مسكين هو المواطن العربي
كم وضعته أنظمته بين فكي كماشة ، وعصرته حتى لم يبق منه شيء صالح للاستعمال ، سوى اليدين فقط ، ومن أجل غرضين فقط : التصفيق .. ودفع الضرائب .
وكم خيرته بين السيئ والأسوأ
حتى جعلته يستجير من الرمضاء .. بالنار
وحتى تحولت حياته إلى طامة كبرى
عندما كنت أعيش في الكويت ، كانت الحياة جميلة في بلد وديع ومسالم ، يكرم الضيف ، ويحترم الإنسان ، حتى العامل الهندي كان يعامل معاملة جيدة ، وحتى الخادمات الفليبينيات كن سعيدات
ولدولة الكويت أياد بيضاء في دعم الدول العربية ، لاسيما بلاد الشام ومصر والسودان والصومال وغيرها .. ولها أياد بيضاء في نشر الثقافة العربية ، ولعل مجلتي العربي وعالم المعرفة وغيرهما أكبر شاهد على ذلك ، إضافة إلى العديد من المراكز الفكرية التي كانت ولا زالت تمنح جوائز للباحثين والكتاب وتشجيع العمل الفكري والبحثي ونشر الثقافة بشكل عام
والنظام الحاكم في الكويت لا يحتاج إلى دليل لإثبات تمسكه بعروبته وإسلامه ، فهناك أكثر من دليل ساطع ، بل إن النظام الكويتي حتى تاريخه لم يصدر عنه تصريح واحد بشأن قبول التطبيع مع الكيان الصهيوني مثلا .. ولازال متمسكا بمواقفه المبدئية السابقة من القضية العربية الفلسطينية
وقد كانت التبرعات تجمع في هذه الدولة لصالح منظمة التحرير الفلسطينية في كل محل ومطعم وشارع .. حتى باصات النقل الداخلي ، إضافة للدعم الرسمي بل كانت هناك مخصصات لهذا الدعم
وكلنا يعلم ماذا كان موقف المنظمة من الغزو وأنظمة عربية أخرى أيضا لعبت دورا بارزا في المؤامرة على كل من العراق والكويت ، الأمر سبب انتكاسات كبيرة في العلاقات الثنائية بين تلك الأطراف ،
وبالنتيجة ، تم ضرب عصفورين بحجر : تدمير الدولة الكويتية الداعمة للعرب ولقضاياهم القومية ، وجر العراق إلى ساحة .. الإعدام . في مؤامرة لم يشهد لها التاريخ مثيلا ، في دلالة واضحة على أن الاستبداد لا يؤدي إلا إلى الفناء ، وأن الشعب العربي ما زال محكوما عليه بأن يدفع فواتير باهظة الثمن من حياته ومستقبل أطفاله وثروات بلاده ، بسبب الفساد والاستبداد
فلو كانت هناك ديمقراطية في الوطن العربي لما حصل ما حصل
ولو كان للشعب العربي صوت مسموع وإرادة محترمة لما حصل ما حصل
فلا يوجد فرد عربي واحد من المحيط إلى الخليج يقبل بما حصل ،
ولكن هذه الجموع الغفيرة ، بكل ثروات بلادها ، متروكة للارتجال والاعتباط والتلاعب بمصيرها ، ثم يفرض عليها التصفيق تقديرا لحكمة قائدها !!!م
لا يمكن إيجاد أو قبول عذر لاجتياح الكويت ، ولا يوجد عاقل يقبل بذلك ، فغزو الكويت جريمة ليس لها (سبب تبرير) إطلاقا ، وإن جرى تسويق بعض المبررات التي لم تؤيد بأي دليل وبقيت مجرد مزاعم ، ككل حرب تحتاج إلى مزاعم ليست صحيحة بالضرورة ،
بل حتى لو صحت تلك المزاعم ، فإنها لا تبرر الغزو إطلاقا ، ونصب أعواد المشانق في ساحات الكويت الآمنة
ولكن ما حصل يذكرنا ، بالجريمة التي تستدعي عدة جرائم ، لإخفاء الجريمة الأولى !!م
فاللص الذي يراه أحد الناس وهو يسطو على متجر ، قد يضطر إلى قتله كي لا يفتضح أمره ، ثم يذهب ليواري جثة القتيل ، فيضطر إلى إيقاف سيارة ، وقتل سائقها ، وسرقة سيارته للهرب … فبسبب السرقة الأولى تمت أكثر من جريمة لاحقة
ولذلك ، فإن كل الجرائم اللاحقة للحرب العراقية الإيرانية ، هي من نتائج هذه الحرب !!م
لقد تم توريط النظام العراقي في حرب مدمرة مع إيران ، ليس لها أي مبرر استراتيجي ولا عسكري ولا قومي ولا اقتصادي ولا ولا ولا .. سوى خدمة المصالح الأميركية والصهيونية
ولا أدري أي سبب يبرر قيام العراق بمحاربة الثورة الإيرانية ، التي كان أول إعلان لها صرح بأن أول هدف لها هو تحرير القدس .. وأول عمل سياسي قامت به هو تحويل مقر السفارة الإسرائيلية ( التي كانت على أيام الشاه ) إلى مقر لمنظمة التحرير الفلسطينية
تلك الحرب ، التي كانت خدمة مجانية للكيان الصهيوني ، ضربت صقرين بحجر واحد أيضا ، وما كان أحوج المواطن العربي في كل مكان إلى كل دولار من المليارات التي أهدرت في تلك الحرب ، فضلا عن ضرب البنية الاجتماعية والاقتصادية والبشرية
