المتأمل عدد المشاركات >> 0 التاريخ >> 14/3/2004
|
الحمد لله ...
في هذا السياق يورد كثير من العلماء جملة من القواعد الفقهية ، وهي بمثابة المواد في الأنظمة والقوانين الوضعية ، من حيث رجوع كثير من مسائل التعويض إليها ، ولهذه القواعد الفقهية أصول شرعية مستقاة منها ، من الكتاب والسنة ، من أجلاها وأوضحها في الدلالة على موضوع النقاش ، والذي تنبثق عنه جملة من القواعد ، بل غالب دين الإسلام يرجع إليه ، ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم : { لَاْ ضَرَرَ وَلَاْ ضِرَاْرَ } ، إذ الضرر هو أساس الضمان في فقه الشريعة الإسلامية الغراء , وليس هناك أوضح ولا أبلغ في تأكيد هذه الحقيقة , من هذا الحديث .
وقد عني فقهاء المسلمين بهذا الحديث , وبيان ما اشتمل عليه من أحكام وأسرار شرعية , تعجز عقول البشر القاصرة عن إدراكها , والإحاطة بمكنونها , فأسهبوا في شرح هذا الحديث , وقعّدوا جملة من القواعد الفقهية المستمدة منه , بل جعلوه أصلاً من أصول الإسلام , وعليه مدار كثير من أحكامه , كما قال الإمام أبو داوود رحمه الله : الفقه يدور على خمسة أحاديث ... وذكر منها قوله صلى الله عليه وسلم :{ لَاْ ضَرَرَ وَلَاْ ضِرَاْرَ } .
وهذا الحديث من جوامع الكلم الذي ؤتيه المصطفى صلى الله عليه وسلم .
وقد ابتنى العلماء من نص هذا الحديث الشريف قاعدة : ' لا ضرر ولا ضرار '. و هي قاعدة كلية من أهم قواعد الفقه الإسلامي , وأشملها فروعاً ؛ لأنها تغطي جانباً كبيراً من أحكام الوقائع المستجدة في حياة الناس , وهي من أسس المسؤولية المدنية , في منع الفعل الضار ابتداءً , وإزالة الضرر الناجم عنه بعد وقوعه .
وقد اشتمل هذا الحديث على أحكام كثيرة منها أنه :
- لا يجوز لأحد أن يُضِرّ بغيره , سواء عاد عليه نفع من جراء إحداث هذا الضرر أم لا .
- لا يجوز لأحد أن يقوم بأي فعل سواء كان هذا الفعل مقصوداً أم غير مقصود , إذا كان من شأن ذلك إلحاق ضرر بالغير .
وهذا الحديث تسنده قواعد الشرع وأحكامه القاضية بمنع الظلم والإضرار بالآخرين , والحث على إقامة العدل , والإحسان للآخرين , وحرمة دم المسلم وماله وعرضه ... ولذا اعتبر كثير من العلماء هذا الحديث أصلاً لكثير من أبواب الفقه ومسائله , كالضمان والشفعة والقصاص والديات والجبر على القسمة ... وغير ذلك من الأبواب .
ولذا فإن هذا الحديث يمنع أصل الخطأ الذي يترتب عليه الضرر . بل يمنع الإهمال إذا كان سيترتب عليه ضرر , كما يمنع التعدي الذي يترتب عليه الضرر من باب أولى , إضافة إلى أنه يمنع وينفي أصل الضرر في حدِّ ذاته , حتى وإن كان ناشئاً من فعل غير ضار , بل وينبه على اتخاذ الأسباب المانعة من الإضرار بالغير وإلحاق الأذى به .
فالضرر ممنوع , سواء وقع بطريق المباشرة أو بطريق التسبب .
وعليه فيجوز أن يكون هذا الحديث أصلاً في نفي أي ضرر يترتب على أي فعل كان . مهما كان ذلك الفعل جائزاً أو مشروعاً بذاته , أي بأصله , طالما ترتب عليه إلحاق ضرر بالآخرين .
ولأن الشريعة الإسلامية على خلاف الأنظمة الوضعية حتى ما كان منها أكثر حداثة , تنهى عن مطلق الضرر , فإنها اشتملت على الكثير من القواعد التي تؤكد هذا المضمون , من مثل قاعدة : ' الضرر يزال ' ، وقاعدة : ' الضرر لا يزال بالضرر ، أو لا يزال بمثله ' ، وقاعدة : ' الضرر يدفع بقدر الإمكان ' ، وقاعدة : ' المباشر ضامن وإن لم يتعد ، والمتسبب لا يضمن إلا إذا كان متعمداً '... وغير ذلك من القواعد المبثوثة في ثنايا كتب القواعد في مختلف المذاهب .
بيد أن الضرر إن نجم عن فعل خاطئ , أو عن تعدٍ , فلا مانع من معالجته أيضاً ضمن الحلول الواسعة في الشريعة الإسلامية , فالمسؤولية الموضوعية في الشريعة الإسلامية تتسع أيضاً لإعمال قواعد المسؤولية الخطئية في بعض الفروض .
ومما يحسن التنبيه عليه ، أن موضوع التعويض عن الضرر قد عُني بالبحث خاصة في الرسائل العلمية ، وقد بينت أصوله ومبانيه التي يرجع إليها ، ولذا فإن تقييد هذا الموضوع في مسائل معينة مما أُراه أكثر ثمرة ، وأجدر بالتميز في الطرح ، إذ الإحاطة بموضوع التعويض عزيز ، ولا يمكن من خلال هذا المداخلات الوقوف على مسائله حتى في العموميات ، ولذا فإني أرى الحاجة لطرح الموضوع في نقاط ومسائل قد تلبس على البعض ليتم الوقوف على وجه الصواب فيها قدر الإمكان ، مع تأصيل الموضوع في مبدئه ؛ ليكون نقطة انطلاقة ، ومورد صدور فيما قد يشكل ... والله أعلم .
|