ضفاف بردى وأمواج النيل في بحثهما الثاني
( التعسف في استعمال الحق )
تقديم :-
لكل فرد أو هيئة في أي مجتمع كان مصالح مختلفة يسعى إلى تحقيقها لتحقيق وجوده وبلوغ أهدافه وقد تتعارض هذه المصالح مع مصالح الغير ، وتتصادم فينتج عنها الخلل والفوضى في الحياة الاجتماعية ولذا وجد القانون ليكون سبيلا إلى تحقيق التوازن الاجتماعي بتحديده الظروف والشروط التي تكون فيها مصلحة الشخص أولى بالرعاية من مصلحة غيره ، ولمنحه بالتالي السلطة والقدرة التي تمكنه من تحقيق مصلحته المشروعة دون تعدي الآخرين عليها ومن هنا نشأت فكرة الحق .
ولعل أن تعبير الحق يستخدم كثيراً في الحياة القانونية ، بل وفي الحياة العامة اليومية فكل منا يستخدمه حسبما تمليه عليه مصالحه ، سواء أكان حقاً فعلاً أم يظنه كذلك ، و تتجلى هنا مهمة القانون في تحديد الضوابط والمعايير التي تنظم الحقوق والواجبات ووضعها في قواعد قانونية تتسم بالعمومية والتجريد والإلزام ومن هنا نستطيع القول أن يجب يكون الحق هو السلطة أو القدرة التي يمنحها القانون لشخص من الأشخاص تحقيقاً لمصلحة مشروعة يعترف له بها ويحميها .
ونُشير في بداية بحثنا هذا إلى أن الحديث عن نظرية الحق بتقسيماتها وتطبيقاتها المختلفة تحتل جانباً كبيراً من الأهمية ، كما لا يتسع بحثنا هذا لتناول هذه النظرية من جوانبها المتعددة ، وأننا سوف نتعرض لنظرية الحق دون التعمق فيها لكن عرضنا سيكون بالقدر اللازم لحمل بحثنا الرئيسي في تناول جزئية نراها من الأهمية الواجب التعرض لها ، لكثرة تطبيقاتها في الناحية العملية ، ألا وهي إساءة استعمال حق التقاضي ، والتي سنعرضها في الجزء الثاني من بحثنا – إن شاء الله تعالى -
تعريف الحق
أولاً :- تعريف الحق في اللغة العربية .
جاء في لسان العرب : أن الحق نقيض الباطل ، وحق الأمر صار حقاً وثبت ، في اللغة يقوم على معنى الثبوت ، والوجوب والصحة ، فالحق هو الثابت الواجب والصحيح.
فالحق في اللغة العربية له عدة معان ترجع كلها في الواقع إلى الثبوت والوجوب ومن هذا قوله تعالى : - ( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (يّـس:7) ، أي ثبت ووجب عليهم، ومنه قوله تعالى ( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُون َ) (لأنفال:8) ، أي يثبت الحق ويظهره وفي التنزيل العزيز قوله تعالى : ( قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ) (القصص:63) .
ثانياً :- تعريف الحق في الشريعة الإسلامية .
لم يبعد فقهاء الشريعة الإسلامية في فهمهم للحق وتصويرهم له عن هذا المعنى اللغوي. فالحق هو الحكم الذي قرره الشارع. وتورد كتب الفقه أن فقهاء الشريعة الإسلامية لم يصطلحوا على وضع تعريف أو تفسير للحق اكتفاء بمعناه اللغوي، ومع هذا فقد عرفه بعض الفقهاء ( الأستاذ مصطفى الزرقا ) بـأنه ( بأنه اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفا ) ، وقد درج بعض فقهاء الشريعة الإسلامية على عدم استعمال كلمة (الحق) إلا قليلا في كتب الأصول في الشريعة الإسلامية ، بل يغلب نظرهم إلى ناحية المكلف فيتكلمون غالبا عن التكليف لا عن الحق، وعندهم أن (خطاب الله تعالى يتعلق بأعمال المكلفين باقتضاء الفعل والترك، فهو عبارة أمر أو نهي أو إباحة والذي يأتي عملا مباحا لا يأتيه على انه حق بل على انه غير ممنوع منه).
ثالثاً :- تعريف الحق في القانون .
أما فقهاء القانون وشراحه فقد اختلفوا في تعريف الحق حيث عرفه الدكتور/ السنهوري:- بأنه مصلحة ذات قيمة عالية يحميها القانون. ، وقد انتقد البعض هذا التعريف لأنه حصر الحق بالقيمة المالية، مع أن هناك حقوقاً لا تقدر بالأموال ولكنها من قبيل السلطة كحق الولي على الصغير مثلاً .
ويعرفه بعض شراح القانون المدني المصري: بأنه سلطة أو قدرة إرادية يحولها الشخص لتمكينه من القيام بأعمال معينة، تحقيقاً لمصلحة له يعترف بها القانون.
