المرافعة التاريخية للنيابة في قضية العبارة
المرافعة التاريخية للنيابة في قضية العبارة : - ممدوح إسماعيل خالف ضميره واستهان بالأرواح وكان بمقدوره إنقاذ الغرقى وعقابه يجب أن يكون بإلقائه في نفس مكان غرق السفينة
رغم أن سنوات عمره لا تتجاوز الثلاثين بعد إلا أن رئيس النيابة الشاب أحمد محمد إبراهيم التبسته روح الأجداد الشفاء الذين ظلوا لآلاف السنوات يدافعون عن حقوق أبناء هذا الوطن بكل ما يمتلكون من قوت الكلمة والحقيقة والحق , فعل ذلك وهو يلقي مرافعة في محكمة سفاجا تستحق أن توصف بأنها تاريخية وهو يسرد وقائع الفساد والإهمال والجريمة مكتملة الأركان التي وقعت في حق ما يقرب من 1500 مصري غرقت بهم عبارة السلام 98 منذ عامين ونصف العام تقريباً لم يكتفي أحمد محمد إبراهيم بتدبيج العبارت أو حشد الكلمات ذات الرنين أو التعبيرات اللغوية العميقة ذات تأثير قوي وإنما كتب مرافعته بمداد من آهات الغرقى وبصدمة رؤية الجثث التي أكلها المالح وبوجع قلب أهالي الضحايا الذين عاش معهم تفاصيل المأساة لأيام وشهور وهكذا خرجت مرافعته وثيقة مهمة على تلك الجريمة تستحق القراءة والمذاكرة والحفظ , بل وقد نذهب إلى ضرورة توريثها للأجيال شهادة كاشفة لا تموت أبداً .
سيدي الرئيس :-
" إن العدل من صفات الله وانتم ظل الله فى أرضه فهو من صفاتكم ، بل هو الصقها وأشدها اتصالاً بواجبكم ،واجبكم المقدس السامي الذي كرستم له أنفسكم ووهبتم له حياتكم واعتصمتم لصونه ورعايته بضمير زاخر بأعباء مضنية من الترفع والنأى عن مواطن الشبهات ثم خشية الله التي تساوركم في كل حين حتى ارسيتم بتلك القيم دعامات العدل والإنصاف تلك الدعائم فى محراب العدالة هي الهدى والنبراس والملاذ للمستضعفين والمظلومين والمغلوبين على أمرهم .
وهل فى الوجود من مستضعف مغلوب على أمره أحق من هؤلاء المغلبون على أمرهم الذين لم تضع حياتهم هباء، بل القي على المجتمع عبء الذود عنهم وعن روحهم ليقتص لهم من الآثمين وينزل بهم العقاب الرادع الزاجر لا لترتد إليهم أرواحهم ولكن حماية وعونا للمستضعفين الذين يتعرضون لغدر الآثمين.
سيدي الرئيس :-
لا اخالنى أجد مرافعة اشق على ممثل النيابة من ان يترافع فى قضية لم يشهد مثلها القضاء المصري من قبل قضية راح ضحيتها (1034 ) (ألف وأربع وثلاثون ) نفسا بشرية فضلا عن ثلاثمائة وسبعه وثمانين جريحا قتلهم وأصابهم الإهمال والإستهانة بحياتهم .
سيدي الرئيس :-
هل سنترك الزمن ينسينا فهو كفيل بذلك أم سنعاقب من هان عليه البسطاء ووالله لو لم نفعل لتعلقت بأعناقنا دماؤهم .
عبء ثقيل سيدي الرئيس ولكن انتم لها وها هي الفرصة لقضائنا العظيم ان يثبت مجددا انه بالمرصاد لكل إثم وعلى الباغي تدور الدوائر .
