نظرة شرعية في فكر (عبد الرزاق السنهوري)
لمحـــة عنه:
يعد عبد الرزاق السنهوري بحق (طاغوت القوانين الوضعية المعاصرة)!!؛ فقد سخر هذا الرجل جهوده وذكاءه وتفوقه في سبيل التمكين لهذه القوانين الكفرية في بلاد الإسلام، وتحسين صورتها أمام المسلمين بما يضفيه عليها من مسحات (إسلامية) يخلط من خلالها الحق بالباطل؛ ليكون ذلك أمكن في تثبيتها وأسرع لرواجها بعد أن أشرب قلبه حبها، وقصر عمره على دراستها ونشرها.
فالسنهوري قد قام بعمل القوانين الوضعية التالية:
1-القانون المدني المصري عام 1936، حيث عرضت الحكومة المصرية على السنهوري القيام بعمل قانون جديد لها بدل القانون المصري القديم الذي أنشئ زمن الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1883م، فقام بذلك متعاوناً مع أستاذه الفرنسي (إدور لامبير) !! الذي وضع الباب التمهيدي.
وقد صدر هذا المشروع في يوليو 1948م، وبدأ تنفيذه في أكتوبر عام 1949م() .
وقد قال السنهوري مفتخراً بقانونه الوضعي هذا() :
جهود منهكات مضنيــات وصلت الليــل فيهـا بالنهار
وكنت إذا استبد اليأس يوماً أسـل عزيمة الأسـد المثــار
قلت: بئس الفخر فخرك!حيث نازعت الله –عز وجل- في حكمه، ومكنت لهذه القوانين الكفرية في الإسلام.
ثم وضع السنهوري أو ساهم في وضع الدستور المصري بعد ثورة جمال عبد الناصر ورفاقه().
2-عمل قانون العراق بطلب من رشيد عالي الكيلاني عام 1936م، وعندما عاد إلى بلاده (اصطحب معه العشرة الأوائل من أبناء كلية الحقوق ببغداد، وألحقهم بكلية الحقوق بالقاهرة، فكانوا نواة الأساتذة العراقيين الذين اضطلعوا بتدريس القانون هناك فيما بعد) ()!
أي أنه لم يكفه أن قام بعمل القانون الوضعي، حتى ربى تحت نظره من يواصل مسيرته في التمكين له! نسأل الله العافية
3-عمل قانون سوريا عام 1943م().
4-عمل قانون ليبيا 1953م، بدعوة من الحكومة الليبية بعد استقلالها().
5-عمل دستور دولة الكويت في عهد أميرها عبد الله السالم الصباح عام 1960 – 1961م().
6-عمل دستور السودان() .
7-عمل دستور دولة الإمارات العربية المتحدة().
8-قال الدكتور عبد الباسط الجميعي (وكذلك وضع السنهوري لإمارة البحرين مجموعة من القوانين العصرية) (). أي الكفرية!
هذه أهم القوانين التي وضعها السنهوري وهي –كما يقال- أبرز جهوده أثناء حياته!، أفلا يحق لنا بعدها أن نصفه بأنه (طاغوت القانون الوضعي)؟!
ولتوضيح خطورة ما قام به السنهوري:
اعلم أن البلاد الإسلامية قبل أن يضع السنهوري قوانينه الوضعية لكثير منها كانت تحكم بالآتي:
1- بعضها يحكم بالشريعة الإسلامية؛ وهي: المملكة العربية السعودية، واليمن().
2- وبعضها الآخر يحكم بالقوانين العثمانية المستقاة من الشريعة الإسلامية() مع بعض التعديلات؛ كالعراق وسوريا وفلسطين والأردن وليبيا.
3- وبعضها يحكم بالقانون الفرنسي!؛ وهي الدول التي انسلخت من الدولة العثمانية، قبل صدور (مجلة الأحكام العدلية)، وهذه الدول: إما أن تكون قد تبنت القانون الفرنسي بمحض إرادتها كما كانت الحال بالنسبة لمصر بلاد السنهوري! ().
أو تكون قد تبنتها بسبب الاحتلال الفرنسي؛ كلبنان وتونس والمغرب والجزائر.
وقد كان المسلمون –رغم ضعفهم- يعلمون مخالفة هذه القوانين الفرنسية لشريعة الرحمن، ويتحرج الكثير منهم من التحاكم إليها أو الرضا بها، ويتمنون الخلاص منها، والتحاكم إلى شرع ربهم، وأعداء الإسلام من الذين لا يريدون أن تقوم للشرع قائمة لا يجهلهم ذلك()، ولهذا فقد تفتقت أذهانهم عن خطة ماكرة تقوم على محاولة ترميم وتحسين هذه القوانين الكفرية بمزجها بشيء من الأحكام الشرعية() ليسهل هضمها وقبولها من المسلمين بعد خداعهم بهذا المزج الذي سموه (أسلمة) للقوانين، أو (تطويراً) للشريعة الإسلامية!، بشرط أن يقوم بهذه المهمة رجال يحملون الهوية الإسلامية زيادة في التضليل، وحبكاً للمخطط.
وقد وقع نظر القوم على السنهوري باشا! الذي لفت انتباههم بتفوقه وميوله الحقوقية.
فتم ابتعاثه –كما سبق- إلى بلاد القانون الوضعي: فرنسا!، وأوكلت مهمة الإشراف عليه إلى من قيل فيه (علامة القانون المقارن)! () ؛ وهو أستاذه (إدوار لامبير) الذي كان يقول عن السنهوري: (لقد وجدت ضالتي المنشودة أخيراً على يد السنهوري، وهو من أنبغ تلاميذه الذين درست لهم خلال حياتي العملية كأستاذ) ()
ولهذا وجدنا الحكومة الفرنسية تمنح السنهوري وسام (ليجيون دويز) نظراً لجهوده في الترويج لقوانينهم الكفرية بطريقة (إسلامية)!، ونظراً لتقريره اللغة الفرنسية على طلاب الثانوية أثناء وزارته للمعارف عام 1935م() .
ولقد قام السنهوري بمهمته كما أراد الأعداء، حيث تولى كِبْر صياغة القوانين الوضعية الكفرية الجديدة بعد أن خلط باطلها الكثير بحقٍ قليل زيادةً في التضليل، وبدهاء لا يجيده إلا أكابر المجرمين.