ولا يختلف تعريف شراح القانون المدني السوري عنه كون هذا القانون هو وحسب ما ورد في المذكرة الإيضاحية للقانون المدني السوري :
" أن مشروع القانون يقوم أساساً على القانون المدني المصري والسبب في اختيار هذا القانون أساساً للمشروع السوري يعود إلى ما بين القطرين الشقيقين من التقاليد المشتركة والعادات المتقاربة والأوضاع الاجتماعية المتشابهة بحيث يسهل تطبيقه في سوريا ويؤدي في الوقت نفسه إلى الاستفادة من اجتهاد القضاء المصري ومن آثار رجال القانون المصريين ويقيم بين البلدين تعاوناً واسعاً في التشريع المدني "
غير أن هذا التعريف قد انتقد بدوره من عدة وجوه وخاصة لما يوحيه من أن الحق - الذي هو سلطة أو قدرة إرادية ـ لا يمكن أن يمنح إلا للشخص الذي تتوافر فيه الإرادة في حين أن الأشخاص جميعا حتى اللذين تنعدم لديهم الإرادة والتفكير كالصغير غير المميز والمجنون يمكن أن يكتسبوا الحقوق ويتمتعوا بما تتضمنه من سلطات وإن كان عديمو الإرادة لا يمارسون هذه السلطات بأنفسهم إنما يتولى غيرهم ممارستها باسمهم ولحسابهم .
وعرفه ايهرنج وبعض الفقهاء الآخرين بأنه : ( مصلحة يحميها القانون )
وهذا التعريف انتقد أيضاً من حيث أنه لا يبين مفهوم الحق وكنهه وإنما يقتصر على بيان غايته فقط لأن المصلحة ليست هي الحق نفسه وإنما الغاية التي يهدف إلى تحقيقها صاحب الحق أما حقه نفسه فيتمثل في السلطة الممنوحة له لتمكينه من تحقيق هذه المصلحة المشروعة التي أقرتها له القواعد القانونية
أما الفقه الحديث فعرف الحق بأنه الرابطة القانونية التي بمقتضاها يخول القانون شخصاً من الأشخاص على سبيل الاستئثار والانفراد و التسلط على شيئي أو اقتضاء أداء معين من شخص آخر
، ومن هنا نرى نشير للصلة الوثيقة التي تربط بين القانون والحق حيث أن الحقوق إنما تتولد في الواقع عن القانون
فالحق وفق هذا التعريف يُفترض وجود عنصرين أولهما :- الرابطة القانونية ، وثانيهما :- الاستئثار
تقسيمات الحقوق .
يُقسم بعض الفقهاء الحقوق إلى نوعين أساسيين أولهما هي الحقوق العامة ، وهي الحقوق التي تقررها قواعد القانون العام للدولة والأفراد والتي تستهدف غايات فكرة الصالح العام ، وثانيهما هي الحقوق الخاصة وهي التي تستهدف غايات فردية وتنظمها قواعد القانون الخاص .
ويرى البعض أنه يدخل في زمرة الحقوق العامة نوعان هامان من الحقوق أولهما الحقوق السياسية و هي التي تتقرر للفرد بوصفه مواطناً في دولة وتخول له حق المساهمة في حكمها ، أما الثانية فهي الحقوق المدنية وهي الحقوق التي تثبت خارج نطاق الصفة السياسية فهي تكون " منطقة نشاط تتقرر لكل فرد ، ليستطيع العيش من الجماعة على وجه يكفل خيره وتقدمه " ، ولعل أن هذا التقسيم ليس مُسلما به لدى كافة فقهاء القانون ، فهناك تقسيم آخر ينطلق إلى تقسيم الحقوق إلى :
حقوق الأسرة من جهة والحقوق المالية من جهة أخرى فحقوق الأسرة عبارة عن مراكز ممتازة أو سلطات تعترف بها قواعد الأحوال الشخصية للأفراد بسبب صلة القرابة أو الزواج أو المصاهرة وأما الحقوق المالية فهي : سلطات تمنحها قواعد القانون الخاص الأخرى لأصحابها تمكيناً لهم من تحقيق مصالح تعود إليهم تقويمها بالمال .
وهناك تقسيم بين حقوق عينية وحقوق شخصية
فالحقوق العينية هي سلطة مباشرة لشخص على شيء معين بالذات يستطيع هذا الشخص ممارستها دون واسطة وتقسم لأصلية وتبعية ، بينما الحق الشخصي هو سلطة مقررة لشخص تجاه آخر تخول الأول أن يجبر الثاني أن يقوم له بعمل أو يمتنع من أجله عن عمل
تطور نظرية التعسف ومناقشتها.
نظرية التعسف في استعمال الحق حديثة العهد نسبياً فهي لم تبرز بشكل نظرية كاملة ولم تأخذ بها التشريعات ويطبقها القضاء كمبدأ عام إلا منذ نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن الذي يليه أما في القانون الروماني وقانون القرون الوسطى في أوربا فقد كانت هنالك بعض الآراء المتفرقة والتطبيقات القضائية المتناثرة التي تعتمد على هذا المفهوم دون نظرية واضحة متفق عليها وفي الشريعة الإسلامية هناك أيضاً مبادئ عديدة وأحكام فقهية متنوعة يمكن أن تبنى عليها نظرية كاملة في التعسف باستعمال الحق ، وقد انقسم الفقه والقضاء بين نظريتين متعاكستين :
النظرية الأولى : وهم من يرفضون الأخذ بفكرة التعسف في استعمال الحق منطلقين من تعريف الحق بأنه قدرة الإرادة على النشاط في دائرة معينة و كل حد من هذا النشاط ينطوي على إساءة أكثر خطورة من إساءة استعمال الحق وهذا الاتجاه تحبذه النظم القانونية الغالبة عليها النزعة الفردية كالقانون الفرنسي .
