سيدي القاضي ..
انه من الطريف أن يقوم زميلي الإدعاء هو أن يحمل مسئوليه اى مشكله على
(نظام الحكم) برمته ..واستعان في التدليل على ذلك بمقوله أمير المؤمنين الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ..الشهيرة
: " والله لو أن ناقة عثرت في العراق لسالنى الله عنها".
-السادة أصحاب الشرف
نريد أن نتحدث في هذه المقولة..وهل هذه المقولة العظيمة المعبرة عن اتساع نطاق مسئوليه الحاكم إلى أدق التفاصيل ..وكلها ..
هل تصلح لان تكون منهجا للحكم اليوم ؟..
هل العصر الحالي يمكن أن نستعيد فيه الحكم على طريقه خليفة المؤمنين عمر..نموذج العدل وقدوه الحسم والتنظيم ؟
سيدي القاضي :- مايدفعنى إلى هذا هو أن بعض التيارات المتطرفة تستخدم تلك العبارة وما يماثلها للتدليل على أن نموذج الحكم في صدر الإسلام كان عادلا للغاية ..وبالتالي فان الدولة الدينية التي يسوقون نموذجها إنما تمثل للناس ترياقا ضد مايعانون منه ..وتقول لهم أن هذه الصيغة في الاداره هي الأصلح ..وهى التي يمكن أن تقدمها تلك التيارات أن حكمت أو بلغت السلطة بشكل أو أخر
مبدئيا ، لايمكن القول أن الطريقة التي أدار بها سيدنا عمر دولته كانت هي تلك الطريقة التي يجب أن تكون عليها الدولة الاسلاميه في مختلف العصور ..ففيما بعد اغتياله ..دارت عجله الزمن ..وتوالى على المسلمون خلفاء من مختلف الفئات الذين حكموا كل منهم بطريقته بحيث انه لايمكن القول بان طريقه هذا أو ذاك تمثل المواصفات الكاملة لطرق الحكم العادلة خاصة وان كثير منها أن لم يكن اغلبها
– فيما بعد الخلفاء الراشدين –
لم تكن عادله بالمعنى المفهوم للعادلة ..أو كانت تتميز بقدر هائل من الانفلاتات والتجاوزات التي أدت إلى تناحر المسلمون أنفسهم
وسيدنا عمر نفسه، يمثل حاله خاصة جدا، وربما استثنائية للغاية،
ليس فقط سيدي القاضي في التاريخ الاسلامى وإنما في التاريخ الانسانى كله ، إلى الدرجة التي دعت
كاتب (عبقرية عمر) (الأستاذ عباس محمود العقاد)
لان يخصص فصلا كاملا في كتابه الأشهر بعنوان
(عمر والحكومة العصرية ) قال في مستهله : -
((" من الحقائق التي يحسن ألا تغيب عنا ونحن نقدر الإبطال من ولاه العصور الغابرة أنهم أبناء عصورهم وليسوا أبناء عصورنا ، وأننا مطالبون بان نفهمهم في زمانهم وليسوا هم مطالبين بان يشبهونا في زماننا ، وان الرجل الذي يصنع خير مايصنع فيه هو القدوة التي يقتدي بها أبناء كل جيل ، ولا حاجه به إلى الاقتداء بنا ، ولا إن يشق حجاب الغيب لينظر الينا ويعمل مايوافقنا ويرضينا))".
ويقول العقاد عن ابن الخطاب مدللا على رؤيته :
" خذ مثلا انه وهو اقدر المالكين في عصره كان يقنع بالكفاف ويلبس الكساء الغليظ ويهنأ ابل الصدقة – اى يداويها بالقطران – ويراه رسل الملوك وهو نائم على الأرض نومه الفقير المدقع وهو يدخل الشام فينزل عن بعيره ويخلع خفيه ويخوض الماء ومعه بعيره ،ويسافر مع خادمه فيساوى بينهما في المأكل والمركب والكساء ..
حاكم من حكام العصر الحديث لايصنع هذا ولا يطالب بان يصنعه وهو وأبناء العصر الحديث على حق فيما ارتسموه لأنفسهم من السمت (الهيئة) والشاره لان حاكم الامه يحتاج إلى المهابة بين قومه وغيرهم من الأقوام وهذا حسن مشكور".
والمعنى أن لكل عصر حكامه وأساليبه..ولكل زمن طريقته ..ولكل دوله منهجها في أداره شئونها ..والأساس في الاختلافات هو أن نتفق على القيم الواجب إتباعها وان تباينت الأساليب ..
