رغم أن الحديث كان يتسم بالجدية إلا أن المحامية المتمرنة التي كنت أحاورها قالت وفي عينيها ابتسامة ذات معنى : (الزواج نصيب .. لكن لو كان الأمر يعود لي فأختار أن أتزوج قاضياً ) ... ودون أن أسألها عن السبب استطردت وقالت : (زواجي من قاض يفتح أمامي الكثير من الأبواب المغلقة خاصة على الصعيد المهني ... وفهمك كفاية) .
وبغض النظر عن صحة أو عدم صحة خيار هذه المحامية فإنه لا يسعنا إلا أن نقف بتمعن عند المبررات التي ساقتها لتعليل تفضيلها الزواج من قاضٍ وهو " فتح الأبواب المغلقة " .
فما هي الأبواب المغلقة ؟؟ وكيف تفتح هذه الأبواب إذا تزوجت المحامية من قاضٍ ؟؟؟
رفضت المحامية المتمرنة أن تجيبنا عن هذا السؤال وأصرت على قولها أن فهمنا يكفي !!! خاصة بعد أن نبهتها زميلتها الجالسة بقربها على أننا ربما نسجل كلامها .
وفي الواقع فقد فوجئنا بعد البحث والاستقصاء بأن حالات الزواج والمصاهرة والقرابة الموجودة بين القضاة والمحامين هي حالات كثيرة ومتعددة وتكاد تشكل ظاهرة فعلية تستحق الدراسة لمعرفة مدى تأثيرها على سير عمل القضاة ومدى مساهمتها في تغيير القيم التي يقوم عليها العمل القضائي سواء سلباً أو إيجاباً وعلى وجه الخصوص مدى تأثيرها على حياد القضاء ونزاهته ومدى استغلال هذه العلاقات من قبل بعض الأطراف لتحقيق مصالحهم الشخصية ومنافعهم الذاتية.
* وبطبيعة الحال فقد رفض جميع القضاة والقاضيات الإجابة عن الأسئلة التي وجهناها إليهم حول هذا الموضوع واحتجوا جميعاً بالبلاغ الصادر عن وزير العدل والذي يحظر عليهم التحدث إلى وسائل الإعلام دون موافقته الخطية .
لذلك فقد توجهنا إلى أوساط المحامين والمحاميات لعلنا نسمع منهم بعض الحقائق حول هذا الموضوع .
ورغم أن العديد من المحاميات كانت تطلق لسانها في الحديث معنا وتسرد لنا الكثير من الوقائع المفيدة والتفاصيل الجيدة عن هذا الموضوع إلا أنها بعد أن تعرف أن حديثها سوف ينشر ضمن هذا التحقيق الذي نقوم بإعداده كانت تسحب كلامها وتسارع بالانسحاب من الجلسة .
ومع ذلك فسوف نسمح لأنفسنا أن ننشر بعض الوقائع التي سمعناها أثناء حديثنا معهن دون أن نفضح هوية المتحدثة :
جواباً عن سؤالنا : ( هل تعتقدين أن المتقاضين يقصدونك لمجرد أنك زوجة القاضي الناظر في دعواهم أم لأنهم يثقون بمهارتك كمحامية ؟؟؟)
قالت المحامية (أ) من فرع دمشق وبتلعثم واضح : ( لا .. لا .. إنهم يقصدونني كمحامية ومعظمهم لا يعرف أني زوجة القاضي فلان ) .
وجواباً على سؤالنا :(اين ترتاحين أكثر بحضور الجلسات في محكمة زوجك أم محكمة غيره ؟؟) قالت بثقة : أكيد بمحكمة زوجي .
كان يهمنا ،هنا، في الواقع أن نسمع منها اعترافاً صريحاً بأنها تقبل التوكل وتقوم بالمرافعة أمام المحكمة التي يرأسها زوجها القاضي . ولم نشأ إحراجها بالسؤال عن مدى توافق ذلك مع أحكام القانون وخاصة القانون الناظم لمهنة المحاماة .
