في السياسة لا يوجد لونان إما أبيض وإما أسود.. ولكن كل الألوان متاحة ولكل أن يختار ما يروق له. لهذا يمكن أن يقال إن الرجل كان ظالماً كما يمكن أن يقال إن للرجل حسناته. وما يراه شخص حسنة يمكن أن يجد فيه آخر كل مطعن. وفي رأيي المتواضع إن الرجل ارتكب من الأخطاء ما أرتكب ، ولعل أكبرها هو غزوه للكويت ، فقد غررت به السفيرة ابريل وابتلع الطعم الذي أضاع به حكمه كما أضاع الوحدة والآمال العربية وأرجع الأمة إلى أربعمائة سنة للوراء. بل إني أذهب أبعد من ذلك وأقول إن كل المظالم التي ارتكبت في عهده هو مسئول عنها إن كان يعلم بها. أما إن كان لا يعلم ، فإن الذنب أعظم.
لم يعجبني انتحار كيلوباترا ، كما يقال عنها ، كما أعجبني الرجل وهو يلاقي الموت بشجاعة ، حتى ولو درب نفسه عليها طيلة مدة الثلاث سنوات كما يقول العمدة أو طيلة عمره كما يقول الرجل عن نفسه. وقصة القبض عليه يقال: إن غازاً قد استخدم ساعتئذٍ. إن طريقة إعدامه التي قُصدت بها جميع الأمة ، لم يدافع عنها حتى الاحتلال والذي يحاول أن يتبرأ منها. أما النظام الحاكم فإنه يحقق في أمر تسريب الشريط الكامل!!. ولقد شهد للرجل بشجاعة ملاقاته الموت حتى أعداؤه ، ودوننا شهادة المدعي العام منقذ فرعون والذي قال فيما قال: إن الرجل كان متماسكاً ثابتاً و لم ترتجف له يد أو قدم. وفي تقديري ، إن في هذا درس حتى بافتراض أن الرجل كان على باطل بل وهنا يكون الدرس أبلغ.
إن العزاء الذي دعت له نقابة المحامين المصريين هو للاحتجاج على أن يتولى أمر الأمة غير أبنائها. والقول بغير ذلك يعني القبول بالاحتلال وأن ما تم في أول أيام العيد يمكن أن يتم في أي بلد عربي أو إسلامي وفي أي زمان آخر ، وهذا ما لم يقل به أحد.
ولعدم تعاطي حديث السياسة سأكتفي بالحديث عنها فيما سبق. ولكن الذي دعاني للكتابة هو بعض ما كتبه الأستاذ المحترم محمد أبو اليزيد (العمدة) حيث قال في موضوع : عزاء للرئيس الراحل / صدام حسين
(فنحن سيدي في القرن الواحد والعشرين فلا مجال للقول بأن امرأة زانية أو قاتلة أطعمت هرة أو قدمت لها ماءا فغفر الله لها من ذنوبها ما تقدم وما تأخر!!.)
قلت: لا يا أخي الكريم. إن المرأة أو الرجل الزاني إذا تاب توبة نصوحة يغفر الله له ولو لم يطعم هرة أو يقدم لها ماء.
في هذا المعنى أورد فيما يلي حديثين:
أولهما في سنن الترمذي وهو : أن امرأة خرجت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تريد الصلاة فتلقاها رجل فتجللها فقضى حاجته منها فصاحت فانطلق ومر عليها رجل فقالت إن ذاك الرجل فعل بي كذا وكذا ومرت بعصابة من المهاجرين فقالت إن ذاك الرجل فعل بي كذا وكذا فانطلقوا فأخذوا الرجل الذي ظنت أنه وقع عليها وأتوها فقالت نعم هو هذا فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أمر به ليرجم قام صاحبها الذي وقع عليها فقال يا رسول الله أنا صاحبها فقال لها اذهبي فقد غفر الله لك وقال للرجل قولا حسنا وقال للرجل الذي وقع عليها ارجموه وقال لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم. وهذا زنى وتاب ولم يطلب منه شيئا غير التوبة.
وثانيهما في مسند أحمد: أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من زنا فقالت يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليها فقال أحسن إليها فإذا وضعت حملها فأتني بها ففعل فأمر بها فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها فقال له عمر رضي الله تعالى عنه تصلي عليها وقد رجمتها فقال لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل.
قال العمدة : (لكل ما تقدم سيدي العزيز أرى أن الله سبحانه وتعالى لن يغفر لسافك دماء).
