ثانياً : الحيازة التي يحميها القانون :
ان القانون لا يحمي بدعاوى الحيازة أية حالة واقعية، بل يشترط توافر شروط معينة تؤكد أن هذا المركز الواقعي جدير بالحماية . ومن ناحية أخرى فالقول بضرورة حماية الحائز ، لا يعني أن صاحب الحق يفقد حقه ان لم يكن حائزاً . فقد أجاز له المشرع رفع دعوى المطالبة بالحق .
ويمكن تحديد مجال حماية الحيازة في ضوء الاعتبارات الآتية :
1- حماية حيازة الحقوق العينية الأصلية :
دعاوى الحيازة لاتحمي إلا الحقوق العينية ، إذ أن الحقوق الشخصية لا تقبل السيطرة المادية وهي ركن أساسي من أركان الحيازة ، ومن ثم فدعاوى الحيازة لا تحمي فقط حيازة حق الملكية ، عندما تكون السيطرة الفعلية كاملة على الشئ ، بل تحمي أيضاً أي حق عيني يرد على العقار ، عندما تكون السيطرة محدودة على الشئ ، وفي هذه الحالة تكون حيازة لحق عيني آخر عليه كحق الانتفاع وحق الاستعمال وحق السكنى وحق الارتفاق ، وإذا كان هذا هو الأصل ، فان المشرع قد خرج عليه وأجاز حماية حق مستأجر العقار بدعاوى الحيازة. وذلك لتعلق حقه الشخصي بعين معينة بالذات ، ونظراً لرغبة المشرع في تزويد المستأجر بحماية قوية .
2- حماية حيازة العقار دون المنقول :
دعاوى الحيازة لا تحمي حيازة المنقول، إذ أن المنقول ليس كالعقار مستقر ثابت يتيسر معه تمييز الحيازة عن الحق ( الملكية ) في شأنه . فيد الحائز للمنقول تختلط بيد المالك ، وبالتالي تختلط الحيازة في المنقول بالملكية . فدعوى الملكية تحمي حيازة المنقول وملكيته معاً. فالحيازة في المنقول إذا اقترنت بحسن النية هي سند الحائز .
ودعاوى الحيازة تحمي حيازة العقار أيا كانت طبيعة هذا العقار ، ويستوي في ذلك أن يكون عقاراً بطبيعته أو عقاراً بالتخصيص . على أنه يشترط أن يكون العقار محل الحيازة من العقارات التي يمكن أن تكون محلا للتملك أو محلا لأي حق عيني آخر . ويترتب على ذلك أن دعوى الحيازة لا تقبل إذا تعلقت بعقارات معتبرة من الأملاك العامة ( الدومين العام ) أما حيازة العقار المملوك لشخص عام ملكية خاصة فتحمى بداهة بجميع دعاوى الحيازة ، شأنها في ذلك شأن أي عقار مملوك للأفراد .
وفضلاً عن هذا يتطلب القانون لحماية الحيازة أن تكون هذه الحيازة قانونية ، وليس معنى ذلك أن تستند إلى حق ، فالقانون يحمي الحيازة في ذاتها بصرف النظر عما إذا كانت تستند أو لا تستند إلى حق. وإنما معنى ذلك ضرورة توافر عناصر وشروط الحيازة .
أولاً : عناصر الحيازة :
سبق القول أن الحيازة حالة واقعية مادية تنشأ من سيطرة فعلية لشخص على شئ أو استعماله لحق عيني باعتباره مالكاً للشئ أو صاحب هذا الحق العيني . ويتبين من هذا التعريف أن الحيازة ، التي تنتج آثارها ويضفي عليها القانون حمايته تشتمل على عنصرين :
1- العنصر المادي :
ويتمثل في السيطرة المادية على الشئ محل الحيازة، وتتحقق هذه السيطرة بأن يحرز الحائز الشئ في يده احرازاً مادياً . ويتم ذلك عن طريق قيام الحائز بجميع الأعمال المادية التي يقوم بها عادة صاحب الحق على الشئ، طبقاً لما تسمح به طبيعته . فإذا كان الشئ أرضا زراعية ، فالسيطرة المادية عليها تتحقق بزراعتها أو اعدادها للزراعة . أما السيطرة المادية على أي حق عيني آخر خلاف الملكية ، فتكون عن طريق الأعمال التي يقتضيها استعماله . فإذا كان حق ارتفاق بالمرور ، كانت السيطرة المادية عليه بالمرور فعلاً في المكان المراد استعمال الحق فيه . ولا يشترط أن يقوم الحائز بهذه الأعمال بنفسه، فقد يكون ذلك عن طريق نائبه أو تابعيه كعماله أو أولاده، وقد يحوز بالوساطة عن طريق تأجير العقار .