سيدي الرئيس :-
المتهمون اليوم حباهم الله من متاع الحياة الكثير : المال والجاه والنفوذ فعاثوا فسادا واستهانوا بأرواح البشر وأهملوا في أداء واجباتهم وارتكبوا الأخطاء الجسيمة ، نسوا أنهم تحملوا أمانة فخانوها فكان عدد ضحاياهم يجاوز الألف وبضع مئات من البشر غير متاعهم وأموالهم .
المتهم الخامس ممدوح إسماعيل عد نفسه من صفوة المجتمع ، منحه الله المال فامتلك شركة للنقل البحري فاشترى واستأجر سفنا واحتقر خطا ملاحيا بين موانينا وموانئ بلاد شقيقه ، توسعت أعماله وزاد عدد سفنه وافسد الجشع ثمار عرق البسطاء ، وبدد الفساد والإهمال بريق النجاح وفرحه العودة للأهل والديار .
وغرقت السفينة لأخطاء ارتكبها طاقم اختاره هو وإدارته لقيادتها في حينه فتراخى وتقاعس عن إنقاذ الضحايا ومد يد العون لهم ، خالف ضميره واستهان بالأرواح وكان بمقدوره الكثير لفعله ، تركهم يصارعون الجوع والعطش والبرد والأمواج العاتية ساعات طوال ، مات منهم من مات وجرح منهم من جرح ولم يكلف نفسه عناء إخطار جهات البحث والإنقاذ الفوري ولم يصدر الأوامر الفورية لوحداته البحرية السريعة والجاهزة للإبحار للتحرك فورا لإنقاذ الضحايا من رجال ونساء وشيوخ وأطفال في ظلام دامس وبحر هائج وطقس سيئ ويا لها من مفارقة أن سفينته المنكوبة تحمل اسم السلام ، يا لها من قلوب كالحجارة بل إننا نظلم الحجارة التي شبهنا قلوبهم بها .
سيدي الرئيس :-
الرومان فى العصور الوسطى كانوا يلقون بالمذنب فى ساحة مع الوحوش فان نجا كتبت له الحياة وهو غالبا لا ينجو .
لو طبقنا هذا مع المتهمين لأحضرناهم جميعا وذهبنا بهم بعيدا فى ذات مكان غرق السفينة وفى ليلة مثيلة وذات الظلام الدامس والطقس السيئ والبحر الهائج فلنلق بهم هناك ثم نعود ونأتي بما أتوه فنتقاعس ونتخاذل فى إنقاذهم سنجرى اتصالات واهية ونضلل ونخفى ونبحث عن مخرج ونتعلم بان وحداتنا البحرية الجاهزة والسريعة صغيرة ومصنوعة من الألمنيوم وان الطقس سيئ وان الوقود بها لا يكفى ونبحث عن زيد وبكر لملئ التنكات ولن نخطر جهات البحث والإنقاذ وسنجرى اتصالات لا تقدم ولا تؤخر مع أناس ليس الإنقاذ من اختصاصهم وسنتركهم ساعات طويلة يصارعون الموج والجوع والعطش والبرد ونرسل فاكسا للجهة المختصة للإنقاذ لا لنخطرهم بغرقهم ونطلب سرعه إنقاذهم وإنما لنضلل ونخطر بفقد الاتصال بهم ونخطرهم بموقع خاطئ غير الحقيقي .
سيدي الرئيس :-
دعونا نفعل معهم ذلك وأخيراً نذهب إليهم لنجد من كتبت له الحياة بعد هذه الأهوال ننقذه ويموت من كتب له ذلك فان هذا هو القصاص العادل .
سيدي الرئيس :-
قرع سمعي أثناء إحدى جلسات المحاكمة قول أحد الأساتذة من المحامين عن المدعين بالحق المدني مستشهدا ببعض المقالات الصحفية قوله ان لحن البراءة يعزف الآن بوسائل الإعلام المختلفة للمتهمين في هذه القضية واني أقول فليعزفوا كما يشاءون فلا والله لن يعزف لحن البراءة فى هذه القاعة ولن يعزف فيها إلا لحن الحق والعدل والقصاص .
