف المنتظر منه إصدار قبوله دراسة أمره في روية للإقدام على التصرف أو عدم الإقدام عليه .

نصوص خاصة بمجلس العقد :

( المغني الجزء الرابع ص6)

(( إن البيع يقع جائزًا ولكل من المتبايعين الخيار في فسخ البيع ما داما مجتمعين لم يتفرقا وهو قول أكثر أهل العلم يروي ذلك عن عمر وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي برزة وبه قال سعيد بن المسيب وشريح والشعبي وعطاء وطاوس والزهري والأوزاعي وابن أبي ذئب والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ، وقال مالك وأصحاب الرأي : يلزم العقد بالإيجاب والقبول ولا خيار لهما لأنه روي عن عمر رضي الله عنه : البيع صفقة أو خيار ، ولأنه عقد معاوضة فلزم بمجرده كالنكاح والخلع . ولنا ما روي ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعًا أو يخير أحدهما الآخر ، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع ، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع " متفق عليه ، وقال صلى الله عليه وسلم " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " رواه الأئمة كلهم ، ورواه عبد الله بن عمر وحكيم بن حزام وأبو برزة الأسلمي ، واتفق على حديث ابن عمر وحكيم ، ورواه عن نافع عن ابن عمر مالك وأيوب وعبيد الله بن عمر وابن جريح والليث بن سعد ويحيي بن سعيد وغيرهم ، وهو صريح في حكم المسألة )) .

( المغني الجزء الرابع ص 7 ) :

(( إن البيع يلزم بتفرقهما لدلالة الحديث عليه ولا خلاف في لزومه بعد التفريق والمرجع في التفريق إلى عرف الناس وعاداتهم فيما يعدونه تفرقا لأن الشارع علق عليه حكمًا ولم يبينه فدل ذلك على أنه أراد ما يعرفه الناس كالقبض والأحراز ، فإن كانا في فضاء واسع كالمسجد الكبير والصحراء فبأن يمشي أحدهما مستديرًا لصاحبه خطوات وقيل هو أن يبعد منه بحيث لا يسمع كلامه الذى يتكلم به في العادة . قال أبو الحارث سئل أحمد عن تفرقة الأبدان فقال: إذا أخذ هذا كذا وهذا كذا فقد تفرقا )) .

( المغني الجزء الرابع ص 7 ) :

(( وقد روي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار فلا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله ، رواه النسائي والأثرم والترمذي وقال حديث حسن ، وقوله: إلا أن تكون صفقة خيار يحتمل أنه أراد البيع المشروط فيه الخيار فإنه لا يلزم بتفريقهما ولا يكون تفرقهما غاية للخيار فيه لكونه ثابتًا بعد تفرقهما ، ويحتمل أنه أراد البيع الذي شرطا فيه أن لا يكون بينهما فيه خيار فيلزم بمجرد العقد من غير تفرق ، وظاهر الحديث تحريم مفارقة أحد المتبايعين لصاحبه خشية من فسخ البيع وهذا البيع وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية الأثرم فإنه ذكر له فعل ابن عمرو وحديث عمرو بن شعيب فقال هذا الآن قول النبى صلى الله عليه وسلم ، وهذا اختيار أبى بكر ، وذكر القاضي أن ظاهر كلام أحمد جواز ذلك لأن ابن عمر كان إذا اشتري شيئًا يعدبه فارق صاحبه متفق عليه ، والأول أصح لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم يقدم على فعل ابن عمر، والظاهر أن ابن عمر لم يبلغه هذا ولو علمه خالفه )

عقود لا يشترط فيها اتحاد المجلس

إذا كان الأصل ضرورة أن يتم الإيجاب والقبول في مجلس العقد ، فإن بعض العقود لا يشترط فيها ذلك إما لطبيعتها أو لاعتبارات خاصة بها من تلك العقود الوصية ( وهو تصرف مضاف إلى ما بعد الموت ) ولذلك فإنه يستحيل فيها تحقيق اتحاد المجلس فالقبول بها يتم بعد وفاة الموصى مصرًا على الوصية .

والإيصاء ( وهو تفويض التصرف والحفظ إلى الوكيل أثناء الحياة ) لأنها مبنية على اليسر والسماحة ، فإنه لا يتطلب فيها اتحاد المجلس ، كذلك قد يكون القبول بها قولاً أو فعلاً كما يجوز توكيل الغائب .

وكذلك الشركة والمضاربة والمزارعة والمساقاة تلك عقود يصح القبول فيها على التراضي .

إذا كان العقد ينعقد بتلاقي الإيجاب والقبول في مجلس العقد فإنه يجدر التعرض لحالات يبطل فيها الإيجاب وبالتالي لا ينعقد فيها العقد ، ومن ذلك ما يلي :

1- استعمال الموجب لخيار في مجلس العقد بالرجوع عنه.

2- رفض الإيجاب من الطرف الآخر بكل ما يدل على ذلك .

3- انتهاء مجلس العقد ويرجع إلى العرف للتعرف على انتهاء المجلس أو استمراره .

4- خروج الموجب عن أهليته قبل القبول بالموت أو بالجنون أو الإغماء ذلك لأن العقد يتطلب توافر الأهلية وقبل القبول فإن العقد لم ينعقد ، وبالتالي فإن القبول يتعين أن يصادف إيجابًا معتبرًا في نظر الشرع كضرورة صدوره ممن يتمتع بالأهلية اللازمة للتعاقد .

5- هلاك محل العقد أو تغيره بما يجعله محلاً غير قابل للتعاقد مثل موت الحيوان ، أو تحول عصير العنب إلى خمر .

تطابق الإيجاب والقبول :

لا يكفي إيجاب من طرف يقابله قبول من الآخر لانعقاد العقد ، بل يجب أن يتطابق القبول مع الإيجاب ، وعلى ذلك فإذا أوجب طرف منزلا ، فأجابه الآخر بإنه يقبل شراء السيارة فلا بيع ، وإذا أوجب البيع بألف ريال ، قبل الآخر الشراء بمائة، لا يصح ، وإذا أوجب طرف البيع بثمن حال ، وقبل الآخر بثمن مؤجر فلا يصح العقد .

ولذلك فإن تطابق الإيجاب والقبول مع توافر باقي الشروط هو الذي يمنح العقد الإلزام الشرعي الواجب له، والتطابق قرره الفقهاء على سبيل المثال :

كشاف القناع عن متن الإقناع الجزء الثالث ص146 ( ويشترط ) لانعقاد البيع ( أن يكون القبول على وفق الإيجاب في القدر ) فلو خالف ، كأن يقول : بعتك بعشرة ، فقال : اشتريته بثمانية ، لم ينعقد (و) أن يكون على وفقه أيضًا في ( النقد وصفته ، والحلول ، والأجل ، فلو قال : بعتك بألف درهم، فقال اشتريته بمائة دينار ، أو قال : بعتك بألف ( صحيحة فقال : اشتريت بألف مكسرة ، ونحوه ) كاشتريته بألف نصفها صحيح ونصفها مكسر ، أو قال بعتك بألف حالة ، فقال : اشتريته بألف مؤجلة ، أو قال البائع بألف مؤجلة إلى رجب فقال المشتري إلى شعبان ( لم يصح ) البيع في ذلك كله ) .

لا يكفي لانعقاد العقد إذا ما توافرت باقي أركانه ، أن يوجد إيجاب وقبول بينهما تطابق ، بل ينبغي أن يكون الرضا صحيحًا غير مشوب بعيب من عيوب الإرادة ، فإذا ما شابه عيب فإن العقد لا ينعقد ولا يكون له أثر بين المتعاقدين، والعيب قد يكون ذاتيًا يتوقف الوصول إليه إلي البحث في النية ومثل ذلك الغلط وقد يكون العيب دانيًا لكن ارتبطت به وسائل احتيالية مادية ومحسوسة مثل التدليس أو قد يغلب على العيب المظاهر المادية الخالصة والتي تلقى في النفس خوفاً ورهبة مثل الإكراه .

ونتناول عيوب التراضي وهى: الإكراه والتدليس والغلط بقدر من التفصيل .

