دليل المحاكمات العادلة
تصدير
بقلم ديفيد فيسبورت
أستاذ القانون بكلية الحقوق، جامعة منيسوتا
عندما تتهم الحكومة شخصاً بأنه ارتكب جريمة، أو بأن له ضلعاً في ارتكابها، يتعرض هذا الشخص المتهم لخطر الحرمان من الحرية أو نيل عقوبة أخرى. والحق في المحاكمة العادلة ضمان أساسي يقي الأفراد من التعرض للعقاب دون وجه حق، وهو ضرورة لا غنى عنها لحماية حقوق الإنسان الأخرى التي توليها منظمة العفو الدولية اهتماماً خاصاً، مثل الحق في عدم التعرض للتعذيب والحق في الحياة، وكذلك الحق في حرية التعبير، لاسيما في القضايا السياسية.
ومن ثم أصبح رصد المحاكمات جانباً هاماً من الجهود الدولية الرامية لحماية حقوق الإنسان. وينبع هذا الحق من الحق في المحاكمة العادلة والعلنية، وهو الحق المكرس في الكثير من صكوك حقوق الإنسان الدولية والإقليمية، حيث ينص "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" على الآتي: "لكل إنسان، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، الحق في أن تنظر قضيته محكمة مستقلة ومحايدة، نظراً منصفاً وعلنياً، للفصل... في أية تهمة جزائية توجه إليه"، و"كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً إلى أن يثبت ارتكابه لها قانوناً في محاكمة علنية".
والحق في المحاكمة العلنية يهدف - في المقام الأول - للمساعدة في ضمان محاكمة عادلة للمتهمين وحمايتهم من أية محاولة لإساءة استغلال إجراءات التقاضي الجنائي لإيقاع الأذى بهم. والرصد العام للمحاكمة من شأنه أن يجعل القاضي وممثل الادعاء حريصين على أداء واجباتهما في إطار من النزاهة وباقتدار مهني. وقد تيسر المحاكمة العلنية الكشف عن الحقائق بدقة، فهي تشجع الشهود على قول الصدق. وعلاوة على ذلك، فالمصلحة العامة، بغض النظر عن حقوق المتهم، تستوجب عقد المحاكمات علانيةً، فمن حق الجماهير أن تعرف كيف تطبق العدالة، والأحكام التي يصل إليها النظام القضائي.
وقد ظلت منظمة العفو الدولية، وغيرها من المنظمات المعنية بحقوق الإنسان، ترسل على مدار سنوا ت كثيرة مراقبين لرصد المحاكمات السياسية الهامة. وقد أصبح قبول وضع مراقبين دوليين لرصد المحاكمات (سواءً أكانوا موفدين من حكومات أجنبية أم من منظمات غير حكومية) قاعدة قانونية دولية يمكن التدليل على صحتها بأسانيد قوية، وعرفاً راسخاً مقبولاً لدى المجتمع الدولي.
ومعايير تقييم المحاكمات كثيرة، سواء كان اعتمادنا على الرصد المباشر لوقائع المحاكمة أم على أساس محررات أو غيرها من التقارير. ويسعى التقييم إلى تحديد ما إذا كانت الإجراءات المتبعة في نظر الدعوى تتفق مع قوانين البلد الذي تنظر فيه أم لا، وما إذا كانت القوانين والأعراف المطبقة في الدعوى تتفق مع المعايير الدولية المنصوص عليها في المعاهدات التي تعد تلك الدولة طرفاً فيها وغيرها من النصوص التي لا تحمل طابع المعاهدة.
وهذا الكتاب يوفر دليلاً للمعايير الدولية والإقليمية للمحاكمة العادلة المنصوص عليها في معاهدات حقوق الإنسان والمواثيق التي لا تحمل طابع المعاهدة. وسوف يساعد العاملين في منظمة العفو الدولية، وغيرهم من المدافعين عن حقوق الإنسان في شتى أرجاء العالم، على السعي لحماية الحق في المحاكمة العادلة. كما سيعين المحامين والقضاة وغيرهم على فهم المعايير الدولية لحماية هذا الحق.
مقدمة
"إن الظلم أينما كان يهدد العدل في كل مكان".
مارتن لوثر كينغ
تنهض دعائم العدل على احترام حقوق كل إنسان. وقد جسد هذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بقوله إن "الإقرار بما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة أصيلة فيهم، ومن حقوق متساوية وثابتة، يشكل أساس الحرية والعدل والسلام في العالم".