قلت: في ميزاننا الدنيوي ، نحن البشر لا نغفر لسافك دماء. ولكن الله سبحانه وتعالى قد يغفر لمن سفك الدماء ولمن أشرك ولمن زني . وهذا شأنه جلّ وعلا. وقد اقتضت حكمته تعالى أن يترك باب المغفرة مفتوحاً ، بشرط التوبة النصوحة ، رحمة بالمؤمنين. وإلاّ ، فإن الظلمة لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمة. وعلينا أن نشجع الظلمة على التوبة وأن نطمعهم في رحمة الله ، وإلاّ فإنهم لن يبقوا على أحد منا!!. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قتل تسعة وتسعين نفسا فجعل يسأل هل له من توبة فأتى راهبا فسأله فقال ليست لك توبة فقتل الراهب ثم جعل يسأل ثم خرج من قرية إلى قرية فيها قوم صالحون فلما كان في بعض الطريق أدركه الموت فنأى بصدره ثم مات فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها بشبر فجعل من أهلها.
وفيما يلي أنقل تفسير القرطبي للآية 53 من سورة الزمر والتي قال عنها ابن عمر: إنها أرجى آية في القران.
قال الله تعالى:
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
" قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " وإن شئت حذفت الياء ; لأن النداء موضع حذف . النحاس : ومن أجل ما روي فيه ما رواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال : لما اجتمعنا على الهجرة , اتعدت أنا وهشام بن العاص بن وائل السهمي , وعياش بن أبي ربيعة بن عتبة , فقلنا : الموعد أضاة بني غفار , وقلنا : من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحبه . فأصبحت أنا وعياش بن عتبة وحبس عنا هشام , وإذا به قد فتن فافتتن , فكنا نقول بالمدينة : هؤلاء قد عرفوا الله عز وجل وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم , ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة , وكانوا هم أيضا يقولون هذا في أنفسهم , فأنزل الله عز وجل في كتابه : " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " إلى قوله تعالى : " أليس في جهنم مثوى للمتكبرين " قال عمر : فكتبتها بيدي ثم بعثتها إلى هشام . قال هشام : فلما قدمت علي خرجت بها إلى ذي طوى فقلت : اللهم فهمنيها فعرفت أنها نزلت فينا , فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان قوم من المشركين قتلوا فأكثروا , وزنوا فأكثروا , فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أو بعثوا إليه : إن ما تدعو إليه لحسن أوتخبرنا أن لنا توبة ؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية : " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " ذكره البخاري بمعناه . وقد مضى في آخر [ الفرقان ] . وعن ابن عباس أيضا نزلت في أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له , وكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس التي حرم الله فأنزل الله هذه الآية . وقيل : إنها نزلت في قوم من المسلمين أسرفوا على أنفسهم في العبادة , وخافوا ألا يتقبل منهم لذنوب سبقت لهم في الجاهلية . وقال ابن عباس أيضا وعطاء نزلت في وحشي قاتل حمزة ; لأنه ظن أن الله لا يقبل إسلامه : وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : أتى وحشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ; فقال : يا محمد أتيتك مستجيرا فأجرني حتى أسمع كلام الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قد كنت أحب أن أراك على غير جوار فأما إذ أتيتني مستجيرا فأنت في جواري حتى تسمع كلام الله ) قال : فإني أشركت بالله وقتلت النفس التي حرم الله وزنيت , هل يقبل الله منى توبة ؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت : " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون " [ الفرقان : 68 ] إلى آخر الآية فتلاها عليه ; فقال أرى شرطا فلعلي لا أعمل صالحا , أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله . فنزلت : " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " [ النساء : 48 ] فدعا به فتلا عليه ; قال : فلعلي ممن لا يشاء أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله . فنزلت : " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " فقال : نعم الآن لا أرى شرطا . فأسلم . وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن حوشب عن أسماء أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ : " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم " . وفي مصحف ابن مسعود " إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء " . قال أبو جعفر النحاس : وهاتان القراءتان على التفسير , أي يغفر الله لمن يشاء . وقد عرف الله عز وجل من شاء أن يغفر له , وهو التائب أو من عمل صغيرة ولم تكن له كبيرة , ودل على أنه يريد التائب ما بعده " وأنيبوا إلى ربكم " فالتائب مغفور له ذنوبه جميعا يدل على ذلك " وإني لغفار لمن تاب " [ طه : 82 ] فهذا لا إشكال فيه . وقال علي بن أبي طالب : ما في القرآن آية أوسع من هذه الآية : " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " وقد مضى هذا في [ سبحان ] . وقال عبد الله بن عمر : وهذه أرجى آية في القرآن فرد عليهم ابن عباس وقال أرجى آية في القرآن قوله تعالى : " وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ".