عني الفقه الإسلامي ببيان الإكراه كعيب من عيوب الإرادة ورتب أثرًا عليه يتراوح في المذاهب المختلفة بين بطلان التصرف مطلقًا أو فساده أو عدم لزوم العقد. والإكراه كعيب من عيوب الإرادة لم يقصره الفقهاء على العقد فحسب، بل جعلوه عيبًا في مجمل التصرفات ، ولا ريب في ذلك أن الشريعة الإسلامية الغراء قد رفعت من قدر الإنسان وإرادته والآيات القرآنية والأحاديث كثيرة في هذا ، بل إن الإكراه قد تجاوز نطاق القانون الخاص ( العقود والتصرفات ) إلى روابط القانون العام ، ونشير في هذا الصدد إلى قول الإمام مالك رحمه الله ( ليس لمستكره طلاق ) وقد قال ذلك في إطار الرمز إلي بيعة الإمام بالإكراه ، وقد كانت تلك المقولة سببًا في محنته رحمه الله .

والإكراه في اللغة هو حمل الغير على أمر لا يرضاه قهرًا، وفي الاصطلاح الشرعي حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه ، ولا يختار مباشرته ، لو ترك ونفسه ، والإكراه ضد الرضا الذي هو الارتياح والرغبة إلى فعل شئ، وقد يكون الإكراه ملجئاً أو غير ملجئ ، فأما الإكراه الملجئ هو الذي لا يترك لمن تعرض له قدرة أو اختياراً كالتهديد بالقتل أو بقطع بعض أعضاء الجسد وغير ذلك من الأفعال، أما الإكراه غير الملجئ فهو التهديد بما لا يضر النفس أو العضو، كالتهديد بالضرب اليسير أو الحبس. وعلة التفرقة أن الإكراه الملجىء إنما يكون يعدم الرضا ويفسد الاختيار أما غير الملجئ فإنه يعدم الرضا لكنه لا يفسد الاختيار وذلك حسب مذهب الأحناف أما الحنابلة فالتفرقة عندهم لا مبرر لها إذ أن الإكراه بنوعيه يزيل الرضا والاختيار، أما غير الملجئ فإنه يعدم الرضا لكنه لا يفسد الاختيار. أما غير الملجئ فإنه لا يفسد الاختيار وذلك حسب مذهب الحنفية. أما الحنابلة فالتفرقة عندهم لا مبرر لها إذ أن الإكراه بنوعيه يزيل الرضا والاختيار معًا ويضحي بذلك التصرف باطلاً .

إلا أن هناك صوراً من الإكراه يصح معها العقد وهو إكراه القاضي للمدين على بيع ماله وفاء لدين عليه. فهذا الإكراه هو إكراه بحق وبالتالي فإنه لا أثر في بطلان التصرف .

النصوص :

قال تعالى : (( يأيها الذين أمنوا لا تأكلوا أموالكهم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم )) ( النساء : 29 ) .

وعن حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) .

كشاف القناع الجزء الثالث ص 149 (( وشروط البيع سبعة . أحدها التراضي به منهما ) أي من المتبايعين ( وهو أن يأتي به اختيارًا ) لقوله تعالى " إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم " ( سورة النساء الآية 29 ) ولحديث " إنما البيع عن تراض " رواه ابن حبان ( ما لم يكن بيع تلجئة وأمانة ، بأن يظهرا بيعًا لم له ( ف ) البيع إذن ( باطل ))

ب – التدليس :

ومعناه إيقاع المتعاقد في غلط ودفعه إلى التعاقد ، وقد يتم التدليس بوسائل احتيالية وقد يتخذ مجرد موقف سلبي بالكتمان كما قد يصدر من المتعاقد نفسه أو من الغير إضافة لذلك فإن الكذب وهو حالة وسطى بين استعمال الوسائل الاحتيالية والكتمان يعد تدليس .

وقد جاء أثر التدليس في العقد مراعيًا لاعتبارين. الأول: هو حماية المتعاقد من الوقوع في الغلط ، والثاني هو استقرار التعامل بين الناس ، ويتضح ذلك من أثر هذا العيب إذ أن أثره هو صيرورة العقد غير لازم وفارق كبير بين العقد الباطل والعقد غير اللازم ، ففي التدليس يستطيع المتعاقد أن يفسخ العقد أو يمضيه ، إلا أنه يجب ألا يصدر منه ما يسقط خياره وهو أمر سنتعرض له في الفسخ .

( خيار التدليس بما يزيد الثمن كتصرية اللبن في الضرع وتحمير وجه الجارية وتسويد شعرها وتجعيده وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها فهذا يثبت للمشتري خيار الرد ، التصرية جمع اللبن في الضرع يقال صرى الشاة وصري اللبن في ضرع الشاة بالتشديد والتخفيف. ويقال صرى الماء في الحوض ، وصرى الطعام في فيه وصرى الماء في فيه وصرى الماء في ظهره إذا ترك الجماع … وقال البخاري: أصل التصرية حبس الماء . يقال صريت الماء ويقال للمصراة المحفلة وهو من الجمع أيضًا ومنه سميت مجامع الناس محافل ، والتصرية حرام إذا أريد بها التدليس على المشتري لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تصروا الإبل " وقوله " من غشنا فليس منا " وروى ابن ماجة بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " بيع المحفلات خلابة ولا تحل الخلابة لمسلم " ورواه ابن عبد البر " ولا تحل خلابة لمسلم فمن اشترى مصراة من بهيمة الأنعام وهو لا يعلم تصريتها فإذا علم فله الخيار في الرد والإمساك روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وأبى هريرة وأنس وإليه ذهب مالك وابن أبى ليلى والشافعي وإسحاق وأبو يوسف وعامة أهل العلم ، وذهب أبو حنيفة ومحمد على أنه لا خيار له لأن ذلك ليس بعيب لدليل أنها لو لم تكن مصراة فوجدها أقل لبنًا من أمثالها لم يملك ردها ، والتدليس بما ليس بعيب لا يثبت الخيار كما لو علقها فانتفخ بطنها فظن المشتري أنها حامل ) .

** المغني والشرح الكبير الجزء الرابع ص79 :

( يعني إذا غبن غبنا يخرج عن العادة كما ذكرنا في تلقى الركبان . والنجش يثبت له الخيار بين الفسخ والإمضاء ، وبه قال مالك قال ابن أبي موسى وقد قيل قد لزمه البيع ولا فسخ له وهو مذهب أبى حنيفة والشافعي لأن نقصان قيمة السلعة مع سلامتها لا يمنه لزوم العقد كغير المسترسل وكالغبن اليسير ، ولنا أنه غبن حصل لجهله بالمبيع فأثبت الخيار كالغبن في تلقي الركبان ، فأما غير المسترسل فإنه دخل على بصيرة بالغبن فهو كالعالم بالعيب وكذا لو استعجل فجهل ما لو تقبت لعلمه لم يكن له خير لأنه انبنى على تفريطه وتقصيره والمسترسل هو الجاهل بقيمة السلعة ولا يحسن المبايعة قال أحمد : المسترسل الذي لا يحسن أن يماكس وفي لفظ الذي لا يماكس فكأنه استرسل إلى البائع فأخذ ما أعطاه من غير معاكسة ولا معرفة بغبنه ، ولا تحديد للغبن في المنصوص عن أحمد .

** المغني والشرح الكبير الجزء الرابع ص 84 – 85 :

( ولا يحل للبائع تدليس سلعته ولا كتمان عيبها ، لقوله عليه السلام " من غشنا فليس منا " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ، وقال عليه الصلاة والسلام " المسلم أخو المسلم لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا إلا بينه " رواه ابن ماجة ، فإن فعل فالبيع صحيح في قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأبو حنيفة والشافعي بدليل حديث التصرية فإن النبي صلى الله عليه وسلم صححه مع نهيه عنه ، وقال أبو بكر إن دلس العيب فالبيع باطل لأنه منهي عنه والنهي يقتضي الفساد ، فقيل له ما تقول في التصرية ؟ فلم يذكر جوابًا فدل على رجوعه ) .

** كشاف القناع عن متن الإقناع الجزء الثالث ص214 :

( ( ولا ) خيار ( بتدليس ما لم يختلف به الثمن كتبيض الشعر وتبسيطه ) لأنه لا ضرر على المشتري في ذلك ( أو كانت الشاة عظيمة الضرع خلقة فظنها كثيرة اللبن ) فلا خيار لعدم التدليس ( وإن تصرف ) المشتري ( في المبيع بعد علمه بالتدليس بطل رده ) لتعذره ) .

