اسم المستخدم: كلمة المرور: نسيت كلمة المرور



 

     
 
 
التاريخ
4/24/2013 10:55:25 PM
  فقه التقاضي - المبادئ والأصول القضائية (1)      

المبادئ والأصول القضائية (1)
 
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله - مستمعي الأفاضل - في برنامجكم: "فقه التقاضي"، وما زال الحديث موصولًا عن شروط المدعى به، وأنها ثلاثة شروط:
1- أن يكون فيه مصلحة مشروعة.
2- وأن يكون معلومًا، وقد سبق الحديث عن هذين الشرطين.
وأما الشرط الثالث للمدعى به، فهو أن يكون المدعى به مما يحتمل الثبوت عقلًا، فلا تُقام الدعوى في شيء لا يقبله العقل أو العرف، كأن يدعي رجل فقير على رجل غني مطالبًا بمبلغ يسير مدعيًا أنه أقرضه إياه، أو يدعي رجل بنوَّة شخص أكبر منه سنًّا؛ إذ لا يُعقلُ أن يكون الابنُ أكبر من الأب، أو مساويًا له في العمر.
مستمعي الأفاضل: ما سبق كان حديثًا عن شروط الشيء المدعى به، وهناك شروط يلزم توفرها في الدعوى نفسها، كي تصح ويمكن سماعها، ومنها:
• ألا تكون الدعوى مناقِضة لأمر سبَقَ صدوره من المدعي، ومثال ذلك: لو ادعى رجل أن هذا البيت وقفٌ عليه، ثم بعد مدة يسيرة ادَّعى أن البيت مِلْك له، وطالَب بتسْليمِه له، فهذه الدعوى لا تُقبل؛ لما فيها مِن تناقض، وحقيقة هذا التناقض أن المدعي كذَّب نفسه فيها.
• ومثال آخر: لو شهد زيد في دعوى أن هذه الدار ملك للمدعي خالد، ثم بعد مدة تقدَّم زيد مدعيًا أن الدار مِلْك له، فهذه الدعوى لا تُقبل؛ لكونها تُناقِض ما سبق صدوره من المدعي؛ إذ إن شهادته بأن الدار ملك لخالد إقرارٌ منه على نفسه بأن الدار ليستْ له، أما لو ادعى أن خالدًا باعه إياها بعد الدعوى السابقة، فهي دعوى صحيحة قابلة للنظر فيها.
• وشرط آخر للدعوى: وهو أن تكونَ الدعوى بتعبيرات جازمة وقاطعة ليس فيها تردد، فلو قال في دعواه: أشك أنَّ لي مبلغًا عند المدعى عليه، وأطلب إلزامه بتسليمي إياه، فهذه دعوى غير مقبولة.
ويستثنى من هذا الشرط دعاوى الاتهام (الدعاوى الجنائية)، فإنها تجوز بالألفاظ المترددة، فلو قال: أتهمه بسرقة سيارتي، وكان هناك قرائن تشهد لقوله، فإنها دعوى مقبولة؛ لأن دعوى الاتهام ترجع في أساسها للشك والظن.
مستمعي الأفاضل:
القضاء في الشريعة الإسلامية يرتكز على أُصُولٍ جامعة، وقواعد كلية، ومبادئ راسخة، تُسهم في تحصيل مصالح العباد، وحِفْظ حقوقهم، وتجلب لهم الأمن، وتنشر العدل في ربوع بلادِهم.
وإن استعراض هذه الأصول والقواعد والمبادئ يجلِّي لنا ما حظي به جانب القضاء في الشريعة الإسلامية من عنايةٍ واهتمام، كما يبرز لنا عناية الشريعة بحِفْظ الحقوق، وضبط الأمور، ومنع التعدِّي على الناس وحقوقهم.
كما أن في استعراضها تأصيلًا لنظرة النظام القضائي الإسلامي، وموقفه من طرفي الدعوى، وبيان حقهما.
ولنشرع في المبدأ الأول الذي ينبغي ألا يغيبَ عن بال المتخاصمين، ومَن يتعاطى في الشأن القضائي من باحثين وكتَّاب وإعلاميين.
وهذا المبدأ يقوم على أنَّ النظر القضائي يتَّجه إلى الظواهِر دون البواطِن.
إذ إنَّ القضاء في الإسلام يقَع وفق الإثبات المظهر للواقعة والحق أمام القاضي، فإذا كان الإثبات صحيحًا في الظاهر والباطن، ومطابقًا للواقع، وصادقًا في نفس الأمر، فإنه يؤثر في المدعى به ظاهرًا وباطنًا، فيحكم للمدعي بالشيء ظاهرًا، ويحل له أخذه، واستعماله، واستغلاله، وتملكه والاستفادة منه باطنًا فيما بينه وبين الله تعالى؛ أي: ينفذ الحكم في الدنيا والآخرة.
أما إذا كان الإثباتُ غير مطابق للواقع، وكان ظاهره يخالف باطنه، فإن حكم الحاكم المبني على الإثبات الحاصل أمامه لا يحل حلالًا، ولا يحرم حرامًا، ولا يغيِّر الشيء عما هو عليه في الواقع ونفس الأمر، وإنما ينفذ في الظاهر فقط عند مَن لا يعلم الحقيقة والباطن، وتترك البواطن لله تعالى، وترتبط بالحساب والعقاب الأخروي؛ لعموم حديث أم سلمة - رضي الله عنها - في الصحيحين: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم، فقال: ((إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق، فأقضي له بذلك، فمَن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو فليتركها))، وفي رواية: ((إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمَن قضيتُ له بحق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار))
قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم:
"وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما أنا بشر)) معناه: التنبيه على حالة البشرية، وأن البشر لا يعلمون من الغيب وبواطن الأمور شيئًا، إلا أن يطلعهم الله تعالى على شيء من ذلك، وأنه يجوز عليه في أمور الأحكام ما يجوز عليهم، وأنه إنما يحكم بين الناس بالظاهر، والله يتولى السرائر، فيحكم بالبينة وباليمين، ونحو ذلك من أحكام الظاهر، مع إمكان كونه في الباطن خلاف ذلك، ليكون حكم الأمة في ذلك حكمه، فأجرى الله تعالى أحكامه على الظاهر الذي يستوي فيه هو وغيره ليصح الاقتداء به، وتطيب نفوس العباد للانقياد للأحكام الظاهرة من غير نظر إلى الباطن، والله أعلم".
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري:
"لما كان - أي النبي - صلى الله عليه وسلم - مشرعًا، كان يحكم بما شرع للمكلفين ويعتمده الحكام بعده، والحاصل أنَّ هنا مقامين:
أحدهما: طريق الحكم، وهو الذي كلف المجتهد بالتبصر فيه، وبه يتعلق الخطأ والصواب، وفيه البحث، والآخر: ما يبطنه الخصم، ولا يطلع عليه إلا الله، ومن شاء من رسله، فلم يقع التكليف به".
وقد سارت الأنظمةُ القضائية في المملكة العربية السعودية على هذا المبدأ واعتمدته، ففي المادة الثمانين بعد المائة من نظام الإجراءات الجزائية ما نصه: "تعتمد المحكمة في حكمها على الأدلة المقدمة إليها في أثناء نظر القضية، ولا يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه ولا بما يخالف علمه"، ففي هذه المادة إفادة بأن القاضي يحكم استنادًا للأدلة المقدمة إليه، وما تنتجه من إنتاجات سليمة دون نظر إلى بواطن الأمور".
والخلاصة أيها الأكارم:
أن القاضي لا يعلم الغيب، وإنما له الظاهر من حال الخصمين وأقوالهما، ولذا لا لوم على القاضي إذا أصدر حكمه وفق ما أبرزه الخصمان من بينات وأقوال، ومن فرَّط في حفظ حقوقه وتوثيقها، ولم يوثقها ببينات قاطعة، فاللوم عليه لا على المحكمة فيما لو صدر الحكم لصالح خصمه.
كما أن في ذلك تنبيهًا لمن يظن أن صدور الحكم لصالحه كافٍ في الدلالة على أنه محق في الخصومة، وأن الشيء المحكوم به له حقٌ خالص لا شبهة فيه ولا حرمة؛ فحكم الحاكم لا يحلل حرامًا ولا يحرم حلالًا، وإنما يعلم الغيب الله تعالى، فمن حُكم له بحق أخيه فإنما هي قطعة من نار،وهل هناك عاقل يقبل أن يأكل قطعة نار؟!
أهم المراجع:
• نظرية الدعوى؛ لمحمد نعيم ياسين.
• المبادئ القضائية في الشريعة الإسلامية؛ للدكتور حسين آل الشيخ.
المبادئ والأصول القضائية (2)
بسم الله، والحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعدُ:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله - مستمعي الأفاضل - في برنامجكم: "فقه التقاضي"، وقد سبق الحديث في الحلقة الماضية عن الأصل الأول من الأصول الجامعة والقواعد الكلية والمبادئ الراسخة التي تجلي لنا ما حظي به جانب القضاء في الشريعة الإسلامية من عناية واهتمام، كما تبرز لنا عناية الشريعة بحفظ الحقوق، وضبط الأمور، ومنع التعدِّي على الناس وحقوقهم.
والأصل الثاني من هذه الأصول والمبادئ: قيام القضاء على الحجة والبرهان:
فالإثبات في القضاء الشرعي هو المعيار في تمييز الحق من الباطل، وهو الحاجز أمام الأقوال الكاذبة والدعوى الباطلة، وعلى هذا: فكلُّ ادِّعاء يبقى في نظر القضاء الشرعي محتاجًا إلى دليل ولا يؤخذ به إلا بالحجة والبرهان، يقول - جل وعلا -: ﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 111]، ويقول سبحانه: ﴿ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ [النور: 13]، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه))، وفي لفظ عند البيهقي: ((ولكن البينة على الطالب واليمين على المطلوب)).
ووجه الدلالة: أنه لا يقبل الادعاء بدون دليل، وإلا تطاول الناس على الأعراض، وطالبوا بأموال الآخرين، واعتدوا على الأنفس والأرواح والأموال.
وأهمية الإثبات عامة في جميع الحقوق والدعاوى سواء ما كان منها عامًّاأو خاصًّا، ماديًّاأو معنويًّا؛لذا عنيت الشريعة الإسلامية بتنظيم أحكام الإثبات ووسائله الموصلة إليه، وكيفيَّة التعامل معها بما لم يوجد في غيرها من النظم السابقة أو اللاحقة، من حيث تكاملها في ذاتها، وتميزُها عن غيرها.
ومن أهم خصائص الإثبات في القضاء الشرعي ما يلي:
الميزة الأولى: أن طرق الإثبات ليستْ محصورةً في نوع أو عدد معين،بل تشمل كل ما يمكن أن يثبت به الحق ويظهر به ويستبين.
يقول ابنُ القيِّم - رحمه الله -:
"وبالجملة، فالبينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره، ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد لم يوف مسماها حقه، ولم تأت البينة قط في القرآن مرادًا بها الشاهدان، وإنما أتت مرادًا بها الحجة والدليل والبرهان".
ويقول رحمه الله تعالى: "إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه".
الميزة الثانية: أن الشريعة حين قررت عدم حصر طرق الإثبات، فإنها لم تغفل المبدأ العام الذي تدور عليه أحكامها، وهو إقامة العدل بشتى أنواعه وصوره، ولذا لما كان القضاء أعظم أسباب تحقيق العدل، فإنَّ الشريعة الإسلامية قد ضبطت طرق الإثبات، ورسمت مساراتها؛ كي لا يُفتح الباب لقضاة الجور في العبث بحقوق الناس وبناء القضاء على أي دليل ولو كان واهيًا، ولم تعط القاضي الثقة المطلقة، وهو بشر يحتمل منه الميل والأغراض الخاصة والخطأ في الاستنتاج والاستنباط، لذا عنيت الشريعة الإسلامية بوسائل الإثبات وفق قواعد عامة وضوابط محددة لبيان قيمة كل دليل وكيفية تقديمه ليظهر الحق وتنكشف الواقعة، ومن ظواهر ذلك ما يلي:
1- أنه يشترط في البينة استنادها إلى العلم وغلبة الظن،فإن استندتْ إلى شك أو وهم فلا عبرة به؛ قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [الزخرف: 86]، والظن الغالب يقوم مقام اليقين؛ لأنَّ الشريعة تقوم أحكامها على الظنِّ الغالب خاصة في الاجتهاد والقضاء وإنصاف المظلومين وتحقيق العدالة لاستحالة الوُصُول إلى القطع واليقين دائمًا.
2- منع الإسلام القاضي أن يقضي بعِلمه، وهو المختار عند كثيرٍ من فقهاء الإسلام، وفي ذلك تفصيل يرد ذكره لاحقًا- بإذن الله تعالى.
3- أن القاضي مكلَّف بتطبيق الأحكام الشرعية والأصول العامَّة على المسائل الجُزئيَّة التفصيلية الخاصة بالبينات في كلِّ دليلٍ يعرض عليه، وهو مُقيَّد بتلك الأحكام، ومع ذلك فعليه أن يؤدي دورًا إيجابيًّا فيما يعرض عليه منَ التأكُّد والاستيثاق من كل دليل؛ وقد ذكر الفقهاء من أمثلة ذلك: أن يسأل القاضي الشهود ويناقشهم فيما يظهر به الحق خاصة عند التهمة والشك، فيسألهم عن مصدر الشهادة وطريق العلم بها وكيفية تحمُّلها وصفة المشهود به والمشهود له وعليه، وله تفريق الشهود.
وله أيضًا أن يستنبط الأمارات والقرائن من جميع الأدلة المقدمة إليه والوقائع المعروضة عليه؛ لتتكون القناعة التامة بالحكم المبني على ما قدم إليه.
4- تحديد عدد الشهود الذين يثبت الحق بشهادتهم، فأحيانًا يثبت الحق بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، كما في الأموال ونحوها، وأحيانًا يثبت شهادة النساء كما في الأمور التي لا يطلع عليها إلا النساء، وأحيانًا لا بد مِن أربعة شهود كما في حدِّ الزِّنا.
وكل ذلك للاحتياط وشدة التثبُّت صونًا للحقوق، وحفظًا للضروريات الخمس، ومنعًا للدعاوى الباطلة والأقوال المزعومة؛ ليصل القضاء إلى الحقِّ والعدل اللذين تهدف إليهما الشريعة.
وقد راعتْ أنظمة المرافعات الشرعيَّة في المملكة العربية السعودية هذه الخصائص والشروط، ومن ذلك ما جاء في المادة السابعة والتسعين من نظام المرافعات: "يجب أن تكون الوقائع المراد إثباتها أثناء المرافعة متعلقة بالدعوى منتجة فيها جائزًا قبولها"، وفي المادة التاسعة عشر بعد المائة: "تسمع شهادة كل شاهد على انفراد بحضور الخصوم، وبدون حضور باقي الشهود الذين لم تسمع شهادتهم على أن تخلُّفهم لا يمنع من سماعها، وعلى الشاهد أن يذكر اسمه الكامل، وسنه، ومهنته، ومحل إقامته، وجهة اتِّصاله بالخصوم بالقرابة أو الاستخدام أو غيرها إن كان له اتصال بهم مع التحقق عن هويته".
وفي المادة الحادية عشرة بعد المائة: "يجب أن يكونَ أداء اليمين في مُواجهة طالبها إلا إذا قرر تنازله عن حضور أدائها، أو تخلف دون عذر مقبول مع علمه بالجلسة"، وفي المادة الحادية والعشرين بعد المائة: "للقاضي مِن تلقاء نفسه أو بناء على طلب أحد الخصوم أن يُوَجِّه للشاهد ما يراه من الأسئلة في كشف الحقيقة، وعلى القاضي في ذلك إجابة طلب الخصم إلا إذا كان السؤال غير منتج"، وفي المادة الخامسة والخمسين بعد المائة: "يجوز للقاضي أن يستنتجَ قرينة أو أكثر من وقائع الدعوى أو مناقشة الخصوم أو الشهود لتكون مستندًا لحكمه أو ليكمل بها دليلًا ناقصًا ثبت لديه ليكون بهما معًا اقتناعه بثبوت الحق لإصدار الحكم".
كما تبرز تلك الخصائص في عددٍ مِن مواد نظام الإجراءات الجزائيَّة:
1- جاء في المادة الثانية والستين بعد المائة: (إذا اعترف المتهم في أي وقت بالتهمة المنسوبة إليه، فعلى المحكمة أن تسمع أقواله تفصيلًا وتناقشه فيها، فإذا اطمأنت إلى أن الاعتراف صحيح، ورأت أنه لا حاجة إلى أدلة أخرى، فعليها أن تكتفي بذلك وتفصل في القضية، وعليها أن تستكمل التحقيق إذا وجدت لذلك داعيًا).
2- جاء في المادة الثالثة والستين بعد المائة: "لكل من طرفي الدعوى مناقشة شهود الطرف الآخر وأدلته".
3- جاء في المادة الثامنة والستين بعد المائة: "إذا كان الشاهد صغيرًا، أو كان فيه ما يمنع من قبول شهادته فلا تعد أقواله شهادة، ولكن للمحكمة إذا وجدت أن في سماعها فائدة أن تسمعها، وإذا كان الشاهد مصابًا بمرض، أو بعاهة جسمية مما يجعل تفاهم القاضي معه غير ممكن فيستعان بمن يستطاع التفاهم معه، ولا يعد ذلك شهادة".
مستمعي الأفاضل، نُواصل الحديث في حلقتنا القادمة - بإذن الله تعالى - عن المبادئ والأصول في التقاضي، سائلين الله تعالى للجميع العلم النافع والعمل الصالح.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
 