في كل زمان يسعى الناس إلى العدل ..وفى كل وقت يرغب الناس في المساواة ..وفى كل عصر يريد الناس أن ينال الجميع حقه..وان يخضع الحاكم إلى المسائلة..ولكن الطرق تتباين وتختلف ..والحياة تتطور ..ومع حدوث التطور فان الطرائق تتنوع ..ولا يجوز أن نعود إلى عصور سحيقة بنفس طريقتها..لان العودة قد تهدر كل شيء وبما في ذلك العدل الذي ننشده.
وللتدليل على ذلك نعود إلى واقعه شهيرة في سيره خليفة المؤمنين العظيم ..تلك التي تروى أن عمرا رضي الله عنه كان يعس في المدينة فسمع صوت رجل وأمراه في بيت..فتسور الحائط ..فإذا رجل وأمراه عندهما زق خمر(الزق= الإناء).فقال عمر : ياعدو الله ! أكنت ترى أن الله يسترك وأنت على معصية؟
فقال الرجل : ياامير المؤمنين ، انا عصيت الله في واحده وأنت في ثلاث .
فالله يقول (ولاتجسسوا) وأنت تجسست علينا .
والله يقول (واتوا البيوت من أبوابها) وأنت صعدت الجدار ونزلت منه ،
والله يقول (ولا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها)
وأنت لم تفعل ذلك ..فقال عمر : هل عندك من خير أن عفوت عنك ؟ فقال : نعم ، والله لااعود .فقال اذهب فقد عفوت عنك .
ومن المؤكد انه لايمكن أن تطلب من اى حاكم الان أن يسير في المدينة لكي يعس بين الناس ..
ويعرف أحوالهم من خلال التجسس عليهم ..كما انه ليس من مهمة الحاكم الأكبر أن يتتبع أن كان الناس يتناولون الخمر في بيوتهم أم لا..أو ماهى طبيعة الخطايا التي يرتكبونها ..
وحتى لو فعل وعثر على جرم فان القانون لايعطيه الحق في أن يعفوا عن الناس إذا ماتعهدوا بعدم العودة إلى مااقترفوا ..هناك أساليب أخرى للعفو يحكمه الإجراء الدستوري ..وهى صلاحية ليست متاحة للجميع ..ولايمكن اليوم أن يجد حاكما أو رئيسا مواطنا في غرزه يدخن الحشيش ..فيقول له المواطن : لن أعود إلى هذا ..فيعفوا عنه .
وبغض النظر عن اللجاجة والقدرة على المجادلة التي تبناها هذا الشخص في مواجهه أمير المؤمنين..حين ضبطه في هذا الوضع المخل داخل بيته ..فان ماقاله لايمثل مخالفه قانونيه في العصر الحالي ..في ضوء الإجراءات القانونية ..بمعنى انه لايمكن الاستناد إلى آيات القرا ن في أن يذهب الناس بجرمهم أن فعلوا شيئا ..وفى العصر الحالي ..من حق جهات القانون ..وليس الحاكم مختص بهذا..أن تقوم بتتبع أحوال الناس مراقبه وتجسسا إذا كان لديها إذن قانوني بهذا ..ومن حقها أن تقتحم البيوت دون استئذان ودون تطبق حكم الايه أن كانت النيابة العامه قد سمحت لها بذلك ..ولايمكن أن نطلب من الشرط هان تدخل أبواب المجرمين عبر الأبواب المشرعة وليس من خلال عمليات الحصار والاقتحام المعروف هلكى تكتمل الأركان ولا يهدر المجرمون الادله .
اختلفت العصور إذن ..ومع اختلافها تباينت الطرق ..وتعددت الأساليب ..وتنوعت المهام ..
وقد كان خليفة المؤمنين عمر في وضعيه زمنيه تفرض عليه أن يكون قدوه ..وان يبنى النموذج..وان يضع التقاليد والأسس ..مع انتقال الدين من مرحله انتشار العقيدة إلى مرحله بناء الدولة ..ولكن بالتأكيد ليس على أمير الناس الان أن يكون من بين مهامه أن يذهب خلف سور كل بيت لكي يعرف مايدور فيه ..فقد تشعبت وتعددت أساليب الاداره ..وزاد السكان ..واتسعت الأماكن ..وتنوعت حتى أساليب مخالفه القواعد بحيث لايقوى حاكم على أن يقوم بذلك بنفسه .
هل يكون على الرئيس مثلا أن ينهى مقابله مع احد رؤساء الدول ..أو حتى يؤجلها لأنه قد جاءته إخباريه عن مواطن يسرق الدقيق في احد المخابز ..فيتنكر ويسير بين الطرقات إلى أن يصل لمكان الواقعة..
