عبد الرحمن بن محمد اللاحم
هكذا نحن في هذه البقعة المباركة من العالم لا نفيق إلا على قارعة الكوارث. عندها فقط يفيق المسئول من سباته ليأمر على الفور بتشكيل لجنة تحقيق في ملابسات الكارثة والتي غالباً ما يداعبها النعاس هي الأخرى، لتغط في سبات عميق بعد أن تهدأ العاصفة ويحل الهدوء والسكون من جديد. كيف وقد قالو لنا إننا شعب لا يصلحه إلا الدعة والسكون.
لا أعتقد أن ( محرقة الحائر) ستكون خارج ذلك السياق التقليدي. خصوصاً وأنها تلامس جهازاً لا يجرؤ أحدنا على الحديث عنه حتى في خلجات نفسه ويصاب بالهلع عندما تلزمه الظروف على المرور بجانب أحد أقسام الشرطة أو أمام أحد السجون أو تمر بجانبه سيارة شرطة. كم نهتني والدتي مراراً عن الإشارة بإصبعي نحو رجل الشرطة وتعودنا على طأطأة الرؤوس عند رجال الأمن فنحن شعب –بطبعنا- بعيدون عن المشاكل ومصادرها حتى وإن صودرت حرياتنا فكل مصائبنا نعللها بالقضاء والقدر.
إن ما حدث في سجن الحائر مهما نسجت له من تبريرات لا يمكن ابتلاعه أو السكوت عنه بل سيكون محكاً للمؤسسات الرسمية في الدولة التي تتولى الإشراف المباشر أو غير المباشر على السجون كما أنه سيكون امتحاناً عسيراً للصحافة المحلية وللحرية الصحفية بشكل عام والتي فُسح لها المجال لتناول ملف الإرهاب والملفات الدينية بكل أريحية، فهل سيتاح لها الفضاء نفسه لتناول قضية بالغة الخطورة كقضية السجون وما يحدث وراء قضبانها ؟ وإذا كانت الوظيفية (تكليف لا تشريف) فهل نرى مسئولا ً شجاعاً يقف أمام الشعب والتاريخ ليقدم استقالته ويعترف بمسئوليته عن الحادث ؟
إن المثير للدهشة أنك عندما تتصفح الوثائق الدستورية في البلد والقواعد القانونية تجدها حددت وبشكل دقيق آلية الاحتجاز والتوقيف ابتداءً من أحكام التفتيش والاستيقاف والتحقيق والمحاكمة وانتهاء بتنفيذ الأحكام الجنائية و ظروف السجن وحقوق المساجين، ووضعت سلامة وأمن المحتجزين على كاهل الدولة مما يستتبع معه قيام المسئولية الإدارية الكاملة في حالة التساهل أو التفريط في إجراءات السلامة. هذا بطبيعة الحال في حالة صدور أحكام قضائية نهائية بسجنهم لا أن يكونوا سجنوا بلا أحكام، والتي يفترض عند حدوث مثل هذه الحالات توجيه تهم جنائية للمتسببين فيها لكن للأسف بقيت تلك القواعد القانونية السامية محلاً للبركة وحسب. دون أن ينزل معظمها للواقع إلا في حق سجناء الخمس نجوم وذوي الدماء الزرقاء، أما البسطاء من الناس فليس لهم المعاملة بالطرق التقليدية بسبب التعسف من بعض رجال الأمن وجهل أو قل أن شئت تجهيل الناس بحقوقهم التي كفلتها الأنظمة وغياب الرقابة الصارمة على الجهات الأمنية وخصوصاً الجهات ذات الصلاحية بالتوقيف والاحتجاز وكل تلك القضايا تتراكم، وننتظر كارثة بحجم تلك المحرقة لنفتح الملف الأسود للسجون ومن ثم يقدم ( الصغار) ككبش فداء ليبقى (الهوامير) بمنأىً عن المساءلة القانونية.
إن مثل هذه النوازل يجب أن تتولى الجهات القضائية التحقيق فيها، وأن تكون قراراتها ملزمة وتنفيذية في حق المتسببين في تلك الكارثة تمهيداً لتقديمهم للمحاكمة بناءً على قواعد المسئولية الإدارية حتى لا تكون الوظيفة العامة وخصوصاً الأمنية منها مجرد تباهٍ أمام الناس وزهو بالنجوم المعلقة على أكتافهم، بل يجب أن تكون الوظيفة مسئولية وتكليفاً بأعباء مقابل ما يتقاضاه من مرتب من الخزينة العامة.
ولعل هذه الكارثة تكون فرصة لمؤسسات الدولة لفتح ملف الاعتقالات بلا محاكمة أو تهمة بحيث تجرم تلك الممارسات التي تتنافى وأبسط حقوق الإنسان، وهذا لن يتأتى بشكل طبيعي مالم يسمح بإنشاء المؤسسات المدنية المستقلة المعنية بحقوق الإنسان التي تراقب تنفيذ الأنظمة والتجاوزات الأمنية التي تنال من حقوق الإنسان أو كرامته. عندها فقط نستطيع الحديث عن إصلاح سياسي حقيقي في وطن تقدس فيه حياة الإنسان.
ويستمر المسلسل الذي يشبه إلى حد كبير الأفلام الهندية ذات الرواية الواحدة ( أعمدة الدخان تتعالى.الجثث متكدسة في المستشفيات. ويطل المصدر المسئول لينفي كل شي، وأن الأمور تحت السيطرة، ومن ثم تصدر التوجيهات بصرف مبالغ نقدية للمتضررين وتسديد ديون المتوفين، عندها يخرج ذوو الضحايا في وسائل الإعلام ليشكروا ولاة الأمر على هذا الكرم المتدفق، والدعاء للمتوفين بالرحمة، بعد أن يتقدم (كبار) المسئولين الناس للصلاة عليهم، وإن لزم الأمر فلا حرج بصدور فتوى بأنهم شهداء واجب ويقفل الملف على أمل فتحه في كارثة أخرى ) وكل كارثة وأنتم بخير.