برنامج فقه التقاضي الحلقة الخامسة عشرة المبادئ والأصول القضائية (3)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعدُ:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله - مستمعي الأفاضل - في برنامجكم: "فقه التقاضي"، وقد سبق الحديث في الحلقات الماضية عن اثنين من الأصول الجامعة والقواعد الكلية، التي تجلي لنا ما حظي به جانب القضاء في الشريعة الإسلامية من عناية واهتمام، كما تبرز لنا عناية الشريعة بحفظ الحقوق، وضبط الأمور، ومنع التعدي على الناس وحقوقهم.
ونواصل الحديث في هذه الحلقة بذكر الأصل الثالث من هذه الأصول والمبادئ:
وهو مبدأ المساواة والعدالة في القضاء الشرعي:
فمن الأصول المقرَّرة في الشريعة الإسلامية أن التشريع لله - سبحانه وتعالى - بما ورد في كتابه الكريم، وبما ورد عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - والناس مهما علتْ مقاماتهم، أو سَمَت منازلهم، فهم أمام شرع الله متساوون، لا امتياز لأحد على أحد بسبب الأصل أو الجنس أو اللون أو الدين.
وهذا مقتضى ما تدل عليه عمومات الشريعة المحكمة من تقرير قاعدة العدل المطلق الشامل؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ﴾ [النحل: 90]، وقال سبحانه: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8]، وفي السُّنَّة أحاديثُ كثيرةٌ تنصُّ على وُجُوب العدل في جميع الأمور، ومنها ما هو في خصوص القضاء، ومن ذلك ما رواه بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذى في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار))؛ أخرجه أبو داود وابن ماجه وغيرهما.
وفي رسالة عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري قاضيه على الكوفة يقول: "آس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييئس ضعيف من عدلك"،
قال ابن القيم: "وهذا كتاب جليل تلقَّاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تعقله والتفقه فيه".
وإليكم مستمعي الأفاضل صورًا تبرز مظاهر المساواة أمام القضاء الإسلامي:
1- فمن ذلك حادثة المرأة من بني مخزوم التي سرقت حليًّا وقطيفة، فبعث قومها أسامة بن زيد بن حارثة ليشفع فيها، فرده الرسول - صلى الله عليه وسلم - قائلًا: ((يا أسامة، أتشفع في حد من حدود الله؟ وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها))؛ أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
2- وأنفذ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حد شرب المسكر في قدامة بن مظعون الجمحي، وكان صهر عمر بن الخطاب على أخته، وكان أميرًا على البحرين.
3- وفي حادثة جبلة بن الأيهم الذي داس على ردائه أعرابي وهو يطوف حول الكعبة، فكبر ذلك عليه وهو أمير في قومه، فلطم الأعرابيَّ المسلمُ، فشكا الأعرابي إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقضى بلَطْم الأمير على الملأ.
والناظر في القواعِد والمسائل التي قررها فقهاء الإسلام في نظر القاضي للخصومات يجدها منطلقة من قاعدة تحقيق المساواة، وأن على القاضي أن يكون حياديًّا، فلا ينحاز لأحد دون أحد، وأن يعتبر طرفي الخصومة على قدَم المساواة، وأن يتجرَّد عنْ كل مصلحة له أو علاقة مع أحدهما؛ ولذا وجب على القاضي أن يُساوي بين الخصوم في مجلس القضاء في كل شيء، بالجلوس والسلام والنظر والمخاطبة، ويمنع القاضي من النظر في دعوى أقاربه، ممن لا تقبل شهادته لهم، ويحرم على القاضي مسارة أحد الخصمين دون الآخر، أو تلقينه حجته، أو تعليمه كيف يدعي، إلا أن يترك ما يلزمه ذكره في الدعوى؛ ليتضح للقاضي تحرير الدعوى، ويحرم على القاضي أن يقبل الهدية ممن لم يكن يهديه قبل ولايته، أو ممن كانت له حكومة مطلقًا؛ لأن قبولها ممن لم تجرِ عادته بمهاداته ذريعة إلى قضاء حاجته فيقوم عنده شهوة لقضاء حاجته.
وإذا تقرر لنا هذا المبدأ كقاعدة من قواعد القضاء في الإسلام، فإن نظام القضاء في المملكة العربية السعودية وهو الذي يعتمد الشريعة الإسلامية مصدرًا وعمدة، نجد أن نظام المرافعات الشرعية فيه يعتبر مبدأ المساواة بين الخصوم مبدأ أساسًا تجب مُراعاته تحقيقًا للعدالة.
فقد نصَّت المادةُ التسعون على ما يلي: "يكون القاضي ممنوعًا من نظر الدعوى وسماعها ولو لم يطلب ذلك أحد الخصوم في الأحوال الآتية:
أ- إذا كان زوجًا لأحد الخصوم، أو كان قريبًا، أو صهرًا إلى الدرجة الرابعة.
ب- إذا كان له أو لزوجته خصومة قائمة مع أحد الخصوم في الدعوى أو مع زوجته.
ج- إذا كان وكيلًا لأحد الخصوم، أو وصيًّا، أو قيمًا عليه، أو مظنونة وراثته له، أو كان زوجًا لوصي أحد الخصوم أو القيم عليه، أو كانت له صلة قرابة أو مصاهرة إلى الدرجة الرابعة بهذا الوصي أو القيم.
د- إذا كان له أو لزوجته أو لأحد أقاربه أو أصهاره على عمود النسب أو لمن يكون هو وكيلًا عنه، أو وصيًّا أو قيمًا عليه - مصلحة في الدعوى القائمة".
كما نصت المادة الثانية والتسعون على ما يلي: "يجوز رد القاضي لأحد الأسباب الآتية:
أ- إذا كان له أو لزوجته دعوى مُماثلة للدعوى التي ينظرها.
ب- إذا كان له أو لزوجته خُصُومة مع أحد الخصوم، أو مع زوجته بعد قيام الدعوى المنظورة أمام القاضي، ما لم تكنْ هذه الدعوى قد أُقيمتْ بقصد رده عن نظر الدعوى المنظورة أمامه.
ج- إذا كان أحد الخصوم خادمًا له، أو كان القاضي قد اعتاد مؤاكلة أحد الخصوم أو ساكنته، أو كان قد تلقَّى منه هدية قبل رفع الدعوى أو بعده.
د- إذا كان بينه وبين أحد الخصوم عَداوة أو مودَّة يرجح معها عدم استطاعته الحكم بدون تحيز.
وفي المادة الستين بعد المائة: "لا يجوز للمحكمة أثناء المداولة أن تسمع توضيحات من أحد الخصوم إلا بحضور الخصم الآخر".
وقد أخذ بهذا المبدأ أيضًا نظام الإجراءات الجزائية، ومن ذلك ما جاء في المادة السابعة والأربعين بعد المائة: "يكون القاضي ممنوعًا من نظر الدعوى إذا كانت الجريمة قد وقعت عليه في غير أوقات انعقاد الجلسات".
وفي المادة الثمانين بعد المائة ما نصه: "تعتمد المحكمة في حكمها على الأدلة المقدمة إليها في أثناء نظر القضية، ولا يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه ولا بما يخالف علمه".
الحديث عن المبادئ والأصول التي تراعيها الشريعة الإسلامية في التقاضي حديث جميل لا يُمل؛ إذ إنه حديث يبرز لنا سمو هذه الشريعة ومكانتها ورعايتها للحقوق، وهي دعوة صادقة للرجوع إلى هذا الينبوع الثري الذي لا ينضب.
وفي حلقتنا القادمة نواصل الحديث - بإذن الله تعالى - عن هذه المبادئ والأسس التي قام عليها النظام القضائي الإسلامي، سائلين الله تعالى للجميع العلم النافع والعمل الصالح.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
 