** شرح منتهى الإيرادات الجزء الثاني ص173 :

( خيار التدليس من الدلس بالتحريل بمعنى الظلمة . كأن البائع بفعله الآتي صير المشتري فى ظلمة ( بما يزيد به الثمن ) ولو لم يكن عيبا ( كتصرية اللبن ) أي جمعه ( في الضرع ) لحديث أبي هريرة مرفوعًا " لا تصروا الإبل والغنم . فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحبها إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعًا من تمر " متفق عليه (و) كـ ( تحمير وجه وتسويد شعر ) رقيق ( وتجعيده ) أي الشعر (و) كـ ( جمع ماء الرحى ) التي تدور بالماء ( وإرساله ) أي الماء ( عند عرضها لبيع ليشتد دوران الرحى إذن ، فيظنه المشتري عادة . فيزيد في الثمن ، فإذا تبين لمشتر ذلك . فله الخيار كالمصراة . لأنه تغرير لمشتر أشبه النجش ، وكذا تحسين وجه الصبرة أو الثوب وصقل وجه القناع ونحوه ، ليظن أنه كاتب أو حداد ، وكبر ضرع الشاة خلقة ، بحيث يظن أنها كثيرة اللبن ، فلا خيار به ، لأنه لا يتعين للجهة التي ظنت ( ويحرم ) تدليس ( كـ ) تحريم ( كتم عيب) لحديث عقبة بن عامر مرفوعًا " المسلم أخو المسلم ، ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا فيه عيب إلا بينه له " رواه أحمد وأبو داود والحاكم . وحديث " من غشنا فليس منا " وحديث " من باع عيبًا لم يبينه لم يزل في مقت من الله ولم تزل الملائكة تلعنه " رواه ابن ماجة ).

جـ – الغلط :

هو توهم غير الواقع ، بأن تكون هناك واقعة غير صحيحة يتوهم الإنسان صحتها ، أو واقعة صحيحة يتوهم عدم صحتها ويتضح من ذلك أن الغلط كعيب من عيوب الإرادة هو حالة ذاتية تقوم لدى المتعاقد تحمله على التعاقد ، في حين أنه لو لم يقع فى الغلط ما كان قد أقدم على التعاقد ، ونظرًا لأن الفقه الإسلامي ذو نزعة موضوعية، فنجده لم يتعرض للغلط في ذاته شأن تعرضه للتدليس أو الإكراه ، ويعود ذلك إلى أن التدليس والإكراه يرتبط بهما مظاهر خارجية سواء كانت الوسائل الاحتيالية في التدليس أو وسائل الإكراه ، أما في الغلط ونظرًا لأنها حالة ذاتية فإن تعرض الفقهاء لها لم يكن على نحو خاص ، لكن ذلك لا يمنع من القول إنهم قد تعرضوا للغلط في نطاق تعرضهم لخيار الوصف ، وخيار العيب ، وخيار الرؤية ، وإن كان ذلك قد جاء على نحو متغير ومتفرق إلا أن إمكانية جمعها وربطها في إطار الغلط كعيب من عيوب الإرادة يضحى ممكنا ، باستخراج ما يسعنا من القواعد العامة في الغلط على ضوء التعرض للخيارات المذكورة .

1 – خيار الوصف :

وصف معين مرغوب فيه في المعقود عليه ، يرتب خيار الوصف ، وخيار الوصف يجعل العقد غير لازم ، فللمتعاقد الآخر أن يفسخ العقد أو يمضيه، وهذا الخيار هو تطبيق للغلط كعيب من عيوب الإرادة .

*النصوص :

شرح منتهى الإيرادات الجزء الثاني ص160 :

( أو يشترط المتشتري ( صفة في مبيع كـ ) كون .... ( الدابة هملاجه ) بكسر الهاء أي تمشى الهملجة ، وهى مشية سهلة في سرعة ( أو ) كون ( الدابة ( لبونا ) أي ذات لبن ( أو ) كونها ( حاملاً و ) كون ( الفهد ) أو البازي صيودًا ) أي معلم الصيد (و) كون ( الأرض ) المبيعة ( خراجها كذا ) في كل سنة (و) كون ( الطائر ) المبيع ( مصوتا أو يبيض أويجئ من مسافة معلومة ) لأن فى اشتراط هذه الصفات قصدًا صحيحًا ، وتختلف الرغبات باختلافها ، فلولا صحة اشتراطها لفاتت الحكمة التى لأجلها شرع البيع ، وكذا لو شرط صياح الطائر في وقت معلوم كعند الصباح أو المساء و (لا) يصح اشتراط ( أن يوقظه للصلاة ) أو أنه يصيح عند دخول أوقات الصلاة لتعذر الوفاء به ، ولا كون الكبش ناطحًا أو الديك منافرا … لأنه إما محرم أو لا يمكن الوقاية ( ويلزم ) الشرط الصحيح ( فإن وفى به ) أي حصل للمشتري شرطه فلا فسخ ( وإلا ) يوف به ( فله الفسخ ) لفقد الشرط ) .

2 – خيار العيب :

قد يكون العيب قديماً أو عيباً حدث عند التعاقد بعد العقد وقبل التسليم وكان من ضمان البائع في تلك الحالة فإن للعاقد الآخر الخيار بين الفسخ والأستمرار.

والعيب على هذا النحو يعد تطبيقًا للغلط كعيب في القانون من العيوب ، وإن كانت الأمثلة المذكورة في كتب الفقه متنوعة إلا أن الصلة ظاهرة وواضحة .

الشرح الكبير الجزء الرابع ص95 – 96 – 98 – 99 :

( ولو اشترى ثوبا فنشره فوجده معيبا فإن كان مما لا ينقصه النشر رده وإن كان ينقصه النشر كالهجسائى الذي يطوي طاقين ملتصقين جرى ذلك مجرى جزر الهند على التفصيل المذكور فيما إذا لم يزد على ما يحصل به استعلام المبيع أو زاد كنشر من لا يعرف ، وإن أراد أخذ أرشة فله ذلك بكل حال ( مسألة ) ومن علم العيب وأخر الرد لم يبطل خياره إلا أن يوجد منه ما يدل على الرضا من التصرف ونحوه ) وهكذا ذكر أبو الخطاب لأنه خيار لدفع الضرر المتحقق فكان على التراخي كخيار القصاص وعنه أنه على الفور وهو مذهب الشافعي ، فمتى علم العيب وأخر الرد مع إمكانه بطل خياره لأنه يدل على الرضا فأسقط خياره كالتصرف ولأنه خيار ثبت بالشرع لدفع الضرر عن المال فأشبه خيار الشفعة فالأول أولى ، ولا نسلم أن الإمساك يدل على الرضى والشفعة تثبت لدفع ضرر غير متحقق بخلاف رد العيب ) .

( وإن ورث اثنان خيار عيب فرضى أحدهما سقط حق الآخر من الرد فإن عقد الواحد مع الأثنين عقدان فكأنه باع كل منهما نصفها منفردًا فرد عليه أحدهما جميع ما باعه إياه وهنا خلاف ) ؟

( ولو اشترى رجل من رجلين شيئًا فوجده معيبًا فله رده عليهما فإن كان أحدهما غائبًا رد على الحاضر حصته بقسطها من الثمن ويبقى نصيب الغائب في يده حتى يقدم ، ولو كان أحدهما باع العين كلها بوكالة فالحكم كذلك سواء كان الحاضر الوكيل أو الموكل ، نص أحمد على نحومن هذا ، ولما أراد رد نصيب أحدهما وإمساك نصيب الآخر جاز لأنه يرد على البائع جميع ما باعه ولم يحصل برده تشقيص لأنه كان مشقصًا قبل البيع ) .

( وإن اختلفا في العيب هل كان عند البائع أو حدث عند المشتري ففي أيهما يقبل قوله؟ روايتان إلا أن لا يحتمل إلا قول أحدهما فالقول قوله بغير يمين ) .

( وإذا اختلف المتبايعان في العيب هل كل في المبيع قبل العقد أو حدث عند المشتري ، فإن كان لا يحتمل إلا قول أحدهما كالإصبع الزائدة والشجة المندملة التى لا يمكن حدوث مثلها والجرد الطارئ الذي لا يمكن كونه قديمًا لقول قول من يدعي ذلك بغير يمين لأننا نعلم صدقه فلا حاجة إلى استحلافه وإن احتمل قول كل واحد منهما كالخرق في الثوب والرفو ونحوهما ففيه روايتان ( أحدهما ) القول قول المشتري فيحلف بالله إنه اشتراه وبه هذا العيب أو انه ما حدث عنده ويكون له الخيار اختارها الخرقى لأن الأصل عدم القبض في الجزء الفائت واستحقاق ما يقابله من الثمن ولزوم العقد في حقه فكان القول قول من ينفي ذلك لو اختلفا في قبض المبيع ( والثانية ) القول قول البائع مع يمينه فيحلف على حسب جوابه إن أجابه أنه باعه بريئًا من العيب حلف على ذلك ، وإن أجاب إنه لا يستحق ما يدعيه من الرد حلف على ذلك …………)

( فإن رد المشتري السلعة بعيب فأنكر البائع إنها سلعته فالقول قول البائع مع يمينه وبه قال أبو ثور وأصحاب الرأي ونحوه قال الأوزاعي فإنه قال فيمن صرف دراهم فقال للصيرفي في هذا درهمي يحلف الصيرفي بالله لقد وفيتك ويبرأ لأن البائع منكر قول هذه سلعته ومنكر استحقاق الفسخ والقول قول المنكر ، فأما إن جاء ليرد السلعة بخيار فأنكر البائع أنها سلعته فحكى ابن المنذر على أحمد أن القول قول المشتري وهو قول الثوري وإسحاق وأصحاب الرأي لأنهما اتفقا على استقاق فسخ العقد والرد بالعيب بخلافه ) .