وعندما يمثل المرء أمام القاضي متهماً بارتكاب فعل جنائي، يواجه آلية الدولة بعدتها وعتادها الكامل. ومن ثم، فالطريقة التي يعامل بها عندما يتهم بارتكاب جريمة تدلل بدقة على مدى احترام تلك الدولة لحقوق الإنسان الفرد. فكل محاكمة جنائية تشهد بالتزام الدولة باحترام حقوق الإنسان، ويغدو الاختبار عسيراً في حالة المتهمين بارتكاب جرائم سياسية، أي عندما تشك السلطات في أن الشخص يمثل تهديداً للقابضين على زمامها.
وعلى كل حكومة التبعة في تقديم المسؤولين عن ارتكاب الجرائم إلى العدالة. ومع هذا فهي لا تخدم العدالة عندما تسمح للجور بأن يشوب محاكماتهم. وعندما يتعرض المرء للتعذيب أو سوء المعاملة على يد الموظفين المكلفين بتنفيذ القانون، أو عندما يدان الأبرياء بجرائم لم يرتكبوها، أو عندما تحيد المحاكم عن العدالة في نظر قضاياهم أو يبدو الأمر كذلك؛ يفقد النظام القضائي مصداقيته. وما لم تصن حقوق الإنسان في مخافر الشرطة وغرف الاستجواب ومراكز الاحتجاز وقاعات المحاكم وزنازين السجون، فإن الحكومة تكون قد أخفقت في أداء واجباتها وخانت المسؤوليات التي أنيطت بها.
ويبدأ خطر تعرض المرء لانتهاكات حقوق الإنسان بمجرد أن يشتبه المسؤولون في أمره، ويستمر الخطر عند لحظة القبض عليه وخلال احتجازه قبل تقديمه للمحاكمة، وأثناء المحاكمة وإبان مراحل الاستئناف جميعاً، إلى حين تطبيق أية عقوبة عليه. وقد وضع المجتمع الدولي معايير للمحاكمة العادلة أعدت لتحديد حقوق الأفراد وحمايتهم خلال كل هذه المراحل.
والحق في المحاكمة العادلة من حقوق الإنسان الأساسية. فهو أحد المبادئ واجبة التطبيق في شتى أرجاء العالم التي اعترف بها "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، وهو الإعلان الذي اعتمدته حكومات الأرض قبل خمسين عاماً، ومازال يمثل حجر الزاوية في النظام الدولي لحقوق الإنسان. ومنذ عام 1948، أصبح هذا الحق المعترف به في "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" التزاماً قانونياً واقعاً على جميع الدول بوصفه جزءًا من قانون العرف الدولي.
وقد أعيد التأكيد على الحق في المحاكمة العادلة، وفصلت أبعاده منذ عام 1948، في مجموعة من المعاهدات الملزمة قانوناً مثل "العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية" الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1966. كما جرى الاعتراف به والنص عليه في الكثير من المعاهدات، وغيرها من المعايير، التي لا تندرج تحت بند المعاهدات الدولية والإقليمية التي اعتمدتها الأمم المتحدة والهيئات الحكومية الدولية الإقليمية. وقد وضعت هذه المعايير لكي تطبق على جميع النظم القضائية في العالم وعلى نحو يراعي التنوع الهائل في الإجراءات القانونية - فهي تنص على الحد الأدنى من الضمانات التي ينبغي أن توفرها جميع النظم.
وتمثل هذه المعايير الدولية لحقوق الإنسان، فيما يتعلق بالمحاكمة العادلة، ضرباً من الاتفاق في الرأي أجمعت عليه أمم الدنيا بشأن المعايير اللازمة لتقييم الطريقة التي تعامل بها الحكومات الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم. وهذا الكتاب بمثابة دليل لتلك المعايير.
نضال منظمة العفو الدولية من أجل المحاكمات العادلة
منظمة العفو الدولية هي حركة تطوعية تعمل على تعزيز جميع حقوق الإنسان الواردة في "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" وغيره من المعايير الدولية، بما في ذلك الحق في المحاكمة العادلة. وهي تطالب الحكومات بالالتزام بالمعايير الدولية للمحاكمة العادلة عند محاكمة السجناء السياسيين، أو حيثما تراءت لها احتمالات تطبيق عقوبة الإعدام.