النظرية الثانية : تنحو بها القوانين التي تغلب عليها النزعة الاجتماعية فلا تنظر نظرة مقدسة للحقوق الفردية وترى أن الحق هو غرض لتحقيق مصلحة مشروعة لا معول هدم وضرر للغير وهذا ما سارت عليه أغلب التشريعات الحديثة .
ولكن حتى الفقهاء اللذين يأخذون بفكرة التعسف في استعمال الحق يختلفون في ناحيتين جوهريتين :
الناحية الأولى : البعض يرى عدم ضرورة وجود مبدأ مستقل لتقرير عدم جواز التعسف باستعمال الحق باعتبار أن هذه النظرية ليست سوى تطبيق لنظرية أعم وهي نظرية العمل غير المشروع اعتقاداً منهم لوجود تنافر بين لفظتي التعسف والحق لأن التعسف يخرج العمل من دائرة الحق ويقلبه لعمل غير مشروع فلا يصح اعتباره يمارس حقه ومتعسفاً فيه بآن واحد فنظرية العمل المشروع تغني عن نظرية التعسف باستعمال الحق .
الناحية الثانية : اختلف الفقهاء في الضوابط والمعايير التي يعتبر فيها استعمال الحق مشوباً بالتعسف فالبعض يرى الاقتصار على معيار شخصي وهو المعيار الذي يقوم على الإضرار ونية الإساءة بينما نرى البعض الآخر يتوسع بمفهوم التعسف ويضيف إليه المعيار الشخصي معيار ذا صفة مادية أو موضوعية فيقر بوجود التعسف إذا أحدث استعمال الحق ضرراً للغير ولو لم يقصد صاحب الحق ذلك .
ولا تزال نظرية التعسف في استعمال الحق بحاجة إلى المزيد من الدراسات الفقهية والتطبيقات القضائية ليتبلور مفهومها ويتحدد مجال تطبيقها بصورة أوضح لا سيما عند فقدان قصد الضرر.
التنظيم القانوني لإساءة استعمال الحق والمعايير والضوابط المعتبرة .
تناولت التشريعات الوضعية تنظيم نظرية الحق فنصت المادة (4) من القانون المدني المصري على أن( من استعمل حقه استعمالا مشروعا لا يكون مسئولا عما ينشأ عن ذلك من ضرر ) وناظرتها كذلك المادة (5 ) من القانون المدني السوري بذات الصيغة .
كذلك نص القانون السوري على تسميتها ممارسة الحق وذلك في المادة 182من قانون العقوبات حيث ورد : (( الفعل المرتكب في ممارسة حق دون إساءة استعماله لا يعد جريمة )) في حين أطلق عليها قانون العقوبات المصري ممارسة أو استعمال الحق ، فالأصل أنه لا جناح على من يستعمل حقه استعمالا مشروعاً فلا يكون من ثم مسئولاً عما ينشأ عن ذلك من ضرر بغيره على نحو ما نصت عليه المادة الرابعة من القانون والمبدأ المقرر في هذه المادة من المبادئ المسلم بها وقد أخذ به الفقه الإسلامي حين قالت إحدى قواعده الكلية ، ( الجواز الشرعي ينافي الضمان ) إذ من البداهة أن يكون الفعل مباحاً إذا جاء استعمالاً لحق يقرره القانون أو تقرره الشريعة الإسلامية وتطبيقاً لذلك فقد جاءت المادة(60) من قانون العقوبات المصري لتنص على ( لا تسرى أحكام قانون العقوبات على كل فعل ارتكب بنية سليمة عملا بحق مقرر بمقتضى الشريعة. ) وتطبيقاً لذلك فقد قضت محكمة النقض المصرية أنه ( يبيح حق الحبس المقرر بمقتضى أحكام المادة 246 من القانون المدني للطاعن الامتناع عن رد الشيء " المذياع موضوع جريمة التبديد المنسوبة إليه " حتى يستوفى ما هو مستحق له من أجر إصلاحه و هو ما من شأنه - إن صح و حسنت نية الطاعن - انعدام مسئوليته الجنائية بالتطبيق لأحكام المادة 60 من قانون العقوبات )
الطعن رقم 504 لسنــة 37 ق - تاريخ الجلسة 08 / 05 / 1967 مكتب فني 18 )
ولكن لكي يكون الفعل استعمالاً للحق لا بد من توافر الشرائط التالية من حيث المبدأ :
1 ـ وجود حق مقرر بمقتضى القانون ويقصد هنا القانون بالمعنى الواسع حتى يشمل العرف واستعمال الرخصة سبباً للتسويغ شأنه شأن استعمال الحق ( كفتح تاجر لمتجر بجانب آخر ولو تسبب بضرر التاجر الآخر من باب المنافسة طالما النظام الاقتصادي أقر ذلك )
2 ـ أن يكون ارتكاب الفعل لازماً لاستعمال هذا الحق كممارسة حق الدفاع أمام القضاء واستعمال عبارات معينة بحدود ضرورة الدفاع .
3 ـ أن يكون الفاعل مخولاً من قبل القانون باستعماله والأغلب أن يكون صاحبه .