وأثمرت جهوده() كما قال الأستاذ مجيد خدوري : (في إدخال الإصلاح التشريعي وفق أسس علمانية) ().
وقال خدوري –أيضاً- : (يمكن أن يُعزى النجاح الملحوظ الذي أحرزه السنهوري إلى أنه بدأ بتطبيق أسلوبه في المواضيع التي تثير أقل قدر من معارضة العناصر المحافظة، أو التي لا تثير معارضة على الإطلاق، وبذلك تجنب عن حكمة() الخوض في قضايا مثيرة للجدل يمكن أن تورطه في نـزاع مع العلماء … ولهذا السبب نحج السنهوري حيث فشل الآخرون) ().
وقال الدكتور محمد كامل ضاهر عن قوانين السنهوري: (إن المنحى الأساسي الذي ضمنه السنهوري في هذه الدساتير هو العلمنة؛ أي عدم جعل الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي من مصادرها الرئيسية…)()
وقال –أيضاً- : (لم يأخذ بهذا الفقه –أي الإسلامي- عندما أعد القانون المدني المصري عام 1948، وقاوم كل الاتجاهات التي طالبت باستنباط مبادئ هذا القانون من الشريعة الإسلامية، وأصر على اعتماد المناهج العلمانية الغربية…)()
قلت: ولابد لمن يريد التعرف على جهود السنهوري في سبيل التمكين لقوانين الكفر من بلاد الإسلام أن يعلم الفكرة التي كان يعدها بمثابة التمهيد لقبول هذه القوانين، وهي مما استقاه من أتباع المدرسة العصرانية التي سبقته().
تقوم هذه الفكرة التي آمن بها السنهوري على خطوتين:
1- (وجوب) تطويع الشريعة الإسلامية لتتوافق مع متطلبات العصر -مهما كانت-، وليس العكس!
2- التفريق في الشريعة الإسلامية بين:
I- العبادات: وهذه لا تقبل –في نظره- الاجتهاد والتطور.
II- المعاملات: وهي ما تقبل الاجتهاد والتطور بين عصر وآخر.
ولتوثيق كل هذا سوف أنقل من كلام الرجل ما يشهد له؛ حتى لا يظن أحد أني أتجنى عليه:
-يقول السنهوري: (إن الشريعة الإسلامية هي شريعة الشرق() ووحي أحكامه، ومتى ألفنا بينها وبين الشرائع الغربية، فروح من الشرق وقبس من نوره يضئ طريقنا للمساهمة في نهضة الفقه العالمية) () فالهدف إذاً (التأليف) بين الشريعة وقوانين الكفر!
ويقول : (أمران وددت ألا أموت قبل أن تكون لي قدم في السعي إلى تحقيقهما: فتح باب الاجتهاد في الشريعة الإسلامية حتى تعود شريعة حية يستقي منها الشرق قوانينه) ()
وستعلم قريباً إن -شاء الله- حقيقة هذا الاجتهاد الذي يسعى إليه!
-ويقول السنهوري: ((إن القرآن الكريم والحديث الشريف هما الجزء المجموع من القانون الإسلامي. وعندي أن لتفسيرهما يجب اتباع قاعدة أساسية وهي أن جزءاً من أحكامهما عام يصلح في عموميته لكل زمان ومكان، ولهذا وضع .
وجزءاً آخر خاص بالزمن والمكان اللذين وضع فيه فلا يتعدى إلى غيرهما إلا إذا اتحدت الظروف والأسباب.
وفي القرآن الكريم نفسه ناسخ ومنسوخ، والنسخ هو قصر بعض أحكام جاءت في ظروف خاصة على هذه الظروف، واستبدال أحكام أخرى بها، بعد زوال الظروف التي اقتضتها.
ومما يجب التنبيه عليه أن كل ما ورد في القرآن والحديث مما يتعلق بعلاقة الخالق بالمخلوق هو من الأحكام العامة التي لا تتغير؛ لأن ظروف علاقة الخالق بالمخلوق لا تتغير، وهذا معنى قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) فعنى بالدين هذه العلاقات. وقد وردت في كتابه الكريم مستوفاة لا حاجة إلى إكمالها.
أما ما عدا الدين من الأمور الدنيوية فلا تشمله الآية؛ والسبب في ذلك ظاهر وذلك أن الله تعالى ونبيه الكريم أمرنا أن نطيع العقل في أمور معاشنا وأن ننزل على قوانين العقل في ذلك، ومن قوانين العقل قانون التطور، وهذا القانون يقتضي ألا تثبت الحالات الاجتماعية على نسق واحد بل هي تسير دائماً في تطور وتقدم، (ومثل هذا يقال أيضاً في الحالات الطبيعية) وأن من مقتضى هذا التطور أن تتطور معه علاقات البشر بعضها بالبعض وتتغير تبعاً لذلك القوانين الاجتماعية، فأرادت حكمة الله تعالى ألا تغلق باب التطور الاجتماعي الذي يقتضيه العقل في وجه الناس) ().
فالسنهوري يقصر ما هو ثابت في دين الله ولا يقبل التطور بحال على العبادات بمفهومها الضيق؛ كالصلاة والصوم والحج.. الخ()، أما غير ذلك من أمور الدين، فهو يقبل التطور (أو التغيير) ما بين عصر وآخر حسب ما تراه عقول البشر القاصرة.
فهي دعوة علمانية مستترة تريد أن تجعل من الإسلام الشامل لأمور الحياة مجرد عبادات يمارسها العبد بينه وبين ربه؛ كحال النصارى الذين تأثر السنهوري وأحزابه من العصرانيين بنظرتهم لدينهم؛ فأرادوا تعميم تلك النظرة على الإسلام.