أما المحامية (.... خ) والتي يبدو أنها على اطلاع بقانون مهنة المحاماة فقد أنكرت بشكل مطلق أنها ترافع في المحكمة التي يرأسها زوجها القاضي فلان وقالت بما حرفيته : ( أنا ما باخد دعاوي عند زوجي ). رغم أن سجلات المحاكم بينت لنا فيما بعد أن ادعاء المحامية كان غير صحيح لأن النسبة الكبيرة من دعاويها كانت مسجلة في غرفة القاضي زوجها .
* وعندما سألنا عن تأثير علاقات القربى بين القضاة والمحامين على سير العمل القضائي ومساهمة هذه العلاقات في تغيير قيم القضاء .... قال لنا أحد المحامين الغاضبين :(خراب بيوت ... حرام اللي عم يصير .... المحاباة والمحسوبية في هذه الحالات تطغى على كل شيء وكم من دعوى ردت وكم من حق هدر فقط لأن المحامي يقرب القاضي الناظر في الدعوى ... هل يجوز أن يحرم الناس من حقوقهم لأن القاضي يريد أن ينفع زوجته المحامية أو صهره المحامي أو ابنه ؟؟؟ أهذه هي العدالة ؟؟؟)
وتابع قائلاً : (أين الضمير ؟؟؟ أين المساواة في الفرص؟؟؟ أصبحنا في زمان تقاس فيه مهارة المحامي ليس بعلمه ومقدراته وإنما بعلاقاته مع القضاة وقدرته على إرضائهم ... والله حرام ) .
وقال محامٍ آخر من فرع طرطوس :(تتفاجأ عندما ترى أن صهر أحد القضاة في هذه المحافظة يعتبر مختصاً بنوع معين من القضايا ليس لأنه خبير بها أكثر من غيره وإنما لأنه صهر القاضي الذي يختص بنظر هذا النوع من الدعاوى .... ولا أستطيع أن أقول أكثر من ذلك لأن هناك أحاديث كثيرة تتعلق بطبيعة العلاقة التحالفية بين القاضي وصهره ...... ) .
ثم أضاف قائلاً :( هناك قاضية وزوجها خبير في المحكمة ومعلوماتي أن أغلب الخبرات التي تقوم بها هذه القاضية تكلف بها زوجها ....)
ولفت انتباهنا أحد المحامين إلى ظاهرة "أبناء القضاة" (فهؤلاء محظوظون في كافة الأحوال فهم إما أن يتوكلوا في الدعاوى المنظورة أمام آبائهم وإما أن يكون لهم دور" ما " في حسم الدعاوى التي يطلب منهم شخص " ما " التدخل من أجل حسمها لمصلحته .... ليس جميع أبناء القضاة كذلك أؤكد لك لكن هذه الظاهرة موجودة وتحتاج إلى تدخل سريع لحلها ..... أعرف مثلاً أن بعض المتقاضين يبحثون في مقر المحكمة عن محامٍ لا يعرفون إلا اسمه فإذا سألتهم عن السبب قالوا لك أنه ابن القاضي فلان أو صهره أو .... أو ..... ) .
إذاً ظاهرة القرابة والمصاهرة بين القضاة والمحامين هي ظاهرة موجودة وتترتب عليها آثار سلبية تنعكس على أداء القضاة وعلى سلم القيم الذي يحكم عمل القاضي كما تؤثر على عمل المحامين وفرص المنافسة بينهم وفق معايير عادلة وفي ميادين متساوية .... فالقرابة أو المصاهرة بين القاضي والمحامي هي قرينة على المحاباة بينهما وهذه طبيعة مركبة في النفس البشرية وقلة هم من يستطيعون السيطرة عليها أو مقاومتها فكل إنسان أياً كان منصبه يميل إلى تقديم المنفعة والفائدة لأقربائه بغض النظر عن مقتضيات العدالة واعتبارات القانون لأن العاطفة التي يحملها في جنباته تجاه قريبه تضع غشاوة على عينيه بحيث لا يكون قادراً على التمييز تماماً بين حق الغريب وباطل القريب أو يكون قادراً على التمييز لكنه يقدم متعمداً على تفضيل مصلحته ومصلحة قريبه على حكم القانون وهنا تكمن المشكلة التي ينبغي إيجاد حل سريع لها . فالعدالة هي حق لكل مواطن ولا يجوز إهدارها بسبب المصالح الضيقة لبعض فئات القضاة والمحامين .
