بسم الله الرحمن الرحيم
"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما آراك الله ولاتكن للخائنين خصيما وأستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما"
صدق الله العظيم
بسم الله الرحمن الرحيم
"وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"
صدق الله العظيم
مقدمة عامة:
ورد للعديد من السجون خطابات مسجلة عن طريق مكاتب البريد موقعة من مسمى المدير العام لمركز حقوق الإنسان لمساعدة السجناء مرفقاً به تقرير معنون "التعذيب فى مصر حقيقة قضائية" بمطلب استنفار أقلام وطاقات رموز الأمة لإيقاف ما أسماه بمذبحة انتماء شباب مصر لوطنهم فى الصميم من جراء ممارسات ظاهرة تعذيب المواطنين والمساس بأجسادهم.
والواقع أنه لدى ورود هذا التقرير والاطلاع عليه تولد لدى رغبة فورية للتعليق عليه، ليس من منطلق الدفاع عن وجهة نظر وزارة الداخلية بصفتى أحد ضباط الشرطة الذين تلقوا هذا التقرير للرد على ما ورد به من مغالطات ومزايدات تؤذى شعور كل من يطلع عليه، وكأن كاتبها يشعرنا بأننا نعيش فى غياهب الظلمات… التى ولت منذ قديم الأزل، وهو الأمر الذى ولد شعور عميق بالتعليق على هذا التقرير فور مطالعته… ولكن لتباعد إعداده وتحريره عن الأسس العلمية المتفق عليها لاعداد الأبحاث والتقارير خاصة فى مجال البحث القانونى وما حواه من مغالطات علمية وفنية وواقعية كثيرة…
فإذا ما نظرنا إلى هذا التقرير من حيث المضمون نجد أنه انزلق فى أحد العيوب الجوهرية التى طالما حذرنا منها كبار وخيرة أساتذة القانون الذين تتلمذنا على أيديهم بضرورة التجرد من العاطفة والافتراضات الشخصية المسبقة عند التعرض لأى موضوع قانونى بالبحث والتحليل… وهو ما نلحظه بوضوح فور تقليب الصفحات الأولى من هذا التقرير بافتراضه أن هناك ظاهرة فى مصر متمثلة فى ممارسات التعذيب على نطاق واسع وبكافة الأصعدة… وحاول محرر التقرير إثبات افتراضه بكافة الوسائل وهو الأمر الذى أدى به فى النهاية إلى العديد من المغالطات العلمية والقانونية التى لا يختلف عليها أحد ممن تتوافر لديه الدراية بالفقه القانونى أو حتى أولئك المعروف عنهم أى فهم بمنهاج التفسير والتحليل والتقييم للقواعد القانونية المختلفة.
وإذا كنت قد أبيت على نفسى أن أقوم بمناقشة موضوع العرض ألا وهو "التعذيب فى مصر" بنفس الأسلوب الذى انتهجه محرر التقرير فإنني لن التزم بالرد على ما جاء به سواء من بيانات وإحصائيات وأرقام أو عرضاً نظرياً لبعض النصوص والقواعد القانونية حتى لا يتوهم البعض أنني أقوم بعرض التقرير الجارى للدفاع عن وجهة نظر معينة، ولكننى سألتزم بالأسلوب العلمى للبحث القانونى عن طريق العرض النظرى المدعم بالتطبيقات العلمية للإلمام بموضوع مناهضة التعذيب فى مصر من حيث النصوص والآليات الكفيلة بتحقيق ضمانه السلامة الجسدية للإنسان على أرض مصر والذى يعتبر من أهم الحقوق المكفولة لأى شخص سواء فى القوانين الوضعية أو النواميس الطبيعية.
والواقع أن عرض هذا الموضوع يحتاج إلى مجلدات للإلمام بكافة جوانبه التشريعية والقضائية والتنفيذية من خلال أحكام القانون الدولى والقانون الداخلى والعلاقة بينهما والآراء الفقهية العديدة التى تناولته بالدراسة والبحث والتحليل، إلا أنني سأحاول جاهداً عرض كافة نقاط البحث التى تناولها تقرير مركز حقوق الإنسان لمساعدة السجناء الذى حاول إثبات وجهة نظرة فيما ادعاه بوجود ممارسات للتعذيب المنظم فى مصر من خلال النقاط الآتية:
فى إطار رصد التقرير لما أسماه بانتهاكات حقوق الإنسان حاول عدم الاكتفاء بالأسباب التى ساقها كأسباب قانونية أدت لانتشار التعذيب فى مصر، بل حاول أن يمتد البحث إلى بعض المؤشرات الخاصة فى المناخ السياسى والاجتماعى الذى يسمح بانتشار جريمة التعذيب.