ويقول السنهوري –أيضاً-: (الدين ينظر إلى العلاقة بين العبد وخالقه، وهذه لا تتغير، ولا يجب أن تتغير، فالخالق سبحانه وتعالى أبدي أزلي لا يجوز عليه التغيير ولا التبديل()، فالعلاقة بينه وبين العبد ثابتة لا تتطور. أما مسائل الدولة فالنظر فيها لا يكون نظر مصلحة وتدبير) ()
-ويقول : (إن الفقهاء أدركوا ضرورة هذا التمييز() فوضعوا أبواباً للعبادات وأبواباً للمعاملات، وبذلك فرقوا بين المسائل الدينية، والقانون بمعناه الحديث. لذلك يجب أن نقتصر من الفقه في أبحاثنا على أبواب المعاملات، فهذه هي الدائرة القانونية…)()
وانظر للمزيد: ص 142 – 145 من كتاب (عبد الرزاق السنهوري من خلال أوراقه الشخصية).
قلت: والهدف من هذا التمييز (الموهوم) ما بين العبادات والمعاملات، وأن الثانية تقبل التغيير والتطور هو تطويع شريعة الرحمن لتتوافق مع قانون الشيطان وما يسميه العصرانيون : متطلبات العصر. وبدلاً من أن يدور السنهوري مع أحكام الشرع الحنيف ويقوّم بها سلوكه وسلوك الدول التي عمل قوانينها أراد للشريعة أن تدور مع أهوائه وانحرافاته هو وغيره من (العلمانيين) تلامذة النصارى مسمياً ذلك كله (تطوراً) و(تغييراً) تقبله الشريعة. وإنما هو تحليل لما حرّم الله تعالى وتملص وتخلص من أوامره ونواهيه بشتى الحيل.
ولكي يتضح ما سبق بمثالٍ واقعي يشهد على انحراف السنهوري، وأنه يعارض بقوانينه تلك شرع الله، ويحل ما حرَّمه: اسمع ما يقوله عن (الربا) المحرَّم بنص القرآن :
يقول السنهوري: (مهما كانت الحاجة الشديدة إلى النهوض بالشريعة الإسلامية وجعلها مطابقة لروح العصر الحاضر() فلا يغيب عمن يريد القيام بإصلاح من هذا القبيل أن يترك للشريعة مرونتها ويكتفي باستنباط أحكام منها تتفق مع العصر الذي هو فيه، دون أن يرتكب خطأ فيقول بصلاحية هذه الأحكام المستنبطة صلاحية مطلقة، فقد يجئ عصر آخر تتغير فيه المدنية والآراء السائدة في الوقت الحاضر، وقد يكون بعض من الآراء في فقه الشريعة لا يصلح في الوقت الذي نحن فيه ويجب تعديله في نظر البعض، ثم يأتي عصر آخر يكون فيه نفس الرأي صالحاً.
والمثل الذي أفكر فيه الآن هو الربا، ولا شك في أن من قواعد النظام الاقتصادي الآن رءوس الأموال وهذه لا تتهيأ إلا إذا تقرر مبدأ الفائدة المعتدلة، فيمكن أن يقول البعض إذن بتقييد الربا الممنوع في الشريعة على أنه الربا الفاحش وهذا تحرمه كل الشرائع ويحرمه العقل والمصلحة.
ولكن ليس من الأمانة العلمية ولا من المصلحة أن يدعي (من يريد إدخال هذا التغيير) أن هذا هو المعنى الذي فهمه المسلمون قبلا من الآيات التي تحرم الربا.
فالواقع أن المسلمين كانوا يحرمون الربا – كثيرة وقليله- ولم يكن في الأنظمة الاقتصادية في ذلك العهد ما لا يتألف مع هذا التحريم، فإذا جدت أنظمة اقتصادية في عصرنا تقتضي التمييز بين كثير الربا وقليله، وكانت المصلحة تقضي بهذا التغيير فيجب أن يؤخذ على أنه مقيد بالعصر الذي اقتضاه.
وقد يأتي زمن – وتوجد من البوادر ما يدعو لتوقع ذلك- ينتقض فيه النظام الاقتصادي الحاضر وتقل أهمية رءوس الأموال أو تنعدم ويصبح الربا الفائدة مهما قل لا يتفق مع روح العصر، فعند ذلك نرجع إلى ما فهمه المسلمون أولاً من وجوب تحريم الربا ويكون هذا صحيحاً وتتسع الشريعة الإسلامية بالتطور الجديد في الأفكار) ()!!
أرأيت كيف أحل السنهوري الربا المحرم؟! مستخدماً بذلك خطته الماكرة من تقسيم الشريعة إلى عبادات لا تتطور، ومعاملات تتطور، ويعني بالتطور– كما في المثال السابق- أن ما كان حراماً في الماضي قد يكون حلالاً في عصرنا هذا! فما أشبه صنيع الرجل بما كان يصنعه أهل الجاهلية من تحليل الشهر الحرام عاماً وتحريمه عاماً آخر، حسب المصلحة! كما فعل السنهوري سواء بسواء. فقال سبحانه واصفاً صنيعهم بأنه (زيادة في الكفر) نعوذ بالله من الضلال.
ثم تأمل ذكاء الرجل حيث علم أن نصوص الشريعة تحرم الربا قليله، وكثيره، لا كما يزعم بعض أصحاب الأهواء من اقتصار ذلك التحريم على كثير الربا فقط، أما قليله فحلال، وهو ما ترده نصوص الشرع التي يعلمها السنهوري. فأراد أن يأتي بحيلة أكثر خفاءً لتحليل ما حرم الله.
وما يُقال عن الربا يقال عن غيره من المحرمات التي يريد السنهوري بقوانيه الكفرية تحليلها بعد أن وضع قاعدة (التطور) و(التغير) المزعومة.
وهو لا يقتصر في صنيعه ذلك على أمور الاقتصاد – كما قد يظن- بل يعمم قاعدته لتشمل كل ما يمكن أن يُدخله تحت مسمى (المعاملات)! ؛ كأمور تنظيم الدولة، والتعامل مع الكفار، وأمور المرأة من حجاب واختلاط ونحو ذلك.
ولك أن تقول باطمئنان : بأن السنهوري() يسعى من خلال خطته السابقة إلى أن يكون الإسلام كالنصرانية؛ يجعل ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وينـزوي من الواقع ليكون مجرد عبادة بين العبد وربه لا دخل له بتنظيم أمور الحياة وعلاقات الناس وأحوالهم المختلفة.
وإن شئت فقل بأن السنهوري يدعو إلى (العلمانية) ولكن بعد أن يلبسها ثوباً إسلامياً؛ وهو ما فتئ يحاوله أساطين العصرانية منذ نشأة تيارهم في بلاد الإسلام().