برنامج فقه التقاضي الحلقة السادسة عشرة المبادئ والأصول القضائية (4)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصَحبه، ومَن اهتدى بهداه.
أما بعدُ:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيَّاكم الله مُستمعي الأفاضل في برنامجكم "فقه التقاضي"، وقد سبَق الحديث في الحلقات الماضية عن ثلاثة من الأصول الجامعة والقواعد الكليَّة، التي تُجلِّي لنا ما حَظِي به جانب القضاء في الشريعة الإسلاميَّة من عناية واهتمامٍ، كما تُبرز لنا عناية الشريعة بحِفظ الحقوق وضَبْط الأمور ومَنْع التعدي على الناس وحقوقهم.
ونواصل الحديث في هذه الحلقة بذِكر الأصل الرابع من هذه الأصول والمبادئ:
وهو مبدأ وَحْدة المصدر في القضاء الإسلامي:
فالمرجع في نظر جميع القضايا والمخاصمات إلى أحكام الشريعة الإسلامية؛ فهي الأصل والأساس المُعتمَد في جميع أحكام القضاء، وليس ثَمَّة سلطان ذو هيمنة على القضاء والقُضاة، إلاَّ لحكم الشرع المُطهَّر؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾ [المائدة: 49]، وقال - جلَّ شأنه -: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
والمُعتمد في الحكم والقضاء بين الناس، كتاب الله تعالى، ثم سُنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ما أجمَع عليه العلماء، وإن لَم يَرِد في شيءٍ منها حكمٌ لنازلة أو واقعة، فإن القاضي يَجتهد في المسألة، وينظر في الأحكام السابقة له، مما هو مماثلٌ للقضية المعروضة عليه، ويَقيسها على أشباهها ونحو ذلك؛ فعن عبدالرحمن بن يزيد، قال: أكْثَروا على عبدالله [بن مسعود] ذات يومٍ، فقال عبدالله: "إِنه قد أتى علينا زمانٌ ولسنا نقضي، ولَسْنا هُنالك، ثم إِنَّ الله - عز وجل - قَدَّرَ علينا أَنْ بَلغنا ما تَرون، فمَن عرَض له منكم قضاءٌ بعد اليوم، فليَقضِ بما في كتاب الله، فإن جاءَه أمرٌ ليس في كتاب الله، فَلْيَقْضِ بما قضى به نبيُّه - صلى الله عليه وسلم - فإن جاءَ أَمْرٌ ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيُّه، فَلْيَقْضِ بما قضى به الصالحون، فإِن جاءَه أمرٌ ليس في كتاب الله، ولا قضى به نبيُّه - صلى الله عليه وسلم - ولا قضى به الصالحون، فليَجتهد رأيَه، ولا يَقُلْ: إني أخاف، فإن الحلال بَيِّين، والحرام بيِّين، وبين ذلك أمور مُتشابِهات، فَدَعْ ما يَرِيبُك إلى ما لا يَريبُك"؛ أخرجه النسائي، وقال: هذا الحديث جيِّد.
قال ابن عبدالبر - رحمه الله تعالى - في هذا الأثر: "جامع بيان العلم وفضله" (2 / 123): "هذا يوضِّح لك أنَّ الاجتهاد لا يكون إلاَّ على أصول يُضاف إليها التحليل والتحريم، وأنه لا يَجتهد إلاَّ عالِم بها، ومَن أشكَل عليه شيءٌ، لَزِمه الوقوف، ولَم يَجز له أن يُحيل على الله قولاً في دينه لا نظيرَ له من أصلٍ، ولا هو في معنى أصلٍ، وهو الذي لا خلاف فيه بين أئمَّة الأمصار - قديمًا وحديثًا - فتدبَّره".
وكَتَب شريح القاضي إِلى عمر يسأله، فكتب إليه: "أن اقْضِ بما في كتاب الله، فإن لَم يكن في كتاب الله، فبسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لَم يكن في كتاب الله تعالى، ولا في سنَّة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فاقْضِ بما قضى به الصالحون، فإن لَم [يكن في كتاب الله تعالى، ولا في سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولَم] يقضِ به الصالحون، فإن شِئْت فتَقَدَّمْ، وإن شِئْتَ فتأخَّر، ولا أَرى التأخُّر إلاَّ خيرًا لك، والسلام"؛ أخرَجه النسائي.
ومن فضْل الله تعالى على بلاد الحرمين الشريفين المملكة العربية السعودية، أن جعَلت التحاكم إلى الشريعة الإسلامية وأحكامها، ففي المادة الأولى من النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية: "المملكة العربية السعودية، دولة إسلامية، ذات سيادة تامَّة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله تعالى وسُنة رسوله - صلى الله عليه وسلم".
وفي المادة السابعة منه:
"يَستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سُلطته من كتاب الله تعالى، وسنَّة رسوله، وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة".
وفي المادة الثامنة والأربعين منه - أي: النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية - أيضًا:
"تُطبِّق المحاكم على القضايا المعروضة أمامها أحكامَ الشريعة الإسلامية، وَفقًا لِما دلَّ عليه الكتاب والسُّنة، وما يُصدره وَلِيُّ الأمر من أنظمة لا تتعارض مع الكتاب والسُّنة".
كما نصَّ على ذلك نظام المرافعات الشرعية في المملكة العربية السعودية في المادة الأولى؛ حيث جاء فيها: "تُطبِّق المحاكم على القضايا المعروضة أمامها أحكامَ الشريعة الإسلامية، وَفقًا لِما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وما يُصدره وَلِيُّ الأمر من أنظمة لا تتعارض مع الكتاب والسنة".
وقد ورَدت هذه المادة بنصها في نظام الإجراءات الجزائية في المادة الأولى منه.
وأمَّا الأصل والمبدأ الخامس من الأصول والمبادئ والقواعد الكلية التي تُجلِّي لنا ما حَظِي به جانب القضاء في الشريعة الإسلامية من عناية واهتمام، فهو:
المبدأ الخامس: مبدأ استقلال القضاء في الإسلام:
إذ يُعد استقلال القضاء ركيزة أساسية لحياده وبُعده عن المؤثرات المُخِلة بمسيرته، وبقدر ما تكون العناية بترسيخ هذا المبدأ وتطبيقه، تتحقَّق غايته المقصودة منه، وهي إقامة العدل والقسط بين الناس في سائر الحكومات والخصومات؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58].
وقد شَهِد تاريخ الأمة الإسلامية شواهدَ كثيرة، تَحاكَم فيها أمراء وذَوُو سلطة وجاهٍ مع أناس من عامة الناس، وربما حُكِم على الأمير والوجيه وصاحب السلطة، ويَكفينا من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وايْم الله، لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرَقت، لقَطَعت يدها))؛ أخرجه البخاري، ومسلم.
هذا وقد نصَّت الأنظمة في المملكة العربية السعودية على تقرير مبدأ استقلال القضاء، ومن ذلك
ما جاء في المادة السادسة والأربعين من النظام الأساسي للحكم:
"القضاء سُلطة مستقلة، ولا سلطان على القضاة في قضائهم لغير سلطان الشريعة الإسلامية".
وجاء في المادة الأولى من نظام القضاء ما نصُّه:
"القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية، وليس لأحدٍ التدخُّل في القضاء"
 
ونصَّت المادة الحادية والخمسون من هذا النظام أيضًا:
على أنه "لا يجوز الجمعُ بين وظيفة القضاء ومُزاولة التجارة، أو أي وظيفة، أو عمل لا يتَّفق مع استقلال القضاء وكرامته، ويجوز للمجلس الأعلى للقضاء أن يقرِّر مَنْع القاضي من مباشرة أيِّ عملٍ يرى أنَّ القيام به يتعارض مع واجبات الوظيفة وحُسن أدائها".
وهذا يُفيد تقرير مبدأ إبعاد القاضي عن كلِّ ما لا يتَّفق مع استقلال القضاء، ومع إعزازه والحفاظ على حِياده.
وفي المادة الرابعة من نظام المُرافعات:
"لا تجوز مخاصمة القاضي، إلاَّ وَفْق الشروط والقواعد الخاصة بتأديبهم"، وهي إشارة واضحة إلى تقرير مبدأ استقلال القاضي.
الحديث عن المبادئ والأصول التي تُراعيها الشريعة الإسلامية في التقاضي، حديثٌ جميل، لا يُمَلُّ؛ إذ إنه حديث يُبرز لنا سموَّ هذه الشريعة ومكانتها، ورعايتها للحقوق، وهي دعوة صادقة للرجوع إلى هذا الينبوع الثري الذي لا يَنضب.
وفي حلقتنا القادمة نواصل الحديث - بإذن الله تعالى - عن هذه المبادئ والأُسس التي قام عليها النظام القضائي الإسلامي، سائلين الله تعالى للجميع العلمَ النافع، والعمل الصالح.
والله تعالى أعلم، وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمدٍ.
المرجع:
المبادئ القضائية في الشريعة الإسلامية؛ للدكتور حسين آل الشيخ، كتب الحديث وشروحه.
برنامج فقه التقاضي الحلقة السابعة عشرة المبادئ والأصول القضائية (5)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعدُ:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله - مستمعي الأفاضل - في برنامجكم: "فقه التقاضي"، وقد سبق الحديث في الحلقات الماضية عن خمسة من المبادئ الرئيسة والأصول الجامعة والقواعد الكلية، التي تجلي لنا ما حظي به جانب القضاء في الشريعة الإسلامية من عناية واهتمام، كما تبرز لنا عناية الشريعة بحفظ الحقوق، وضبط الأمور، ومنع التعدِّي على الناس وحقوقهم.
ونواصل الحديث في هذه الحلقة بذكر الأصل السادس من هذه الأصول والمبادئ:
المبدأ السادس: مبدأ تسبيب الأحكام القضائية.
المراد بتسبيب الحكم القضائي: "ذكر القاضي ما بنى عليه حكمه القضائي من الأحكام الكلية وأدلتها الشرعية، وذكر الوقائع القضائية المؤثرة، وصفة ثبوتها بطرق الحكم المعتد بها"، ذكر ذلك فضيلة شيخنا عبدالله بن محمد آل خنين - وفقه الله تعالى.
وبيان الحكم بالدليل والتعليل مبدأ جارٍ في التشريع القضائي في الإسلام، وهي طريقة القرآن الكريم والسنة المطهرة في بيان الأحكام، وبيان عللها المؤثرة، وأوصافها المعتبرة، فكثيرًا ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّل للأحكام التي يحكم بها، فقد قضى - صلى الله عليه وسلم - بحضانة ابنة حمزة لخالتها، وقال: ((الخالة بمنزلة الأم))، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى -: "وفيه منَ الفوائد أنَّ الحاكم يُبَيِّن دليل الحكم للخَصْم".
من ذلك ما في الصحيحَيْن مِن نداء مُنادي النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس)).
وفي الصحيحين قوله - صلى الله عليه وسلم - في الثمرة تصيبها الجائحة: ((أرأيت إن منع الله الثمرة، بم تستحل مال أخيك؟)).
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "والمقصود: أنَّ الشارع مع كون قوله حجة بنفسه، يرشد الأمة إلى عِلَل الأحكام ومداركها وحكمها، فورثته من بعده كذلك"، ولهذا فالراجحُ من قولي أهل العلم أنه يجب على القاضي ذكر مستنده في ضبط الحكم، وذكر الواقعة المؤثرة، وكيفية ثبوتها في جميع الأحكام من المعاملات والجنايات وغيرها.
وأمَّا إذا كان الحكمُ الكلي ظاهرًا مُشتهرًا، فلا يلزم ذكر مُستنده.
وفي ذكر سبب الحكم من الفوائد ما يلي:
1- أن فيه بيانًا لحدود أثر الحكم وحجته، فالحكم المبني على البينة يختلف عن الحكم المبني على الإقرار من حيث الآثار.
2- أن التسبيب أطيب لنفس المحكوم عليه، ليعلم أن القاضي إنما قضى عليه بعد الفهم عنه، ويدفع عن القاضي الريبة، وتهمة الميل إلى أحد الخصوم.
3- أن التسبيب يحمل القاضي على الاجتهاد، وبذْل الوسْعِ في تقرير الأحكام للوقائع القضائية.
4- تمكين الخصم المحكوم عليه مِن الطعن في الحكم، وما بني عليه عند الاعتراض على الحكم وعدم القناعة به.
5- تمكين المحكمة المختصة بتدقيق الحكم مِن دراسة أحكام القضاة وتدقيقها، فيسهل عليها أداء مُهمتها في مُراجعة الحكم وتمييزه.
مستمعي الأفاضل، هذا المبدأ أصلٌ مقرَّر في الأنظِمة القضائيَّة في المملكة العربية السعودية.
ومن ذلك ما ورد في المادة الثانية والستين بعد المائة من نظام المرافعات الشرعية:
(بعد قفل باب المرافَعة والانتهاء إلى الحكم في القضية، يجب تدوينه في ضبط المرافعة، مَسْبوقًا بالأسباب التي بُني عليه، ثم يوقع عليه القاضي أو القضاة الذين اشتركوا في نظر القضية).
وفي المادة الثالثة والستين بعد المائة:
(ينطق بالحكم في جلسة علنية بتلاوة منطوقة أو بتلاوة منطوقة مع أسبابه... إلخ).
وذكر المستند مطلوب في الحكم الابتدائي، ومطلوب أيضًا من المحكمة التي تتولَّى تدقيق الحكم، ففي المادة الثامنة والثمانين بعد المائة مِن نظام المرافعات ما نصه:
(على المحكمة التمييز في حال اقتناعها بإجابة القاضي عن ملحوظاتها أن تصدق الحكم، وفي حال عدم إقناعها، وتمسك القاضي برأيه، فلها أن تنقض الحكم كله أو بعضه بحسب المال مع ذكر المستند).
كما أنَّ هذا المبدأ منْصُوص عليه في نظام الإجراءات الجزائيَّة، ففي المادَّة الثانية والثمانين بعد المائة منه ما نصه:
(يتلى الحكم في جلسة علنية، ولو كانت الدعوى نُظرت في جلسات سرية، وذلك بحضور أطراف الدعوى، ويجب أن يكون القضاة الذين اشتركوا في الحكم قد وقَّعوا عليه، ولا بد مِن حضورهم جميعًا وقت تلاوته ما لم يحدثْ لأحدهم مانعٌ مِن الحضور، ويجب أن يكونَ الحكم مُشتملًا على اسم المحكمة التي أصدرته، وتاريخ إصداره، وأسماء القضاة، وأسماء الخصوم، والجريمة موضوع الدعوى، وملخص لما قدمه الخصوم من طلبات، أو دفاع، وما استند عليه من الأدلة والحجج، ومراحل الدعوى، ثم أسباب الحكم ونصه ومستنده الشرعي، وهل صدر بالإجماع، أو بالأغلبية).
مستمعي الأفاضل
الحديث عن المبادئ والأصول التي تراعيها الشريعة الإسلامية في التقاضي حديث جميل لا يُملّ؛ إذ إنه حديث يبرز لنا سمو هذه الشريعة ومكانتها ورعايتها للحقوق، وهي دعوة صادقة للرُّجوع إلى هذا الينبوع الثري الذي لا ينضب.
وفي حلقتنا القادمة نواصل الحديث - بإذن الله تعالى - عن هذه المبادئ والأسس التي أكد عليها النظامُ القضائي الإسلامي، سائلين الله تعالى للجميع العلم النافع، والعمل الصالح.
 
