تطغى على العالم العربي حال من التردي وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ربما كانت الاسوأ في تاريخ العرب الحديث. ومرد ذلك اساساً نمط الانظمة السياسية التي ما زالت تتمادى في ممانعتها لاتخاذ أي مبادرة اصلاحية وتمعن في رفضها أي رغبة في التغيير والتقدم والانماء، وتصر فوق ذلك على العبث بمقومات الدولة الوطنية واختزال وظائفها وحصرها بالجانب الأمني على ما عداه من الجوانب المدنية الاخرى.
هذا النهج الذي استعاض عن السياسة بالعنف وترافق مع نشوء الدولة العربية ولازمها طيلة العهود الاستقلالية، يندرج تاريخياً في اطار الموروثات الايديولوجية وتداعياتها الناجمة عن حقبة الصراع بين معسكري الشيوعية والرأسمالية في المنطقة العربية. وما موجة الانقلابات العسكرية في تلك الفترة سوى احدى ثمرات ذلك الصراع الذي ساهم في شكل او آخر في ولادة الدولة الامنية القائمة على حكم العسكر والسلالات العسكرية وتوريث السلطة وحكم الفرد والحزب الواحد والزعيم الاوحد وغيرها من المفردات. اما الانظمة الاخرى التي لم تألف تلك الظاهرة العسكرية وتأسست على المفاهيم الدستورية والبرلمانية، فكانت هي الاخرى في جوهرها وممارساتها تحاكي الدولة الامنية الى حد بعيد، وهي وان بدت تنعم بالهدوء والاستقرار النسبي والستاتيكو السياسي والاجتماعي، الا ان تلك الدلائل سرعان ما تهتز وتصبح وهماً مخادعاً عند اول احتكاك في تنافر المصالح بين الدولة ومواطنيها. ويشهد على ذلك ما يجري في بعض الاقطار العربية من توالي الازمات الاجتماعية والسياسية بين الحكام والمحكومين ليس اقلها انتهاكات حقوق الانسان والتضييق على الحريات ومقاومة اي نزعة تحررية وقمع القضايا المطلبية.
تبريرات واهية
ويبدو ان الدولة الامنية عصية على فهم مبدأ الامن الوطني الشامل (الامن الاجتماعي والامن السياسي والامن الاقتصادي) الذي يشكل وحدة كاملة لا تتجزأ، فهي تتنكر لدورها الاساسي الدستوري في حماية مواطنيها وتوفير الامن والامان لهم وصون حقوقهم وحرياتهم، وتتجاهل جدلية العلاقة الوطنية القائمة على مبدأ العقد الاجتماعي وتضافر المصالح والمصائر المشتركة بين الدولة والشعب، لا سيما عند حدوث خطر خارجي او عند نشوب ازمة داخلية. الانكى انها تتخذ من تلك التهديدات الداخلية والخارجية مبررات وطنية وقومية واهية دأبت على تكرارها، بشكل ديماغوجي ممنهج، في الدعوة الى حماية النظام ومكتسباته او الحفاظ على السلامة العامة او الاستعداد للمعركة مع العدو او التصدي للمشاريع السياسية المشبوهة او الصمود في وجه التدخلات والمخططات الاجنبية او غير ذلك من الشعارات الكبيرة التي سئمها المواطنون لكثرة تداولها وترديدها من غير طائل.
امام تلك «الاستحقاقات المصيرية» ومواجهتها، ودائماً من منطلق «نظرية المؤامرة» و «الحفاظ على السلم الاهلي»، لجأت الدولة الامنية الى اتخاذ سلسلة اجراءات «وقائية» كانت وبالاً على الوطن والمواطنين ليس اقلها كم الافواه وحظر الانشطة الحزبية والنقابية ومصادرة المطبوعات ومراقبة الجمعيات وشل هيئات المجتمع المدني وتضييق الخناق على الفئات المعارضة وصولاً الى اعلان حال الطوارئ ومستلزماتها من انتهاكات لحقوق الانسان وممارسة مختلف انواع القمع والقهر والابعاد والسجن والتعذيب والتصفيات الجسدية.
وتلجأ الدولة الامنية، خلافاً لمقولة الامن في خدمة الوطن والمواطن، الى اللعب على التناقضات الاجتماعية وتعميقها واحداث شرخ كبير بين ابناء البلاد. ففي سعيها الى محاربة خصومها تعمل على خطَّى الترهيب والترغيب، احدهما شعبوي يرمي الى استقطاب بعض الفئات التقليدية والطائفية والحزبية وتجييشها، والآخر رسمي يسعى الى استمالة الحلفاء في مجلسي النواب والحكومة على امل ان يشكل الجميع قوة ضغط مناوئة للمعارضة داخل الحكم وخارجه.
ومن المفارقات الصارخة في سلوك الدولة الامنية انها بقدر ما تبدي من شراسة في قمع ابنائها في الداخل وتقفل باب الحوار معهم بقدر ما تقدم من طاعة ورضوخ مجاني لارادات القوى الخارجية من دون ان يضيرها اي تفريط بمصالح الوطن والمواطن. كما انها تستأثر بمقدرات البلاد والعباد من خلال تسلط اجهزتها الامنية ونفوذها وتدخلها المباشر وغير المباشر في الدوائر العامة وامعانها في افساد النظام السياسي والاجتماعي من طريق الرشوة وشراء الضمائر وجمع الثروات غير المشروعة وتبييض الاموال وتهريبها الى الخارج، وتحرص في تبريرها لتعطيل الحريات وانتهاك حقوق الانسان بتماثلها مع البلدان العريقة بالديموقراطية امثال الولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا وفرنسا وغيرها في ما تسنه من تشريعات مناهضة للارهاب، وتتجاهل ان تلك التدابير ما هي الا حال استثنائية وان عداءها للديموقراطية هو القاعدة السائدة في السلم او الحرب. وهي تعمد احياناً لتلميع صورتها تحت تأثير الضغوط الداخلية والخارجية عبر استصدار بعض التشريعات الديموقراطية كتخفيف الرقابة على الحريات الصحافية والاحزاب السياسية وتنظيمات المجتمع المدني وتعديل القوانين الانتخابية على امل ان تكون هذه الجرعات المسكنة سبيلاً لإزالة الخوف والقلق من نفوس القابعين في سدة الحكم واهتزاز الارض تحت اقدامهم والاطاحة برؤوسهم وانظمتهم. الا ان منطق التاريخ والشعوب يقضي باستحالة التعايش في الدولة الواحدة بين الحرية والقمع والارهاب والديوقراطية، وما حدث أخيراً في عدد من بلدان المنظومة الشيوعية السابقة ليس سوى مثالٌ حي عن هذه الحتمية.