والعجب بعد هذا كله – أن تجد من الفضلاء- كما حدثني بعضهم من لا زال يحسن الظن بالسنهوري أو يدافع عنه أو يصفه بما لا يستحقه، غافلاً عن جريمته النكراء في حق أمته؛ حيث صرفها عن شرع ربها بشتى الحيل، لترتمي في أحضان قوانينه الكفرية التي استفادها من أساتذته النصارى.
وقد تأكد عجبي هذا بعد أن رأيت الدكتور الفاضل علي السالوس() يصفه بـ (العلاَّمة) !
ثم رأيت الدكتور محمد زكي عبد البر المدرس بكلية الشريعة بالرياض يثني على جهوده في صنع قوانين الدول العربية !! ()
ومثله؛ ما ذكره الشيخ عبد العزيز القاسم –وفقه الله– من أن السنهوري كان (متبنياً وجوب الرجوع إلى الشريعة عند مراجعة التشريع المصري) () !! وسيأتي –إن شاء الله- ماهية الشريعة التي يرى السنهوري وجوب الرجوع إليها!
هدى الله الجميع لما يحب ويرضى، وجنبهم كيد الأعداء.
انحرافاته:
1- أعظم انحراف له – كما علمنا- هو وضعه القوانين الكفرية دستوراً وحاكماً في كثير من الدول العربية، ومساهمته الجادة في تثبيتها وترويجها بين المسلمين، فعليه وزرها ووزر من افتتن وعمل بها. وقد قال الله تعالى فيه وفي أمثاله من الداعين إلى حكم القوانين() (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً).
2-ومن انحرافاته المتعلقة بما سبق أنه إضافةً إلى عمله لقوانين الكفر قام بإفساد القوانين الإسلامية التي كانت تتحاكم إليها بعض الدول العربية ذاك الوقت().
مثال ذلك ما صنعه في العراق، حيث كان هذا البلد يحكم بالشريعة الإسلامية، فجاء السنهوري كما يقول مجيد خدوري (فأدخل عناصر من القانون الغربي في القانون العراقي الذي كان إسلامياً) ()!!
وقال الدكتور عبد الباسط الجميعي ؛ (هو الذي وضع للعراق قانونها المدني الذي جمع فيه بين أحكام القوانين الوضعية العصرية وأحكام الشريعة الإسلامية) ().
3-ومن انحرافاته : أن العالم في نظره ينقسم إلى (شرق) و (غرب) ، لا إلى (مسلمين) و (كفار). والشرق الذي يسعى السنهوري إلى رفع مكانته ليمتزج فيه (المسلم) (باليهودي) (بالنصراني)…. الخ! وهذه تسمية وفكرة بثها أعداء الإسلام قديماً من خلال المستشرقين فتلقفها بعض المثقفين والكتاب من بني جلدتنا؛ كالسنهوري وغيره، وهدفها صرف المسلمين عن حقيقة الصراع الديني القائم بين الإسلام وأعدائه، وإماتة الحس الشرعي لدى أبناء الإسلام، الذي لا يحييه سوى الألفاظ الشرعية: (بلاد الإسلام، بلاد الكفر…) ، وتذويب ذلك كله في منافسة (دنيوية) بين شرق يحوي جميع الأجناس والأديان وغرب مقابل له().
يقول السنهوري: (الشرق يتنبه ويريد الآن أن يقوم بقسطه من العمل على سعادة العالم ورفع شأن المدنية، بعد أن سكت عن ذلك مدة، ولكنه يريد أن يبذل مجهوداً جدياً وأن يختط لنفسه طريقاً لا أن يكون مقلداً للغرب، ويريد أن يميز مدنيته الجديدة شيئان:
1-أن تكون تلك المدنية ذات صبغة شرقية تصل الماضي بالمستقبل.
2-أن تكون تلك المدنية بمثابة رد فعل للمادية المتغلبة اليوم على المدنية الغربية، فقد غالى الغربيون في ماديتهم وأصبح ضحايا هذه المدنية أضعاف المتنعمين بها، فالعالم ينتظر الآن من الشرق أن ينقذه من تلك الوهدة. ومن أكفأ من الشرق في القيام بهذه المهمة وهو الذي كان مبعث النور والخير ومهبط الحكمة والأديان؟)()
ويقول –أيضاً-: (يقول الشرق لأبنائه: إن نهضتي هي نهضة دين، وتقوم على سائر الأديان، في أني مقر الأديان الثلاثة، وكلها من عند الله) ()!!
ويقول موضحاً فكرته ومؤكداً ما قلته: (ليس قيام الشرق معناه قيام دين على دين) ()!!
فلا فرق بين الأديان عنده! ، ولا فرق بين المسلم والنصراني واليهودي! إنما الفرق أن هذا نشأ مسلماً وهذا نشأ نصرانياً والآخر يهودياً!
ويؤكد لك هذا قوله عن بلاده مصر: ( لو أمكن مزج القبطي والمسلم مزجاً تاماً حتى تنعدم كل الفروق، لكان هذا خير ما يُرجى. ولكني أرى أنه يحسن الآن بذل كل مجهود لحصر هذه الفروق في دائرة ضيقة، وهي دائرة الاعتقاد الديني، ولا يكون لهذا أثره في الحياة المدنية للمصري) ()!!
فالهدف إذاً المزج (التام) بين المسلم والكافر بحيث لا يكون بينهما أي فرق! ولكن لعلم السنهوري بصعوبة هذا الأمر لجأ إلى المطالبة بأن تبقى الفروق محصورة في (دائرة الاعتقاد الديني)!
فالفكرة الأساسية للسنهوري هي أن يحل مذهب (الإنسانية) في ما يسميه الشرق محل( الأديان ). فإن لم يمكن ذلك الآن فلتكن (العلمانية) الخطوة الأولى نحوه! وهو يعبر عن هذا كله بقوله: (أحلم بعالم بشري موحد يقوم على سيادة العقل وعلى سيادة القانون) ()!!
وهذه ظلمات وكفريات بعضها فوق بعض ، لا يشك فيها مسلم نعوذ بالله من الضلال.
