شركة الإتصالات .. وعقود الإذعان
الإذعان كما يقول علماء اللغة هو الخضوع والانقياد . ومصطلح الإذعان مصطلحٌ قانوني حديث مستمد من الفقه الغربي.
والمراد بهذا الصنف من العقود : ما ينحصر القبول فيه . بمجرد التسليم بمشروع عقد ذي نظام مقرر يضعه الموجب ولا يقبل فيه مناقشة .. وذلك كالإشتراك في خدمات الكهرباء والإتصالات والتأمين نحوها .. حيث جرت العادة ان تفرض مثل تلك الشركات شروطاً تمليها على المشترك لا يسعه إلا أن يوافق عليها جملةً أو يدع الإستفادة من مثل تلك الخدمات . وغالباً ما تكون حاجة المشترك لمثل تلك الخدمات حاجة أساسية لا يمكنه الاستغناء عنها أو العيش بدونها.
وقد اختلفت الأراء حول طبيعة عقود الإذعان . فالبعض يرى أنها عقودٌ حقيقية كسائر العقود التي تتم بالتراضي بين المتعاقدين . حيث أن الطرف القابل يدخل فيها برضاه دون جبر أو إلزام وتتحقق فيها المساواة القانونية.
ويرى آخرون أنها عبارة عن عقود منفردة تعبر في الواقع عن إرادة طرف واحدٍ يملي إرادته على الطرف الآخر الذي ليس له في هذا العقد غير دور سلبي.
ويرى غيرهم أنها أقرب إلى كونها نظاماً أو تنظيماً لائحياً منه إلى العقود.حيث إنها قد استُبعدت فيها المناقشة أو المفاوضة بين الطرفين حول الشروط والالتزامات المفروضة فيها كما أن مبنى التعاقد على تساوي الطرفين في حين أنهما ليسا على قدم المساواة في عقود الإذعان. نقل مثل هذه الآراء الدكتور الزرقا في كتابه " المدخل الفقهي" وكذلك ذكرت في كتاب المصباح. وبنظرة متفحصة متأنية لعقود الإذعان فإننا نجد أنها محكومة بخصائص وشروط تميزها عن غيرها من العقود من ضمنها .
أ ) تَعلُّق عقد الاذعان بسلعٍ أو منافعٍ يحتاج إليها الناس كافة ولا غنى لهم عنها كما أسلفنا كحاجتهم إلى الماء والكهرباء والغاز والنقل العام ..إلخ.
ب) احتكار _ أي سيطرة _ الموجب لتلك السلع أو المنافع أو المرافق إحتكاراً قانونياً أو فعلياً. أو على الأقل سيطرته عليها بشكل يجعل المنافسة فيها محدودة النطاق إن لم تكن منعدمة.
ج) انفراد الطرف الموجب بوضع تفاصيل العقد وشروطه دون أن يكون للطرف الآخر حق في مناقشتها أو إلغاء شيء فيها أو تعديلها .
د ) صدور الإيجاب (العرض) موجهاً إلى الجمهور موحداً في تفاصيله وشروطه وعلى نحو مستمر.
وعادة ما يُبرم عقد الإذعان بتلاقي وإرتباط الإيجاب والقبول الحُكْمين (التقديريين) وهما كل ما يدل عرفاً على تراضي طرفيه وتوافق إرادتيهما على إنشائه . وفقاً للشروط والتفاصيل التي يعرضها الموجب . من غير اشتراط لفظ أو كتابة أو شكل محدد.
ونظراً لاحتمال تحكم الطرف المسيطر في الأسعار والشروط التي يمليها في عقود الإذعان. وتعسفه الذي يفضي إلى الإضرار بعموم الناس . فإنه يجب شرعاً خضوع جميع عقود الإذعان لرقابة الدولة ابتداءً (أي قبل طرحها للتعامل بها مع الناس) وذلك من أجل إقرار ما هو عادل منها. وتعديل أو إلغاء ما فيه ظلم بالطرف المُذعن وفقاً لما تقضي به العدالة شرعاً.
على جميع ما سبق أصدر مجمع الفقه الإسلامي في دورته الرابعة عشر قراراً طلب فيه _ ضمناً _ من الحكومات وضع آلية للرقابة على مثل تلك العقود والحد من إيقاع الضرر بعامة الناس.
ورأى المؤتمرون في تلك الدورة أن عقود الإذعان تنقسم _ في النظر الفقهي _ إلى قسمين:
أحدهما : ما كان الثمن فيه عادلاً . ولم تتضمن شروطه ظلماً بالطرف المذعن. فهو صحيح شرعاً، وملزم لطرفيه . وليس للدولة أو القضاء حق التدخل في شأنه بأي إلغاء أو تعديل . لانتفاء الموجب الشرعي لذلك . إذ أن الطرف المسيطر للسلعة أو المنفعة باذلٌ لها. غير ممتنع عن بيعها لطالبيها بالثمن الواجب عليه شرعاً. وهو عوض المثل (أو مع غبن يسير باعتباره معفواً عنه شرعاً لعُسر التحرز عنه في عقود المعاوضات المالية وتعارف الناس على التسامح فيه).