4 ـ أن لا يكون الحق محل نزاع فإذا كان متنازعاً عليه فلا يجوز لمن يدعيه أن يستعمله حتى يقضى له به
5 ـ أن يرتكب في الحدود المقررة للحق وأن لا يتعسف باستعماله .
ومن هنا نصل للقيد الذي أوردته المادة الخامسة من ذات القانون التي أوردت قيداً على الأصل وهو إعمال لنظرية إساءة استعمال الحق يتمثل في أحد معايير ثلاثة يجمع بينها ضابط مشترك هو نية الأضرار سواء في صورة تعمد الإساءة إلى الغير دون نفع يعود على صاحب الحق في استعماله أو في صورة استهانة بما يحيق بذلك الغير من ضرر جسيم تحقيقاً لنفع يسير يجنبه صاحب الحق بحيث لا يكاد يلحقه ضرر من الاستغناء عنه ، الأمر الذي يربط بين نظرية إساءة استعمال الحق و بين قواعد المسئولية المدنية و قوامها الخطأ .
فقد نصت المادة الخامسة من القانون المدني المصري على أنه :
( يكون استعمال الحق غير مشروع في الأحوال الآتية :
(أ) إذا لم يقصد به سوى الإضرار بالغير .
(ب) إذا كانت المصالح التي يرمى إلى تحقيقها قليلة الأهمية ، بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها .
(ج) إذا كانت المصالح التي يرمى إلى تحقيقها غير مشروعة .
وبذات النص وردت المادة السادسة من القانون المدني السوري .
وجاء بمذكرة المشروع التمهيدي المصري تعليقاً على هذه المادة أن " وقد ساعد على اختيار هذا المسلك إقرار الشريعة الإسلامية لنظرية التعسف في استعمال الحق بوصفها نظرية عامة وعناية الفقه الإسلامي بصياغتها صياغة تضارع أن لم تفق في دقتها وأحكامها أحدث ما أسفرت عنه مذاهب المحدثين من فقهاء الغرب والواقع أن المشرع تحاشى اصطلاح ( التعسف ) لسعته وإبهامه وجانب أيضا كل تلك الصيغ العامة بسبب غموضها وخلوها من الدقة وأستمد من الفقه الإسلامي بوجه خاص الضوابط الثلاثة التي اشتمل عليها النص .
ومن المحقق أن تفاصيل الضوابط على هذا النحو يهيئ للقاضي عناصر نافعة للاسترشاد ولا سيما أنها جميعا وليدة تطبيقات عملية انتهى إليها القضاء عن طريق الاجتهاد . وأول هذه المعايير هو معيار استعمال الحق دون أن يقصد من ذلك سوى الإضرار بالغير وهذا معيار ذاتي استقر الفقه الإسلامي والفقه الغربي والقضاء على الأخذ به ، والجوهري في هذا الشان هو توافر نية الإضرار ولو أفضى استعمال الحق إلى تحصيل منفعة لصاحب ويراعى أن القضاء جرى على استخلاص هذه النية من انتقاء كل مصلحة من استعمال الحق استعمالا يلحق الضرر بالغير متى كان صاحب الحق على بينه من ذلك ، وقد جرى القضاء على تطبيق الحكم نفسه في حالة تفاهة المصلحة تعود على صاحب الحق في هذه الحالة أما المعيار الثالث فتندرج تحته (أ) حالة استعمال الحق استعمالا يرمي إلى تحقيق مصلحة غير مشروعة ، ولا تكون المصلحة غير مشروعة إذا كان تحقيقها يخالف حكماً من أحكام القانون فحسب ، إنما تتصف بهذا الوصف أيضاً إذا كان تحقيقها يتعارض مع النظام العام والآداب .، وإذا كان المعيار في هذه الحالة مادياً في ظاهره إلا أن النية كثيرا ما تكون العلة الأساسية لنفي صفة المشروعية عن المصلحة ، وأبرز تطبيقات هذا المعيار يُعرض بمناسبة إساءة الحكومة لسلطتها كفصل الموظفين إرضاءً لغرض شخصي أو شهوة حزبية .
وأحكام الشريعة الإسلامية في هذا الصدد تتفق مه ما استقر عليه الرأي في التقنينات الحديثة والفقه القضاء ( ب ) ... حالة استعمال الحق ابتغاء تحقيق مصلحة قليلة الأهمية لا تتناسب مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها والمعيار في هذه الحالة مادي ولكنه كثيرا ما يتخذ قرينة على توافر نية الإضرار بالغير ويساير الفقه الإسلامي في أخذه بهذا المعيار اتجاه الفقه والقضاء في مصر وفى الدول الغربية على السواء . "
بينما ذهب المشرع الإماراتي لصيغة أخرى إذا نصت المادة 106 من قانون المعاملات المدنية الصادر بالقانون الاتحادي رقم (5) لسنة 1985م والمُعدل بالقانون الاتحادي رقم (1) لسنة 1987م على :
1) يجب الضمان على من استعمل حقه استعمالاً غير مشروع .
2) ويكون استعمال الحق غير مشروع :
أ- إذا توافر قصد التعدي .
ب- إذا كانت المصالح التي أريد تحقيقها من هذا الاستعمال مُخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية أو القانون أو النظام أو الآداب .