سيدي الرئيس :-
ان المتهمين أتوا بأساتذة القانون في البلاد من المحامين علماء أجلاء أفاضل تعلمنا ونتعلم منهم حاولوا التخفيف عليهم ، إلا أن الحقيقة جلية والأدلة متساندة والوقائع ثابتة استمعت المحكمة إلى جميع الشهود بصبر وأناة تبحث عن الحقيقة ، اجمع جميعهم على جرم المتهمين وتضليلهم ومحاولتهم إخفاء خبر غرق السفينة رغم اليقين بما حدث لها فى حينه .
سيدي الرئيس :-
ان جميع من عمل بالبحر وصبر أغواره يعلم تماما ان أي قطبان إذا وقع لديه حادث كالحريق الذي وقع في سفينة الموت تلك حتما سيخطر شركته ان لم يكن يطلب العون منها فلإحاطتها عالما بما يواجهه ، لا سيما فى شركة كشركة السلام للنقل البحري التي سبق إن وقع لها العديد من الحوادث السابقة ، آخرها حادث السفينة السلام 1998 قبيل الواقعة الماثلة بشهور ، فان لديهم خبرة فى التعامل مع الحوادث والتضليل والإخفاء ، ودار الحديث بالفعل فى تسجيلات الصندوق الأسود عن طلب احد أفراد الطاقم إلى القبطان بإخطار المتهم الثامن ممدوح عرابي – مدير الأسطول بالشركة – بالحريق ، وان كانت التسجيلات لم تفصح عن هذا الحوار ، إلا أن ما أكده الشهود الذين تم سؤالهم أمام هيئة المحكمة من أن القبطان يستطيع ان يدخل إلى غرفته ويتصل بمن شاء ، وقد قالها احد شهود النفي بالجلسات ( ان القبطان بيدخل غرفته وبيقى مع نفسه ) .
سيدي الرئيس :-
حاول الدفاع عن المتهمين نفى التهمه عن المتهم الخامس ممدوح إسماعيل بزعم انه ليس رئيس فريق الطوارئ بالشركة رغم إقراره الشخصي أمام اللجنة إبان اخذ أقواله لكونه العضو الرئيسي فى فريق الطوارئ والمنوط به لاتخاذ إجراءات إخطار الجهات الخارجية وطلب المعونة والإنقاذ والدفع بالعبارات السريعة وانه صاحب القرار فى فض اجتماع لجنه الطوارئ .
وربما قرروا ان تشكيل لجنه الطوارئ غير معتمده من هيئه التصنيف الايطالية المشرفة على السفينة " رينا " وطلبوا إحضار شهادة بذلك وهم قادرون على إحضارها إلا أن ذلك كله مردود عليه بان الصلاحيات بالواقع وان هذا التشكيل للجنة الطوارئ معتمد من مجلس إدارة الشركة وان اعتماده من هيئه التصنيف الايطالية لا يؤثر فى جوهرة وسريانه والعمل به وهو ما أكده المتهمون ذاتهم بالتحقيقات بتشكيل اللجنة ودور كل منهم فيها .
سيدي الرئيس :-
إن إسناد الواقعة للمتهمين قاطع في الأوراق على نحو ما ورد بأمر الإحالة قيداً ووصفاً وجاءت أوراق الدعوى غنية بالأدلة المقنعة على ثبوت تلك الجريمة في حق المتهمين ثبوتاً كافيا لا شك ولا ريب فيه .
فها هم الشهود ممن كتب الله لهم حياتهم بقية يشهدون بظلم الإنسان لأخيه الإنسان حكوا ما رأوا من أهوال وما حسوا به من معاناة لعل من لقي ربه أفضل حالاً يشكو لمن لا ظلم عنده , ما ارتكبه المتهمون من إثم في حقهم – ما أبشع على المرء من أن يرى أبيه أو أمه فلذة كبده أو صديق أو رفيق رحلته يموت أمامه جوعاً وعطشاً وبرداً وغرقاً انتظاراً لأمل لم يتحقق , هو وصول إغاثة أو إنقاذ .