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد.
المرجع:
• المبادئ القضائية في الشريعة الإسلامية؛ للدكتور حسين آل الشيخ.
• التسبيب للشيخ عبدالله آل خنين.
• كتب الحديث وشروحه.
برنامج فقه التقاضي الحلقة الثامنة عشرة المبادئ والأصول القضائية (6)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعدُ:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله - مستمعي الأفاضل - في برنامجكم: "فقه التقاضي"، وقد سبق الحديث في الحلقات الماضية عن ستة من المبادئ الرئيسة والأصول الجامعة والقواعد الكلية التي تجلّي لنا ما حظي به جانب القضاء في الشريعة الإسلامية من عناية واهتمام، كما تبرز لنا عناية الشريعة بحِفْظ الحقوق، وضبط الأمور، ومنع التعدي على الناس وحقوقهم.
ونواصل الحديث في هذه الحلقة بذكر الأصل السابع من هذه الأصول والمباد:
المبدأ السابع: مبدأ سرعة البت في فصل القضاء في المنازعات:
من المبادئ التي يرتكز عليها القضاء في الإسلام: سرعة الفصل في النزاع، وعدم جواز التأخير بلا مسوغ شرعي، فمن الأسس المقررة في القضاء الشرعي ضرورة الإسراع في البت والحكم في القضية المعروضة، وعدم التأخر في إصدار الحكم، إلا لمبرر يدعو للتأخير، ويكون فيه مصلحة معتبرة.
وهذا هو الذي كان عليه القضاء في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يقضي بين الخصوم في مجلس المخاصمة، ولم يكن يرجئهم إلى وقت آخر؛ كما قضى بين الزبير والأنصاري في ماء شراج الحرة، ففي الصحيحين أن رجلًا من الأنصار خاصم الزبير - رضي الله عنه - عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شراج الحرة التي يسقون بها النخل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للزبير: ((اسق يا زبير، ثم أرسل إلى جارك))، وكما قضى بين كعب بن مالك وعبد الله بن أبي حدرد بالصلح بينهما بالنصف في دين، ففي الصحيحين عن كعب بن مالك - رضي الله عنه - أنه كان له مال على عبدالله بن أبى حدرد الأسلمى، فلقيه فلزمه فتكلما حتى ارتفعت أصواتهما، فمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا كعب))، فأشار بيده كأنه يقول النصف فأخذ نصفًا مما عليه وترك نصفًا.
فتأمل معي - رعاك الله - كيف بادر - عليه الصلاة والسلام - بالفصل في الخصومة وأنصف طرفي الخصومة.
وهكذا كان القضاء في عهد خلفائه الراشدين - رضي الله عنهم - فقد جاء في رسالة عمر - رضي الله عنه - إلى معاوية - رضي الله عنه - وهو أمير بالشام: "أما بعد، فإني كتبت إليك في القضاء بكتاب لم آلك فيه ونفسي خيرًا، فالزم خصالًا يسلم دينك، وتأخذ بأفضل حظك عليك، إذا حضر الخصمان فالبينة العدول، والأيمان القاطعة، أدن الضعيف حتى يجترئ وينبسط لسانه، وتعاهد الغريب فإنه إن طال حبسُه ترك حقه، وانطلق إلى أهله، وإنما أبطل حقه من لم يرفع به رأسًا، واحرص على الصلح بين الناس ما لم يستبن لك القضاء".
والتأخير في إصدار الأحكام بعد توافر أسبابها، وانتفاء موانعها، يترتب عليه كثير من المفاسد وضياع الحقوق، فكم من إنسان ترك حقه خوفًا من إهدار وقته وماله في التقاضي ومتابعة خصمه، كما أن تأخير البت في القضية إعانة للظالم على ظلمه، وتأخيرًا في إيصال الحق لمستحقه، وربما اتهم القاضي بأن له غرضًا سيئًا في تأخير الفصل في القضية، كما أن في ذلك توهينًا لجانب القضاء وهيبته في النفوس.
مستمعي الأفاضل:
سرعة البت في القضايا مشروط بشرط أساس، وهو أن يكون ذلك بعد دراسة القضية دراسة عميقة واعية، ناشئة عن الفهم الشرعي للقضية، أما إذا لم يستوف فيها ما يجب استيفاؤه من طرق بيان الحق، فإن الإسراع بالفصل بين الخصمين حينئذٍ ليس محمودًا.
بل يجب على القاضي أن يراقب أحوال الخصوم عند الإدلاء بالحجج ودعوى الحقوق، وعلى القاضي التمعُّن في الفحص والبحث عن حقيقة ما توهم فيه، فإن من الناس اليوم من كثرت مخادعتهم، واتهمت أمانتهم، ويحسن أن يتقدم القاضي للخصمين بالموعظة والتخويف بالله تعالى إن رأى لذلك وجهًا.
قال الموفق ابن قدامة في المغنى:
"وإذا اتصلت به الحادثة واستنارت الحجة لأحد الخصمين حكم، وإن كان فيها لبس أمرهما بالصلح، فإن أبيا أخرهما إلى البيان، فإن عجَّلَها قبل البيان لم يصح حكمه".
وهناك حالات يجوز فيها تأخير الحكم لمصلحة معتبرة؛ ومنها: تأخير الحكم رجاء الصُّلح بين الخصمين: فالصلح مطلب شرعي، وغرَض ديني، أمر الله به في مواطن كثيرة، وأخبر أن الخير في الصلح؛ قال الله تعالى: ﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ [النساء: 128]، وأرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمور عامة وفي المنازعات خاصة، أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواريث بينهما قد درست، ليس بينهما بينةٌ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنكم تختصمون إليَّ، وإنما أنا بشرٌ، ولعل بعضكم ألحن بحجته أو قد قال: لحجته من بعضٍ، فإني أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعةً من النار يأتي بها إسطامًا في عنقه يوم القيامة، فبكى الرجلان وقال كل واحدٍ منهما حقي لأخي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أما إذ قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما، ثم ليحلل كل واحدٍ منكما صاحبه)).
ويتأكد طلب الصلح وعرضُه في موضعين:
الموضع الأول: إذا كانت المنازعات بين قرابة، أو بين أهل فضل.
فإذا خشي القاضي تفاقُم الأمر بين الخصمين، أو كانا من أهل الفضل أو بينهما، رحم أمرهما بالصلح"، والمستند ما جاء عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "ردوا الخصوم لعلهم أن يصلحوا، فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن"، وفي لفظ آخر: "ردوا الخصوم إذا كانت بينهم قرابة، فإن فصل القضاء يورث بينهم الشنآن".
الموضع الثاني: إذا التبست على القاضي الأمور وأشكلت عليه القضية.
فإذا كان في القضية لبس، أو كانت الدعوى في أمور درست وتقادمت وتشابهت، فإن القاضي يحاول في الصلح، فإن أبى المتخاصمان الصلح، فلا يعجل في الحكم، بل يؤخرهما حتى تتبين الأمور وتتضح الدعوى ومآخذها للقاضي.
وقد قال بعض العلماء:
"إن القاضي لا يزيد في عرض الصلح على مرة أو مرتين، فإذا اصطلحا وإلا قضى بينهما بما يوجب الشرع".
وقد اشترط العلماء في أمر القاضي بالصلح ألا يتبين له وجه الحكم، فعلى هذا فمتى تبين له الظالم من المظلوم لم يسعه إلا فصل القضاء.
وللحديث في هذا المبدأ الهام من مبادئ القضاء الإسلامي بقية، أعرض لها في الحلقة القادمة - بإذن الله تعالى - مع التعريج على ما تضمنته الأنظمة القضائية في المملكة العربية السعودية من مراعاة لهذا المبدأ.
والله تعالى أسأل للجميع العلم النافع والعمل الصالح، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
 
برنامج فقه التقاضي الحلقة التاسعة عشرة المبادئ والأصول القضائية (7)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعدُ
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله - مستمعي الأفاضل - في برنامجكم: "فقه التقاضي"، وقد سبق الحديث في الحلقات الماضية عن سبعة من المبادئ الرئيسة والأصول الجامعة والقواعد الكلية التي تجلّي لنا ما حظي به جانب القضاء في الشريعة الإسلامية من عناية واهتمام، وكنا قد توقفنا عند المبدأ السابع: وهو مبدأ سرعة البت، وفصل القضاء في المنازعات، وأنه لا يجوز التأخير إلا بمسوغٍ شرعي، وأن هناك حالات يجوز فيها تأخير الحكم لمصلحة معتبرة؛ ومنها: تأخير الحكم رجاء الصلح بين الخصمين، وأنه يتأكد طلب الصلح، وعرضُه في موضعين:
الموضع الأول: إذا كانت المنازعات بين قرابة، أو بين أهل فضل.
والموضع الثاني: إذا التبست الأمور على القاضي، وأشكلت عليه القضية.
غير أن هذا التأخير لا يجوز أن يطول وقته.
وقد قال بعض العلماء: "إن القاضي لا يزيد في عرض الصلح على مرة أو مرتين، فإذا اصطلح الطرفان؛ وإلا قضى بينهما بما يوجب الشرع".
كما اشترط العلماء في أمر القاضي بالصلح ألا يتبيَّن له وجه الحكم، فعلى هذا فمتى تبين له الظالم من المظلوم لم يسعه إلا فصل القضاء.
قال الموفق ابن قدامة في المغني:
"قال أبو عبيد: إنما يسعه الصلح في الأمور المشكلة، أما إذا استنارت الحجة لأحد الخصمين، وتبيَّن له موضع الظالم، فليس له أن يحملهما على الصلح، ونحوه قول عطاء، واستحسنه ابن المنذر، وروي عن شريح أنه ما أصلح بين متحاكمين إلا مرة واحدة".
قال ابن القيم - رحمه الله -:
"والصلح العادل هو الذي أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: ﴿ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ ﴾ [الحجرات: 9]، والصلح الجائر هو الظلم بعينه، وكثير منَ الناس لا يعتمد العدْلَ في الصلح، بل يصلح صلحًا ظالمًا جائرًا، فيصالح بين الغريمين على دون الطفيف من حق أحدهما، والنبي - صلى الله عليه وسلم - صالح بين كعب وغريمه وصالح أعدلَ الصلح، فأمره أن يأخذ الشطر ويدع الشطر، وكذلك أرشد الخصمين اللذين كانت بينهما المواريث بأن يتوخيا الحق بحسب الإمكان، ثم يحلل كل منهما صاحبه، وكثير من الظلمة المصلحين يصلح بين القادر الظالم والخصم الضعيف المظلوم بما يرضى به القادر صاحب الجاه، ويكون له فيه الحظ، ويكون الإغماض والحيف فيه على الضعيف، ويظن أنه قد أصلح، ولا يمكن المظلوم من أخذ حقِّه، وهذا ظلم، بل يمكن المظلوم من استيفاء حقِّه، ثم يطلب إليه برضاه أن يتركَ بعض حقه".
مستمعي الأفاضل، وأما الحالة الثانية التي يجوز فيها تأخير الحكم، فهي إمهال مُدَّعي البينة الغائبة؛ لما جاء في رسالة عمر - رضي الله عنه -: "ومَن ادَّعى حقًّا غائبًا أو بينة فاضرب له أمدًا ينتهي إليه، فإن جاء ببينة أعطيته بحقه، فإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية، فإن ذلك أبلغ في العذر وأجلى للعمى".
وذلك لأن القاضي لا يصل إلى الحكم الصحيح إلا بعد توافر أدلة الدعوى، فإذا كانت هذه الأدلة غائبة عن مجلس الحكم، أو عن البلد، كأن يكون بعض الشهود مسافرًا، فمقتضى العدل والإنصاف أن يُنظر مدعي هذه البينة مدة من الزمن كافية لإحضار بينته وأدلة دعواه، يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "هذا من تمام العدل، فإن المدعي قد تكون حجته أو بينته غائبة، فلو عجل عليه بالحكم بطل حقُّه، فإذا سأل أمدًا تحضر فيه حجته أجيب إليه ولا يتقيد ذلك بثلاثة أيام، بل بحسب الحاجة، فإن ظهر عناده ومدافعته للحكم لم يَضْرب له أمدًا، بل يفصل الحكومة، فإن ضَرْب هذا الأمد إنما كان لتمام العدل، فإذا كان فيه إبطال للعدل لم يُجَب إليه الخصم".
وقد راعى نظام القضاء في المملكة العربية السعودية هذا المبدأ وحرص عليه، ولذا فسرعة البت في القضايا أمر ملموس وواقع مشاهَد في المملكة العربية السعودية، بالمقارنة مع كثير من الدول.
وقد نصت المادة الثامنة والخمسون بعد المائة من نظام المرافعات الشرعية على مقتضى هذا المبدأ حيث نصت على أنه: (متى تمت المُرافعة في الدعوى، قضت المحكمة فيها فورًا أو أجلت إصدار الحُكم إلى جلسة أُخرى قريبة تُحدِّدها، مع إفهام الخصوم بقفل باب المُرافعة وميعاد النُطق بالحُكم).
وجاء في اللائحة التنفيذية لهذه المادة:
"إذا حدد القاضي مَوْعدًا للنطق بالحكم، ثم ظهر له ما يقتضي تقديم الجلسة أو تأخيرها فله ذلك، مع إعلان الخصوم به حسب إجراءات التبليغ، وتدوين ذلك في الضبط".
وعن الحالة الثانية من حالتي جواز تأخير الحكم تنصُّ المادة الثانية والعشرون بعد المائة من نظام المرافعات الشرعية على ما يلي:
 