ج - إذا كانت المصالح المرجوة لا تتناسب مع ما يُصيب الآخرون من ضرر .
د- إذا تجاوز ما جرى عليه العُرف والعادة .
وجاء بالمذكرة الإيضاحية للقانون الإماراتي ما نصه :-
(( تتناول هذه المادة حالة إساءة استعمال الحق وقد عرف فقهاء الإسلام هذه الحالة منذ القدم وشرعوا لها الأحكام ثم لحق بعم الغربيون نتيجة تطور في المشاعر والأفكار التي أوحى بها التقدم الاجتماعي في الغرب ذلك أن فكرتهم الفردية القديمة التي برزت في نهاية القرن الثامن عشر قد تضاءلت أمام فكرتهم الحديثة التي تهدف إلى اعتبار الحق إنما منح لخدمة الأفراد تحقيقاً لغرض اجتماعي فهو بذلك يمثل وظيفة اجتماعية حقه وبناء على هذه الفكرة قالوا أنه إذا انحرف استعمال الحق عن مقصوده كان ذلك موجباً للجزاء .
ومبدأ إساءة استعمال الحق ليس مقصوراً على الحقوق الناشئة عن الالتزامات بل يمتد إلى الحقوق العينية وإلى روابط الأحوال الشخصية وإلى القانون التجاري وقانون المُرافعات بل يشمل القانون العام أيضاً إذ يمكن القول بأن هناك إساءة استعمال حق الحريات أو حق الاجتماعات وعلم جرا لذلك كان حرياً بالمشرع أن يحل للنص الخاص بإساءة استعمال الحق مكاناً بارزاً بين النصوص التمهيدية حتى ينبسط على جميع نواحي القانون بفروعه المختلفة ولا يكون مجرد تطبيق لفكرة العمل غير المشروع المحصورة في نظرية الحق الشخصي – وقد أقرت الشريعة الإسلامية ذلك على أنه بوصفها نظرية عامة وعني الفقه الإسلامي بصياغتها صياغة تضارع إن لم تفق في دقتها و أحكامها أحدث ما أسفرت عنه مذاهب المحدثين من فقهاء الغرب وإزاء ذلك حرص المشروع على أن يأخذ بلب القواعد التي استقرت في الفقه الإسلامي في هذا المجال مثل ( لا ضرر ولا ضرار ) و ( الضرر يُزال ) و ( الضرر لا يزال إلا بمثله ) و ( الضرر الأشد لا يُزال بالضرر الأخف ) و ( درء المفاسد أولى من جلب المنافع )
وقد تفادي المشروع الصيغة العامة كالتعسف والإساءة بسبب غموضها وخلوها من الدقة واستمد من الفقه الإسلامي وما وضعه من قواعد تقدم بها بعض الضوابط الأربعة التي اشتمل عليها النص وتفصيل الضوابط على هذا النحو يهيئ للقاضي عناصر نافعة للاسترشاد .
وأول هذه الضوابط هو استعمال الحق دون أن يقصد من ذلك سوى الإضرار بالغير وهو معيار ذاتي استقر الفقه الإسلامي على الأخذ به والجوهري في هذا الشأن هو توفر نية الإضرار ولو أفضى الاستعمال إلى تحصيل منفعة لصاحبه ، ويراعى أن هذه النية تستخلص من انتفاء كل مصلحة من استعمال الحق استعمالاً يلحق الضرر بالغير متى كان صاحب الحق على بينة من ذلك .
والضابط الثاني : استعمال الحق استعمالاً يرمي إلى تحقيق مصلحة غير مشروعة وتعبير المشرع في هذا المقام خير من نص بعض التقنينات على صرف الحق عن الوجهة التي شرع من أجلها ولا تكون المصلحة غير مشروعة إذا كان تحقيقها يخالف حكما من أحكام الشريعة الإسلامية والقانون فحسب وإنما يلحق بها هذا الوصف أيضا إذا كان تحقيقها يتعارض مع النظام العام أو الآداب ، وإذا كان المعيار في هذه الحالة مادية فه ظاهره فإن النية كثيراً ما تكون هي النافية لصفة المشروعية عن المصلحة وأبرز تطبيقات هذا المعيار يعرض بمناسبة إساءة الحكومة لسلطتها كفصل الموظفين إرضاء لغرض شخصي أو لشهوة حزبية .
الضابط الثالث :استعمال الحق اتقاء تحقيق مصلحة قليلة الأهمية لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها ، والمعيار هنا موضوعي يرجع فيه إلى تصرف الشخص المعتاد وهو مادي ولكنه كثيرا ما يتخذ قرينة على توافر نية الإضرار بالغير ، والفقه الإسلامي أساس هذا المعيار وجاراه في ذلك الفقه والقضاء في مصر والدول العربية على السواء .