والسؤال هل عالج نص القانون هذه القضية ووضع حلاً لها ؟؟ وما هو هذا الحل ؟؟؟
الرأي القانوني :
لم يترك القانون هذا الموضوع دون ضوابط تحكمه وتحد من آثاره السلبية فقد نصت المادة /72/ من قانون تنظيم مهنة المحاماة على أنه :
لا يجوز للمحامي أن يقبل الوكالة أو يستمر فيها في دعوى أمام قاض تربطه به قرابة أو مصاهرة حتى الدرجة الرابعة ... ولو وافق خصمه على ذلك " .
وبحسب هذا النص فإن المشرع يحظر على المحامي قبول التوكل أو الاستمرار في التوكل في دعوى منظورة امام قاض تربطه به علاقة مصاهرة حتى الدرجة الرابعة .
فإذا كانت علاقة القرابة أو المصاهرة قائمة مسبقاً بين القاضي والمحامي فإن المشرع يحظر على المحامي قبول التوكل في أي دعوى منظورة أمام هذا القاضي .
أما إذا نشأت علاقة القرابة أو المصاهرة بين القاضي والمحامي بعد تاريخ تقديم الدعوى فإن المشرع يحظر على المحامي الاستمرار في العمل بموجب وكالته في هذه الدعوى ويتوجب عليه اعتزال هذه الوكالة فوراً وفق الإجراءات القانونية .
ويلاحظ أن الغاية التي يسعى إليها المشرع من هذا الحظر لا تتعلق بحماية مصلحة شخصية لأطراف الخصومة وإنما تتعلق بمصلحة عامة متصلة بالنظام العام وهي تأمين الحياد الكامل للقاضي وتحقيق نزاهته وعدم انحيازه إلى طرف دون آخر وهي غاية جليلة لا يجوز التقليل من أهميتها لأن حياد القضاء ركن من أركان وجوده .
ويؤكد ذلك أن المشرع لم يأخذ بعين الاعتبار موافقة الخصم أو عدم موافقته على توكل المحامي الذي تربطه بالقاضي علاقة قربى ضده في هذه الدعوى . بل اعتبر الحظر سارياً حتى لو وافق الخصم على ذلك.
وقد توجهنا بالسؤال إلى المحامي الأستاذ بهاء الدين بارة من فرع دمشق عن موضوع القرابة بين القاضي وأحد أطراف الدعوى أو وكيل أحد الأطراف فأجاب قائلاً :
لكل شخص الحق في ان يلجا إلى المحاكم الوطنية لإنصافه من أعمال فيها اعتداء على الحقوق التي كفلها له القانون والدستور في الدولة . والانصاف يقتضي وجود محكمة مستقلة ونزيهة لتنظر في دعواه نظرا عادلا ومن هنا جاءت فكرة الحصانة للقاضي ،حيث يجب أن يكون القاضي يتمتع بالحصانة والاستقلالية مما يؤدي إلى انتاج العدالة بين يديه لتنشر الطمأنينة في نفوس المتقاضين .
وأضاف : حسب نص المادة /174/ من قانون أصول المحاكمات المدنية فإنه : يجوز رد القاضي لأحد الأسباب الآتية:
أ- إذا كان له أو لزوجته مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في الدعوى ولو بعد انحلال عقد الزواج.
ب- إذا كان بينه وبين أحد الخصوم قرابة أو مصاهرة حتى الدرجة الرابعة.
ج- إذا كان خطيباً لأحد الخصوم.
وذكر أنه وأن كان الفقه القضائي قد ترجم نص المادة /174/ أصول على أن ماجاء فيها هو على سبيل الحصر وأنه لايجوز التوسع عن النص أكثر إلا أنه وفق مبدأ العدالة وضمانات المتقاضين يجب أن يكون الرد في كل حالة يخشى معها أن ينحرف القاضي عن الحياد . وحتى أنه على القاضي أن، يبادر من نفسه حرصا منه على كرامته فإنه يجب عليه ومن تلقاء نفسه /أن يرد نفسه / أي يتنحى عن الدعوى وذلك لإزالة أي خلل وريبة قد تنال المحكمة وقضاءها .