(إذا طلب أحد الخصوم إمهاله لإحضار شهودِه الغائبين عن مجلس الحكم، فيمهل أقل مدة كافية في نظر المحكمة، فإذا لم يحضرهم في الجلسة المعينة أو أحضر منهم مَن لم توصل شهادته، أمهل مرة أخرى مع إنذاره؛ باعتباره عاجزًا إن لم يحضرهم، فإذا لم يحضرهم في الجلسة الثالثة، أو أحضر منهم من لم توصل شهادته، فللمحكمة أن تفصل في الخصومة، فإذا كان له عذر في عدم إحضار شهوده كغيبتهم أو جهله محل إقامتهم، كان له حق إقامة الدعوى متى حضروا).
وجاء في اللائحة التنفيذية لهذه المادة:
"إذا قرر الخصمُ عدم قدرته على إحضار الشهود، أو طلب مهلة طويلة عرفًا تضر بخصمه، فللقاضي الفصل في الخصومة ويفهمه بأن له حق إقامة دعواه بسماع شهوده متى أحضرهم، وعلى القاضي ناظر القضية أو خلفه أن يبني على ما سبق ضبطه".
مستمعي الأفاضل:
الحديث عن المبادئ والأصول التي تراعيها الشريعة الإسلامية في التقاضي حديث جميل لا يُمل؛ إذ إنه حديث يبرز لنا سموَّ هذه الشريعة ومكانتها ورعايتها للحقوق، وهي دعوة صادِقة للرجوع إلى هذا الينبوع الثري الذي لا ينضَب.
وفي حلقتنا القادمة نواصل الحديث - بإذن الله تعالى - عن هذه المبادئ والأسس التي بُني عليها النظامُ القضائي الإسلامي، وعليها سارت الأنظمة القضائيَّة في المملكة العربية السعوديَّة حرسها الله تعالى، وأدام توفيقها، وزادها رفعة وتمكينًا بتحكيم شرع الله تعالى.
سائلين الله تعالى للجميع العلم النافع والعمل الصالح.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
إعلام الموقعين - (1 / 108).
برنامج فقه التقاضي الحلقة العشرون المبادئ والأصول القضائية (8)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعدُ:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله - مستمعي الأفاضل - في برنامجكم: "فقه التقاضي"، وقد سبق الحديث في الحلقات الماضية عن سبعة من المبادئ الرئيسة والأصول الجامعة والقواعد الكلية التي تجلّي لنا ما حظي به جانب القضاء في الشريعة الإسلامية من عناية واهتمام.
وفي هذه الحلقة أعرض لكم - مستمعي الأفاضل - المبدأ الثامن مُعَرِّجًا على تطبيقاته في الأنظمة القضائية في المملكة العربية السعودية، ومن الله تعالى العون والتوفيق.
المبدأ الثامن: مبدأ السهولة والتيسير في الإجراءات القضائية:
فمن الأصول العظيمة التي قام عليها دين الإسلام: مبدأ اليُسر والسماحة، واليُسر وصف رئيس، ومَعْلَمٌ بارز للشريعة الإسلامية قال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، وقال سبحانه: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، وقال سبحانه: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [المائدة: 6]، وقوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا))، وفي مسند أحمد بن حنبل قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة)).
قال الإمام الشاطبي في الموافقات (1 / 520): "الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع".
 
ويندرج في هذا المبدأ العام والأصل الأصيل في الشريعة الإسلامية أحكامُ المرافعات في القضاء الإسلامي، فقد بني على التيسير في إجراءاته والتسهيل في طرقه، بما يوصل إلى مقصوده الأصلي، وهو: إحقاق الحق وإنصاف المظلوم ورد الحقوق إلى أهلها، ولهذا كانت طرق المرافعات في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وصدر عهد الخلفاء الراشدين سهلة ميسـرة، ولكن مع طول العهد واجتراء بعض الناس على الحقوق، وابتكارهم حيلًا شتى، وظهور شهادة الزور، واستباحة بعض الخصوم النكاية بخصومهم وتحيلهم على القضاة، لذا أخذ العلماء يحتاطون في وسائل الخصومات والتعامل مع الخصوم رغبةً في تحقيق الحق وتمحيص البينات.
قال محمد بن عبد الحكم حول مسالة الشهادة على الخط:
"لا نقضي في دهرنا بالشهادة على الخط؛ لأن الناس قد أحدثوا ضروبًا من الفجور، وقد قال مالك: إن الناس تحدث لهم أقضية على نحو ما أحدثوا من الفجور، وقد كان الناس فيما مضى يجيزون الشهادة على خاتم القاضى، ثم رأى مالك أن ذلك لا يجوز".
ولذا ذكر العلماء في أحكام القضاء كثيرًا من الضوابط التي تضبط سير إجراءات التقاضي مما يحفظ الحقوق، ويمنع ذوي البهتان من انتهاك الحقوق.
وقد جرى نظام القضاء في المملكة العربية السعودية على هذا المبدأ، مبدأ السماحة والتيسير في إجراءات التقاضي والمرافعات قدر الإمكان.
 
والمتأمل في نظامي المرافعات الشرعية والإجراءات الجزائية، يلحظ التيسير والتسهيل في إجراءات التقاضي والبُعد عن التعقيد في موادَّ كثيرة في هذين النظامين.
وإليكم نماذج منها:
• جاء المادة السابعة والثلاثين: (يكون للمدعي بالنفقة الخيار في إقامة دعواه في المحكمة التي يقع في نطاق اختصاصها محل إقامة المدعى عليه أو المدعي).
• وفي المادة الخامسة والأربعين: (إذا حضر المدعي والمدعى عليه أمام المحكمة من تلقاء نفسيهما - ولو كانت الدعوى خارج اختصاصها المكاني - وطلبا سماع خصومتهما، فتسمع المحكمة الدعوى في الحال إن أمكن، وإلا حددت لها جلسة أخرى).
• وفي المادة السادسة والأربعين: (إذا عينت المحكمة جلسة لشخصين متداعيين، ثم حضرا في غير الوقت المعين، وطلبا النظر في خصومتهما، فعليها أن تجيب هذا الطلب إن أمكن).
• وفي المادة الثانية والستين: (تكون المرافعة شفوية، على أن ذلك لا يمنع من تقديم الأقوال أو الدفوع في مذكرات مكتوبة تتبادل صورها بين الخصوم).
• وفي المادة السابعة والستين: (للخصوم أن يطلبوا من المحكمة في أي حال تكون عليها الدعوى تدوين ما اتفقوا عليه من إقرار أو صلح أو غير ذلك في محضر المحاكمة، وعلى المحكمة إصدار صك بذلك).
ومؤدى ذلك: أنه في حال اتفاق المتخاصمين على صلح بينهما، فإن لهما طلب إثبات ذلك في ضبط القضية فورًا، وتصدر المحكمة صكًّا بذلك، وفي ذلك تيسير وحث على الصلح.
• وجاء في المادة الخامسة والسبعين: (للخصم أن يطلب من المحكمة أن تدخل في الدعوى من كان يصح اختصامه فيها عند رفعها).
• وفي المادة السادسة والسبعين: (للمحكمة من تلقاء نفسها أن تأمر بإدخال من ترى دخاله)، ثم عددت المادة صورًا يسوغ فيها إدخال خصم آخر في القضية المنظورة، له علاقة مؤثرة فيها، وفي ذلك تيسير على المتخاصمين وتعجيل في التوصل إلى الحكم.
• وفي المادة السابعة والسبعين: (يجوز لكل ذي مصلحة أن يتدخل في الدعوى منضمًّا لأحد الخصوم، أو طالبًا الحكم لنفسه بطلب مرتبط بالدعوى).
• وفي المادة الثامنة والتسعين: (إذا كانت بينة أحد الخصوم في مكان خارج عن نطاق اختصاص المحكمة، فعليها أن تستخلفَ القاضي الذي يقع ذلك المكان في نطاق اختصاصه لسماع تلك البينة).
• وفي المادة الثانية بعد المائة من نظام المرافعات: (إذا كان للخصم عُذر مقبول يمنعه من الحضور بنفسه لاستجوابه ينتقل القاضي أو يندب مَن يثق به إلى محل إقامته لاستجوابه، وإذا كان المستجوب خارج نطاق اختصاص المحكمة، فيستخلف القاضي في استجوابه محكمة محل إقامته)
• وفي المادة العاشرة بعد المائة: (إذا كان لمن وجهت إليه اليمين عذر يمنعه عن الحضور لأدائها فينتقل القاضي لتحليفه، أو تندب المحكمة أحد قضاتها أو الملازمين القضائيين فيها، فإذا كان من وجهت إليه اليمين يقيم خارج نطاق اختصاص المحكمة، فلها أن تستخلف في تحليفه محكمة محل إقامته).
كما أخذ نظام الإجراءات الجزائية بهذا المبدأ، أعني مبدأ السهولة والتيسير في الإجراءات القضائية ويبدو ذلك في جملة من مواده، منها:
• جاء في المادة السابعة والثلاثين بعد المائة ما نصه: (يبلغ الخصوم بالحضور أمام المحكمة المختصة قبل انعقاد الجلسة بوقت كافٍ، ويجوز إحضار المتهم المقبوض عليه متلبسًا بالجريمة إلى المحكمة فورًا وبغير ميعاد، فإذا حضر المتهم وطلب إعطاءه مهلة لإعداد دفاعه، فعلى المحكمة أن تمنحه مهلة كافية).
• جاء في المادة الأربعين بعد المائة ما نصه: (يجب على المتهم في الجرائم الكبيرة أن يحضر بنفسه أمام المحكمة مع عدم الإخلال بحقه في الاستعانة بمن يدافع عنه، أما في الجرائم الأخرى فيجوز له أن ينيب عنه وكيلًا أو محاميًا لتقديم دفاعه، وللمحكمة في كل الأحوال أن تأمر بحضوره شخصيًّا أمامها).
• وفي المادة الثالثة والسبعين بعد المائة ما نصه: (لكل من الخصوم أن يقدم إلى المحكمة ما لديه مما يتعلق بالقضية مكتوبًا، ليضم إلى ملف القضية).
كانت هذه إطلالة موجزة حول عناية الشريعة الإسلامية بمبدأ التيسير والتسهيل في إجراءات التقاضي، وفي حلقتنا القادمة نواصل الحديث - بإذن الله تعالى - عن المبادئ والأسس التي بُني عليها النظام القضائي الإسلامي، وعليها سارت الأنظمة القضائية في المملكة العربية السعودية حرسها الله تعالى، وأدام توفيقها، وزادها رفعة وتمكينًا بتحكيم شرع الله تعالى.
سائلين الله تعالى للجميع العلم النافع والعمل الصالح.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
شرح صحيح البخارى؛ لابن بطال (8 / 232).
 