وتدعو المادة 1(ب) من نظامها الأساسي أعضاءها للعمل على تعزيز الحق في المحاكمة العادلة من أجل السجناء السياسيين بموجب "المعايير المعترف بها دولياً". وقد جدت منظمة العفو الدولية في السعي من أجل تحقيق هذا الهدف من خلال إرسالها لمراقبين لرصد المحاكمات في الكثير من البلدان في كل بقعة في الأرض، وإعداد التقارير عن المشكلات التي تعترض سبيل المحاكمة العادلة في بلدان معينة، وتعبئة صفوف أعضائها من أجل المطالبة بتوفير محاكمات عاجلة عادلة للسجناء السياسيين. كذلك، فقد سلطت الضوء على بعض بواعث القلق المعينة بشأن المحاكمات الجائرة التي قدم لها سجناء الرأي والأشخاص المتهمون بارتكاب جرائم عقوبتها الإعدام. وأحالت بعض الحالات التي تنطوي على بواعث للقلق بشأن عدالة المحاكمة إلى الفريق العامل المعني بالاحتجاز التعسفي ومقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بعمليات الإعدام خارج نطاق القضاء والإعدام بدون محاكمة والإعدام التعسفي. كذلك، فقد ناضلت المنظمة من أجل تطبيق أسمى المعايير الممكنة للمحاكمة العادلة في المحكمتين الدوليتين الخاصتين بيوغوسلافيا السابقة ورواندا، وكذلك المحكمة الجنائية الدولية.
وفي إطار عملها، وضعت منظمة العفو الدولية برنامجاً من 12 نقطة لمنع التعذيب، وبرنامجاً آخر من 14 نقطة لمنع للحيلولة دون وقوع حوادث "الاختفاء"، وآخر من 14 نقطة أيضاً لمنع وقوع عمليات الإعدام خارج نطاق القضاء. وهي برامج مستمدة من حصيلتها من الخبرات العملية التي تجمعت لديها على مدار سنوات طوال من العمل في شتى أرجاء العالم. وتلخص الكثير من الحقوق المتصلة بحماية الفرد أثناء المحاكمة الجنائية، وتمثل وجهة نظر منظمة العفو الدولية بشأن المعايير التي ينبغي أن تعتمدها جميع الحكومات.
الهدف من هذا الدليل
يسعى هذا الدليل إلى أن يضع معايير حقوق الإنسان ذات الصلة تحت عيني كل من يسعى إلى تقييم مدى تماشي المحاكمات الجنائية أو نظم العدالة مع المعايير الدولية. وقد أعد من أجل راصدي المحاكمات ولغيرهم ممن يقيمون مدى توافر العادلة في محاكمة معينة، ولكل من يَرُوم معرفة ما إذا كان نظام العدالة الجنائية في بلد ما يكفل الاحترام للمعايير الدولية للمحاكمة العادلة.
وتقييم عدالة المحاكمة الجنائية عملية معقدة متعددة الجوانب. فكل حالة تختلف عن الأخرى، ويجب أن تبحث من واقع حيثياتها وككل. ويركز التقييم في العادة على ما إذا كان سير الوقائع يتفق مع القوانين الوطنية، وما إذا كانت القوانين الوطنية تتفق مع الضمانات الدولية للعدالة، وما إذا كانت الطريقة التي تطبق بها تلك القوانين تتفق مع المعايير الدولية. وأحياناً يقتصر الخلل على جانب واحد فحسب، ولكنه في كثير من الأحيان يشمل عدم الامتثال للمعايير الدولية في أكثر من جانب.
والمعايير الدولية التي تُقدر عدالة المحاكمة وفقها كثيرة، وتوجد في الكثير من الصكوك المختلفة، وهي تتطور باطراد. ويحدد هذا الدليل المعايير الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان المحددة لمختلف مراحل الدعوى الجنائية. ولئن كان بعضها ينطبق على جميع أشكال الاحتجاز (بما في ذلك الاحتجاز الإداري) وأي نوع من أنواع المحاكمات، بما في ذلك المحاكمات غير الجنائية (الدعاوى المدنية)، إلا أن هذا الدليل يركز على المعايير واجبة التطبيق على الإجراءات الجنائية. ولكي يتبين القارئ الأمور التي تطالب المعايير بتطبيقها في الواقع العملي، سوف ندرج في هذا الدليل تفسيرات لبعض المعايير المعينة مستمدة من الهيئات المرجعية في الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية. (انظر المعايير والهيئات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان).
وهذا هو أول دليل تصدره منظمة العفو الدولية عن المحاكمات العادلة، ونحن نرحب بأية مقترحات أو تعليقات حول محتواه. ولذا نرجو إرسال أية تعليقات إلى برنامج المنظمات القانونية والدولية بالأمانة الدولية لمنظمة العفو الدولية، على العنوان الآتي: 1 Easton Street, London WCIX 8 0DW, United Kingdom