والضابط الرابع : هو تجاوز الإنسان في استعمال حقه ما جرى عليه العرف والعادة بين الناس ويًلاحظ أن الحكم في هذه المادة إنما يتعلق بالحق لا بالرخصة فالإساءة ترد على استعمال الحقوق وحدها إنما الرخص فلا حاجة إلى فكرة الإساءة في ترتيب مسؤولية من يباشرها من الضرر الذي يلحق الغير من جاء ذلك لأن أحكام المسؤولة المدنية تتكفل بذلك على خير وجه ويقصد بالحق في هذا الصدد كل مكنه تثبت لشخص من أشخاص على سبيل التخصيص والإقرار كحق الشخص في ملكية عين من الأعيان أو حق في اقتضاء دين من الديون ، وحقه في طلاق زوجته ، أما ما عاد ذلك من المكنات التي يعترف بها القانون للناس كافة دون أن تكون محلا لاختصاص الحاجز فرخص واباحات كالحريات العامة وما إليها . ))
فالمعايير الأربعة الواردة بالمذكرة الإيضاحية على نحو ما سلف تحدد معيار التعسف ، وصوره ، فمعيار التعسف في استعمال الحق مناطه خروج هذا الاستعمال عن الغاية من الحق ، وإذا كانت الغاية من الحق هي المصلحة فلازم ذلك أن تكون المصلحة هي معيار التعسف ، ومن ثم يمكن القول بأن معيار التعسف يتمثل في المصلحة الجادة المشروعة ، وإذا كان المقصود بالمصلحة بصفة عامة هو جلب منفعة أو دفه مضرة غير أنه يتعين أن ينظر إليها من خلال الغاية من إقرار الحق أي من خلال ما استهدفه المشرع من ذلك .
أما صور التعسف فأولها الاستعمال بقصد الإضرار ، وثانيها عدم التناسب بين المصلحة والضرر ، وثالثها عدم مشروعية المصلحة .
الأساس القانوني لنظرية التعسف في استعمال الحق.
إن الأساس القانوني لهذه النظرية هو في واقع الأمر المسؤولية التقصيرية إذ التعسف في استعمال الحق هو خطأ يوجب جبر الضرر كما نصت عليه المادة 163 من القانون المدني المصري التي نصت : (( كل خطأ سبب ضرراً للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض ))
ونصت عليه المادة 164 من القانون المدني السوري على ذات النص بحرفيته كما ورد بالنص المصري . وقد جاء بالمذكرة الإيضاحية للتقنين المدني المصري تعليقاً عن هذه المادة أن (( جاء بمذكرة المشروع التمهيدي ... فلا بد إذن من توافر خطأ ، وضرر ثم علاقة سببية بينهما ، ويعنى لفظ (الخطأ) في هذا المقام عن سائر النعوت والكنى التي تخطر للبعض فهو يتناول الفعل السلبي (الامتناع) والفعل الإيجابي ، وتنصرف دلالته إلى مجرد الإهمال والفعل العمد على حد سواء فيجب أن يترك تحديد الخطأ لتقدير القاضي ،وهو يسترشد في ذلك بما يستخلص من طبيعة نهى القانون عن الإضرار من عناصر التوجيه . فثمة التزام يفرض على الكافة عدم الإضرار بالغير ومخالفة هذا النهى هي التي ينطوي فيها الخطأ ، و يقتضي هذا الالتزام تبصرا في التصرف يوجب إعماله بذلك عناية الرجل الحريص .))
فلنظرية التعسف في استعمال الحق شأنها في تعطيل تسويغ الضرر الذي يلحقه مستعمل الحق بالغير إذا لولاها لجاز لصاحب الحق أن يستعمل حقه على نحو مطلق غير ملتفت لما يلحق الآخرين من ضرر
تطبيقات تشريعية للتعسف في استعمال الحق :
القاعدة العامة لها كما ذكرنا وردت في المادة الخامسة من القانون المدني المصري والسادسة من القانون السوري 106 من الإماراتي ونسوق بعضاً من تطبيقات نظرية التعسف في استعمال الحق كأمثلة منها:-
1ـ الطلاق التعسفي : إن حق الطلاق مقرر للزوج شرعاً لكن لو تعسف باستعماله دون مسوغ فقد رتب القانون عليه جزاءاً لهذا التعسف إذا نصت المادة 117من قانون الأحوال الشخصية السوري على ( إذا طلق الرجل زوجته وتبين للقاضي أن الزوج متعسف في طلاقها دون ما سبب معقول وأن الزوجة سيصيبها بذلك بؤس وفاقة جاز للقاضي أن يحكم لها على مطلقها بحسب حالة ودرجة تعسفه بتعويض لا يتجاوز مبلغ نفقة ثلاث سنوات لأمثالها فوق نفقة العدة وللقاضي أن يجعل دفع هذا التعويض جملة أو شهرياً بحسب مقتضى الحال ))