برنامج فقه التقاضي الحلقة الحادية والعشرون المبادئ والأصول القضائية (9)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبيِّنا محمد وعلى آله وصَحبه، ومَن اهتَدى بهداه.
أمَّا بعدُ
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيَّاكم الله مستمعي الأفاضل في برنامجكم "فقه التقاضي"، وقد سبَق الحديث في الحلقات الماضية عن ثمانية من المبادئ الرئيسة والأصول الجامعة والقواعد الكلية، التي تُجلِّي لنا ما حَظِي به جانب القضاء في الشريعة الإسلامية من عناية واهتمامٍ.
وفي هذه الحلقة أعرضُ لكم مستمعي الأفاضل المبدأ التاسع، مُعرِّجًا على تطبيقاته في الأنظمة القضائية في المملكة العربية السعودية، ومن الله تعالى العون والتوفيق.
الأصل التاسع: تدوين المُرافعة.
والمراد بتدوين المرافعة: كتابة مرافعة الخَصمين من الدعوى والإجابة والبيِّنات، والأيمان والنكول، وجميع المناقشات والإفادات المتعلقة بها، وكتابة الحكم وأسبابه في محضر الحُكم.
ومن فوائد تدوين المرافعة وما يتعلَّق بها:
1- حِفظ حقِّ الخصمين؛ فربما أقرَّ الخَصم بحقٍّ عليه مُشافهة، ثم يُنكر ذلك في جلسة أخرى، وأمَّا مع تدوين إقراره ومصادقته عليه، فلا مجال للإنكار بعد ذلك.
2- إعطاء القاضي مجالاً رحبًا لمراجعة أقوال الخصوم ودراستها ومقارنتها.
3- حفظ الوثائق التي يُدلي بها الخصوم، فإذا أبرزَ الخصم سندًا له علاقة بالخصومة، فإن القاضي يُدوِّنه بنصه، إن كان له علاقة مباشرة بالقضيَّة، وأمَّا إن كانت العلاقة ضعيفة، أو كان في السند تفصيلات لا علاقة لها بالقضيَّة، فإن القاضي يُدوِّن خلاصته في ضَبْط القضيَّة.
وقد تأصَّل تدوين المرافعات في القضاء منذ فجر الإسلام، وأصلُ ذلك الكتاب الذي كتبَه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لَمَّا صالَح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الحُديبية، ويؤكِّد ذلك قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾ [البقرة: 282].
وقد ذُكِر أنَّ أوَّل مَن دوَّن الخصومات والأقضية القاضي سليم بن عتر التجيبي، قاضي مصر من قِبَل معاوية؛ قال الذهبي في سِيَر أعلام النبلاء (4 / 132): "وعن ابن حُجيرة، قال: اخْتُصِمَ إلى سُليم بن عِتر في ميراث، فقضى بين الوَرثة، ثم تناكَروا فعادُوا إليه، فقضى بينهم، وكتَب كتابًا بقضائه، وأشْهَد فيه شيوخ الجُند، فكان أوَّل مَن سجَّل بقضائه".
ولَم يَختلف العلماء في مشروعية تدوين المرافعات والأقضية والأحكام، واتخاذ المحاضر والسِّجلات، وإعداد الدواوين.
وقد أخَذ نظام المرافعات الشرعية في المملكة العربية السعودية بهذا المبدأ، وأُلْزِم به في مواضع كثيرة؛ لأهميَّته في حِفظ الحقوق وضَبْطها، ويتَّضح ذلك من نصوص المواد التالية:
• جاء في المادة الثانية والستين: "تكون المُرافعة شفويَّة، على أن ذلك لا يَمنع من تقديم الأقوال أو الدفوع في مُذكرات مكتوبة، تُتبادل صورها بين الخصوم، ويُحفَظ أصلها في ملف القضيَّة مع الإشارة إليها في الضَّبط، وعلى المحكمة أن تُعطي الخصوم المُهَل المُناسبة للاطلاع على المُستندات والردِّ عليها، كُلما اقتضَت الحال ذلك".
• وفي المادة السابعة والستين: "للخصوم أن يَطلبوا من المحكمة - في أيِّ حال تكون عليها الدعوى - تدوين ما اتَّفقوا عليه من إقرارٍ، أو صُلحٍ، أو غير ذلك في محضر المُحاكمة، وعلى المحكمة إصدار صكٍّ بذلك".
• وفي المادة الثامنة والستين: "يقوم كاتب الضبط - تحت إشراف القاضي - بتدوين وقائع المرافعة في دفتر الضَّبط، ويَذكر تاريخ وساعة افتتاح كلِّ مرافعة، وساعة اختتامها، واسم القاضي، وأسماء المتخاصمين، أو وُكلائهم، ثم يُوقِّع عليه القاضي وكاتب الضبط، ومَن ذُكِرت أسماؤهم فيه، فإن امتنَع أحدهم عن التوقيع، أثبَت القاضي ذلك في ضَبط الجلسة".
• وفي المادة الثانية والستين بعد المائة ما نصُّه: "بعد قَفل باب المرافعة والانتهاء إلى الحكم في القضيَّة، يجب تدوينه في ضَبْط المرافعة، مسبوقًا بالأسباب التي بُنِي عليها، ثم يوقِّع عليه القاضي أو القضاة الذين اشتركوا في نظر القضيَّة".
• وفي المادة الرابعة والستين بعد المائة: "بعد الحكم تُصدر المحكمة إعلامًا حاويًا لخلاصة الدعوى والجواب، والدفوع الصحيحة، وشهادة الشهود بلفظها وتزكيتها، وتحليف الأيمان، وأسماء القضاة الذين اشتركوا في الحكم، واسم المحكمة التي نظَرت الدعوى أمامها، وأسباب الحكم ورَقْمه وتاريخه، مع حذف الحشو والجُمل المُكررة التي لا تأثير لها في الحكم".
كما أنَّ نظام الإجراءات الجزائية قد أخَذ بهذا المبدأ المُقرَّر؛ حيث أوجَب هذا النظام تدوينَ ما يَجري في جلسة المحكمة في محضر يتمُّ تحريره من قِبَل كاتب يحضر جلسات المحكمة، فقد جاء في المادة السادسة والخمسين بعد المائة ما نصُّه: "يجب أن يحضـرَ جلسات المحكمة كاتب يتولَّى تحرير محضر الجلسة تحت إشراف رئيس الجلسة، ويُبيِّن في المحضر اسم القاضي أو القضاة المكوِّنين لهيئة المحكمة والمدَّعي العام، ومكان انعقاد الجلسة، ووقت انعقادها، وأسماء الخصوم الحاضرين، والمُدافعين عنهم، وأقوالهم وطلباتهم، ومُلخص مُرافعاتهم، والأدلة من شهادة وغيرها، وجميع الإجراءات التي تتمُّ في الجلسة، ومنطوق الحكم ومستنده، ويُوقِّع رئيس الجلسة والقضاة المشاركون معه والكاتب على كلِّ صفحة".
ويُلزم النظام المحكمة بأن تَذكر في ضبط القضية مُبررَ العدول عن إجراء اتَّخذته من إجراءات الإثبات؛ لأهميَّة ذلك في ضبط مسار القضية، والتأكيد على مُراعاة العدالة ومُقتضيات الأمانة.
جاء في المادة التاسعة والتسعين: "للمحكمة أن تَعدِل عمَّا أمرَت به من إجراءات الإثبات، بشرط أن تُبيِّن أسباب العدول في دفتر الضَّبط، ويَجوز لها ألاَّ تأخُذ بنتيجة الإجراء، بشرط أن تُبيِّن أسباب ذلك في حُكمها".
ولأهميَّة اليمين في الخصومات، ورَد التأكيد على تدوينها وضَبْطها، ففي المادة العاشرة بعد المائة: "إذا كان لِمَن وُجِّهَت إليه اليمين عُذرٌ يَمنعُه عن الحضور لأدائها، فيَنتقِل القاضي لتحليفه، أو تَندُب المحكمة أحدَ قُضاتها، أو المُلازمين القضائيين فيها، فإذا كان مَن وُجِّهت إليه اليمين يُقيم خارج نطاق اختِصاص المحكمة، فلها أن تَستخلِف في تحليفه مَحكمة محلِّ إقامته، وفي كلا الحالين يُحرَّر محضر بحِلف اليمين، يُوقعُه الحالِف والقاضي المُستحلِف أو المندوب، والكاتِب، ومَن حضَر من الخصوم".
وكما يُلزم النظام المحكمة بضَبْط المرافعة ووقائع الخصومة، فإنه يلزم بتدوين نصِّ الحكم في ضبط القضية؛ لأنه ثمرة القضية ونهاية الخصومة.
ففي المادة الثانية والستين بعد المائة:
"بعد قفل المُرافعة والانتهاء إلى الحُكم في القضيَّة، يجب تدوينه في ضبط المُرافعة، مسبوقًا بالأسباب التي بُني عليها، ثم يُوقِّع عليه القاضي أو القُضاة الذين اشتركوا في نظر القضيَّة".
وفي المادة الرابعة والستين بعد المائة:
"بعد الحُكم تُصدِر المحكمة إعلامًا حاويًا لخُلاصة الدعوى والجواب والدفوع الصحيحة، وشهادة الشهود بلفظِها وتزكيتِها، وتحليف الإيمان، وأسماء القُضاة الذين اشتركوا في الحُكم، واسم المحكمة التي نُظِرت الدعوى أمامها، وأسباب الحُكم، ورَقْمه وتاريخه، مع حذف الحشو والجُمل المُكرَّرة التي لا تأثيرَ لها في الحُكم".
مستمعي الأفاضل:
كانت هذه إطلالة موجزة حول عناية القضاء بالتدوين وضَبْط الوقائع، وفي حلقتنا القادمة نواصل الحديث - بإذن الله تعالى - عن المبادئ والأُسس التي بُني عليها النظام القضائي الإسلامي، وعليها سارَت الأنظمة القضائية في المملكة العربية السعودية - حرَسها الله تعالى، وأدامَ توفيقَها، وزادها رِفعة وتمكينًا بتحكيم شَرْع الله تعالى.
سائلين الله تعالى للجميع العلمَ النافع، والعمل الصالح.
والله تعالى أعلم، وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمدٍ.
برنامج فقه التقاضيالحلقة الثانية والعشرون
المبادئ والأصول القضائية (10)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصَحْبه، ومَن اهتدى بهداه.
أمَّا بعدُ:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيَّاكم الله مستمعي الأفاضل في برنامجكم "فقه التقاضي"، وقد سبَق الحديث في الحلقات الماضية عن تسعة من المبادئ الرئيسة والأصول الجامعة، والقواعد الكلية التي تُجلِّي لنا ما حَظِي به جانب القضاء في الشريعة الإسلاميَّة من عناية واهتمامٍ.
وفي هذه الحلقة أعرضُ لكم مستمعي الأفاضل المبدأَ العاشر، مُعرِّجًا على تطبيقاته في الأنظمة القضائيَّة في المملكة العربية السعودية، ومن الله تعالى العون والتوفيق.
الأصل العاشر: مبدأ سلطة القاضي التقديريَّة في إجراءات النظر في القضايا المعروضة عليه:
وذلك أنَّ القاضي يُعمل فِكره ونظره في الوقائع المعروضة عليه، ويَجتهد في إلحاقها بنظائرها، وتحقيق المناط فيها، والوقائع لا تَنتهي ولا يُمكن حَصْرها، ولا غِنى للقاضي عن بَذْل جُهده في القضية؛ سَعيًا للتوصُّل إلى الحكم الملائم المُنصِف.
وهدف القضاء: تحقيق العدالة وإنصاف المظلوم، وإثبات الحقوق لأهلها.
والقاضي بحُكم تأهيله وولايته، يَجتهد في نظر القضيَّة بحثًا عن الحق، ورُبَّما كان لدى الخصوم شيء من اللَّدَد والجِدال، أو كان لديهم بيِّنات متعارضة، أو أقوال متناقضة؛ ولذا كان للقاضي مجال رَحبٌ في البحث في البيِّنات والقرائن التي يَلحظها في نظر القضيَّة، وله التوصُّل إلى الحكم بالطرق المُمكنة، ما دامت لا تُخالف نصًّا شرعيًّا.
وحين قرَّر ابن القيِّم - رحمه الله تعالى - أنَّ الحاكم يَحكم بالفراسة والقرائن، التي يَظهر له فيها الحق، وأنَّ له الاستدلال بالأَمَارات، ولا يَقف مع مجرَّد ظواهر البيِّنات والأحوال؛ قال ما نصُّه: "فهذه مسألة كبيرة عظيمة النَّفع، جليلة القَدر، إنْ أهمَلها الحاكم أو الوالي، أضاعَ حقًّا كثيرًا، وأقامَ باطلاً كبيرًا، وإن توسَّع وجعَل مُعَوِّلَه عليها دون الأوضاع الشرعيَّة، وقَع في أنواع من الظُّلم والفساد، والحاكم إذا لَم يكن فَقيهَ النفس في الأَمَارات ودلائل الحال، ومعرفة شواهده، وفي القرائن الحاليَّة والمقاليَّة - كفَقْهه في جزئيَّات وكليَّات الأحكام - أضاعَ حقوقًا كثيرة على أصحابها، وحَكَم بما يعلم الناس بُطلانه، ومَن له ذوقٌ في الشريعة، واطِّلاع على كمالاتها وتضمُّنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، ومَجيئها بغاية العدل الذي يَسَع الخلائق، وأنه لا عدلَ فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمَّنته من المصالح - تبيَّن له أنَّ السياسة العادلة جزءٌ من أجزائها، وفرْعٌ من فروعها، وأنَّ مَن له معرفة بمقاصدها ووَضْعها، وحَسُن فَهْمه فيها - لَم يَحتج معها إلى سياسة غيرها البتَّةَ".
وقال - رحمه الله تعالى - في "الطرق الحكمية" (1 / 34):
"ولَم يَزَل حُذَّاق الحُكَّام والوُلاة، يستخرجون الحقوق بالفراسة والأَمَارات، فإذا ظهَرت لَم يُقدِّموا عليها شهادة تُخالفها، ولا إقرارًا، وقد صرَّح الفقهاء كلُّهم بأنَّ الحاكم إذا ارتابَ بالشهود، فرَّقهم وسألَهم كيف تَحَمَّلوا الشهادة؟ وأين تَحَمَّلوها؟ وذلك واجب عليه متى عدَل عنه، أَثِم وجارَ في الحكم، وكذلك إذا ارتابَ بالدعوى سأل المدَّعي عن سبب الحق، وأين كان؟ ونظَر في الحال، هل يقتضي صحة ذلك؟ وكذلك إذا ارتابَ بمَن القول قوله - كالأمين والمدَّعى عليه - وجَب عليه أن يَستكشف الحال، ويسألَ عن القرائن التي تدلُّ على صورة الحال، وقلَّ حاكمٌ أو والٍ اعتَنى بذلك، وصار له فيه مَلَكة، إلاَّ وعرَف المُحِقَّ من المُبطِل، وأوصَل الحقوق إلى أهلها".
ثم ساق - رحمه الله تعالى - جُملة من الشواهد لقُضاة السلف، ممن أعمَلوا فِكرهم ونظَرهم، ولَم يَقفوا عند ظواهر الأمور، ومن ذلك أنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جاءَته امرأة فشكَرَت عنده زوجَها، وقالت: هو من خيار أهل الدنيا، يقومُ الليل حتى الصباح، ويصوم النهار حتى يُمسي، ثم أدرَكها الحياء، فقال: جزاك الله خيرًا، فقد أحْسَنتِ الثناء، فلمَّا وَلَّتْ، قال كعب بن سور: يا أمير المؤمنين، لقد أبْلَغت في الشكوى إليك، فقال وما اشْتَكت؟ قال: زوجها، قال: عليّ بهما، فقال لكعب: اقضِ بينهما، قال: أقضي وأنت شاهد؟! قال: إنَّك قد فَطِنتَ إلى ما لَم أَفْطَن له، قال: إنَّ الله تعالى يقول: ﴿ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ﴾ [النساء: 3]
صُمْ ثلاثة أيام، وأفْطِر عندها يومًا، وقُم ثلاثَ ليالٍ، وبِتْ عندها ليلة، فقال عمر: هذا أعجبُ إليّ من الأوَّل، فبَعَثه قاضيًا لأهل البصرة، فكان يقع له في الحكومة من الفراسة أمورٌ عجيبة. وكذلك ما أُثِر عن شُريح القاضي من فَراسته وفِطنته، وقَصصه في ذلك كثيرة.
والمقصود أيها المستمعون الأفاضل، أن القاضي لا يقف عند ظواهر الأمور خلال نظر القضيَّة، بل يتأنَّى ويتحرَّى الحقَّ قَدْر جُهده.
وقد أخَذ النظام القضائي في المملكة العربية السعودية بهذا المبدأ والأصل المهم في نظام المُرافعات الشرعيَّة، وجعَل للقاضي سلطة واسعة، ودَورًا إيجابيًّا في تسيير إجراءات التقاضي.
فقد جعَل له النظام الحقَّ في مراقبة أعوانه ومُراقبة أعمال الخصوم، وجعَل له الحقَّ في إدخال مَن يرى اختصامه ضروريًّا لحُسن سَيْر العدالة، ممن ليس داخلاً في الدعوى أصلاً، بل أعطى القاضي سُلطة تقديريَّة في تقدير عمليَّة الإثبات.
وفيما يلي إشارة إلى بعض النصوص والمواد المتعلقة بهذا المبدأ في نظام المُرافعات الشرعيَّة:
• جاء في المادة الرابعة: "لا يُقبل أيُّ طلبٍ أو دَفْعٍ، لا تكون لصاحبه فيه مصلحة قائمة مشروعة، ومع ذلك تَكفي المصلحة المُحتملة، إذا كان الغرض من الطلب الاحتياط لدَفع ضررٍ مُحَدِّق، أو الاستيثاق لحقٍّ يُخشى زوال دليله عند النزاع فيه، وإذا ظهَر للقاضي أنَّ الدعوى صوريَّة، كان عليه رَفْضها، وله الحكم على المدَّعي بنكالٍ".
• وفي المادة الثالثة عشرة: "لا يَجوز إجراء أيِّ تبليغٍ أو تنفيذ في محلِّ الإقامة قبل شروق الشمس ولا بعد غروبها، ولا في أيام العُطَل الرسميَّة، إلاَّ في حالات الضرورة، وبإذنٍ كتابيٍّ من القاضي".
• وفي المادة الحادية والخمسين: "إذا ظهَر للمحكمة من أحد الوُكلاء كثرةُ الاستهمالات بحُجَّة سؤال مُوكِّله بقَصْد المُماطلة، فلها حقُّ طلب المُوكِّل بالذات؛ لإتمام المُرافعة".