4-ومن انحرافات السنهوري : محاولاته الحثيثة إفساد (الأزهر)، وهو البقية الباقية لأنصار شريعة الله في بلاد مصر، وذلك بتقليل مواده الشرعية ومزجها باللغات الأجنبية والقوانين الكفرية! يقول السنهوري شارحاً خطته الآثمة: (والجامع الأزهر يحتاج إلى كثير من الإصلاح() فلو جعل على ثلاثة أقسام: القسم الابتدائي وهذا ينتشر في كل البلاد، والقسم الثانوي منه ما يعد لقسم الدين والعقائد ويجعل مركزه في الأزهر الحالي وفي كل المديريات، ومنه ما يُعد لقسم الآداب، وهو القسم الثانوي بمدرسة دار العلوم، ومنه ما يُعد لقسم الفقه الإسلامي (القانون) وهو القسم الثانوي بمدرسة دار القضاء، ويجعل منهاج الدراسة في هذه الأقسام مناسباً لما يُعد الطالب نفسه لأجله من العلو، مع جعل المبادئ الأساسية للغة العربية والعقائد مشتركة في الجميع، ومع مراعاة إدخال لغة أجنبية شرقية (الفارسية أو التركية) ولغة أجنبية غربية (الفرنسية أو الإنجليزية) في منهاج دراسة القسم الثانوي بدار العلوم، ثم يأتي بعد ذلك الأقسام العالية، وهي قسم الدين والعقائد وهو القسم العالي بالأزهر الحالي (ويُراعى فيه دراسة تاريخ الأديان الكتابية وخلاصتها والمسيحية واليهودية) وقسم الآداب وهو القسم العالي بدار العلوم، ويراعى فيه دراسة اللغة العبرية عدا التوسع في اللغتين الأجنبيتين الأخريين، وقسم الفقه والقانون وهو القسم العالي بمدرسة القضاء الشرعي، ويراعى فيه دراسة اللغة الفرنسية ومبادئ القانونين اللاتيني والإنجليزي)().
فلماذا الإلحاح يا سنهوري على دراسة هذه القوانين الكفرية؟! ليته كان لتبيين عظمة التشريع الإسلامي مقارنة بها، لكن الهدف – كما علمنا- هو الاستفادة منها، وتطويع الشرع لها.
5- ومن انحرافاته : مطالبته (بتطوير) اللغة العربية! بعد أن طالب بل (طور) الشرع ليتناسب مع قوانينه .
يقول السنهوري: (قلت في كلمة مجمع اللغة أن اللغات المتطورة تتميز بأن تكون لغة الكتابة قريبة من لغة الكلام ولغة الحاضر بعيدة عن لغة الماضي.
وأضيف إلى ما قلت أن اللغة العربية لغة الكتابة فيها بعيدة عن لغة الكلام ولغة الحاضر قريبة من لغة لماضي. وهذا إنما يدل على قليل من التطور، فاللغة كائن حي، لابد من أن يتطور، فإذا أعوز اللغة أن تتطور في الكتابة فلا مناص من أن تتطور في الكلام، فتبعد الشقة ما بين الكلام والكتابة، بينما يكون حاضر اللغة قريباً من ماضيها لبطء تطورها) ()
وهذا الانحراف لم يستطع المعلقان على أوراقه الشخصية() أن يهضماه، فبينا بأن هذا الأمر فيه خطورة على اللغة العربية. وليتهما علقا بمثل هذا التعليق على انحرافاته الأخرى، وهي أخطر من هذا الأمر بكثير
6- ومن انحرافاته: تبنيه كتابة المادة الفقهية وفق المناهج والقوانين الحديثة ومصطلحاتها؛ مما سبب مشاكل عديدة.
وقد أطال الدكتور محمد زكي عبد البر في دفع هذا الانحراف وبيان ما فيه من زلات وجنايات على الفقه الإسلامي في مقاله المشار إليه سابقاً، وهو منشور في مجلة كلية الشريعة بالرياض، العدد 8، جمادى الآخرة 1397هـ
7- ومن انحرافاته: أنه أراد إنشاء (معهد الفقه الإسلامي المقارن)! عام 1946م، ليزاحم به الأزهر الذي لم يكن يقبل بأطروحات الرجل، و محاولاته الحثيثة تطويع الشريعة الإسلامية لقوانينه الكفرية. ولهذا فقد هاجمه المصلحون وسفهوا رأيه هذا، ووزعت ضده المنشورات في المساجد تصف معهده –كما يقول الدكتور عمارة!- بأنه (أنشئ للإلحاد في دين الله) ()!
8-ومن انحرافاته: دعوته لتحرير المرأة، ومن ذلك قوله: (لا أظن أن مطالبة الرجال بتحرير النساء تجدي ما دامت النساء لا تطلب ذلك لأنفسهن) ()
رد الدكتور محمد محمد حسين – رحمه الله- على السنهوري:
يعد الدكتور محمد محمد حسين –رحمه الله- من أبرز من تصدى للمدرسة العصرانية الحديثة (مدرسة الأفغاني ومحمد عبده)، وبين خطورتها على الإسلام، وأنها مجرد قنطرة للعلمانية اللادينية، وذلك في كتبه الشهيرة الرائعة التي لا يستغني عنها طالب حق في هذا الباب:
1- الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر.
2- حصوننا مهددة من داخلها.
3- الإسلام والحضارة الغربية.
ولم يفت الدكتور –رحمه الله- وهو المعاصر للسنهوري أن يتعرض لجهوده الخبيثة في التنصل من الشريعة الإسلامية وإقراره القوانين الوضعية بدلها تحت دعاوى ماكرة لم تنطل على الدكتور الحصيف –رحمه الله-.
وقد نشر رده على السنهوري في كتابه (حصوننا مهددة من داخلها) (ص111-118)، وكان تعقيباً على مقال للسنهوري بعنوان (القانون المدني العربي).
