المستشار محمد سعيد العشماوي
عندما أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمها بتاريخ 18 مايو 1996 ثم أعقبته محكمة النقض بحكمها الصادر بتاريخ 5 أغسطس ،1996 صُدم الناس عامة، ورجال القانون خاصة، لما تبين لهم من أن كلا من الحكمين تجاوز المباديء القضائية المقررة وتعدي القواعد القانونية المستقرة، حتي يردد دعاوي وشعارات الإسلام السياسي الوهابي الإخواني، الذي كان يهدف إلي تقويض العدالة وتدمير حكم القانون وتكسير القواعد المستقرة وتغيير المباديء المعتبرة، حتي يصبح الحكم فوضي لا ضابط له ولا رابط، أو يصير حكراً لجماعة تحكم بسلطات الكهانة وهي تزعم خطأ ومكابرة أنها تحكم بحكم الله.
سكت الجميع من فرط الدهشة أو من خوف الاغتيال، المادي أو المعنوي، لكننا صرحنا لوكالات الأنباء علي الفور بأنه ما دامت محكمة النقض، وهي محكمة قانون، قد امتنعت عن تطبيق القانون فإن القضاء لم يعد مأموناً،ولا يستطيع أحد الثقة به. وهو تصريح ثابت علي شبكات الاتصالات الدولية (الإنترنت). اتفق محامو الأستاذ الجامعي الذي امتنعت محكمة النقض عن تطبيق القانون، ونهجت نهج محاكم التفتيش، كيما تعمد إلي الفصل بينه وبين زوجه، علي رفع دعوي مخاصمة ضد الهيئة التي أصدرت الحكم،وهي دعوي نقلها القانون المصري عن القوانين التي تطبق في بلاد راقية لا تحزب فيها ولا تجامُل، وتقام في حالات منها اقتراف المحكمة لخطأ مهني جسيم، وهو ما حدث من محكمة النقض حين امتنعت عن تنفيذ القانون الذي يقضي بعدم جواز سماع دعوي الحسبة أمام المحاكم. فالأساس القانوني للدعوي سليم وصحيح، ونتيجة الدعوي هي التوصل إلي حكم يقضي ببطلان الحكم الذي امتنع عن تطبيق القانون ليقضي تجاوزاً وتعنتاً بالفصل بين زوج وزوجه. غير أن محكمة النقض رفضت دعوي المخاصمة، التي نظرها قضاة غير القضاة الذين أصدروا الحكم الذي انبني علي خطأ مهني جسيم، وبررت أسبابها بأن الخطأ الذي وقع من المحكمة ليس خطأً مهنياً جسيماً. فإذا لم يكن هذا هو الخطأ المهني الجسيم فماذا يكون إذن هذا الخطأ؟ وماذا يفعل من تتعدي محكمة النقض علي أخص خصوصياته، وتمتنع عن تطبيق القانون، لتفضي وفقاً لآرائها السياسية ومعتقداتها الحزبية بأنه كافر، ثم تحكم بعد ذلك بالفصل بينه وبين زوجه؟
كان يزورني في منزلي أحد كبار رجال القضاء، وكان يشغل منصباً مهماً في وزارة العدل، فتطرق حديثنا إلي قضية النقض وقد كانت حديث الساعة، فسألته أليس الحكم مخطئاً؟ قال بالتأكيد هو مخطيء، قلت أليست دعوي المخاصمة علي حق؟ قال هي علي حق بيقين، قلت ولماذا رفضتها محكمة النقض، قال: إن القضاة الآن لا يحكمون تبعاً للقانون أو وفقاً للعدالة، وإنما يتصرفون بعنجهية العشيرة ومفهومية القبيلة. قلت له: إذن فعلي القضاء العفاء! أمّن علي تعبيري بشدة، لكن الغريب أن هذا الشخص، ومن موقعه ذاك، لم يحاول الإصلاح ولو بأدني جهد، بل استغل انهيار القانون وانحراف العدالة وسقوط القضاء، في تحقيق مصالحه الخاصة، فتحول إلي سمسار يقضي صوالح رجال الأعمال ومصالح الموظفين الفاسدين، مقابل جعول ضخمة، ومن خلال الركام والحطام الذي انتهي إليه صرح القضاء الشامخ، مما أدي بأحد الكتاب إلي أن يكتب مقالاً في صحيفة معارضة عنوانها: ماذا تفعل إذا كان خصمك هو القاضي؟
إزاء الخروج السافر والمجتريء من محكمة النقض علي القانون، لجأت وزارة العدل إلي خروج أشد سفوراً وأكثر اجتراءً، فأوعزت إلي محام وطيد الصلة جداً بأحد كبار العاملين بها، لإقامة إشكال في تنفيذ حكم النقض، تأسيساً علي أن هذا الحكم لم يطبق القانون. والأصل في اشكال التنفيذ أنه عقبة مادية أو قانونية تصادف الخصوم عند تنفيذ حكم، فيلجأ أحدهم إلي قاضي التنفيذ لتذليل هذه العقبة، لكنه لا يدخل في اختصاص هذا القاضي أن يتعرض لأي حكم ويراقب مدي موافقته أو مخالفته للقانون، فإن ذلك أمر يخرج عن ولايته تماماً. ومع هذا الوضع المقرر قانوناً والمستقر قضاء، فإن قاضي التنفيذ أمر بوقف تنفيذ حكم محكمة النقض، لأن هذا الحكم لم يطبق القانون، وهي أول وربما آخر سابقة في تاريخ القضاء، تبين كيف يؤدي تسييس القضاء وفرض دعاوي الإسلام السياسي عليه، أن ينتهي الأمر إلي أخطاء شديدة من جانب القضاة، تستتبعها أخطاء أشد من جانب القضاء ووزارة العدل.