3 – خيار الرؤية :

قد يعقد العقد على صالح للتعامل دون أن يراه العاقد الآخر ، فإذا رآه فإن له خيارًا القبول أو الفسخ وأصل الخيار هو حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ( من اشترى شيئًا ولم يره فهو بالخيار إذا رآه ) ، ويعد خيار الرؤية تطبيقًا للغلط كعيب من عيوب الإرادة ، وخيار الرؤية مرتبط فى المذهب الحنبلي بخيار الوصف .

ومن ثم فإننا نستطيع من خلال تعرضنا للغلط أن نستنتج بعض القواعد منها :

أولاً : إن الغلط كعيب من عيوب الإرادة لم يعرف استقلالاً في الفقه الإسلامي إلا أنه قد عرف من خلال الخيارات المتعلقة به مثل الخيارات السالف ذكرها بالإضافة إلى خيارات أخرى مثل الغلط في القيمة والغلط في الشخص .

ثانيًا : إن الفقه الإسلامي قد وفق بين اعتبارين الأول هو احترام إرادة المتعاقدين والثاني هو الرغبة في استقرار التعامل ، وقد جاء الأثر المترتب على الغلط موفقًا بين الأعتبارين .

ثالثًا : إن الخيارات التي تعد تطبيقًا للغلط لها مسقطان تسقط بها ومن ثم فإنه عند التعرض للغلط يتعين التعرض لمسقطات المخيارات .

                                       المطلب الثاني

                                           المحل

قلنا إن الفقهاء قد عرفوا العقد بأنه ارتباط الإيجاب الصادر عن أحد العاقدين بقبول الآخر على وجه يثبت أثره في المعقود عليه أي أن غاية الاتفاق هو إحداث أثر ما في المعقود عليه( المحل ) سواء كان هذا الأثر نقل ملكية كما في البيع أو تقرير حق انتفاع في الإيجار ، ولكن هل كل محل يصح أن يكون محلاً للتعامل ومن ثم للتعاقد ؟ ثم ما هى شروط المحل ؟ فهل يجب أن يكون موجوداً أو يكتفي بإمكان وجوده؟ وهل يجب أن يكون معيناً أو قابلاً لذلك؟

شروط المحل :

– أن يكون موجودًا وقت التعاقد :

محل العقد يتعين تواجده وقت التعاقد ، ومن ثم فإنه لا يصح التعاقد على شئ غير موجود أو محتمل أو مؤكد الوجود ، والعلة في ذلك هو منع الغرر ، وإذا كان هذا هو الأصل العام في الشريعة فإن هناك استثناءات ضيقة أملتها حاجة الناس إلى أنواع معينة من المعاملات ومن ذلك بيع السلم وعقد الاستصناع والإيجار فرغم أن الأخير وارد على منفعة مستقبلة إلا أن العقد بشأنها صحيح، كما أن الاستصناع وارد على عمل كحياكة ثوب مثلما يصبح رغم أن المحل غير موجود ، وبيع السلم وهو بيع شئ غير موجود بأكثر من ثمن يعوضه في الحال ، أن يوجد الشئ ويسلم للمشتري في اجل معلوم وهناك شروط ينبغي توافرها في هذا العقد مثل تحديد الثمن وصفًا وقيمه، وثانيًا أن يكون المبيع معلوم الجنس والنوع والصفة والقدر بالوزن أو الكيل أو العد أو الزرع .

** النصوص :

شرح منتهى الإرادات الجزء الثاني ص145 :

( ولا ) يصح بيع ( سمك بماء ) لأنه غرر ( إلا ) سمكا ( مرئيًا ) لصفاء الماء ( بـ ) ماء ( محوز يسهل أخذه منه ) كحوض ، فيصح ، لأنه معلوم يمكن تسليمه ، كما لو بطست ، فإن لم يسهل بحيث يعجز عن تسليمه لم يصح بيعه ، وكذا إن لم يكن مرئيًا أو لم يكن محوزًا كمتصل بنهر ( ولا ) يصح بيع ( طار يصعب أخذه ) ولو ألف الرجوع لأنه غرر ( إلا ) إذا كان( بـ ) مكان ( مغلق ، ولو طال زمنه ) أي الأخذ ، لأنه مقدور على تسليمه ( ولا ) يصح بيع ( مغصوب ) لما تقدم ( إلا لغاصبه ) لإنتفاء الغرر ( أو ) لـ ( قادر على أخذه ) أى المغصوب من غاصبه لما تقدم ( وله ) أي المشتري المغصوب لظن القدرة على تحصيله ( الفسخ إن عجز) عن تحصيله بعد البيع إزالة للضرر ) .

الشرح الكبير الجزء الرابع ص 24 – 25 :

( ولا يجوز بيع السمك فى الإجام هذا قول أكثر أهل العلم وروى عن ابن مسعود أنه نهى عنه وقال إنه غرر وكرهه الحسن والنخعى ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور ولا نعلم لهم مخالفًا لما ذكرنا من الحديث والمعنى ، فإن باعه في الماء جاز بثلاثة شروط أحدهما أن يكون مملوكًا وأن يكون الماء رقيقًا لا يمنع مشاهدته ومعرفته ، وأن يمكن اصطياده لأنه مملوك معلوم يمكن تسليمه فجاز بيعه كالموضوع فى طست الماء ، وإن اختل شرط مما ذكرنا لم يجز بيعه لفوات الشرط ( اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في بيع الغائب الذي لم يوصف ولم تتقدم رؤيته فالمشهور عنه أنه لا يصح وبهذا قال الشعبي والنخعي والأوزاعي ومالك وإسحاق وهذا أحد قولى الشافعي . وفيه رواية أخرى إنه يصح وهو مذهب أبى حنيفة والقول الثاني للشافعي واحتج من أجازه بعموم قول الله تعالى ( وأحل الله البيع ) وبما روي عن عثمان وطلحة أنهما تبايعا داريهما أحدهما بالكوفة والأخرى بالمدينة، فقيل لعثمان إنك قد غبنت فقال ما أبالي إني بعت ما لم أره ، وقيل لطلحة فقال لي الخيار لأني اشتريت ما لم أره ، فتحاكما إلى حبير فجعل الخيار لطلحة ، وهذا اتفاق منهم على صحة البيع ولأنه عقد معاوضة فلم تفتقر صحته إلى رؤية المعقود عليه كالنكاح ، ولنا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه نهى عن بيع الغرر ، ولأنه باع ما لم يره ولم يوصف له فلم يصح كبيع النوى فى التمر ، ولأنه بيع فلم يصح مع الجهل بصفة المبيع كالسلم والآيه مخصوصة بما ذكرنا من الأصل. وإما حديث عثمان وطلحة فيحتمل أنهما تبايعا بالصفة ومع ذلك فهو قول صحابي وقد اختلف في كونه حجة ولا يعارض به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والنكاح لا يقصد منه المعاوضة ولا يفسد بفساد العوض ولا بترك ذكره ولا يدخله شئ من الخيارات ، وفى اشتراط الرؤية مشقة على المخدرات وإضرار بهن ولأن الصفات التى تعلم بالرؤية ليست هى المقصودة بالنكاح فلا يضر الجهل بها بخلاف البيع ، فإن قيل فقد روي النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذا رآه ) والخيار لا يثبت إلا في عقد صحيح قلنا : هذا يرويه عمر بن إبراهيم الكردي وهو متروك الحديث ويحتمل أنه بالخيار بين العقد عليه وتركه فعلى هذا يشترط رؤية ما هو مقصود بالبيع كداخل الثوب ……… ونحوهما ) ( ويعتبر لصحة العقد الرؤية من المتعاقدين وإن قلنا بصحة البيع مع عدم الرؤية فباع ما لم يره فله الخيار عند الرؤية ، وإن لم يره المشتري فكل منهما الخيار وبهذا قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة لا خيار للبائع لحديث عثمان وطلحة ولأننا لو أثبتنا له الخيار لثبت لتوهم الزيادة والزيادة في المبيع لا تثبت الخيار بدليل ما لو باع شيئًا على أنه معيب فبان غير معيب لم يثبت الخيار له ، ولنا أنه جاهل بصفة المعقود عليه فأشبه المشتري ، فأما الخبر فإنه قول طلحة وجبير وقد خالفهما عثمان وقوله أولى لأن البيع يعتبر فيه الرضا فتعتبر الرؤية التي هي مظنة الرضا منهما ) .

