القاهرة في 17 ديسمبر 2003
تعليق المركز
المحكمة الجنائية العراقية تفتقر معايير المحاكمة العادلة
تم فى هذه الآونة إنشاء محكمة جنائية عراقية لمحاكمة المسئولين العراقيين في النظام السابق بتهم جرائم حرب،وجرائم ضد الانسانية، في ملابسات يخشى في ظلها أن يكون غرض هذه المحاكمة مجرد تصفية الحسابات على حساب العدالة وحقوق الإنسان، أو محاولة لكسب الرضاء من الشعب العراقي تجاه القوات المحتلة.
فى هذا السياق فقد تلاحظ بشأن المحكمة المذكورة، مايثير العديد من المخاوف والشكوك من عدة أوجه لاسيما الآتي :
· من حيث نشأة المحكمة؛
· من حيث تكوين المحكمة؛
· من حيث حياد المحكمة؛
· من حيث صلاحية المحكمة
· من حيث سلطة الاتهام؛
· من حيث ضمانات المتهمين.
وذلك على النحو التالي:
أولا : من حيث نشأة المحكمة :
إن الظروف المحيطة بنشأة المحكمة تثير العديد من المخاوف بشأن مشروعيتها وفقا لأحكام القانون الدولي، وافتقارها للمعايير الدولية للمحاكمة العادلة والمنصفة، التي تفترض أن تشكل المحاكمات بقوانين وليس بقرارات ، على أن تصدر هذه القوانين عبر سلطة تشريعية منتخبة من هيئات الشعب المختلفة، وتختص هذه السلطة بإصدار القوانين وفقا لنظام داخلي، وأن تكون هذه السلطة هي الوحيدة المنوط بها إصدار القوانين بإنشاء وعقد المحاكمات .
وبإعمال هذه الضمانة على الوضع العراقي الراهن، يتبين أن مجلس الحكم العراقي الانتقالي لا يعد وفقا للمفهوم السابق مجلسا تشريعيا منتخبا، ولا يتعدى كونه بديلا للسلطة التنفيذية، تم تعيينه من قبل قوات الاحتلال، وبالتالي يفقد وفقا لتشكيله وطريقة اختيار أعضائه ومهامه لصلاحية إصدار تشريع بإنشاء محكمة، فضلا عن أن أعضاء المجلس الانتقالي دأبوا فى الآونة الأخيرة على الإفصاح بآرائهم في المتهمين وفى الرئيس السابق بعد إلقاء القبض عليه بطريقة تبدو معها الرغبة في الانتقام، كما أنهم دأبوا خلال المرحلة السابقة على توجيه الاتهامات بأنفسهم عبر وسائل الإعلام دونما الانتظار لوجود هيئة قضائية مستقلة تتولى التحقيق فى الاتهام المنسوب للمتهمين .
ويشعر المركز بالقلق عندما يكون هذا المجلس ، هو الذي اتخذ قرار تشكيل المحاكمة للمتهمين الأمر الذي يؤكد الشكوك تجاه غرض هذه المحاكمة وفقا لمعايير المحاكمة العادلة والمنصفة التى من أبرز مقوماتها أن تكون المحكمة منشأة بقانون، وقبل وقوع الجريمة .
ثانيا : من حيث تكوين وتشكيل المحكمة :
أقرت المواثيق الدولية المعنية بمعايير المحاكمة العادلة والمنصفة فيما يتعلق بالقضاة ، أن القضاة يجب أن يكونوا معينين وفقا لقوانين السلطة القضائية كذلك، محاطين بضمانات الاستقلال، وأن يكون ولائهم للعدالة فقط، وفى الوضع العراقى الراهن، تشكل محكمة الجنايات العراقية المقترحة من درجتين:
1. الدرجة الابتدائية وتتكون من خمس قضاة ويكون لكل دائرة قاضى أجنبى خبير فى القانون مستشارا لهذه المحكمة أو الدائرة للتشاور معه أو الرجوع إليه فى تطبيق القانون .
2. الدرجة الاستئنافية وتتكون من تسع قضاة عراقيين .
ويرى المركز أن هذا الإجراء يجب أن يتم من قبل حكومة منتخبة وهو ما يتطلب إرجاء إجراء التعيين على هذا النحو إلى ما بعد شهر أيلول عندما تنقل السلطة والسيادة للحكومة العراقية .
كما يثور التساؤل بشأن مدى جدوى الخبير الاجنبى للدوائر الابتدائية ومدى إلزامية رأيه بالنسبة للمحكمة ؟ وهل وجوده يضفى على المحكمة الطابع الدولى من عدمه ؟ وتثار الشكوك كذلك بالنسبة لتعيين قضاة هذه المحكمة بقرارات ومدى ولائهم لمجلس الحكم الانتقالى مما يخشي معه إمكانية الضغط على هؤلاء القضاة والإخلال بحيادهم واستقلالهم .