2- العنصر المعنوي :
ويقصد به أن تتوافر لدى الحائز في قيامه بالأعمال المادية نية الظهور على الشئ محل الحيازة بمظهر صاحب الحق . أي يقوم بالأعمال المادية التي يتطلبها الشئ وفقاً لطبيعته باعتباره صاحب الحق عليه . فإذا لم يتوافر العنصر المعنوي ، فلا يعتبر الحائز حائزاً حيازة قانونية ، وإنما يعتبر حائزاً حيازة مادية أو عرضية ، وهي الحيازة التي يتوافر فيها العنصر المادي وحده دون العنصر المعنوي ، والحائز العرضي هو الذي يحوز لحساب غيره ، ويستند في حيازته إلى سند قانوني يلزمه برد الشئ إلى مالكه فيما بعد ، سواء كان هذا السند اتفاقيا كعقد ايجار أو رهن حيازي ، أو قضائيا كحكم الحراسة أو تشريعياً كالولاية .
ويقتضى توافر هذا العنصر أن تكون الأعمال التي يقوم بها الحائز أعمالاً متعدية على الشئ ، إذ لا تقوم الحيازة على الأعمال التي يقوم بها الشخص على أنها مجرد رخصة من المباحات أو يتحملها الغير على سبيل التسامح .
ومن العرض السابق يتضح أن القانون المصري يأخذ ، كقاعدة ، بالنظرية التقليدية للحيازة . فلا يحمي القانون الحيازة إلا إذا توافر كل من العنصر المادي والمعنوي ، ورغم ذلك فقد تأثر بالنظرية المادية للحيازة فقرر حماية الحيازة المادية أو العرضية استثناء في حالتين :
أ- حالة المستأجر : فقد أجاز له القانون رفع جميع دعاوى الحيازة إذا حصل له تعرض في حيازته ( م 575 مدني ) . وقد أراد به تقوية مركز المستأجر وحمايته . وان كان الراجح أنه لاتقبل دعوى الحيازة من المستأجر على المالك ، لأن العلاقة بينهما تستند إلى عقد الايجار وما يرتبه من حقوق والتزامات .
ب- حالة دعوى استرداد الحيازة : بمقتضى نص ( المادة 958/2 مدني ) للحائز بالنيابة عن غيره رفع دعوى الاسترداد ، وبناء على ذلك تعد دعوى استرداد الحيازة مستثناه من قاعدة الحيازة القانونية ، ويجوز أن تقبل من أي حائز مادي أو عرضي . وقيل في تبرير هذا الاستثناء ما يمثله الاعتداء الذي يبرر رفع هذه الدعوى من جسامة .
وبسبب صعوبة اثبات العنصر المعنوي خفف القانون على الحائز عبء الاثبات ، فأقام قرينة قانونية مؤداها أن الحائز المادي يعتبر حائزاً قانونيا حتى يثبت العكس ( م 963 مدني ) . وهكذا يكفي الحائز اثبات العنصر المادي في حيازته ، وهو أمر ميسور ، وعندئذ يعتبر الحائز المادي حائزاً قانونياً حتى يقوم الدليل على العكس .
ثانياً : شروط الحيازة ( أوصافها ) :
لا يكفي أن تكون الحيازة قانونية ، بل لابد فضلا عن ذلك أن يتوافر فيها شروط أو أوصاف معينة تجعلها جديرة بالحماية عن طريق دعاوى الحيازة . ويؤدي تخلف أي شرط من هذه الشروط إلى أن تصبح الحيازة معيبة :
1- الاستمرار مدة سنة : ويقصد بذلك أنه يجب أن تتوالى أعمال السيطرة المادية على الشئ في فترات منتظمة ومتقاربة ، كما يستعمل المالك ملكه عادة ، لمدة سنة . فالحيازة التي تستمر هذه المدة تكون أمراً واقعاً مستقرا جديرا بالحماية . ولذا يعيب الحيازة أن تكون متقطعة غير مستمرة على نحو يخالف الحق عليها حسب طبيعة الشئ . ومع ذلك لا تنقضي الحيازة إذا حال دون مباشرة السيطرة الفعلية على الحق مانع وقتي. ولكنها تنقضي إذا استمر هذا المانع سنة كاملة وكان ناشئا عن حيازة جديدة وقعت رغم إرادة الحائز أو دون علمه ( م 957 مدني ).