وجاء المشرع المصري بالمادة 18 مكررا من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 المعدل بالقانون رقم 100 لسنة 1985 ببعض أحكام الأحوال الشخصية على أن )) الزوجة المدخول بها في زواج صحيح إذا طلقها زوجها بدون رضاها ولا بسبب من قبلها تستحق فوق نفقة عدتها, متعة تقدر بنفقة سنتين على الأقل وبمراعاة حال المطلق يسرا أو عسرا وظروف الطلاق ومدة الزوجية )) ، وقضت محكمة النقض المصرية بأن:_
(( لما كان ذلك ، وكان الحكم المطعون فيه قد قضى باستحقاق المطعون ضدها للمتعة على سند مما أورده بأسبابه من أن الطلاق لم يكن برضاها ولا بسبب من قبلها إذ ثبت من الأوراق أن الطاعن دأب على الاعتداء عليها بالسب والضرب وأدين جنائياً بذلك وطلقها في غيبة منها حسبما قرر شاهداها وهذه أسباب سائغة لها أصلها الثابت بالأوراق وتؤدى إلى النتيجة التي انتهى إليها الحكم وفيها الرد الضمني المسقط لكل دليل أو حجة مخالفة فإن النعي لا يعدو أن يكون جدلاً فيما لمحكمة الموضوع من سلطة فهم الواقع وتقدير الأدلة وهو ما لا يجوز إثارته أمام محكمة النقض . ))
الطعن رقم 354 - لسنـــة 63ق - تاريخ الجلسة 23 / 06 / 1997 - مكتب فني 48
2 ـ التعسف في استعمال حق الارتفاق : حيث نصت الفقرتين 3 و 4 من المادة 992 من القانون المدني السوري (( إذا كان الارتفاق في مكانه القديم قد اصبح أشد إرهاقاً لمالك العقار المرتفق به أو كان يمنعه عن القيام بإصلاحات مفيدة فله أن يعرض على مالك العقار المرتفق مكاناً بسهولة المكان الأول لاستعمال حقوقه ولا يحق لهذا الأخير أن يرفض العرض
ـ وكذلك من كان له حق ارتفاق لا يمكنه استعماله إلا وفقاً لمنطوق سنده ولا يجوز له أن يحدث في أرضه أو في العقار المرتفق به أي تعديل من شأنه إرهاق ذلك العقار ))
كما نصت الفقرة 3 من المادة 993 من ذات القانون على :
ويحق للقاضي أن يأمر بالترقين إذا كان الارتفاق غير مجد أو كان غير ممكن الإنفاذ
فطلب صاحب الحق في هاتين الحالتين ببقاء حق الارتفاق هو تعسف باستعمال الحق والرد عليه هو نقله أو ترقينه .
وقد أورد التقنين المدني المصري بالمادة 1023 منه والتي نصها :-
1 - لا يجوز لمالك العقار المرتفق به أن يعمل شيئا يؤدى إلى الانتقاص من استعمال حق الإرتفاق أو جعله أكثر مشقة .
ولا يجوز له بوجه خاص أن يغير من الوضع القائم أو أن يبدل بالموضع المعين أصلا لاستعمال حق الإرتفاق موضعا آخر .
2 - ومع ذلك إذا كان الموضع الذي عين أصلا قد أصبح من شأنه أن يزيد في عبء الإرتفاق ، أو أصبح الإرتفاق مانعا من إحداث تحسينات في العقار المرتفق به ، فلمالك هذا العقار أن يطلب نقل الإرتفاق إلى موضع آخر من العقار ، أو إلى عقار آخر يملكه هو أو يملكه أجنبي إذا قبل الأجنبي ذلك .
كل هذا متى كان استعمال الإرتفاق في وضعه الجديد ميسورا لمالك العقار المرتفق بالقدر الذي كان ميسورا به في وضعه السابق .
وقضت محكمة النقض في شأن ذلك أنه (( مفاد نص المادتين 1015 ، 1023 من القانون المدني ، أن حق الإرتفاق هو خدمة يؤديها العقار المرتفق به للعقار المرتفق فيحد من منفعة الأول و يجعله مثقلاً بتكليف الثاني ،و لا يترتب على ذلك حرمان مالك العقار الخادم من ملكه فيجوز له أن يباشر حقوقه عليه من استعمال و استغلال و تصرف ، و كل ما يجب عليه هو ألا يمس في استعماله لحقوق ملكيته بحق الإرتفاق ، فإذا أخل بهذا الالتزام ، ألزم بإعادة الحال إلى ما كانت عليه ، و بالتعويض إن كان له مقتضى ، و مؤدى ذلك أن تصرف المالك في العقار المرتفق به يقع صحيحاً و لا يجوز لمالك العقار المرتفق طلب إبطاله أو محو تسجيله .))
الطعن رقم 572 لسنــة 53 ق - تاريخ الجلسة 08 / 04 / 1987 مكتب فني 38
3 ـ استقالة العامل التي تعد بمثابة التسريح بسبب تعسف رب العمل وتعسف جهة الإدارة في إصدار قراراتها :
فنصت عليه المادة 662 من القانون المدني في فقرنها الثانية عندما اعتبرت أن استقالة العامل وإن كان من تلقاء نفسه إلا أنها بدوافع من تعسف رب العمل وضغطه كالمعاملة الجائرة أو مخالفة شروط عقد العمل بشكل خفي فاعتبرت هذه الاستقالة بمثابة التسريح وموجبة للتعويض .