ثالثا : من حيث حياد المحكمة :
أن الأوضاع التي تمر بها العراق، خاصة بعد الغزو والتي كان من أوضح مظاهرها، هروب قيادات الدولة، واختفائهم، والقبض على الموظفين المكلفين بالخدمة العامة الموالين للنظام السابق، وكذلك العمل من قبل الإدارة المدنية، ومجلس الحكم الانتقالي على تطهير مؤسسات الدولة ومنها المؤسسة القضائية ممن يعتقد موالاتهم للنظام السابق، الأمر الذى أدى إلى حقيقة واقعية لا يجب تجاهلها هى أن الذى بقى داخل النظام القضائي العراقي حتى الوقت الراهن، هم أولئك الذين كانت لديهم خصومة مع النظام السابق أو أولئك الفاقدين لحيادهم ، بما يصف النظام القضائي الآن بأنه يجمع بين الخصم السابق والحكم الحالي، الأمور التي من شأنها أن تشكك في حيادية القضاة الذين سوف يتولون هذه المحاكمة هذا من جهة .
من الجهة الأخرى أن الظروف، والمناخ السياسي والعسكري المحيط بقضاة هذه المحكمة، وما تشهده الساحة العراقية من انتظار وتحفز ضد المتهمين في النظام السابق، وما يخشى معه من ردود أفعال الشعب العراقي حيال المتهمين، فضلا عن عدم اتزان تصريحات أعضاء مجلس الحكم الانتقالي، كل ذلك يضاعف من قلق المركز وتشككه حيال حياد هذه المحكمة، الأمر الذي ينذر بأن تكون هذه المحكمة أشبه بتصفية حساب منها على أن تكون محاكمة عادلة لافتقارها لحياد القضاة، وعدم التأثر من أحد أطراف النزاع.
رابعا : من حيث سلطة الاتهام :
من المفترض فى ظل الأوضاع التى تطالب بالمحاكمة للنظام السابق عن الجرائم التى ارتكبت بين عام 1968 وحتى منتصف العام 2003 والتحقيق فى جرائم ارتكبت فى حق الشعب العراقى من قبل النظام السابق منها ما يتعلق بالجرائم ضد الإنسانية أو فى جرائم فى حق المواطنين العراقيين تتعلق بانتهاكات لحقوق الإنسان ، أن يكون من المحتمل بل من المؤكد أن عدد المتهمين المرتكبين لمثل هذه الجرائم فى تلك الفترة الزمنية قد يتجاوز مئات الآلاف من المتهمين ، وهو ما لا يستطيع معه أى نظام قضائى حتى وإن كان فى حالة استقرار أو ثبات أن يتولى التحقيق فيها ، هذا فضلا عن الفترة الزمنية التى قد تستغرق عشرات السنوات من أجل الوصول إلى الحقيقة وتحديد المتهمين وأدلة الاتهام .
وهو ما تؤكده التجارب الدولية فى مراحل العدالة الانتقالية ( جنوب أفريقيا – سيراليون – رواندا ) من أن المحكمة الجنائية العراقية المزمع تشكيلها ، وكذلك مكتب التحقيقات الذى من المقرر أن يقوم بالتحقيق وفقا للتصور الحالى ، لن يستطيع أن يمارس تحقيقات بهذه الدرجة فى جرائم بالغة الجسامة ، ومع تلك الأعداد الهائلة من المتهمين خاصة في ظل غياب مؤسسات الدولة القضائية.
ويؤكد المركز على أن دولة فى حالة انهياركلى للنظام القضائى ، لا يمكن لها بحال من الأحوال أن تتمكن من تحقيق محاكمة عادلة ومنصفة لمتهمين فى جرائم بالغة الخطورة والتعقيد ، قد يستلزم العمل بها سنوات لتحقيق الاتهام وتوفير الأدلة والدفاع . إلا إذا ما كان يعد له الآن من قبيل الحكم المسبق بالإعدام أرضاء للشعور العام العراقى ، وهو ما يتناقض مع مبادئ حقوق الانسان ومعايير المحاكمة العادلة والمنصفة ، ويخشى المركز أن يكون هذا الإجراء من قبيل إرضاء جيش الاحتلال من جهة ومجلس الحكم الانتقالى من جهة أحرى .
الأمر الذى يطرح مجالا لشكوك قوية، تجاه مدى جدية مشروع المحكمة العراقية ، و الجهات الإدارية أو القضائية المعينة المكلفة بالتحقيق ، في غياب الحماية الدستورية والقانونية الناتجة عن الفراغ التشريعي الذي تشهده العراق نتيجة عدم وجود مجلس أو سلطة منتخبة من قبل الشعب .
وهو ما يدعو المركز إلى المطالبة بالتفكير فى إنشاء لجان للحقيقة والمصالحة (على غرار تجربة جنوب أفريقيا وسيراليون) والتى مؤداها ضبط الصراع الاجتماعى وإنهاء حالة عدم الثقة وخفض روح الانتقام والثأر والعنف التى أصبحت مستفحلة فى النسيج الاجتماعى العراقى ، من أجل إعادة التوازن للمجتمع العراقى ، وتتلخص أهدافها فى الآتى :
- كشف وتوضيح الحقيقة عن الانتهاكات السابقة بحق الإنسانية بشكل رسمى وعلنى .