ومن ثم يضبط هذا الشخص ..ويقيم عليه الحد ؟ بالتأكيد هذا كلام خيالي ..
غير انه كان يحدث فيما مضى من زمن..
وهل يكون على الرئيس – اى رئيس – أن يسير بين الناس مثله مثلهم ..يترجل ..ويراه رسل الملوك في فقر مدقع ؟
من المؤكد أن هذا غير مقبول اليوم ..بل أن الرئيس – اى رئيس – حين يقوم بذلك فانه يعرض امن البلد للخطر لأنه يعرض أمنه الشخصي للتهديد ..وحين يتعرض هو للتهديد فان استقرار البلد يتعرض بدوره للاهتزاز ..ويكون مخلا بمسئولياته لو انه فعل.
وقد أوقف سيدنا عمر تطبيق الحد على السارقين في عام الرماده
حين تدهورت أحوال الناس ..وعانوا من ازمه اقتصاديه بمقاييس العصر ..أمر مثل هذا لايمكن أن يحدث اليوم وإلا كانت فوضى ..بمعنى انه لايمكن تعطيل عقوبة السرقة لان الناس تعانى من الضائقة ..والفقر ليس مبررا لان يقوم الناس بارتكاب الجريمة ..ولو طبق هذا المبدأ اليوم فانه يعنى أن يعم الارتباك حياه الامه ..وان يجدها اللصوص حجه لكي يعيثوا في الأرض فسادا ..بحجه أنهم لايجدون ماياكلون ..أو مايسد الاحتياج وفقا لمقاييس ذلك الاحتياج .
أن عدد السكان في عصر خليفة المؤمنين لم يكن يناظر أعداد السكان اليوم..
ولااعتقد أن الولايات الاسلاميه برمتها كان إحصائها يماثل دوله إسلاميه متوسطه الحجم من تلك الموجودة اليوم ..
كما أن الجرائم التي كانت ترتكب في تلك العصور تعتبر ساذجة بمقاييس الجرائم التى تقع الان ..
والتعقيدات في شئون الحياة العامه أصبحت أصعب بكثير مما كانت عليه ..بحيث صار تنظيم الدول يتطلب قدرا هائلا من التعقيدات الموازية التي تدير شئون الناس بحكمه مختلفة عما كانت عليه.
وإذا ماعدنا إلى مقوله سيدنا عمر حول الناقة التي يمكن أن تعثر في العراق ويكون هو مسئولا عنها ..حسبما قال رضي الله عنه..ولا يتوانى خطباء المساجد عن أن يرددوها في كل يوم جمعه وغيره.
.ويقولون (رضي الله عنك ياخليفه رسول الله (ص) ..عدلت فرضيت وارضيت وأمنت ياعمر)..
فان علينا أن نمعن النظر في المسالة بمزيد من التدقيق..حتى لانلهث وراء أحلام بعيده بل ومستحيلة ونكون كمن يطارد سرابا لن ياتى أبدا .
ذلك أن سيدنا عمر نفسه قد عدل خير عدل..ولكنه لم يامن ..إذ اغتيل في نهاية حكمه ..متعرضا لمؤامرة شهيرة..
ولم يعد العدل هو الضمانة التي على أساسها يمكن أن يامن اى حاكم أن التزم بالعدل ..
ففي العصر الحالي توجد أمور عديدة يمكن أن تجعل الحاكم غير امن ..أيا ماكان مستوى نزاهته وشفافيته ..إذ هناك مؤامرات الدول والإرهاب ..والاهم أن تعقيدات الحياة يمكن أن تدفعهم إلى أن يقوموا بمالايمكن توقعه ضد اى مشهور ..فما بالك بحاكم .
ثم أن الدساتير والقوانين توزع الان المسئوليات على عناصر الاداره وأطرافها ..
بحيث انه لم يعد ممكنا للعقل أن يقبل أن يكون الحاكم – رئيس أو ملك أو سلطان..أيا ماكان نظام الحكم – أن يقبل فكره أن هذا الحاكم مسئول بنفسه عن عثرة ناقة أو حمار أو حادث سيارة وقع في بقعه نائية ..
أو حتى في مكان ملاصق لمقره حكمه ..إذ أن الحاكم له مهام محدده..تشمل الخطوط الرئيسية لرسم السياسات العامه والقرارات الكبيرة والمناهج العريضة غير التفصيلية ..في حين أن هناك أطراف أخرى ..حدد لها القانون مهامها بقدر تنوعها وتدرجها .