قال الدكتور محمد محمد حسين –رحمه الله-:
(يدعو السنهوري في مقاله هذا إلى توحيد القانون المدني في سائر البلاد العربية، فيستثني من ذلك الحجاز واليمن، لأنهما يلتزمان الشريعة الإسلامية، (إلى أن يحين الوقت الذي تتمكن فيه من المشاركة في حركة التقنين المدني العربي-ص8). ويقول بعد ذلك: إن التقنين العربي يتنازعه تياران، أحدهما ممثل في القانون المصري، وهو تيار غربي خالص أو يكاد، والآخر يمثله القانون العراقي الحديث، وهو يمزج بين الشريعة الإسلامية والقوانين الغربية. ويُدخل في القسم الأول الذي يصفه بأنه (ينتمي إلى الثقافة المدنية الغربية).. مصر وسوريا ولبنان وتونس والجزائر ومراكش، بينما يُدخِل في القسم الثاني العراق والأردن وفلسطين.
وهو يصف القانون المدني الجديد في مصر بأنه قد جعل للشريعة الإسلامية بعض الاعتبار. ولكنه يعترف بأن (المشرع المصري بالرغم من كل ذلك لم يخط خطوة حاسمة في جعل القانون المدني مشتقاً في مجموعة من الفقه الإسلامي). ويعتذر عن ذلك بأن المشرع المصري قد أخذ بأسباب الأناة والتبصر (وتربص حتى يأخذ الفقه الإسلامي بأسباب التطور – ص10) ثم يعود فيؤكد أن هذا القانون (يمثل أصدق تمثيل الثقافة المدنية الغربية في العصر الذي نعيش فيه-ص15).
أما القانون العراقي فهو يتميز عنده بأنه (أول قانون مدني حديث يتلاقى فيه الفقه الإسلامي والقوانين الغربية الحديثة جنباً إلى جنب بقدر متساوٍ في الكم والكيف-ص18) وهو يرى أن هذه التجربة (من أخطر التجارب في تاريخ التقنين الحديث) لأن وضع نصوص الشريعة الإسلامية إلى جانب النصوص الغربية قد (مكن لعوامل المقارنة والتقريب من أن تنتج أثرها، ومهد الطريق للمرحلة الثالثة والأخيرة في نهضة الفقه الإسلامي، يوم يصبح الفقه مصدراً لأحكام حديثة تجاري مدنية العصر وتساير أحدث القوانين وأكثرها تقدماً ورقياً.. ص19).
وهو يقدر (بعد أن أصبح الفقه الإسلامي والقانون المدني الغربي جنباً إلى جنب في صعيد واحد، أن يتكامل القانونان وأن يتفاعلا، هذا يؤثر في ذاك وقد يتأثر به. ومن ثم تقوم نهضة علمية حقة لدراسة الفقه الإسلامي في ضوء القانون المدني الغربي، وهذه الدراسة هي التي قصدت أن أصل إليها حتى إذا آتت ثمارها وتقدمت دراسة الفقه الإسلامي إلى الحد الذي يجعله مصدراً لقانون مدني يجاري مدنية العصر ويساير ثقافة الجيل، عند ذلك نكون قد بلغنا المرحلة الثالثة والأخيرة، ويتحقق ببلوغنا هذه المرحلة الهدف المنشود-ص20). والهدف المنشود عنده هو الذي أشار إليه قبل ذلك بسطور قليلة حين قال (والهدف الذي قصدت إليه هو أن يكون للبلاد العربية قانون واحد يشتق رأساً من الشريعة الإسلامية). ولكن كلامه الذي تلا ذلك –وهو كلام بالغ الخطورة- يكشف عن مبلغ ما في هذا الزعم من إخلاص، ويبين أنه ليس إلا خداعاً، وأن الشريعة الإسلامية التي بقصدها هي شيء آخر غير الشريعة التي أنزلها الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والتي تمت نعمة الله علينا بإكمالها منذ نزل قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)
فهي شريعة تستهدي (مدنية العصر) الغربية و(ثقافة الجيل) الغربية أيضاً، وتروض نفسها على أن ترتفع إلى مستوى شرائع الغرب، لأنها في زعم المؤلف لم تبلغ هذا المستوى. وقصد الكاتب إلى تطوير الشريعة الإسلامية واضح في مقاله هذا كل الوضوح، وهو يقصد بتطوير الشريعة الإسلامية جعلها ملائمة لنظم حياتنا ولأنماطها المنقولة عن الغرب المسيحي، أو الغرب اللاديني على الأصح، فهو يريد أن يشكل الشريعة الإسلامية بشكل هذه الحياة، بدل أن يشكل الحياة بشكل الشريعة، أي أنه يُحَكِم هذه الأنماط الغربية في الشريعة بدلاً من أن يُحَكِم الشريعة في اختيار ما يلائمنا من هذه الأنماط، أو بعبارة أخرى هو يعرض الشريعة على واقع الحياة، ولا يعرض واقع الحياة على الشريعة، وهو مع ذلك لا يميز بين الشريعة الإسلامية المنـزلة من عند الله وبين القانون الغربي الذي صنعته المصالح والأهواء، بل الذي صنعته اليهودية العالمية في بعض الأحيان، كما هو الشأن في القانون الفرنسي الذي استمد منه القانون المصري بخاصة، لأن هذا القانون ثمرة من ثمار الثورة الفرنسية اليهودية التي أصبحت فرنسا من وقتها دولة لا دينية من الناحية الرسمية على الأقل، وما وجه المقارنة بين قانون صنعه الإنسان وبين قانون منـزل من عند الله العليم الخبير؟ .
إن الذي يعتريه شك في أن الشريعة الإسلامية – كما هي في القرآن الكريم وكما بينتها السنة الشريفة- منـزلة من عند الله هو كافر، والذي يؤمن بأنها منـزلة من عند الله لا يعتريه شك في صلاحيتها لكل زمان ومكان، لأن الله سبحانه وتعالى يعلم الماضي والحاضر والمستقبل، قد أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، ولا يغرب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، بذلك وصف نفسه – سبحانه- في محكم كتابه، وبذلك يؤمن المسلمون.
والذي يهدف إليه السنهوري هو شر الحلول، لأن الذي يفعله هو تبديل الشريعة الإسلامية، ولا شك أن تفاعل الشريعة الإسلامية السماوية مع شرائع الغرب الوضعية هو شر مما كان حادثاً من استعارة القانون الغربي كله أو بعضه؛ لأن من الممكن التخلص من الدخيل في هذه الحالة. أما في حالة الاندماج والتفاعل فإدراك الحدود بينهما صعب، وتخليص الشريعة الإسلامية مما دخلها من أسباب الزيغ والانحراف يكاد يتعذر بعد أن تتغلغل الروح الغربية في كيانها، ويصبح الناتج من تفاعلهما شيئاً جديداً معقد التركيب تختلف خصائصه وصفاته عن كل من العنصرين المكونين له.