كما أورد التقرير أنه فى إطار هذا الرصد حول بيان حقيقة الآلية الوحيدة الواقعية التى اعتمد عليها فى رصده وتحليله لحالات التعذيب وهى التعويض المدنى متناسياً موقعها بين آليات أخرى تكشف عن مدى حرص واهتمام أجهزة الدولة جميعها بمناهضة التعذيب وملاحقة مقارفيه… فنسى وتناسى كم عدد الشكاوى التى تلقاها مكتب النائب العام وخضعت لفحص دقيق وانتهت بعدم سلامتها أو تلك التى انتهت بصدور الأحكام فى مواجهة موظفين عموميين لمخالفات لهم، وتدرجت تلك الأحكام ما بين توقيع الغرامة وصدور أحكام مغلظة بالحبس والسجن وتقييد حرية هؤلاء الموظفين حال ارتكابهم لهذه الجرائم… شأنهم شأن أى مجتمع فى العالم يتصدى لمثل هذه الأعمال… والتى تتم دراستها جميعها على أنها وقائع فردية… تنسب إلى أفراد… لا إلى جوهر مجتمع…، بل أن ما ساقه من إحصائيات مع عدم التدخل فى مدى سلامتها… أو صحة مضمونها… لهى الدلالة الأولى لقيام أنظمة قضائية ترصد وتستجيب وتحكم… ضد أى تجاوز يتصل بالحريات أو التعذيب… وهو الأمر الذى حاول محرر التقرير دائماً… وجاهدا أن يثبت خلو الأنظمة القانونية من النصوص والقواعد التى تواجه جريمة التعذيب… كما ولو لم يكن قارئاً للأنظمة القانونية المصرية جميعها بدءا من دستورها وانتهاءا بالقوانين العقابية المختلفة… أو أن يثبت انهيار النظام القضائى المصرى الشامخ عن التصدى لأي وقائع تتصل بالتعذيب… بينما يقدم بيده الأخرى أقوى الدلالات بعدم صدق مقولة ما يتعلق بانسداد كافة الطرق الدولية والمحلية الأخرى لمقاضاة الجناة المعذبين طبقاً لدعواه.
والواقع أن هذا العرض الذى ورد بالتقرير… وللأسف الشديد قد صدر عن بعض الشخصيات التى كنا نعتقد أن فى ممارستها لاستخدام وتطبيق القانون فى الواقع العملى ما يفترض معه الإلمام بكافة جوانب النظام القانونى المصرى المعاصر (الذى يحوى كافة فروع القانون المطبقة أحكامه داخل الإقليم المصرى سواء كان هذا القانون مصدره القانون الداخلى أو القانون الدولى).
كما أن الممارسة القانونية تفترض فى صاحبها الإلمام بجميع الأحكام والقواعد الحديثة التى طرأت فى النظام القانونى الدولى (سواء من حيث النصوص أو الآليات المطبقة) ومصر بطبيعة الحال أحد الأعضاء الفاعلين بقوة فى هذا النظام.
وأخيراً فإن الممارسة القانونية تعنى القدرة على التكييف القانونى الصحيح، ومفهومه القدرة على استنباط القواعد القانونية المحددة والملائمة لتطبيقها على الوقائع المادية محل البحث، وهذا التكييف لا يعنى التركيز على جانب دون باقى الجوانب، كما لا يعنى أيضاً التركيز على أحد التشريعات دون باقى مكونات النظام القانونى، أى أن التكييف القانونى باختصار شديد يجب أن يتم بالنظر إلى كافة مصادر القانون المعترف بها سواء كان هذا القانون هو القانون الداخلى أو القانون الدولى، وسواء كانت هذه المصادر مصادر أصلية أو مصادر تكميلية.
وكم كنت أتمنى أن يسعفنى الوقت للرد على تقرير مركز حقوق الإنسان لمساعدة السجناء بموجب مجلد ( وليس تقرير) يوضح واقع كفالة واحترام حقوق الإنسان فى مصر ولكن ما يعزينى أن هذا التقرير ركز على ما أسماه (ممارسات التعذيب المنظمة) وأرجع ذلك إلى عدم وجود الغطاء التشريعى والقانونى الكفيل بمواجهة هذه الممارسات وبرر أيضاً هذا التقرير تلك الممارسات بعدم وجود الآليات الكافية لمنع هذه الظاهرة.
وفى محاولة منى متواضعة لتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة التى أوردها التقرير فسيكون ذلك من خلال العرض التالى:
الفصل الأول: مبدأ حظر التعذيب فى النظام القانونى المصرى.
المبحث الأول: وهم ما يسمى بانتشار التعذيب فى مصر.
المبحث الثانى: آليات مناهضة التعذيب فى النظام القانونى المصرى.
الفصل الثانى: الشرطة ونطاق حقوق الإنسان فى معاملة المسجونين والمحتجزين (عرض لواقع السجون المصرية).
المبحث الأول: مدى اتفاق قانون السجون المصرى مع قواعد الحد الأدنى لمعاملة المسجونين.
المبحث الثانى: أساليب المعاملة العقابية فى السجون المصرية.
على أن نسبق هذا العرض بمبحث تمهيدى لبيان مفهوم جريمة التعذيب وشروطها فى القانون الدولى لأهميتها الشديدة فى تحديد نطاق هذا المدلول على مستوى التطبيق الداخلى فى الإقليم المصرى بالنسبة لتلك الجريمة.