أن الحاكم الذي يكون مسئولا عن كل شيء ليس فقط حاكم خارج قدره احتمال المنطق..ولكنه أيضا يكون حاكما غير مقبول بالمقاييس الديموقراطيه الحديثة ..
ويعتبر ديكتاتورا ..نافيا لكل قيم الشراكة والتشارك في الاداره وتحمل مسئوليات الحكم ..ويجعل الامه كلها غير متحملة للمسئولية في اى من مهامها ..طالما أن هناك فرد واحد سوف ينال كل الحساب أو كل الثواب..ناهيك عن انه نموذج مستحيل يعنى ترديد الحديث عنه إننا نريد أن نذهب بعقول الناس في غياهب بعيده وغير ممكنه
أنا هنا لااريد أن اخلي مسئوليه الحكام عن عديد من المشكلات وإبعادهم عن نطاق المسئوليات ..
ولكنى أريد أن أسجل مجموعه من الملاحظات أمام عدالتكم التي تستوجب الانتباه ونحن نقارن بين هذه الترديدات التي تعود بنا 14 قرنا إلى الوراء ..وبين واقعنا اليوم
فمن ناحية لايمكن الوثوق بان مقوله خليفة المؤمنين عمر ابن الخطاب حول مسئوليته عن الناقة التي يمكن أن تعثر في العراق قد طبقت بخلاف كونه رضي الله عنه قد أعلن مافيها من مبدأ يريد أن يطبقه على نفسه ..
وبغض النظر عن المقارنة مع العصر الحالي فان سيدنا عمر لم تكن لديه الأدوات الكافية لكي يحيط ويلم بأحوال كل العباد في كافه اسقاع الولايات الاسلاميه التي كان يديرها ..ومن ثم افهم أن ماقال رضي الله عنه كان يقصد به إرساء المبدأ قبل أن يكون هدفه هو التطبيق العملي لذلك المنطق .
ومن ناحية ثانيه فان العصر الحديث قد أدى إلى نشوء انظمه تتوزع فيها المهام مابين السلطة المركزية والسلطات المحلية المختلفة ..وبحيث يكون لكل منها مهامه ..كل بقدره ..
وفى كثير من الدول التي تتبع النظام الفيدرالي لايكون للحاكم تدخلا في شئون الولايات الخاصة كما هو الحال مثلا في الولايات المتحدة ..كما إننا في مصر نسعى إلى أن تكون هناك أعباء اقل على السلطة المركزية ونحاول فك الاشتباك العتيد بين المركزية وزيادة مهام السلطات المحلية..لان الناس في المحافظات تعانى من انشغال السلطة المركزية بعيدا عن تفصيلات حياتها
ومن ناحية ثالثه فان سيدنا عمر تحدث عن أن الله هو الذي سوف يحاسبه عن تلك الناقة التي يمكن أن تكون قد عثرت في العراق..في حين أننا لايمكن أن نقبل اليوم بحاكم يكون حسابه عند الله وحده ..هذه مسالة تخصه بينه وبين الله ..ولكن في العصر الحديث لايكون مطلوبا منا انتظار أن يعاقب الحاكم من السماء ..وإنما نحن نحاسبه بأساليب مختلفة من بينها التصويت في الانتخابات ..فمن لم يفلح كان أن واجهه التصويت المضاد..وكان أن روجع من مجلس الشعب ومن مختلف آليات المحاسبة العصرية..
وبالتالي سيدي القاضي فان زميلي الادعاء كان يبحث عن معنى ليس هو المقبول في عصر حديث يسود فيه القانون..
وان كنت أجد في هذا الحديث فرصه مناسب هلكم أشير إلى أن الطريقة التي أديرت بها عمليه المحاسبة في كارثة العبارة مازالت تجد لدى الناس بشكل عام اصدءا غير ايجابيه ..
وحتى بعد إن دارت عجله القانون وصدر الحكم ضد صاحب العبارة فأنهم لايقتنعون بان ماجرى كان كافيا بالشكل الملائم .
سيدي القاضي
أن ثقافتنا العامة ، تلك التي يعبث بها بعض خطباء المنابر ، والذين يقودون الناس إلى عصور غابرة لن تعود ،
تحتاج إلى مزيد من الإنضاج والتوعية ،
وإفهام الراى العام أن هذا النموذج الذي يسوق بينهم على انه خلاصه العدل والأمان والاستقرار ..
إذا ماطبقنا الحكم على طريقه خليفة المؤمنين عمر ابن الخطاب ..هو نموذج بعيد وغير قابل للتطبيق العصري ..
بل أن تطبيقه قد يكون مشكله كبيره لأنه لايتوائم إطلاقا مع متغيرات العصر وتعقيدات المجتمعات