وقد قضت المحكمة الإدارية العليا المصرية في الطعن رقم 2909 لسنة 36 قضائية جلسة 16/2/1991م حُكماً هو تطبيق لمبدأ تعسف جهة الإدارة ، في حالة صدور قرارها بباعث حزبي إذ قضت أنه (( إذا كان الثابت من ظروف الدعوى وملابساتها إصدار قرار صرف المدعي من الخدمة المطعون فيه أنه صدر بصورة غير عادية تنم عن الخلاف في شأنه بين الوزرة وبين رئيس الجمهورية وقتذاك ، و رفضه توقيع هذا القرار فأصدرته الإدارة بنفسها فإن هذا يؤيد صدق ما ينعاه المدعي على القرار المذكور من أنه صدر بباعث حزبي ، ولم تُقدم الجهة الإدارية ما ينفي ذلك على الرغم من إتاحة المواعيد الكافية لها لهذا الغرض ، ومن ثم فإن القرار المطعون فيه يكون قد صدر مشوباً بعيب إساءة استعمال السلطة ، لانحرافه عن الجادة ، ولصدوره بباعث حزبي لا بغاية من المصلحة العامة ، وبالتالي يكون قد وقع باطلاً ويتعين إلغاؤه ))
فيرتبط عيب التعسف أو الانحراف في استعمال السلطة بالغرض من القرار أو ما يعرف بالغاية منه أو الباعث ، ولعيب التعسف أو الانحراف في استعمال السلطة صورتان الصورة الأولى :- صدور القرار لغرض غير الذي حدده القانون على وجه التحديد ، أما الصورة الثانية :- فهي صدور القرار بدافع لا يمت إلى المصلحة العامة . ولسنا في مجال الحديث عن ذلك في بحثنا هذا غير أننا إن شاء الله تعالى سنتناول بعضاً من تطبيقات النظرية كل في بحث مستقل .
4 ـ الدعاوى الكيدية : قد يتعسف الإنسان باعتباره مدعياً أو مدعى عليه في استعمال حقوقه أمام القضاء إما بإقامة الدعاوى الكيدية أو تقديم الدفوع الكيدية إن كان مدعى عليه ولا بد في هذه الحالة لثبوت مسئوليته من إثبات سوء نيته وقد أجاز القانون للمتضرر منها بعد ثبوت سوء نية الفاعل إقامة دعوى الافتراء ونصت على ذلك المادتين 392 و 393 من قانون العقوبات السوري ، ويقابل تلك المادة ما نصت عليه المادة 305 عقوبات مصري والتي تنص على أنه (( وأما من أخبر بأمر كاذب مع سوء القصد فيستحق العقوبة ولو لم يحصل منه إشاعة غي الإخبار المذكور ولم تقم دعوى بما أخبر به .)) وقضت محكمة النقض المصرية أنه :- (( يشترط في القانون لتحقيق جريمة البلاغ الكاذب توافر ركنين هما ثبوت كذب الوقائع المبلغ عنها ، و أن يكون الجاني عالماً بكذبها و منتوياً السوء و الإضرار بالمجني عليه . ))
الطعن رقم 2117 لسنــة 32 ق - تاريخ الجلسة 14 / 01 / 1963 مكتب فني 14
فضلا عن العقوبة الجنائية عن إساءة استعمال حق التبليغ عن القضايا فهناك حق المضرور في طلب التعويض استناداً لنص المادة 163 مدني مصري السابق الإشارة لها ، فإذا كان حق التبليغ عن الجرائم هو حق مُقرر بموجب الدستور المصري وما جاءت به المادة 25 من قانون الإجراءات الجنائية المصري ، إلا أن أنه لا يجوز أن يُستعمل هذا الحق في مضارة الغير ، وهذه الحالة الأخيرة (( إساءة استعمال حق التقاضي )) ستكون موضوع مشاركة مستقلة لاحقة بإذن الله وذلك لتستوفي حقها من البحث .
ويجدر بنافي نهاية البحث أن نذكر أنفسنا أن مجال الحديث عن نظرية التعسف هو مجال واسع لا نظن أنه يتسع لعرضه في مشاركة من مشاركات المنتدى خوفاً من أن تصيب الإطالة القارئ بالملل ، فقد آثرنا أن نوجز بالقدر اللازم الذي من خلاله نستطيع أن نعطي فكرة عامة عن النظرية وبعض من تطبيقاتها ، مع استكمال الحديث عن النظرية وتطبيقاتها مع التوسع في مشاركات قادمة بإذن الله تعالى .
ملاحظة : ورغم عدم وجود اختلافات عميقة ما بين التشريعات محل البحث ، بل أن النصين المصري والسوري يتطابقان حرفياً ، لكنا حينما عرضنا فكرة المُقارنات لا يعني أن تكون المقارنات في الاختلافات ما بين التشريعات إذ أن التشابه نوع من المقارنات ، ومادة البحث نظنها بالأهمية الواجب التعرض لها ، فكان بحثنا هذا ، نسأل الله أن تعم الفائدة ، ونسألكم الدعاء .
والله الموفق
(( وإن فشلت فيكفيك شرف المحاولة ))
-=======================================
أهم مراجع البحث .
1- أحكام محكمة النقض المصرية و المذكرات الإيضاحية للقوانين ( مصري – سوري – إماراتي )
2- دكتور / محمود جمال الدين زكي ، دروس في مُقدمات الدراسات القانونية 1964م
3- الأستاذ / محمد كمال عبد العزيز المحامي – التقنين المدني في ضوء القضاء والفقه – طبعة نادي القضاة- الجزء الأول في الالتزامات .
4- دكتورة / سهير منتصر المدخل في العلوم القانونية طبعة 1988م .
5- المستشار / عليوه مصطفى فتح الباب – المستشار بمجلس الدولة – القرار الإداري الباطل والقرار المعدوم الطبعة الأولى 1997م .
6 ـ شرح القانون المدني السوري النظرية العامة للالتزام ـ الدكتور محمد وحيد الدين سوار 7 ـ المدخل إلى علم القانون ـ الدكتور هشام القا |