في جلسة حوار مع أحد المفكرين الذي زار العراق غير مرة ، قال لي : إن العراق كان مرشحا ليكون يابان الشرق الأوسط : لديه المال والعقول والأرض والمياه وكل العناصر اللازمة لبناء دولة قوية وصناعة متقدمة واقتصاد قوي وجيش قوي ، لذلك ، كان لا بد من تدميره ، ولابد من اصطياده ، إلا أنه بلع الطعم بسذاجة تلميذ مبتدئ في السياسة .. ولم يحفظ أي درس في التاريخ
لذلك ، فإن ما جرى أكبر من حجم الكارثة .. وأكبر من الزلزال
ولذلك ، لم أسمع بأن كلمة اعتذار أعادت بناء ما هدمه الزلزال
وما زال شعب الكويت وقيادته تقول في أكثر من مناسبة : ليس لنا ثأر مع شعب العراق ، وليس لنا أي نية عدائية تجاه شعب العراق ، ونعتبر شعب العراق شعب شقيق ومسلم ومحب للسلام ، ولكن المشكلة مع قيادة العراق وليس مع شعبها .. هذا ما يقوله المسؤولون الكويتيون في كل مناسبة وتصريح
بالتأكيد ، أنا ضد حصار العراق وضد ضربه
ولكني بالمقابل ، أعذر الكويت ، ولا أحملها أدنى مسؤولية عما حصل وسيحصل
فالكويت ضحية ، ولا تسأل الضحية عن عواقب الجريمة
ولكني ألوم الاستبداد وكل من يسوق له ، وتحت أي مسمى ، لذلك عندما أسمع رجل دين يقول بأن الإسلام لا يجيز الديمقراطية ولا التعددية ، أكاد أنقض عليه بنواجذي ، لأني أعرف أنه السبب وراء كل الكوارث ، وأن الأنظمة العربية اتكأت على أمثاله لمحاربة وقمع شعوبها ، وجرها إلى الويلات
إن النتائج الكارثية للاستبداد يدفعها المواطن العربي في كل مكان وبلد ، وليس الشعب العراقي فقط
فمن لم تذهب ثرواته بالحروب الاعتباطية ، ذهبت بالفساد والسياسات الاقتصادية الاعتباطية أيضا
إن الأرقام والإحصائيات تصرخ وتدعونا إلى لطم الخدين معا
سبعمائة مليار دولار حجم الودائع العربية في الخارج ، على أقل تقدير علني ! وهناك دولة عربية عظيمة تبيع مواقفها من أجل مساعدات بقيمة ملياري دولار سنويا وبعض القمح ، بينما جارتها الجنوبية مؤهلة لإطعام كل العرب ، وهناك دولة عربية تموت جوعا ، وهناك دولة عربية تؤجر أراضيها للكيان الصهيوني ، وهناك دولة عربية غير قادرة على دفع خدمة ديونها ، وهناك دولة عربية غير قادرة على إطعام شعبها سوى القات ، وهناك دولة عربية غير قادرة على تجهيز مشفى حكومي ، وهناك ملايين العاطلين عن العمل يجوبون الشوارع العربية .. والأجنبية وثروات المسؤولين العرب بلغت أرقاما خيالية وأصبحت سببا للتفاخر وللسبق الصحفي في المجلات الغربية ،
لذلك ، فإن الاعتذار ، لن يقدم ولن يؤخر ، والأمر ليس بيد الكويت ولا بيد آل الصباح ، ولا لوم عليهم في البداية ولا في النهاية
اللعبة أكبر من ذلك بكثير ، والكويت عنصر سلبي في اللعبة ، وليس له دور سوى دور الضحية أو الطعم
وللأسف ، إننا لعبة فقط ، وملعوب بنا دائما ، لذلك نعوض في كرة القدم ، والتي فشلنا فيها أيضا ، لأنه لا يمكننا أن نكون لاعبين حتى .. لكرة بلهاء
أما قولك ، يا أخ حمورابي ، ووصفك للأوساط الشعبية بأنها أسفل سافلين ، فلعل رد الأخ مطيري كان بالغا في التعبير عن رفض هذا المفهوم وهذه النظرة الفوقية ، ولعلك تعلم أن أي فكر أو كلمة لا تصل إلى هؤلاء لا قيمة لها ، ولعلك تعلم أن إحدى أهم أسباب نكبتنا هو تجاهلنا لتلك الأوساط ، التي تعبر في النهاية عن الضمير الجمعي للأمة
والجدير بالذكر أن القيادة السورية تجاوزت أخطاء وجرائم النظام العراقي بحقها ، لاسيما قيامه بإرسال السيارات المفخخة لتفجيرها في شوارع العاصمة ، كما حدث في بداية الثمانينات ، أو دعمه للجنرال عون في بيروت الشرقية وتزويده بصواريخ لضرب دمشق ، في التسعينيات ، وإغلاقه خط التابلاين الذي كان يجر على سوريا بعض العوائد وتحويله إلى موانئ تركيا ، وقد رأت القيادة السورية ضرورة فتح صفحة جديدة تتناسب مع التحديات التي تفرض تجاوز الماضي والتصدي ما أمكن لمخاطر المستقبل ، وهي مصيبة في ذلك بلا شك
بقي أن أقول لك أنني أتفهم مشاعرك ، ونؤيدك فيها ، ولاشك أننا كلنا مع عودة الوفاق العربي بشكل عام ومع التضامن العربي وكل الشعارات القومية الأخرى ووقف مسلسل الانحدار والانحطاط العربي هذا
ولكن البكاء على الميت لا يعيده حيا
والبقية في حياتك
موسى شناني