ب – أن يكون المعقود عليه مشروعًا ( مشروعية المحل ).

لا يصح كل محل أن يكون موضوعًا للتعامل ، فإذا توافرت جميع الشروط المتطلبة في المحل إلا أنه غير مشروع فإن العقد لا ينعقد وعلى ذلك لا يجوز أن يكون الخمر محلاً في عقد لأنه غير مشروع ، ويتفرع عن ذلك ضرورة أن يكون المحل مالاً مملوكًا ، فإذا لم يكن كذلك في نظر الشريعة فلا يصح أن يكون محلاً للتعامل ومن ثم للتعاقد كما لا يصح رهنها أو الوصية بها ) .

ويرتبط بذلك ضرورة أن يكون المحل مملوكًا للمتصرف فيه فإذا لم يكن كذلك فإنه يبطل بيعه أو هبته .

** النصوص :

كشاف القناع الجزء الثالث ص155 :

( أولاً ) يصح بيع ( حشرات ) كخنافس ( سوى ما تقدم ) من دور القز وديدان يصاد بها …… و(لا ) يصح بيع ( ميتة ولا شئ منها ، ولو لمضطر ) لما تقدم ( إلا سمكا وجرادًا ونحوهما ) كجندب لحل أكلها (ولا) بيع ( دم وخنزير وصنم ) لحديث جابر السابق (ولا) يصح بيع ( سباع بهائم ) لا تصلح لصيد (و) لا جوارح طير لا تصلح لصيد ، كنمر وذئب ودب وسبع وغراب ) ولا يؤكل ( وجدأه ونسر وعقق ونحوهما ) لأنه لا نفع فيه كالحشرات ) .

جـ – أن يكون مقدور التسليم وقت التعاقد :

قد يكون محل العقد مالاً مملوكًا للمتصرف فيه موجودًا وقت التعاقد إلا أنه غير مقدور على تسليمه كحيوان شارد ، وهو في مثل تلك الحالة يقترب من بالمعدوم لعدم القدرة .

كشاف القناع الجزء الثالث ص162 .

(ولا ) يصح بيع ( نحل ) في الهواء (أو) بيع ( طير في الهواء يألف الرجوع أولا ) لأنه غير مقدور على تسليمه ( ولا ) يصح بيع ( سمك في لجة ماء ) لما روى أحمد عن ابن مسعود مرفوعًا ( لا تشتروا السمك في الماء لأنه غرر ) قال البيهقي : فيه انقطاع ولما تقدم ، واللجة بضم اللام معظم الماء ( فإن كان الطير في مكان ) كالبرج ( مغلق ) عليه ( يمكن أخذه منه ) صح بيعه لأنه مقدور على تسليمه ، وشرط القاضي مع ذلك أخذه بسهولة ، فإن لم يكن إلا بتعب ومشقة لم يجز ( أو ) كان السمك في ماء نحو بركة ( صاف ) ذلك الماء يشاهد فيه السمك ( غير متصل ) الماء ( بنهر ويمكن أخذه ) أي السمك ( منه ) أي الماء ( صح ) البيع لعدم الغرر )

د – أن يكون المحل معينًا معروفًا للعاقدين :

يرتبط هذا الشرط بضرورة أن يكون المحل موجودًا لأن التعاقد على غير الموجود باطل وذلك للغرر ، غير أنه قد يفترق عنه في جانب آخر أن المحل قد يكون موجودًا إلا أنه غير معين ولدرء الغرر فإن العقد على محل بتلك الكيفية يكون عقدًا باطلاً فالمحل ينبغي أن يكون معلومًا للعاقدين .

علمًا يمنع النزاع وقد يحدث العلم إما بالرؤية أو الوصف المانع للجهالة الفاحشة ببيان نوع المحل وصفته ومقداره والعلة هنا كما هي العلة في بيع الموجود وهي منع الغرر ويلاحظ أن الغرر أمر أوسع من الجهالة ، ذلك أن لكل مجهول غرر وإن الشئ الهارب المعلوم يشترط في عقود المعاوضات المالية وغير المالية، وأضيف إليه شرط آخر وهو أن يكون محل العقد طاهرًا لا نجسًا ومتنجسًا ,

المطلب الثالث

العاقدان

لما كان الإيجاب والقبول ركنا من أركان العقد ، فإنه وبالضرورة يتعين صدورهما من عاقدين إذ لا يتصور غير ذاك. غير أنه لا يكفي وجود عاقدين لانعقاد العقد حتى لو توافرت باقي الأركان والشروط ، إذ أن بعض الأشخاص يكونون غير صالحين لإبرام العقود والبعض الآخر قد يكون صالحًا لإبرام العقود دون بعضها .

ويقتضي البحث في هذا الركن دراسة الأهلية وعوارضها ، بقدر من التبسيط يؤطر نطاقها ومفهومها وحالاتها كما يبين ما يطرأ على تلك الأهلية فيلغيها أو يقلل منها أو يثير حولها الشك .

أولاً : الأهلية :

الأهلية في اللغة هي الصلاحية وفي اصطلاح الفقهاء هي صلاحية الإنسان للوجوب له وعليه شرعًا ، أو صدور الفعل منه على وجه يعتد به شرعًا ، والأهلية نوعان أهلية الوجوب وأهلية الأداء .

1 – أهلية الوجوب :

فهي صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق له أو عليه وهي أهلية تثبت للإنسان باعتبار تلك الصفة ، فهي تثبت للصغير والكبير وللرشيد وغير الرشيد كما وتثبت للجنين في بطن أمه قبل أن ينفصل بالولادة عنها ، فيثبت له النسب والإرث والوصية ، والأهلية تبعًا لذلك تبدأ مع الإنسان وتنتهي بوفاته .

وتنقسم أهلية الوجوب إلى أهلية ناقصة وأهلية كاملة ، فأما الأهلية الناقصة فهي تلك التي تثبت للجنين قبل الولادة وانفصاله عن أمه ، وتلك الأهلية الناقصة للجنين لا تلزم الجنين بالواجبات ولا تمنحه من الحقوق ما يستوجب قبوله ، أما أهلية الوجوب الكاملة فهي التي تثبت لكل إنسان يولد حيًا وتبقى مستمرة معه حتى وفاته ، وبمقتضاها تثبت للإنسان الحقوق وتجب عليه الالتزامات .

2 – أهلية الأداء :

وأهلية الإنسان لصدور الفعل عنه على وجه يعتد به شرعًا ، وقيل عنها إنها أهلية المعاملة إذ بها يكون الإنسان صالحًا لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات .

ومناط أهلية الأداء العقل الكامل ، ولذا فتلك الأهلية لا تثبت للصبي أو المجنون ، إذ بالفعل يفهم التكليف. وتنقسم أهلية الأداء إلى أهلية الأداء القاصرة، وأهلية الأداء الكاملة .

فأما أهلية الأداء القاصرة فهي تنبني على القدرة القاصرة من العقل القاصر والبدن القاصر وأهلية الأداء الكاملة على عكس ذلك تنبني على العقل الكامل والبدن الكامل ، وقد جعل الشرع البلوغ دليلاً على وجود الاثنين وأصل ذلك قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ( رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى يستيقظ ) .

وهناك فارق بين أهلية الأداء والولاية، فالأخيرة هي صلاحية الإنسان لأن يباشر شئون غيره، أما الأولي فهي صلاحية لأن يباشر شؤون نفسه. وهذا الفارق في التعريف ينطوي على تبيان الفارق بين الأهلية والولاية فقد يكون صاحب الولاية مخولاً بمباشرة قد لا تكون له إذا كان بأهلية أداء قاصرة وأهلية الأداء ثابتة باعتبارها هي الأصل للإنسان ، أما الولاية ثبوتها قد يكون بأمر شرعي أو اتفاقي .