وللحائز إذا كان خلفا أن يضم إلى مدة حيازته مدة حيازة سلفه ( م 955 مدني ) . ويقع على المدعي عبء اثبات استمرار حيازته مدة سنة ويكفيه اثبات بدء حيازته للحق وأنه كان حائزا عند وقوع الاعتداء فيفترض حيازته في الفترة بين الواقعتين .
2- الهدوء : ويقصد بذلك ألا تكون الحيازة قد اكتسبت بعمل من أعمال العنف أو الاكراه ، سواء كان الاكراه مادياً أو أدبيا . فإذا كانت الحيازة قد اكتسبت بالقوة وظلت كذلك فانها تكون معيبة غير جديرة بالحماية . أما إذا اكتسبت بالقوة ثم أصبحت هادئه فانها تعتبر حيازة صحيحة منذ صيرورتها هادئه ، وتحسب مدة السنة اللازمة لاستمرارها منذ هدوء الحيازة . والاكراه عيب نسبي بمعنى أنه لا يكون له أثر إلا قبل من وقع عليه الاكراه.
3- الظهور : ويقصد بذلك أن يباشر الحائز أعمال السيطرة المادية على مشهد من الناس . فالحيازة يجب أن تكون علنية وغير خفية حيث يستطيع أن يراها ويعلم بها كل من يحتج عليه بالحيازة . فمن يحوز حقه يجب أن يستعمله كما لو كان صاحب الحق ، وصاحب الحق لا يستعمله خفية . فإذا كانت أعمال الحيازة تتم خفية فانها تكون معيبة .
والخفاء ، كالاكراه ، عيب مؤقت ، فقد يزول وتصبح الحيازة علنية ، ولكن لا يعتد بها إلا من وقت ظهورها . وهو أيضاً عيب نسبي بمعنى أنه إذ كانت الحيازة خفية فلا يكون لها أثر قبل من أخفيت عنه .
4- الوضوح : ويقصد بذلك ألا يشوب الحيازة أي لبس أو غموض في الكشف عن نية الحائز ، بحيث يمكن أن يفهم من الأعمال المادية التي يقوم بها أنه يباشرها لحسابه وباعتباره صاحبا للحق .
وتكون الحيازة مشوبة باللبس أو الغموض إذا اشتبه في أمرها فيما يتعلق بعنصر القصد . فالأعمال المادية للحيازة ينبغي أن تشف عن نية الحائز بجلاء ، أما إذا كان من المحتمل تأويلها إلى تفسير آخر اعتبرت الحيازة غامضة ، وبالتالي تكون معيبة . ومثال ذلك حيازة الشريك على الشيوع للمال الشائع إذا كانت الظروف تجعل من الصعب الجزم بأنه يحوز لنفسه أو لحساب الشركاء جميعا . كما أن الغموض قد يثور أيضا في حالة حيازة أحد الورثة العقار من التركة ، فلا يفهم ما إذا كان هذا الوارث يحوز العقار باعتباره جزءاً من التركة أم يحوزه بصفته الشخصية باعتباره مالكاً له .
ويلاحظ أن عيب الغموض يتعلق بالعنصر المعنوي ، في حين أن عيب الخفاء ينصب في الواقع على العنصر المادي ، وعيب الغموض ، كالاكراه والخفاء ، عيب نسبي لا يكون له أثر إلا قبل من التبس عليه الأمر . وهذا العيب يزول أيضاً إذا تعمد الحائز القيام بأعمال لا تترك شكا أنه يحوز العين بنية التملك اي لحساب نفسه خاصة. ولكن لا يعتد بهذه الحيازة الا من وقت زوال هذا العيب .
وإذا اجتمعت هذه العناصر والشروط للحيازة ، كانت صحيحة وتجوز حمايتها بدعاوى الحيازة . والأصل في الحيازة أنها صحيحة خالية من هذه العيوب . ولذا لا يقع على عاتق الحائز عبء إثبات أن حيازته هادئه ظاهرة واضحة . وإنما يقع عبء اثبات العيب على من يدعي وجوده .
وانتظروا الجزء الرابع