حكى توفيق الحكيم في كتابه ( عدالة وفن ) محاورة طريفة بين قاضي وسارق ، شاهدها وعايشها عندما كان عضواً في النيابة ، وقد أحببت أن أنقلها إلى المنتدى محاولة مني لكسر الرتابة .....
( ...... انقضت المخالفات ، وبدأت الجنح . وكلها أيضا مضت على وتيرة واحدة ، ولا يخرج نوعها عن السرقة البسيطة المألوفة والضرب البسيط وتبديد المحصولات الصغيرة ، ونحو ذلك . على أن هنالك قضية سرقة استرعت انتباهي وأخرجتني من الملل قليلاً . إنها جلسة سرقة عادية . سرقة دجاجة . إنها شيء عادي طبعاً . ولكن الطرقة التي اتبعت في السرقة ، والمناقشة التي جرت بين القاضي والمتهم كان فيها ما يستحق الإصغاء والمشاهدة ...
اعترف المتهم بأنه استخدم خيطاً طويلاً متيناً ربط في طرفه حبة قمح ، وجعل يتربص بدجاجة مارة في أحد الأزقة ، فما أن عثرت الدجاجة بحبة القمح حتى ابتلعتها ، وعندئذٍ جذب المتهم الخيط ، وإذا الدجاجة صارت في يده بلا مشقة .
نظر القاضي إلى المتهم وقال معقباً :
ـ يعني اصطدت الفرخة بطعم وشبه سنارة كأنها سمكة ؟!
ـ وهو صيد السمك حرام يا سعادة القاضي ؟!
ـ صيد السمك مش حرام .. لكن صيد الفراخ حرام .
ـ ايش عجب ؟!
ـ لأن السمك في البحر ليس له صاحب .. لكن الفرخة لها صاحب .
ـ ما كانش لها صاحب ... كانت ماشية تايهة في الحارة ... يعني يا سعادة البك لو لقيت من غير مؤاخذة كلب تايه في الحارة وأخذته أبقى حرامي ؟!
ـ الكلاب غير الفراخ .
قالها القاضي وهو مشتغل بكتابة حيثيات الحكم الذي سيصدره عما قليل ، ولكن المتهم استمر في المناقشة :
ـ الكلاب والفراخ كلها حيوانات ! ...
ـ سمعنا عن كلاب ضالة ، لكن فراخ ضالة لم يحصل أبداً ...
ـ يعني الكلب يضل والفرخة ما تضلش ؟! تبقى الفرخة أفطن من الكلب ؟! ...
ـ يا رجل وقت المحكمة ضيق ... أنت متهم بسرقة فرخة ...
ـ أنا يا حضرة القاضي ما سرقتهاش . هي اللي بلعت قمحتي من جوعها . ولو كان لها صاحب ، كان يسيبها في السكك تلقط قمح الناس ؟! ...
ـ ظهر لها صاحب .
ـ وأنا أعرف منين ! ... كان يعمل لها طوق عليه اسمه في رقبتها زي الكلاب اللي لها أصحاب ... وإلا أنا غلطان ؟!...
ـ طوق في رقبة الفرخة ؟!... وسلسلة بالمرة ؟!...
ـ يكون أحسن ...
ـ أنت متهم بالسرقة .
ـ السرقة لما أكون أخذت حاجة من بيت واحد أو من جيبه ... لكن اللي يرمي حاجة في ، كأنه رماها في البحر ... تبقى من نصيب أي واحد فقير زي حالاتي !...
ـ كفاية يا رجل كلام فارغ ! ...
ـ الكلام بالعقل يا سعادة القاضي ... أنا رحت للفرخة وإلا الفرخة جات لي ؟! لو كنت رحت بنفسي للمسروق كنت أكون صحيح حرامي ، لكن المسروق حضر بنفسه لحد عندي !... أكون سارقه بأي صفة ؟!...
وكان القاضي قد انتهى من تحرير حيثياته دون أن يعطي وزناً لحجج المتهم ، وختم الموضوع سريعاً بقوله :
ـ انتهيت من دفاعك ؟ ... ثلاثة أشهر حبس مع الشغل ...
والتفت إلى الحاجب صائحاً : غيره ...
واقتاد رجل البوليس المتهم ، واستأنف القاضي نظر الجنح التالية ، وأنا أفكر في حجج سارق الدجاجة ، وأرى ـ على الرغم ما فيها من سفسطة ـ شيئاً من الربراعة التي قد تشكك في انطباق وصف السرقة . ولكن الأبرع من حجج المتهم طريقته في صيد الدجاجة بدون أن يجري خلفها ويستثير صياحها ) .