وإذا كان العقل هو مناط أهلية الأداء ، وكان البلوغ هو الدليل الظاهر على العقل، فإن أهلية الأداء ترتبط بسن الإنسان وعمره ، فهناك حالة يكون فيها عدم أهلية الأداء الناقصة يثبت للإنسان وهو في سن التميز وقبل أن يبلغ الحلم، وفي تلك الحالة فإن المميز يمكنه القيام بكافة التصرفات النافعة نفعًا محضاًُ كقبول الهبة ، أما التصرفات الضارة ضررًا محضًا فإنها لا تصح وهي تلك التي تدور بين النفع والضرر فحكمها أنها موقوفة على إذن الولي أو إجازته لها والحالة الأخيرة هى أهلية الأداء الكاملة وتثبت للإنسان بعد بلوغه عاقلاً .

نصوص :

المغني الجزء الرابع ص513 – 514

ويحصل في حق الغلام والجارية بأحد ثلاثة أشياء وفي حق الجارية بشيئين يختصان بها . أما الثلاثة المشتركة بين الذكر والأنثى، فأولها خروج المنى من قبله وهو الماء الدافق الذي يخلق منه الولد، فكيفما خرج في يقظة أو منام بجماع أو احتلام أو غير ذلك حصل به البلوف لا نعلم في ذلك اختلافا لقول الله تعالى : " وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا – وقوله – والذين لم يبلغوا الحلم منكم ) وقول النبى صلى الله عليه وسلم ( رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم ) وقوله عليه السلام لماذ ( خذ من كل حالم ديناراً ) رواهما أبو داود ، قال ابن المنذر وأجمعوا عن أن الفرائض والأحكام تجب على المحتلم العاقل وعلى المرأة بظهور الحيض منها ، وأما الإنبات فهو ينبت الشعر الخشن حول ذكر الرجل أو فرج المرأة الذي استحق أخذه بالموسى . أما الزغب الضعيف فلا اعتبار به فإنه ينبت في حق الصغير ، وبهذا قال مالك والشافعي في قول وقال في الآخر هو بلوغ في حق المشركين وهل هو بلوغ في حق المسلمين ؟ فيه قولان ، وقال أبو حنيفة لا اعتبار به لأنه نبات شعر فأشبه بنبات شعر سائر البدن ، ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة حكم تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريم وأمر أن يكشف عن مؤتزرهم فمن أنبت فهو من المقاتلة ومن لم ينبت الحقوه بالزرية وقال عطية القرظي عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكوا في فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظر إلي هل أنبت بعد؟ فنظروا إلي فلم يجدوني أنبت بعد فألحقوني بالذرية متفق على معناه ، وكتب عمر رضى الله عنه إلى عامله ألا تأخذ الجزية إلا من جرت عليه المواسى ، وروى محمد بن يحيى بن حبان أن غلامًا من الأنصار شبب بامرأة في شعره فرفع إلى عمر فلم يجده أنبت فقال لو أنبت الشعر لحددتك ، ولأنه خارج يلازمه البلوغ غالبا ويستوي فيه الذكر والأنثى فكان علما على البلوغ كالاحتلام ولأن الخارج ضربان، منفصل ومتصل فلما كان من المنفصل ما يثبت به البلوغ كذلك المتصل وما كان بلوغا في حق المشركين كان بلوغا في حق المسلمين كالاحتلام والسن، وأما السن فإن البلوغ به في الغلام والجارية بخمس عشرة سنة ، وبهذا قال الأوزاعي والشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال داود لاحد للبلوغ من السن لقوله عليه السلام ( رفع القلم عن ثلاث وروي عن أبي حنيفة في الغلام روايتان ( أحدهما ) سبع عشرة ( والثانية ) ثماني عشرة ، والجارية سبع عشرة بكل حال لأن الحد لا يثبت إلا بتوقيف أو اتفاق، ولا توقيف في هذا ولا اتفاق ، ولنا أن ابن عمر قال عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني في القتال وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني ، متفق عليه ، وفي لفظ عرضت عليه يوم أحد وأنا ابن خمس عشرة فأجازنى فأخبر بهذا عمر بن عبد العزيز فكتب إلى عماله أن لا تفرضوا إلا لمن بلغ خمس عشرة رواه الشافعي في مسنده ورواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ، وروى عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ماله وما عليه وأخذت منه الحدود ) ولأن السن معنى يحصل به البلوغ يشترك فيه الغلام والجارية فاستويا فيه كالإنزال وما ذكره أصحاب أبى حنيفة ففيما رويناه جواب عنه وما احتج به داود لا يمنع إثبات البلوغ بغير الاحتلام إذا ثبت بالدليل، ولهذا كان إنبات الشعر علما عليه ، وأما الحيض ففيه علم على البلوغ لا نعلم فيه خلافًا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ) رواه الترمذي وقال حديث حسن ، وأما الحمل فهو علم على البلوغ لأن الله تعالى أجرى العادة أن الولد لا يخلق إلا من ماء الرجل وماء المرأة قال تعالى : ( فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق* يخرج من بين الصلب والترائب ) وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في الأحاديث، فمتي حملت حكم ببلوغها في الوقت الذي حملت فيه ).

** عوارض الأهلية :

الأهلية قد يعترضها عارض ، وإذا كان مناط الأهلية هو العقل ، فإن كل ما يؤثر في ذلك يعتبر عارضًا من عوارض الأهلية التي يترتب على وجودها أثر في التصرفات .

ومن عوارض الأهلية الصغر ، الجنون ، الغفلة ، النوم ، الإغماء ، النسيان ، المرض …. وغيرها، كما أن هناك عوارض قد تكون مكتسبة أو تبعية مثل السكر ، الهزل ، الخطأ ، غير ذلك .

ولا يتسع مقام البحث إلى التعرض لكل تلك الحالات على حدة، إلا أن آعتراض الأهلية بأي عارض مما سبق يؤثر عليها وبالتالي يؤثر في التصرفات التي يقوم بها من تعرضت أهليته لعارض من تلك العوارض .

** النصوص : المغني الجزء (4) ص (510 – 522 – 524 -524 – 526 ) .

الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة ( أحدها ) في وجوب دفع المال إلى المحجور عليه إذا رشد وبلغ وليس فيه اختلاف بحمد الله تعالى ، قال ابن المنذر اتفقوا على ذلك وقد أمر الله تعالى به في نص كتابه بقوله سبحانه ( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم ) ولأن الحجر عليه إنما كان لعجزه عن التصرف في ماله على وجه المصلحة حفاظًا لما له عليه وبهذين المعنيين يقدر على التصرف ويحفظ ماله فيزول الحجر لزوال سببه ، ولا يعتبر في زوال الحجر على المجنون إذا عقل حكم حاكم بغير خلاف، ولا يعتبر ذلك في الصبي إذا رشد وبلغ وبهذا قال الشافعي، وقال مالك لا يزول إلا بحكم حاكم وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنه موضع اجتهاد ونظر فإنه يحتاج في معرفة البلوغ والرشد إلى اجتهاد فيوقف ذلك على حكم الحاكم كزوال الحجر عن السفيه ، ولنا أن الله تعالى أمر بدفع أموالهم إليهم عند البلوغ وإيناس الرشد فاشتراط حكم الحاكم زيادة تمنع الدفع عند وجوب ذلك بدون حكم الحاكم، وهذا خلاف النص ولأنه حجر بغير حكم حاكم فيزول بغير حكمه كالحجر وعلى المجنون وبهذا فارق السفيه ، وقد ذكر أبو الخطاب أن الحجر على السفيه يزول بزوال السفه والأولى أولى فصار الحجر منقسما إلى ثلاثة أقسام : قسم بغير حكم حاكم وهو حجر المجنون، وقسم لا يزول إلا بحاكم وهو حجر السفيه وقسم فيه الخلاف وهو حجر الصبي ( الفصل الثاني ) أنه لا يدفع إليه ماله قبل وجود الأمرين البلوغ والرشد ولو صار شيخا وهذا قول أكثر أهل العلم ، قال ابن المنذر أكثر علماء الأمصار من أهل الحجاز والعراق والشام ومصر يرون الحجر على كل مضيع لماله صغيرًا كان أو كبيرًا وهذا قول القاسم بن محمد بن أبى بكر من قريش ذي أهل ومال فلا يجوز له أمر في ماله دونه لضعف عقله، قال بن إسحاق رأيته يخطب وقد جاء إلى القاسم بن محمد فقال يا أبا محمد ادفع إلىّ مالي فإنه لا يولى على مثلي فقال إنك فاسد ، فقال امرأته طالق البتة وكل مملوك له حر إن لم تدفع إلي مالي ، فقال له القاسم بن محمد وما يحل أن ندفع إليك مالك على حالك هذه ……… )( ولنا أن قول الله تعالى " وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم ) علق الدفع على شرطين والحكم المعلق على شرطين لا يثبت بدونهما وقال الله تعالى " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ) يعني أموالهم وقال الله تعالى : " فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل ) فأثبت الولاية على السفيه ولأنه مبذر في ماله فلا يجوز دفعه إليه كمن له دون ذلك . وأما الآية التي احتج بها فإنما تدل بدليل خطابها وهو لا يقول به ثم هي مخصصة فيما قبل خمس وعشرين سنة بالإجماع لعلة السفه وهو موجود بعد خمس وعشرين فيجب أن تخص به أيضًا، كما أنها لما خصصت في حق المجنون لأجل جنونه قبل خمس وعشرين سنة خصت أيضًا بعد خمس وعشرين وما ذكرناه من المنطوق أولى مما استدل به من المفهوم المخصص وما ذكروه من كونه جدًا ليس تحته معنى يقتضي الحكم ولا له أصل يشهد له في الشرع فهو إثبات للحكم بالتحكم، ثم هو متصور فيمن له دون هذا السن فإن المرأة تكون جدة لإحدى وعشرين سنة وقياسهم منتقض بمن له دون خمس وعشرين سنة وما أوجب الحجر قبل خمس وعشرين سنة يوجب بعدها ، إذا ثبت هذا فإنه لا يصح تصرفه ولا إقراره ، وقال أبو حنيفة يصح بيعه وإقراره وإنما لا يسلم إليه ماله، لأن البالغ عنده لا يحجر عليه وإنما منع تسليم ماله إليه للآية ، وقال أصحابنا في إقراره يلزمه بعد فك الحجر عنه إذا كان بالغا ، ولنا أنه لا يدفع إليه ماله لعدم رشده فلا يصح تصرفه وإقراره كالصبي والمجنون ، ولأنه إذا نفذ تصرفه وإقراره تلف ماله ولم يفد منعه من ماله شيئًا ولأن تصرفه لو كان نافذًا لسلم إليه ماله كالرشيد فإنه إنما يمنع ماله حفاظًا له، فإذا لم يتحفظ بالمنع وجب تسليمه إليه بحكم الأصل .