والسؤال الذي يطرح نفسه على ضوء ما أفادنا به الأستاذ بهاء الدين بارة هو : أليس هناك قاسم مشترك بين المادة /72/ من قانون تنظيم مهنة المحاماة ونص المادة /174/ من قانون أصول المحاكمات المدنية ؟؟؟ ألا يهدف كلا النصين إلى تحقيق حياد القضاء ونزاهته وضمان عدم انحيازه بسبب وجود علاقات قربى بين القاضي وأحد المحامين أو القاضي وأحد أطراف الدعوى ؟؟؟؟ أليس الواجب الملقى على عاتق المحامي بعدم قبول الوكالة أو اعتزالها في حال وجود قرابة بينه وبين القاضي ... هو نفس الواجب الملقى على عاتق القاضي بالتنحي عن نظر الدعوى إذا كانت تربطه مع أحد أطرافها صلة قرابة حتى الدرجة الرابعة ؟؟؟؟؟
ومع أن نص القانون واضح ولا يحتاج إلى تفسير إلا أن الممارسة اليومية تشهد تجاهلاً كاملاً لهذا النص القانوني رغم أهميته القصوى في تأمين الضمانات اللازمة لتحقيق حياد القضاء ونزاهته ... ومما يدمى له القلب أن هذه الحالة تبرز كدليل قاطع على أن المؤتمنين من قضاة ومحامين على نصوص القانون وحسن تطبيقها هم المخالفون والمرتكبون الأساسيون لمخالفة هذا القانون !!!!!!
دور نقابة المحامين :
رغم المخالفات المتكررة لنص المادة /72/ من قانون تنظيم مهنة المحاماة ومعرفة النقابة بشكل يقيني بهذه المخالفات ومدى تأثيرها على نزاهة العمل القضائي وحياديته إلا أنها ما زالت تتجاهل مثل هذه الانتهاكات لنص القانون ولروح العمل القضائي متحصنة بجدار من الصمت والإهمال واللامبالاة . ويأتي صمت النقابة وعدم مبادرتها لمعالجة مثل هذه المخالفات الجسيمة في الوقت الذي تعتبر فيه نقابة المحامين من أكثر المتضررين من هذه المخالفات : لأنها أولاً تنتهك نص قانوني وارد في قانون تنظيمها . ولأنها ثانياً تؤثر سلباً وبشكل كبير على عمل المحامين وفرص المنافسة فيما بينهم كما تؤثر على العلاقة القائمة بين القضاة والمحامين وشحنها بكثير من التشنج واللاثقة .
دور التفتيش القضائي :
حاولنا أن نستطلع من بعض المسؤولين في إدارة التفتيش القضائي عن الدور الذي يمكن أن يضطلع به جهاز التفتيش القضائي من أجل معالجة هذه المخالفات المستفحشة إلا أن الجواب الذي وصلنا هو أنه لا يمكن للتفتيش القضائي القيام بأي عمل في هذا المجال دون أن يكون بين يديه شكوى رسمية مقدمة من صاحب العلاقة وأنه حتى الآن لم تقدم إليه أي شكوى بهذا الخصوص !! .
نرجو في نهاية هذا التحقيق أن نكون قد سلطنا الضوء على هذه القضية ونجحنا في إبراز مدى مخالفتها لقيم النزاهة والشفافية والحياد التي تعتبر من أهم ركائز العمل القضائي . ونأمل من الجهات المعنية سواء التفتيش القضائي أو نقابة المحامين أو كل من له صلة بهذا الموضوع أن يقوم بواجبه في معالجة هذه المخالفات الجسيمة وأن يحرص على تطبيق القانون بما يحقق للقضاء نزاهته وحياده . ونحن من جانبنا سوف نتابع هذا الموضوع عن كثب علماً أننا نقوم حالياً بإعداد قائمة تتضمن أسماء القضاة والمحامين المخالفين لهذه المادة القانونية مع أرقام الدعاوى التي تمت فيها المخالفة ونرجو ألا نضطر إلى نشر هذه القائمة .
|