- المساهمة فى تحقيق العدالة ، إما بإصدار قرار بالعفو عن الجرائم المشمول به أو فرض عقوبات غير جزائية أو تعويضات أو الإحالة إلى اللجان التحقيقية الجنائية لإحالة المتهم إلى محاكم الجنايات المختصة فى حالة ثبوت ارتكابه إحدى الجرائم التى تقع خارج اختصاص لجان التحقيق والمصالحة ، أو أنه لم يلتزم ببنود قرار العفو .
- الاعتراف بالمسئولية والذنب المرتكب ، لذا فإن المصالحة والعفو هو ليس براءة من الجريمة .
- تحقيق ما ينشده الضحايا وتحقيق المصالحة والتوصل إلى نبذ روح الانتقام والثأر والعنف .
- لا يشمل العفو من لا يعترف بمسئوليته عن انتهاكاته وتقديم اعتذاره العلنى عن أفعاله .
خامسا : من حيث ضمانات المتهمين :
فيما يخص حقوق المتهمين فإن الضمانات الدنيا للمحاكمة العادلة وفقا للمعايير الدولية تقتضى بأنه في حالة القبض على المتهمين واحتجازهم فإنه يجب إخطارهم فورا بالجرائم الموجهة إليهم ، وأن يمكنوا بمن يروا للاستعانة به ، وأن يمكن محاميوا الدفاع من الاتصال بهم أتصالا يحفظ عليهم أمنهم وحقوقهم كمتهمين إلى حين تقديمهم إلى المحكمة .
وفى الوضع العراقي فإن وضع المتهمين واحتجازهم في أماكن غير معلومة وعدم اتصال احد بهم لفترة تزيد عن الستة أشهر، وتركهم لجهات التحقيق التابعة لقوات الاحتلال C.I.A وفق تصريحات كل من وزير الدفاع الأمريكى ، وزير الخارجية الأمريكى ، يمثل عاملا ضاغطا على إرادة المتهمين في اتخاذ قرارات صحيحة أو قدرتهم على ترتيب دفاعاتهم أو الاستعانة بمن يرون .
التوصيات
وعلى الرغم من مخاوف المركز تجاه رغبة الولايات المتحدة الأمريكية فى عدم تقديم الرئيس والقادة العراقيين السابقين لمحكمة جنائية دولية عادلة ، فى محاولة منها لإرضاء مجلس الحكم الانتقالى ، وتركهم لتصفية حساباتهم خارج إطار العدالة ، أو لما قد تكشف عنه التحقيقات من قبل جهات محايدة مع الرئيس والنظام السابق من معلومات قد تشير إلى تورط دول عظمى فى مساندة ودعم العديد من تلك الجرائم التى وقعت من النظام العراقى فى الماضى .
فإنه يؤكد على توصياته الآتية :
أولا : نظرا لعدم إمكانية استخدام المحكمة الجنائية الدولية الدائمة فى التحقيق والمحاكمة عن الجرائم المذكورة نتيجة لعدم تصديق العراق على نظام روما الأساسى ، أن يحاكم رئيس وقادة النظام العراقى السابقين تحت مظلة الأمم المتحدة وذلك بتشكيل محكمة جنائية دولية خاصة على غرار I.C.T.Yو I.C.T.R ( محكمة يوغسلافيا- محكمة رواندا) وتسمى I.C.T.I . تتولى التحقيق ومحاكمة القادة فى الجرائم الأكثر خطورة ، فى محاكمة علنية تنعقد داخل الأراضى العراقية وفقا لأحكام القانون الدولى على أن يؤخذ بتعريف وأركان الجرائم المذكورة بنظام روما الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة .
ثانيا : أن يتولى النظام القضائى العراقى بعد 7 يوليو القادم ( بعد انتقال السلطة ) القيام بإنشاء لجان التحقيق والمصالحة التى تتولى التحقيق مع صغار المتهمين فى الجرائم الأقل خطورة التى ارتكبت ضد الشعب العراقى على أن يكون لها صلاحية إصدار قرارات بفرض عقوبات غير جزائية وأن تخضع قرارت هذه اللجان للطعن أمام محاكم الاستئناف ، وتشكل فى كل منطقة استئنافية لجنة أو أكثر للحقيقة والمصالحة أو حسب الحاجة ، وتكون قوامها من ثلاثة أعضاء يرأسها حقوقى وعضوية آخرين ممن يتمتعون بالمؤهلات والسمعة الحسنة والنزاهة .
ثالثا : أن يبادر الأمين العام للأمم المتحدة فورا بتشكيل لجنة خبراء تكون مهمتها التحقيق فى التهم المنسوبة الى الرئيس والقادة العراقيين السابقين ، وبحث الأدلة والحفاظ عليها ، وإعداد تقرير بذلك يقدم للمحكمة حال تكوينها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
"تقرير صادر عن المركز العربى لاستقلال القضاء والمحاماة "