ولأن مبايعة المضطر ببدل عادل صحيحة بإتفاق أهل العلم.
والثاني : ما انطوى على ظلمٍ بالطرف المذعن. لأن الثمن فيه غير عادل (أي فيه غبن فاحش) أو تضمن شروطاً تعسفية ضارة به . فهذا مما يوجب تدخل الدولة في شأنه ابتداءً (قبل طرحه للتعامل به) وذلك بالتسعير الجبري العادل الذي يدفع الظلم والضرر عن الناس المضطرين إلى تلك السلعة أو المنفعة بتخفيض السعر المتغالى فيه إلى ثمن المثل أو بإلغاء أو تعديل الشروط الجائرة بما يحقق العدل بين طرفيه استناداً إلى :
أ ) أنه يجب على الدولة شرعاً دفع ضرر احتكار فرد أو شركة سلعة أو منفعة ضرورية لعامة الناس. عند الامتناع عن بيعها للعامة بثمن المثل العادل الذي يكفل رعاية الحقين: حق الناس بدفع الضرر عنهم الناشىء عن تعدي المُحتَكر في الأسعار أو الشروط وحق المُحتَكر بإعطائه البدل العادل.
ب) أن في هذا التسعير تقديماً للمصلحة العامة _ وهي مصلحة الناس المضطرين إلى السلع أو المنافع في أن يشتروها بالثمن العادل _ على المصلحة الخاصة . وهي مصلحة المُحتَكر الظالم بإمتناعه عن بيعها لهم إلا بربح فاحش أو شروط جائره. إذ أن من الثابت والمقرر في القواعد الفقهية أن (المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة) وأنه (يُتَحملُ الضرر الخاص لمنع الضرر العام).
وبنظرة فاحصة لما يتعرض له عامة الناس من قبل بعض الشركات الخدمية مثل شركة الاتصالات وشركة الكهرباء وشركات التأمين وغيرها من استغلال أذعن العامة له لحاجتهم إليه. فإن الدولة مطالبة بالتدخل لردع مثل تلك الشركات عن فرض إرادتها على الناس. وخاصة في ظل محدودية دخل الفرد وثباته مع تغير الظروف وتبدل الأحوال وغلاء المعيشة.
وقد خَصَصتُ شركة الاتصالات في عنوان هذا المقال لأنها من أكثر الشركات الخدمية التي مارست ولا تزال فرض إرادتها على المشتركين فيها مستغلة احتكارها لتقديم الخدمة وعدم وجود المنافس على المنظور القريب.
وما مسرحية إضافة الصفر ثم استبداله بالخمسة مع دفع خمسة وعشرين ريالاً للراغب إلاَّ حلقة من سلسلة طويلة مارست فيها الشركة فرض رسوم عالية ومتعالية في تقديم الخدمات لعموم المشتركين مقارنة بغيرها من الشركات العاملة في بعض الدول المجاورة ، ناهيك عما تفرضه من شروط تعسفية تُغلِّب فيها الشركة مصلحتها على مصلحة المشترك الذي يقاد إليها مذعناً صاغراً.
…عجباً .. كيف تفرض شركة الاتصالات على المستهلك رسوم الخدمة ولا تعذره في التخلف عن سدادها على أساس شموليتها واستمراريتها وعدم انقطاعها في حين تعفي نفسها عن قصورها في تعميم تلك الخدمة والتي نكاد نفقدها في أواسط المدن الكبرى ناهيك عن غيرها .
عجباً كيف تبيع شركة الاتصالات أكثر من مائة ألف خط جوال في محافظة أو مركز لا يتعدى إتساع الشبكة فيه إلى عشرة آلاف خط على فرضية عدم انشغالها في وقت واحد حتى أصبحت عبارة " الشبكة مشغولة" من العبارات التي أصبحنا عليها نُمسي وعليها نُصبح وبها نحيا وعليها نموت.
…عجباً كيف تأخذ منا شركة الاتصالات السعودية رقماً لتفرض علينا غيره ثم تعرض علينا إعادة نفس الرقم ولكن بخمسة وعشرين ريالاً.
…عجباً كيف لا تتردد شركة الاتصالات السعودية في قطع الخدمة عن المواطن الغلبان الذي تتلاحقه سياط الكهرباء والتأمين والنقل والمياه في حين تجيز لنفسها أن لا تقدم له الخدمة في كثير من الأحيان والأوقات والأمكنة.
إن الدولة مطالبة _ ختاماً _ بالتدخل لضبط مثل تلك الممارسات وإيقاف أكل أموال الناس بغيرالحق .وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. وتعديل النتيجة بدلاً من أن تكون خمسة لصالح الشركة مقابل صفر لصالح المواطن لتصبح خمسة لصالح المواطن مقابل صفر لصالح الشركة ولو لمرة واحدة فقط .