ثم إن الناس في الحالة الأولى يدركون إدراكاً واضحاً أن القانون الذي يحكمهم قانون دخيل. أما في الحالة الثانية فقد يتوهمون أن القانون الذي يحتكمون إليه قانون إسلامي، بل إن كاتب المقال يزعم لهم ذلك منذ الآن.
والواقع أن هذا الذي يفعله السنهوري هو الذي يهدف إليه الاستعباد الغربي. يقول هـ.ا.ر. جب في كتابه "إلى أين يتجه الإسلام؟! (Whither Islam) (ص 328-329 من طبعة لندن 1932): (إن مستقبل التغريب والدور الذي سيلعبه في العالم الإسلامي لا يتوقف على هذه المظاهر الخارجية للتأثر والاقتباس، لأن الصورة الظاهرية ثانوية، وكلما كان التقليد في المظاهر أكمل كان امتزاج الشيء المنقول بنفس المقلدين أقل، لأن فهم الروح والأصول التي تنطوي عليها المظاهر الخارجية فهماً كاملاً لا بد أن يصحبه إدراك التعديلات التي تتطلبها الظروف المحلية. ويمكن أن يزول من العالم الإسلامي كثير من النظم الغربية التي نراها فيه الآن، ثم لا يكون مع ذلك أقل حظاً من الاستغراب، بل ربما كان أوفر حظاً، وإذا أردنا أن نعرف المقياس الصحيح للنفوذ الغربي ولمدى تغلغل الثقافة الغربية في الإسلام كان علينا أن ننظر إلى ما وراء المظاهر السطحية، علينا أن نبحث عن الآراء الجديدة والحركات المستحدثة التي ابتكرت بدافع من التأثر بالأساليب الغربية بعد أن تُهضم وتصبح جزءاً حقيقياً من كيان الدول الإسلامية، فتتخذ شكلاً يلائم ظروفها).
يعود كاتب مقال اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية فيؤكد أن هدفه هو تغريب الشريعة الإسلامية نفسها وفرنجتها، أو بعبارة أخرى إيجاد "إسلام غربي" إن صح هذا التعبير، وذلك حيث يقول: (فالنتيجة الحتمية إذن لوضع القانون المدني المصري ثم لوضع القانون المدني العراقي، مشتقاً منه ومن الفقه الإسلامي على السواء هي النهوض بدراسة الفقه الإسلامي في ضوء القانون المدني الغربي- ص21).
ومع ذلك فهذا القانوني الذي يظن بالتشريع الإسلامي التخلف عن القانون الغربي يعترف بأنه لم يدرس الشريعة الإسلامية إلا في وقت حديث متأخر جداً، حين اشترك في وضع القانون المدني العراقي، فأتيح له الاطلاع على بعض نصوص الفقه الإسلامي، وهو هنا يعترف اعترافاً صريحاً بأن اطلاعه على الفقه الإسلامي جديد تاريخاً، ومحدود موضوعاً، لا يتجاوز ما أتيح له أثناء اشتراكه في لجان وضع القانون العراقي، وأنه لم يمنحه من وقته سنة من عشرات السنين التي أفناها في دراسة القانون الفرنسي، والواقع أن هذا الجهل بالشريعة الإسلامية يعلل فتنته بالقوانين الغربي، التي حدت به إلى المجاهرة بأن تكون روح التقنين الغربي وأسلوبه هما قوام نهضة التشريع الإسلامي، وهو بذلك معذور لجهله حسب اعترافه، ومن جهل شيئاً عاداه، ولكن من الظلم للناس وللإسلام وللقانون أن يسلم زمام التشريع في البلاد الإسلامية إلى الذين يجهلون شريعتها، ومن الواضح أن الرجل حين رأس لجان القانون المدني الجديد في مصر لم يكن على معرفة بالشريعة الإسلامية، لأنه إنما اتصل بها حسب اعترافه أثناء اشتراكه في لجان القانون المدني العراقي، وقد كان ذلك بعد وضع القانون المدني المصري الجديد، واعترافه في هذا الصدد صريح، إذ يقول (وأكثر ما كان درسي للفقه الإسلامي عند وضع القانون المدني العراقي، فإن هذا القانون كما قدمت مزيج صالح من الفقه الإسلامي والقانون المصري الجديد، فأتاح لي اطلاعي على نصوص الفقه الإسلامي – سواء كانت مقننة في المجلة() ومرشد الحيران، أو كانت معروضة عرضاً فقهياً في أمهات الكتب وفي مختلف المذاهب- أن ألحظ مكانة هذا الفقه وحظه من الأصالة والابتداع، وما يكمن فيه من حيوية وقابلية للتطور – ص22).
ويرسم كاتب المقال منهجاً يقترحه لدراسة الفقه الإسلامي (لإحيائه والنهضة به نهضة علمية صحيحة) حسب زعمه، فيقرر في بدء كلامه أن (الأساس في هذه الدراسة أن تكون دراسة مقارنة، فيدرس الفقه الإسلامي في ضوء القانون المقارن)، ولست أدري ما حاجتنا إلى هذه المقارنة، ولماذا كل هذا الحرص على أن لا نخالف التشريع الغربي ولا نبتعد عن روحه؟ أليس في ذلك قتل لشخصيتنا وإفناء لها في الغرب، مما لا يخدم سوى مصالح الاستعباد والتبشير؟ ذلك إلى ما يتضمنه من تبديل شرع الله وتحريف الكلم فيه عن مواضعه، وهو كفر صريح، وليس بعد الكفر ذنب.