وقال العمدة : (وإن كان مفروض علينا سيدي العزيز ألا نذكر غير محاسن الموتى لكونهم بين يدي الخالق عز وجل ، فلماذا ساق لنا القرآن الكريم قصص الطغاة والمستبدين؟
وإن كان الأمر كذلك فهل يعني هذا أن نغفل ذكر الجرائم التي أرتكبها الجلادون والطغاة في حق البشرية وأن نشطب كل ذكر لجرائمهم وفظائعهم من كتب التاريخ كونهم بين يدي الخالق منطلقين من (اذكروا محاسن موتاكم)؟
قلت: " اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم" هو حديث. ويبدو لي والله أعلم بالصواب ، أن المقصود بالمساوي هي تلك الشخصية التي تقتصر على علاقة الفرد بربه . أما ما يمارسه الحكام ، فهو أمر عام يُبحث ويٌناقش ويُنتقد ويحاكم وتستخلص منه العظات والعبر. ولهذا يمكن أن يقال إن الرجل كان.. وكان.. ولا يمنع هذا من أن نسأل الله له المغفرة طالما مات على دين الإسلام.
قال: (ونعرج سيدي على المراحل الأخيرة من حياة الرجل .. فربما تعاطف بعض البسطاء منطلقين من مقولة (ارحموا عزيز قوم ذل) بعد أن شاهدوه يزحف في جحره تحت أقدام الجنود الأميركان.)
قلت: "ارحموا من الناس ثلاثة: عزيز قوم ذل، وغنى قوم افتقر، وعالما بين جهال". هو حديث على اختلاف في السند واللفظ. ولكن حتى بافتراض ضعف سنده ، يبقى القول الذي يدعو إلى مكارم الأخلاق أمراً طيباً يدعو له الإسلام. فالرجل كان عزيز قوم وذل ، وصورة إذلاله كانت رسالة لكل القادة والشعوب العربية والإسلامية على اختلاف المذاهب والآراء. وهنا لا بد من أن يتناسى الناس الاختلافات الجانبية ، رغم عمقها ، وأن يتوحدوا في مواجهة الخطر الأكبر الماثل. وأود أن أختم بموقفين سجلهما التاريخ لعل فيهما عبرة مناسبة مع الظرف والزمان.
الأول: عندما هدد الفونسو السادس ، ملك قشالة (البرتغال الآن) ، ملوك الطوائف في الأندلس ، أشار المعتمد بن عباد إلى أمراء الطوائف بضرورة الاستعانة بدولة المرابطين بقيادة يوسف بن تاشفين. وقد تخوف بعض ملوك الطوائف من أن يطمع المرابطون في بلادهم، وترددوا في الاستنصار بهم ، وعند ذلك قال المعتمد كلمته المشهورة: رعي الإبل خير من رعي الخنازير. وقصد بذلك أنه يفضل أن يكون أسيرا لدى إخوته المسلمين يرعى إبلهم خيراً من أن يكون أسيرا لدى ملك قشتالة.
والثاني: عندما حضر الإنكليز إلى الإسكندرية لنصرة الألفي بك على محمد علي باشا ، ووجدوا أن الألفي قد مات ، لم يسعهم الرجوع. فأرسلوا إلى الأمراء القبليين يستدعونهم ليعاونوهم على عدوهم "المشترك" ويقولون لهم إنما جئنا إلى بلادكم باستدعاء الألفي لمساعدته ومساعدتكم ، فوجدنا أن الألفي قد مات وهو شخص واحد منكم وأنتم جمع فهلموا لتوحيد الصفوف!. فلما وصلتهم مراسلة الإنكليز قال عثمان بك حسن : أنا مسلم هاجرت وجاهدت وقاتلت في الفرنساوية والآن أختم عملي والتجئ إلى الإفرنج وأنتصر بهم على المسلمين أنا لا أفعل ذلك. ووافقه على رأيه ذلك عثمان بك يوسف وبعد أخذ ورد باقي الأمراء القبلية وهم يعلمون تماماً أن محمد علي خادعهم!! .
والله أعلم وأجل وأحكم.