تناسى المتهمون واجباتهم وخالفوا القوانين واللوائح , خالفوا منظومة الإدارة الآمنة والسلامة التي نظمها المجتمع الدولي للحفاظ على الأرواح في البحار تقاعسوا وتراخوا فزهقت الأرواح .
أي جريمة ارتكبها المتهمون وأي عبث واستهانة بأرواح البشر وتعاظم الأمر والإستهتار بالأخطار الذي قام به المتهم الخامس ممدوح إسماعيل لمركز البحث والإنقاذ بعد ما يقرب من عشر ساعات من غرق السفينة لا يخطر بغرقها وهو يعلم بوقوعه في حينه , وإنما يخطر فقد بفقد الإتصال بها وبطلب البحث عنها بطلعة جوية , وإمعاناً في التضليل يخطر بموقع خاطيء لها مستهيناً بكل الأعراف الأخلاقية فحياة البسطاء لا تعنيه ورغم إقراره بالتحقيقات بعلمه بواقعة الغرق في الصباح المبكر وأنه هو المعني بحكم وإجاباته بإخطاره مركز البحث والإنقاذ إلا أنه لم يخطر إلا في الحادية عشرة صباحاً بفاكس .
تجاهل وتقاعس عن إرسال زوارقه السريعة التابعة له للإنقاذ والتي دفع واحداً منها في الثالثة ظهراً أي بعد ما يقرب من ثلاث عشر ساعات من الغرق والتي تمكنت من إنقاذ نصف الضحايا الذين عثر عليهم أحياء فما بالنا لو كانت قد أرسلت فور علمه بالغرق , سيدي الرئيس لكان من الممكن إنقاذ أرواح عديدة .
سيدي الرئيس :-
لقد عصف المتهمون كل عصف بالأخلاق الإنسانية في أعز مقدساتها :- النخوة والشهامة وإغاثة المكروب , عصفوا بكل ذلك استهتار بشع واستهانة عظيمة بأرواح البشر .
وإن النيابة العامة انطلاقاً من كونها خصماً شريفاً في الدعوى وتسعى إلى تحقيق موجبات القانون , قد محصت الأوراق باحثة عن ظرف مخفف للعقاب فلم تجد إلا أرواحاً زهقت واستهتاراً ولا مبالاة , وأن هذا الجرم فساد وإثم كبير فصعدت الأرواح لبارئها ليست راضية ولا مرضية تشكو له وتئن من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان .
وإنني لأحس والله بأرواح المجني عليهم ترفرف علينا في هذه القاعة تشكو لجبار السماوات والأرض بأي ذنب تركت لتموت وتبث هذه الشكوى لقدسية عدالتكم ظل الله في الأرض والناطقين بالحق والضاربين بسيف العدالة ليكون البلسم الشافي لروح المجني عليهم في مثواهم غير المعلوم .
فلا تأخذكم بهم شفقة ولا رحمة ولا تتركوهم يعيثون في الأرض إهمالاً واستهتاراً بالأرواح انزلوا بهم أشد العقاب خففوا معاناة أسرهم بحكم رادع زاجر عله يطفيء نيران الغضب التي اشتعلت في نفوس البسطاء .
سيدي الرئيس :-
يا رسول العدل وسند المظلوم المغلوب على أمره , تبصر في أمر هؤلاء الآثمين واستل سيف العدالة واسطر سطراً جديداً بحروف مضيئة في تاريخ القضاء المصري العظيم .
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }النحل118 " صدق الله العظيم .
وقال تعالى : - { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ }المائدة49 صدق الله العظيم .
وشكراً لا تساع صدر الهيئة الموقرة
رئيس النيابة :- أحمد محمود إبراهيم