                                    المبحث الثالث

                                     فسخ العقد

فسخ العقد هو إنهاؤه وانحلاله بعد انعقاده صحيحًا نافذًا وقبل تمام تنفيذه. وقد يقع الفسخ لأن طبيعة العقد تتيح ذلك ، وقد يقع لأن العقد به خيار يحق معه لطرف من طرفي العقد أو لكليهما فسخه ، كما يعرف الفقه الإسلامي الإقالة وهي الاتفاق بالتراضي على فسخ العقد ، امتثالاً لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم ( من أقال نادما بيعته أقال الله عثرته ) ونتعرض للخيارات التي تبرر فسخ العقد وكذلك إلى العقود اللازمة التي تبرر الفسخ لطبيعتها .

1 – الخيارات التي تبرر فسخ العقد :

يستند فسخ العقد في الأصل في الشريعة الإسلامية على احترام إرادة المتعاقدين ، ولذلك فالفسخ في الشريعة غيره في القوانين الوضعية ، وجاء ذلك نتيجة لأمرين الأول: احترام الشريعة لإرادة المتعاقدين وعدم إقرار ما يتعارض معها ، ذلك أن القوانين الوضعية تقرر الفسخ في حالات لم يتفق عليها المتعاقدان ، وقد يقع الفسخ في تلك الحالة بحكم القانون أو بحكم القاضي ، الأمر الثاني: هو خطورة العقد وما يرتبه من حقوق والتزامات ، ومن ثم فإن تقرير فسخ العقد دون اعتبار لإرادة المتعاقدين أو بالبحث عن إرادة ضمنية فيه ما قد يخل باستقرار التعامل بين الناس ، ولذلك فإن الشريعة الإسلامية الغراء في إطار الخيارات سواء كانت المشروطة شرعًا أو المشروطة شرطًا ، تتيح للمتعاقدين فسخ العقد ، ولا خلاف في أن العقد الذي به خيار يبيح فسخه يجعل المتعاقدين يعلمون سلفا إمكانية الفسخ والشروط التي تتيح ذلك. بالإضافة إلى مسقطات الخيار ، ومن ثم فإن الفسخ في تلك الحالة لا يخل باستقرار التعامل وليس الأمر على إطلاقه في كل الحالات إذ توجد مقتضيات يجب مراعاتها ، ومن تلك الخيارات ما يلي :

أ – خيار الشرط

بمدة محددة قد تطول أو تقصر فهي في كل الأحوال تخضع لاتفاق المتعاقدين وحكمة هذا الخيار أنه يمنح فترة للتروي أو التجربة وغير ذلك ، ويمكن أن يكون الخيار لطرف واحد في العقد أو لهما معا .

وإذا مضت مدة الخيار دون أن يستعمله أحدهما سقط الخيار وأصبح وجود العقد مؤكدًا وفي فترة الخيار فإن وضع العقد من ناحية استمراره يكون محل شك ، ففي تلك الفترة يستطيع من له الخيار استعماله وذلك بفسخه العقد ، ونظرًا لأن الفقه الإسلامي إزاء احترامه لإرادة المتعاقدين فإن ذلك يتطلب ممن يقدم على التعاقد استعراض ظروفه وأوضاعه كاملة وله أن يقرر تضمين العقد شرطًا يتيح له الفسخ إذ أنه بغير ذلك قد يتعذر فسخ العقد ، ومن ثم فإن الشرط الجوهري على كل متعاقد أن يتعرض له وأن يكون عالمًا بضرورة تضمين العقد الخيار إذا كانت الصفقة محلاً للتردد أو غير ذلك إذ هو حق للمتعاقد له أن يضعه كشرط من شروط العقد وله تحديد مدة طويلة أو قصيرة حسب الأحوال، لكن لابد من تحديد تلك المدة حتى لا تبطل وضع العقد مطلقًا ، وبديهي أن خيار الشرط يرد في العقود التي تحتمل الفسخ .

النصوص :

شرح منتهى الإرادات الجزء الثاني ص168 – 170 :

( خيار الشرط ( أن يشرطاه ) أي يشترط المتعاقدان الخيار ( في ) صلب العقد ، أو ) يشترطاه بعده ( زمن الخيارين ) أي خيار المجلس وخيار الشرط ، لأنه بمنزلة حال العقد ( إلي أمد معلوم ، فيصح ) ولو فوق ثلاثة أيام ، لحديث ( المسلمون عند شروطهم ) ولأنه حق يعتمد عليه ، فرجع في تقديره إلي مشترط كالأجل).

(( ولا يفتقر فسخ من يملكه ) من المتعاقدين ( إلى حضور صاحبه ) العاقد معه ( ولا ) إلى ( رضاه ) لأن الفسخ حل عقد جعل إليه ، فجاز في غيبة صاحبه ومع سخطه كالطلاق ( وأن يمضى زمنه ) أي الخيار المشروط ( ولم يفسخ ) البيع مشروط له ( لزم ) البيع لئلا يفضي إلى بقاء الخيار أكثر من مدته المشروطة ، وهو لا يثبت إلا بالشرط ( وينتقل ملك ) في مبيع إلى مشتر وفي ثمن إلى بائع ( بعقد ) شرطًا الخيار لهما أو لأحدهما .

كشاف القناع الجزء الثالث ص(204 – 205 ) ( 210 – 211 ) :

( لأن الأصل بقاؤه ( وإن جعله ) أي الخيار ( إلى طلوعها ) أي الشمس ( من تحت السحاب ) لم يصح ( أو إلي غيبتها تحته ) السحاب ( لم يصح ) شرط الخيار المذكور ( لجهالته ، ولا يثبت ) خيار الشرط ( في بيع القبض ) لعوضيه ، أو لأحدهما ( شرط لصحته ، كصرف وسلم ونحوهما ) كبيع مكيل بمكيل وموزون بموزون ، لأن موضوع هذه العقود على أن لا يبقى بين المتعاقدين علقة بعد التفرق ، بدليل اشتراط القبض وثبوت خيار الشرط فيها يبقى بينهما علنا )( ولمن له الخيار الفسخ من غير حضور صاحبه ولارضأه لأن الفسخ على حل عقد جعل له ) .