• وفي المادة الحادية والستين: "تكون المرافعة علنيَّة، إلاَّ إذا رأى القاضي - من تلقاء نفسه، أو بناءً على طلب أحد الخصوم - إجراءَها سرًّا؛ محافظة على النظام، أو مراعاة للآداب العامَّة، أو لحُرمة الأسرة".
• وفي المادة الخامسة والستين: "إذا دفَع أحد الطرفين بدَفْعٍ صحيحٍ، وطلَب الجواب من الطرف الآخر، فاستَمْهَل لأجْله، فللقاضي إمهالُه متى رأى ضرورة ذلك، على أنه لا يجوز تَكرار المُهلة لجواب واحدٍ، إلاَّ لعُذرٍ شرعي يَقبله القاضي".
• وفي المادة الثالثة والثمانين: "إذا رأَت المحكمة تعليقَ حُكمها في موضوع الدعوى على الفصل في مسألة أخرى يتوقَّف عليها الحُكم، فتأمُر بوقف الدعوى، وبمجرَّد زوال سبب التوقُّف، يكون للخصوم طلب السَّير في الدعوى".
• وفي المادة الحادية والأربعين بعد المائة: "إذا أنكَر - مَن نُسِب إليه مضمون ما في الورقة - خطَّه أو إمضاءَه، أو بصمته أو خَتْمه، أو أنكَر ذلك خلفُه أو نائبُه، وكانت الورقة مُنتجة في النزاع، ولَم تَكفِ وقائعُ الدعوى ومُستنداتها لاقتناع المحكمة بمدى صحة الخطِّ أو الإمضاء - فللمحكمة إجراء المقارنة تحت إشرافها بوساطة خبيرٍ أو أكثر، تُسمِّيهم في قرار المقارنة".
كما أُخِذ بهذا المبدأ في نظام الإجراءات الجزائيَّة، ويَبرز ذلك في مواد كثيرة فيه؛ منها:
• جاء في المادة الثالثة والأربعين بعد المائة ما نصُّه: "ضَبْط الجلسة وإدارتها مَنوطان برئيسها، وله في سبيل ذلك أن يُخرِجَ من قاعة الجلسة مَن يُخِلُّ بنظامها، فإن لَم يَمتثل، كان للمحكمة أن تَحكم على الفور بسَجنه مدَّة لا تزيد على أربع وعشرين ساعة، ويكون حُكمها نهائيًّا، وللمحكمة إلى ما قبل انتهاء الجلسة أن ترجعَ عن ذلك الحكم".
• وفي المادة الخامسة والخمسين بعد المائة ما نصُّه: "جلسات المحاكم علنيَّة، ويجوز للمحكمة - استثناءً - أن تَنظر الدعوى كلَّها أو بعضها في جلسات سريَّة، أو تَمنع فئات معيَّنة من الحضور فيها؛ مراعاة للأمْن، أو محافظة على الآداب العامَّة، أو إذا كان ذلك ضروريًّا لظهور الحقيقة".
والشواهد كثيرة في نظامَي المُرافعات الشرعية والإجراءات الجزائيَّة، التي تدلُّ على مبدأ السلطة التقديرية للقاضي في نظر القضيَّة وإجراءاتها.
مستمعي الأفاضل، كانت هذه إطلالة موجزة حول إعمال السلطة التقديريَّة للقاضي في إجراءات نَظر القضيَّة، وفي الحلقة القادمة - بإذن الله تعالى - نَعرض للسلطة التقديريَّة المَمنوحة للقاضي في الحكم في مواطنَ مُحددة.
وحتى ذلك الحين، أستودعكم الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
برنامج فقه التقاضي الحلقة الثالثة والعشرون المبادئ والأصول القضائية (11)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصَحْبه، ومَن اهتَدى بهداه.
أمَّا بعدُ:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيَّاكم الله مستمعي الأفاضل في برنامجكم "فقه التقاضي"، وقد سبَق الحديث في حلقات مَضَت عن عشرة من المبادئ الرئيسة والأصول الجامعة، والقواعد الكليَّة التي تُجَلِّي لنا ما حَظِي به جانب القضاء في الشريعة الإسلامية من عناية واهتمامٍ.
وفي الحلقة الماضية عرَضتُ الأصل والمبدأ العاشر، وهو مبدأ سلطة القاضي التقديريَّة في إجراءات النظر في القضايا المعروضة عليه، وذلك أنَّ القاضي يُعمِل فِكرَه ونظرَه في الوقائع المعروضة عليه، ويَجتهد في إلحاقها بنظائرها، وتحقيق المناط فيها، والوقائع لا تَنتهي، ولا يُمكن حَصرها، ولا غنى للقاضي عن بَذْل جُهده في القضيَّة؛ سَعيًا للتوصُّل إلى الحكم الملائم المُنصِف.
وفي هذه الحلقة أعرض لكم مستمعي الأفاضل المبدأ الحادي عشر
وهو أنَّ للقاضي سلطة تقديريَّة في بعض الأحكام والقضايا المعروضة عليه.
والأصل في القضاء الإسلامي التزامُ القاضي بنصوص الشـريعة الإسلامية، والأنظمة والتعليمات التي لا تتعارض معها.
فمثلاً: نعلم أنَّ حدَّ الزاني البِكر جَلْدُه مائة جلدة، وتغريبُه عامًا كاملاً، وحَدَّ الزاني المُحصن الرَّجْم، فلا خيار أمام القاضي سوى الحُكم بأحد هذين الحدَّين متى قامَت البيِّنة المُوصلة، أو حصَل الإقرار بموجب الحدِّ.
ومثال آخر: نَعلم أنَّ حدَّ السارق قَطْعُ يده بنصِّ القرآن الكريم؛ ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّه ﴾ [المائدة: 38]
ولا خيار للقاضي في إنفاذ هذا الحدِّ متى استكمَل شروطه، وانتَفَت موانعه.
وفي جانب الحقوق المالية، نعلم أنَّ الأصل حُرمة أخْذ مال المسلم إلاَّ بطِيب نفسٍ منه، فلو ادَّعت زوجة على زوجها أنه لَم يُوَفِّها المهرَ المُسمَّى، وأقرَّ بذلك الزوج، فلا خيار للقاضي في إلزام الزوج بموجب ذلك، أما لو وَهَبت الزوجة ما لها في ذِمَّة زوجها، وتَبرَّعت به لزوجها، فهنا لا مجال للقاضي في عدم قَبول هذا التنازل؛ لأن الحقَّ للزوجة وقد أسْقَطَته، وليس للقاضي خيارٌ في هذه المسألة.
وأمَّا لو جاء النص مُخيِّرًا للقاضي في أحد صُور الحكم، أو فُوِّض القاضي في الحكم بما يراه - فإن للقاضي هنا أن يُعمِل سلطته التقديريَّة، واختياره المبني على الدليل والبرهان، ومراعاة المصالح المُعتبرة.
فمن ذلك في جانب الأحكام الجنائية، الحُكم في حدِّ الحِرابة المُشار إليه في قول الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ﴾ [المائدة: 33].
قال الشيخ عبدالرحمن السَّعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير الآية: "المحاربون لله ولرسوله، هم الذين بارَزوه بالعداوة، وأفسَدوا في الأرض بالكفر والقتل، وأخْذ الأموال، وإخافة السُّبل"، ثم قال - رحمه الله تعالى -: "والمشهور أنَّ هذه الآية الكريمة في أحكام قُطَّاع الطريق، الذين يَعرضون للناس في القرى والبوادي، فيَغصبونهم أموالهم، ويَقتلونهم، ويُخيفونهم، فيَمتنع الناس من سلوك الطريق التي هم بها، فتَنقطع بذلك.
فأخبَر الله أنَّ جزاءهم ونكالَهم - عند إقامة الحد عليهم - أن يُفعل بهم واحدٌ من هذه الأمور.
واختلَف المفسرون: هل ذلك على التخيير، وأنَّ كلَّ قاطعِ طريق يَفعل به الإمام أو نائبه ما رآه المصلحة من هذه الأمور المذكورة؟ وهذا ظاهرُ اللفظ، أو أنَّ عقوبتهم تكون بحسب جرائمهم، فكلُّ جريمة لها قِسطٌ يُقابلها؛ كما تدلُّ عليه الآية بحِكمتها وموافقتها لحِكمة الله تعالى، وأنهم إن قتَلوا وأخَذوا مالاً، تحتَّم قتلُهم وصَلْبهم؛ حتى يَشتهروا ويَرتدع غيرُهم، وإن قتَلوا ولَم يَأخذوا مالاً، تحتَّم قَتْلهم فقط، وإن أخَذوا مالاً، ولَم يَقتلوا، تحتَّم أن تُقطع أيديهم وأرجُلهم من خلاف، اليد اليمنى والرجل اليسرى، وإن أخافوا الناس، ولَم يَقتلوا، ولا أخذوا مالاً، نُفُوا من الأرض، فلا يُتركون يَأْوُون في بلدٍ؛ حتى تَظهر توبتهم، وهذا قول ابن عباس - رضي الله عنه - وكثير من الأئمَّة، على اختلاف في بعض التفاصيل"؛ انتهى كلامه - رحمه الله تعالى.
فللقاضي في حَد الحِرابة، وبحكم نيابته عن وَلِي الأمر - أن يُقرِّر العقوبة المناسبة في حدِّ الحِرابة بحسب الوقائع ونوع الجريمة المُرتكبة، وهذه سلطة تقديريَّة للقاضي بحسب اجتهاده، وهذا على أحد الرأْيَيْن في المسألة.
ومن ذلك أيضًا تقدير القاضي للتعزير بحسب الجُرم وصاحبه، ووقت الجريمة، ومكانها، وقوة السلطان وضَعفه؛ كما يَذكره العلماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى - في "السياسة الشرعية" (1 / 151): "وأمَّا المعاصي التي ليس فيها حدٌّ مُقَدَّرٌ، ولا كفارة كالذي يُقَبِّل الصبي والمرأة الأجنبيَّة، أو يُباشر بلا جِماع، أو يأكل ما لا يَحِل، كالدَّم والمَيتة، أو يَقذف الناس بغير الزنا، أو يَسرق من غير حِرزٍ، أو شيئًا يسيرًا، أو يَغش في معاملته، كالذين يغشون في الأطعمة والثياب ونحو ذلك، أو يُطَفِّف المكيال والميزان، أو يَشهد بالزور، أو يُلقِّن شهادة الزور، أو يرتشي في حُكمه، إلى غير ذلك من أنواع المُحرَّمات - فهؤلاء يعاقبون تعزيرًا وتنكيلاً وتأديبًا بقَدر ما يراه الوالي على حسب كثرة ذلك الذنب في الناس وقلَّته، فإذا كان كثيرًا، زاد في العقوبة بخلاف ما إذا كان قليلاً، وعلى حسب حال المُذنب، فإذا كان من المُدمنين على الفجور، زِيدَ في عقوبته بخلاف المُقل من ذلك، وعلى حسب كِبَر المُذنب وصِغَره، فيُعاقَب مَن يتعرَّض لنساء الناس وأولادهم، بما لا يُعاقَب مَن يتعرَّض إلاَّ لامرأة واحدة، أو صبي واحدٍ".
والشاهد من ذلك مستمعي الأفاضل، أن تقدير التعزير المناسب راجعٌ إلى القاضي بحسب ولايته؛ لأن الوقائع لا تَنتهي، والجرائم تختلف، والواقعين في الجرائم مختلفون، فمنهم مَن يُردعه التعزير اليسير، ومنهم مَن لا يُردعه إلاَّ التعزير البليغ، وهكذا.
ومن الصور التي تَخضع لتقدير القاضي في القضايا الحقوقيَّة، ما يتعلَّق بتقدير النفقة الواجبة، فالنفقة تختلف بحسب حال المُنفق والمُنفَق عليه - من حيث الغنى والفقر - فنفقة الغني ليست كنفقة الفقير واحتياجه؛ ولذا فإن القاضي يجتهد في تقدير النفقة الواجبة بحسب حال الطرفين المدَّعي والمدَّعى عليه، مع الاستئناس بأهل الخِبرة في تقدير النفقة الواجبة، ومثل ذلك أيضًا تقدير القاضي للمُستحق لحضانة الصغير عند الاختلاف عليها؛ لأن الحضانة حقٌّ للمحضون وفيها مُراعاة مصلحته، والقاضي يَجتهد في تحقيق هذه المصلحة بحسب ما يَظهر له من حال المتخاصمين وحاجة الصغير.
ومن تطبيقات السلطة التقديريَّة للقاضي في القضايا الجنائيَّة في النظام القضائي السعودي، ما يُطبَّق في حقِّ مُروِّجي المخدرات، جاء في قرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ذي الرَّقْم 85 والتاريخ 11/11/1401هـ ما نصُّه: "مَن يُروِّجها - أي: المخدرات - سواء كان ذلك بطريق التصنيع، أو الاستيراد بيعًا وشراءً أو إهداءً، ونحو ذلك من ضروب إشاعتها ونَشْرها، فإن كان ذلك للمرة الأولى، فيُعزَّر تعزيرًا بليغًا بالحَبْس، أو الجلد، أو الغرامة الماليَّة، أو بهم جميعًا، حسبما يَقتضيه النظر القضائي، وإن تَكرَّر منه ذلك، فيُعزَّر بما يقطع شرَّه عن المجتمع، ولو كان ذلك بالقتل؛ لأنه بفِعله هذا يُعتبر من المفسدين في الأرض، وممن تأصَّل الإجرام في نفوسهم، وقد قرَّر المحققون من أهل العلم أن القتل ضربٌ من التعزير؛ قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى -: "ومَن لَم يَندفع فساده في الأرض إلاَّ بالقتل، قُتِل مثل قَتْل المُفرِّق لجماعة المسلمين، الداعي للبدع في الدين"، إلى أن قال: "وأمَر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقَتْل رجلٍ تَعمَّد الكذب عليه".
وسألَه ابن الديلمي عمَّن لَم يَنته عن شرب الخمر، فقال: "مَن لَم يَنته عنها، فاقْتُلوه"، وفي موضع آخرَ قال - رحمه الله - في تعليل القتل تعزيرًا ما نصُّه: "وهذا لأن المُفسد كالصائل، وإذا لَم يَندفع الصائل إلاَّ بالقتل، قُتِل"؛ انتهى.
مستمعي الأفاضل، كانت هذه إطلالة موجزة حول إعمال السلطة التقديريَّة للقاضي في اختيار الحُكم الملائم للقضيَّة، وفي الحلقة القادمة - بإذن الله تعالى - نواصل الحديث عن بعض التطبيقات القضائيَّة في المملكة العربية السعودية لمبدأ السلطة التقديريَّة المَمنوحة للقاضي في الحكم في بعض الحالات والصُّور.
وحتى ذلك الحين أستودعكم الله تعالى، والله تعالى أعلمُ، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمدٍ.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
برنامج فقه التقاضي الحلقة الرابعة والعشرون المبادئ والأصول القضائية (12)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعدُ
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله - مستمعي الأفاضل - في برنامجكم: "فقه التقاضي"، وقد سبق الحديث في حلقات مضتْ عن أحد عشر مبدأً وأصلاً من المبادئ الرئيسة والأصول الجامعة والقواعد الكلية التي تجلّي لنا ما حظي به جانب القضاء في الشريعة الإسلامية من عناية واهتمام.
وفي هذه الحلقة أعرض لكم - مستمعي الأفاضل - المبدأ الثاني عشر، وهو الأخذ بقاعدة سد الذرائع، والذريعة ترجع إلى كونها وسيلة أو طريقة تكون في ذاتها جائزة، لكنها توصل إلى ممنوع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (الذريعة ما كان وسيلة وطريقًا إلى الشيء، ولكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن لها مفسدة).
ويقول الإمام القرافي - رحمه الله -:
(اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح، فإن الذريعة هي: الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة؛ كالسعي للجمعة والحج).
ويقول الشاطبي - رحمه الله -: (حقيقة الذرائع التوسُّل بما هو مصلحة إلى مفسدة).
ويفصل القول في قاعدة الذرائع العلامة ابن القيم - رحمه الله - فيقول:
(لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب تعالى شيئًا وله طرق ووسائل تفضي إليه، فإنه يحرمها ويمنع منها؛ تحقيقًا لتحريمه، وتثبيتًا له، ومنعًا أن يقرب حِماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضًا للتحريم، وإغراءً للنفوس به، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك، فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعُد متناقضًا، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصودة، وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه، وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه، فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ ومَن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها، والذريعة: ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء).
والكلام في مسألة سد الذريعة طويل، ولأهل العلم فيه تفصيلات ومسائل، وأكتفي بالإشارة إلى ملخص لهذه القاعدة في قرار صدر من مجلس مجمع الفقه الإسلامي برقم 96/9/د9 بشأن (سد الذرائع)، ومما ورد فيه ما نصه: (إن مجمع الفقه الإسلامي... بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع (سد الذرائع)، وبعد استماعه إلى المناقشة التي دارت حوله، يقرر ما يلي:
1- سد الذرائع أصل من أصول الشريعة الإسلامية، وحقيقته: منع المباحات التي يتوصل بها إلى مفاسد أو محظورات.
2- سد الذرائع لا يقتصر على مواضع الاشتباه والاحتياط، وإنما يشمل كل ما من شأنه التوصل به إلى الحرام.
3- سد الذرائع يقتضي سدَّ الحيل إلى إتيان المحظورات أو إبطال شيء من المطلوبات الشرعية، غير أن الحيلة تفترق عن الذريعة باشتراط وجود القصد في الأولى - أي: الحيلة - دون الثانية - أي: الذريعة.
 