بدأ يستقر في روع الناس أن القضاء حظوظ، بلا أية ضمانات، فلا القانون يجدي ولا المستندات تفيد ولا الإثبات يأتي بأية نتيجة، وفي تأكيد هذه المعاني شرعت المحاكم تصدر أحكاماً لا يمكن تفسيرها وفقاً للقانون ولا يمكن تأويلها تبعاً للمستندات. وفي فبراير 1997 أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكماً لم تلتزم فيه أحكام الدستور، بل خرجت عليه لتضع تشريعاً في منازعة إيجارية، تتهم فيه المستأجرين وهم 95% من الشعب المصري بالاستغلال والإثراء علي حساب المؤجرين، فأسفرت بذلك عن انحيازها لصالح جماعة الملاك، وألغت مادتين في قانون إجارة الأماكن، مما كان لازمة إحداث اضطراب اجتماعي واقتصادي شديد في العلاقات المستقرة منذ أكثر من عشرين عاماً.
وقد تابعنا منهجنا فنشرنا في مجلة أسبوعية مصرية مقالة نعلق فيها علي هذا الحكم، فأثبتنا أنه لم يبطل النصوص وفقاً لأحكام الدستور ولكن تبعاً لما رآه هو في ذلك، مقتفياً في هذا اختصاص المحكمة العليا الأميركية التي هي في نظام قانوني يغاير النظام المصري، ومن ولايتها، بل ومن ولاية أية محكمة في الولايات المتحدة أن تشرع بوضع مبدأ قانوني جديد، لأن النظام القانوني الأميركي يقوم علي مبدأ السوابق القضائية Prccedents في حين أن النظام القانوني المصري يقوم علي أساس القوانين Statues، وولاية المحكمة الدستورية العليا في مصر أن تحكم بإلغاء القانون الذي يخالف الدستور، ولا تقضي بإلغاء القانون الذي لا يوافق رأيها أو يتعارض مع وجهة نظر لها أو تري أن مقتضي الملاءمة أن تشرع قواعد جديدة تخرج عن ولايتها، فتكون بذلك خارجة علي القانون وعلي الدستور.
في اليوم التالي لنشر تعليقنا اتصل بنا وزير العدل المصري وألح في ضرورة الالتقاء بنا، ووافقنا بعد لأي، والتقينا في مكتبه في شهر مارس 1997. وأثناء جلوسنا معاً اتصلت رياسة الجمهورية كما اتصل رئيس مجلس الشعب ليطمئن علي أنه يجتمع معي فعلاً. قلت في نفسي لا بد أن يكون ذلك لأمر جلل، كنت أعرفه لكني انتظرت أن يفاتحني فيه وزير العدل. بعد حديث طويل يدور ويلف حول موضوعات كثيرة قال وزير العدل وهو منتفخ الأوداج، هل رأيت ماذا فعل المحامون في قضية الأستاذ الجامعي، وما الذي انتهت إليه الأمور بفضل الهدوء والحكمة؟ قلت له: انك تقصد أن تعرفني بأنك أنت وراء الحكم الصادر من قاضي التنفيذ بوقف تنفيذ حكم محكمة النقض؟ فضحك بشدة لأني قلت له ما يريد أن يذيعه، لكني بادرت فقلت: إن محكمة النقض أخطأت حين امتنعت عن تطبيق القانون لغلبة نزعة الإسلام السياسي عليها، وقد أخطأت وزارة العدل حين عالجت الخطأ بخطأ آخر، ولم تقض علي أصول الانحراف بالقضاء لأغراض سياسية وأهداف حزبية، ونتيجة لذلك فإن الشعب لم يعد يثق بالقانون ولم يعد يطمئن إلي القضاء. قال في جدية: هذا صحيح، ولذلك فنحن مكلفون بإجراء إصلاح قضائي! تساءلت: من المقصود بنحن، قال أنا وأنت، قلت ومن الذي كلفنا؟ قال رئيس الجمهورية، قلت: حسناً، وما هو المطلوب مني؟ قال: أنت تعد مشروعاً للإصلاح القضائي، وأنا أعد مشروعاً آخر ثم نجتمع سوياً بعد أسبوعين لإفراغهما في مشروع واحد. مر أسبوعان وثلاثة وأربعة وحتي اليوم لم يتصل بي وزير العدل، فهل توجد نية أو يوجد اتجاه جدي لإصلاح القضاء، أم أن ذلك يؤدي إلي الصدام بالإسلام السياسي الذي يعمل له البعض ألف حساب وحساب؟