( ومن مات عنها أي البائع والمشتري ( بطل خياره وحده ولم يورث ) لأنه حق فسخ لا يجوز الاعتياض عنه فلم يورث كخيار الرجوع في الهبة ( إن لم يكن طالب به قبل موته فإن طالب به قبله ورث كشفعة وحد قذف ) قال أحمد الموت يبطل به ثلاثة أشياء الشفعة والحد إذا مات المقذوف، والخيار إذا مات الذي اشترط الخيار).

ب – خيار العيب :

العيب هو ما يقتضي العرف السلامة عنه ، وخيار العيب من الخيارات المشروطة شرعًا سواء نص عليه في العقد أم أو لم ينص ، بخلاف خيار الشرط المشروط شرطًا والذي ينبغي لإعماله ضرورة الاتفاق عليه ، وهذا الخيار يجد تطبيقه في عقد البيع وعلى ذلك فإنه ينسحب على عقود المعاوضات ، وإذا توافر هذا الخيار بشروطه ومقتضياته ولم يكن هناك ما يسقطه فإن لمن تضرر به أن يفسخ العقد وهو في البيع المشتري ، والفسخ في تلك الحالة لا يحتاج مثل خيار الشرط إلى رضاء الطرف الآخر .

 

** النصوص

الشرح الكبير الجزء (4) ص 90 – 91

بعد القبض ، فأما الحادث بعد القبض فهو من ضمان المشتري لا يثبت الخيار وهو قول أبي حنيفة والشافعي ) .

كشاف القناع الجزء (3) ص218

( فمن اشترى معيبا لم يعلم حال العقد ( عيبه ثم علم بعيبه فكتمه ) عن المشتري ، أو لم يعلم ) البائع بعيبه ( أو حدث به ) أي البائع ( عيب بعد عقد وقبل قبض فيما ضمانه على بائع ، كمكيل وموزون ومعدود ومزروع ) بيع بذلك (و) كـ ( ثمر على شجرة ونحوه ) كمبيع بصفة أو رؤية متقدمة ( خير ) المشتري ( بين رد ) استدراكا لما فاته ، وإزالة لما يلحقه من الضرر في بقائه في ملكه ناقصًا عن حقه ) وعليه أي المشتري إذا اختار الرد ( مؤنة رده ) إلى البائع ، لحديث ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه )( و ) إذا رده ( أخذ الثمن كاملاً ) لأن المشتري بالفسخ استحق استرجاع جميع الثمن ( حتى ولو وهبه البائع ) ثمنه أي ثمن المبيع ( أو أبرأه منه ) أي من الثمن كله أو بعضه ثم فسخ ، رجع بكل الثمن .

شرح منتهى الإيرادات الجزء (2) ص 178

( أي المشتري ثم علم عيبه فله أي المشتري الارش للعيب الأول أورده على بائعه مع أرش نقصه الحادث عنده ، لقول عثمان في رجل اشترى ثوباً ولبسه ثم اطلع على عيب يرده وما نقص فأجاز الرد مع النقصان رواه الخلال وعليه اعتمد الإمام والأرش هنا ما بين قيمته بالعيب الأول وبين قيمته بالعيبين ولا يرجع مشتر رد معيبًا مع أرش عيب حدث عنده به أي بأرش العيب الحادث عنده إن زال عيبه )

ج – خيار فوات الشروط :

يتفق هذا الخيار مع خيار الشرط أنه يشترط شرطًا بخلاف خيار العيب المشروط شرعًا لكنه يختلف عنه إذ أن خيار فوات الشرط يقتضي أن يتفق على شرط معين فإذا خلت الصفة منه تحقق وجود الخيار ، كما إذا اشترط البائع على المشتري أن يضمنه شخص معين أو يرهنه عيناً معينة ضمانًا لالتزامه الناشئ عن عقد البيع ، فإذا لم يضمنه هذا الشخص أو لم يرهن المشتري العين المتفق عليها فإن، الشرط يكون قد تحقق، ويكون من حق البائع فسخ العقد ، وبديهي أن هناك شروطاً صحيحة يتحقق بها الشرط مثل الشروط التى من مقتضى العقد كاشتراط حلول الثمن أو التقابض ،أو أن يكون الشرط من مصلحة العقد كاشتراط صفة في الثمن كتأجيله ، أو اشتراط رهن معين ، أو كان الشرط لتحقيق منفعة معلومة كتأخير تسليم المبيع مدة معلومة ، وهناك شروط فاسدة وهي تلك التي تنافي مقتضى العقد كأن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع المبيع ، وتحقق فوات الشرط الصحيح المشترط يتيح لمن اشترطه فسخ العقد .

** النصوص :

كشاف القناع الجزء (3) ص196

( وإن قال البائع: بعتك تنقدني الثمن إلى ثلاثة أيام أو إلى معلومة أقل من ذلك أو أكثر وإلا فلا بيع بيننا صح البيع وهو قول عمر كشرط الخيار وينفسخ البيع إن لم يفعل أى أن لم ينقذه المشترى الثمن في المدة وهو أي قوله : وإلا فلا بيع بيننا تعليق فسخ البيع على شرط إنه علقه على عدم نقد الثمن في المدة التي عينها وهو صحيح كما تقدم قريبا وان قال البائع بعتك على أن تنقدني الثمن إلى ثلاثة أو أكثر فإن لم تفعل فلي الفسخ، صح . وله الفسخ إن لم ينقده له فيها لما تقدم أو قال المشتري اشتريت على أن تسلمني المبيع إلي ثلاث ، فإن لم تفعل فلي فسخ العقد ، صح البيع والشرط وله الفسخ إذا فات شرطه لما تقدم وإن باعه سلعة وشرط عليه البراءة من كل عيب بها أو شرط عليه البراءة من عيب كذا إن كان ذلك العيب بها فالشرط فاسد لا يبرأ البائع به سواء كان العيب ظاهرًا ولم يعلمه المشتري أو كان باطنا ) .

شرح منتهى الإرادات الجزء (2) 162 ، 163

( كقوله بعتك كذا بكذا على أن تنقدني الثمن إلى كذا أي وقت معين ، ولو أكثر من ثلاثة أيام أو بعتك كذا بكذا على أن تنقدني الثمن إلى كذا أى وقت معين ، ولو أكثر من ثلاثة أيام، أو بعتك على أن ترهننيه أي البيع بثمنه وإلا تفعل ذلك فلا بيع بيننا. هذا وقد سبق التعرض لخيارات أخرى في هذا البحث مثل خيار التدليس وخيار الرؤية وخيار الوصف، كما أنه توجد خيارات أخرى لا يتسع لها مقام البحث .

2 – فسخ العقد لطبيعته :

رأينا أن جانبا من الفقه الإسلامي يقسم العقود بالنظر إلى طبيعتها بين عقد لازم وعقد غير لازم ، وقد يكون عدم لزوم العقد بالنسبة إلى طرفيه أو بالنسبة إلى طرف واحد ، ومن العقود غير اللازمة للجانبين ، الإيداع ، الإعارة ، الشركة، وتلك العقود يستطيع فيها كل طرف فسخ العقد متى شاء ، أما العقود اللازمة لجانب واحد كالرهن والكفالة فإن المرتهن يستطيع فسخ العقد من جانبه دون رضاء الراهن ، وكذلك يستطيع المكفول له وهو الدائن في الكفالة فسخ العقد دون رضاء المدين .

** النصوص

كشاف القناع الجزء (2) صـ471 – 472

( وكذلك عقود الأمانات كلها كالوديعة والرهن إذا انتهت بأن كانت مغياه بمدة وانقضت أو انفسخت بموت أو عزل حيث إنها تكون أمانة، وكذلك الهبة للولد إذا رجع فيها الأب أمانة ما دامت بيد ولده والوكالة ويحصل وفسخها أي الوكالة بقوله فسخت الوكالة أو أبطلتها أو نقضتها أو أزلتك أو صرفتك أو عزلتك عنها أو ينهاه الموكل عن فعل ما أمره به وما أشبه ذلك من الألفاظ المقضية عزله والألفاظ المؤدية معناه أي معنى العزل أو يعزل الوكيل نفسه ، أو يوجد ما يقضى فسخها حكما على ما ذكرنا، أو يوجد ما يدل على الرجوع عن الوكالة .

وقد أشرنا في نطاق استعراضنا لتقسيم العقود إلى التقسيم المؤسس على طبيعة العقد من حيث كونه لازماً سواء لجانب واحد أو للجانبين، أو غير لازم لهما ، وقد تكون العودة إلى ذلك التقسيم مرتبطة بموضوع فسخ العقد بالنظر إلى طبيعته .

( منقول )

 


 
 

 

الانتقال السريع           

 

  الموجودون الآن ...
  عدد الزوار 1865 / عدد الاعضاء 62