4- والذرائع أنواع:
(الأولى): مجمع على منعها، وهي المنصوص عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أو المؤدية إلى المفسدة قطعًا أو كثيرًا غالبًا، سواء كانت الوسيلة مباحة أو مندوبة أو واجبة؟
ومن هذا النوع العقود التي يظهر منها القصد إلى الوقوع في الحرام بالنص عليه في العقد.
(الثانية): مجمع على فتحها، وهي التي ترجح فيها المصلحة على المفسدة.
(الثالثة): مختلف فيها، وهي التصرفات التي ظاهرها الصحة، لكن تكتنفها تهمة التوصل بها إلى باطن محظور، لكثرة قصد ذلك منها.
5- وضابط إباحة الشريعة الذريعة: أن يكون إفضاؤها إلى المفسدة نادرًا أو أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته.
وضابط منع الذريعة أن تكون من شأنها الإفضاء إلى المفسدة لا محالة (قطعًا) أو كثيرًا، أو أن تكون مفسدةُ الفعل أرجحَ مما قد يترتب على الوسيلة من المصلحة).
مستمعي الأفاضل
ويتفرع على قاعدة (سد الذرائع) مبدأ مهم هو: (مبدأ اعتبار المآلات)، فالنظر إلى مآلات الأقوال والأفعال في عموم التصرفات مقصد مهم لشريعة الإسلام، بل إن جميع الأحكام تتأسس على النظر المصلحي في مآل العباد في العاجل أو الأجل، ولذا ينبغي للمفتي والقاضي والمجتهد تقدير مآلات الأفعال التي هي محل حكمهم، وليست المهمة في إعطاء الحكم الشرعي فحسب، بل لا بد من استحضار المآلات والآثار والعواقب.
وقد عد فقهاء الشريعة قاعدة (اعتبار المآلات) أساسًا في سلامة الحكم وصحته وتحقيقه للعدل المنشود في أحكام القضاء في الإسلام.
ولذا فقد راعوا الأحكام التي تجعل القاضي الشرعي حينما يصدر حكمه فإنه يراعي مآلات الحكم في أحوال المتخاصمين ومصالحهم الدينية والدنيوية، بل إنه يراعي أثرها البعيد في نطاق المصالح العامة للأمة.
ومن أمثلة الجزئيات الواردة في الفقه الإسلامي المتعلقة بقاعدة سد الذرائع واعتبار المآلات ما يلي:
1- أن القاضي ممنوع من قبول الهدية، وذلك لأنَّ قبول الهدية ممن لم تجر عادته بمهاداته ذريعة إلى الحيف مع صاحب الهدية.
2- أن القاضي ممنوع من الحكم بعلمه لئلا يكون ذلك ذريعة إلى حكمه بالباطل ويقول: حكمت بعلمي.
3- أن الشريعة منعت من قبول شهادة العدو على عدوه؛ لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى بلوغ غرضه من عدوه بالشهادة الباطلة.
4- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كف عن قتل المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى تنفير الناس عنه، وقولهم: إن محمدًا يقتل أصحابه، إذ إن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه ومن لم يدخل فيه، ومفسدة التنفير أكبر من مفسدةِ تركِ قتلهم، ومصلحةُ التأليف أعظمُ من مصلحة القتل.
مستمعي الأفاضل
كانت هذه لمحة موجزة حول إعمال قاعدة سد الذرائع في الشريعة الإسلامية، وأما الحديث عن التطبيقات التي أخذ بها النظام القضائي في المملكة العربية السعودية في هذه القاعدة، فسيكون في حلقتنا المقبلة - بإذن الله تعالى.
وحتى ذلك الحين أستودعكم الله تعالى، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المرجع الرئيس:
• المبادئ القضائية لحسين آل الشيخ.
 
من اعداد / المحامي فهد بن منصور العرجاني
جوال : 0531111745
ص . ب 20066 رمز11942
 


  ابوليان    عدد المشاركات   >>  106              التاريخ   >>  22/11/2013



لااله الا الله الملك الحق العضيم


  ابوليان    عدد المشاركات   >>  106              التاريخ   >>  25/12/2013



لااله الا الله الملك الحق العضيم


  ابوليان    عدد المشاركات   >>  106              التاريخ   >>  6/1/2019



سبحان الله وبحمده


 
 

 

الانتقال السريع           

 

  الموجودون الآن ...
  عدد الزوار 2602 / عدد الاعضاء 62