ويطالب الكاتب بدراسة مذاهب الفقه الإسلامي المختلفة، السني منها والشيعي والخارجي والظاهري: (وتُستكشف من وراء كل هذه قواعد الصناعة الفقهية الإسلامية، ثم تقارن هذه الصناعة بصناعة الفقه الغربي الحديث. حتى يتضح ما بينهما من الفروق ووجوه الشبه، حتى نرى أين وقف الفقه الإسلامي، لا في قواعده الأساسية ومبادئه، بل في أحكامه التفصيلية وفي تفريعاته، فتمتد يد التطور إلى هذه التفصيلات، على أسس تقوم على ذات الفقه الإسلامي وطرق صياغته وأساليب منطقه، وحيث يحتاج الفقه الإسلامي إلى التطور يتطور، وحيث يستطيع أن يجاري مدنية العصر يبقى على حاله دون تغيير، وهو في الحالين فقه إسلامي خالص (؟!) لم تداخله عوامل أجنبية فتخرجه عن أصله (؟!) –ص 23).
ألا تعجب معي لهذا الرجل الذي يزعم بعد كل ما قاله أن الفقه الإسلامي الذي يسعى إلى تطويره تحت وصاية التقنين الغربي وفي ولايته هو فقه إسلامي خالص؟ وكيف يكون خالصاً وهو يحكم فيه (روح العصر)، وهي روح غربية حسب اعترافه في كل موضع من مقاله؟ ومن الواضح أن (مدنية العصر) التي يطلب السنهوري إلى الفقه الإسلامي أن يجاريها، ويطلب إلى واضعي القانون أن يتخذوها مقياساً لصلاحية الفقه الإسلامي، هذه المدنية هي مدنية غربية فرضها الاستعباد الغربي ونجح في ترويجها وفي إرساء دعائمها وتنشئة الرجال الذين يسهرون عليها ورعاية هؤلاء الرجال ودفعهم إلى مناصب القيادة والزعامة، بما يسمح لهم أن يرعوا جيلاً جديداً من أتباعهم، ثم يرعى هذا الجيل جيلاً من بعده، وهكذا دواليك، فتصبح قيادة المسلمين الفكرية والسياسية دائماً في يد هذه العصابة، لا يسمع الناس إلا كلامها وكلام أذنابها، ولا يرون إلا صورها وصور أذنابها، ولا يرقى أحدهم إلى مرتبة من مراتب الشرف ولا يُفتح له باب من أبواب الرزق إلا إذا حصل على جواز المرور من هذه العصابة التي تسد كل منفذ وتتحكم في كل باب وتحتل كل معقل، ويظل المسلمون هكذا محكومين في حقيقة الأمر بالاستعباد الغربي وهم يظنون أن حكامهم هم إخوانهم وأبناء أمتهم.
ويقترح السنهوري بعد ذلك إنشاء معهد خاص يلحق بجامعة الدول العربية لدراسة الفقه الإسلامي حسب ذلك المنهج الذي يقترحه، وهنا يلتقي السنهوري بطه حسين، الذي اقترح في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر – الفقرة 49) إنشاء معهد للدراسات الإسلامية في كلية الآداب، كما يلتقي بمحمد خلف الله في اقتراحه الذي تقدم به إلى وزارة التربية والتعليم عن إعداد مدرس الدين، فاقترح فيه (أن يعاد النظر في تكوينه وإعداده وأن يُرسم لذلك منهج يحقق له عمق الثقافة وحرية الفكر). وبنى على ذلك اقتراحاً بإنشاء (قسم أو شعبة للدراسات الإسلامية في كلية للآداب بالجامعات المصرية) (تدرس فيما تدرسه "سيكولوجية الدين" و"النظم الدينية والأخلاقية المقارنة" ولغة أو لغتين شرقيتين كالفارسية والأردية، ولغة أو لغتين غربيتين، ليكونوا على اتصال بتيارات التفكير الثقافي في الشرق الإسلامي وفي الغرب) ().
ومع ذلك كله فليس للشريعة الإسلامية من الاعتبار عند كاتب هذا المقال أكثر مما للقانون الروماني، فالغاية عنده من إنشاء ذلك المعهد الذي اقترحه هي أن (تنتهي هذه الدراسة بعد عشرات من السنين إلى أن يتجدد شباب هذا الفقه، وتدب فيه عوامل التطور لروح العصر، وتكون نهضة الفقه الإسلامي هذه شبيهة بنهضة القانون الروماني في العصور الوسطى، ويُنبت الفقه الإسلامي قانوناً مدنياً متطوراً يجاري المدنية الحديثة، وينبثق هذا القانون الحديث من الشريعة الإسلامية كما انبثقت الشرائع اللاتينية والشرائع الجرمانية من الفقه الروماني – ص24).
مثل هذا الكلام لا يمكن أن يصدر عن مسلم يعتقد أن الشريعة الإسلامية منـزلة من عند الله، وأنها حدود الله، لا يتعداها إلا كافر ظالم لنفسه.
ثم يأخذ الكاتب في بيان ما يتضمنه التقاء القانون الغربي بالفقه الإسلامي من وجوه واحتمالات، ويخرج القارئ من كلامه بأن ما يسميه (اشتقاق القانون من الشريعة الإسلامية) ليس في حقيقة الأمر إلا إخضاع الشريعة الإسلامية لأهواء العصر وشهواته وهو ما يسميه (مدنية العصر). وخلاصة ما يقوله هنا أنه لا يأخذ بحكم الشرع إلا حيث يتفق تماماً مع روح القوانين المدنية المستجلبة من أوروبا، ثم هو يُعدّل الحكم الشرعي أو يلغيه ويسقطه حسب مبلغ تعارضه مع هذه القوانين الغربية الأصول، التي هي في زعمه (أصلح للعصر) أو (تجاري مدنية العصر) أو (تساير روح العصر)، حسب تعبيره في مواضع مختلفة من هذا المقال.
وتطوير الفقه الإسلامي الذي يدعو إليه الكاتب، أو تبديله على الأصح، هو تطوير وتبديل لا يقف عند حد حسب اعترافه هو نفسه حيث يقول: (فالهدف الذي نرمي إليه هو تطوير الفقه الإسلامي وفقاً لأصول صناعته، حتى نشتق منه قانوناً حديثاً يصلح للعصر الذي نعيش فيه، فإذا استخلصنا هذا القانون في نهاية الدرس وأبقيناه دائم التطور حتى يجاري مدنيات العصور المتعاقبة، فقد تكون أحكامه في جزء منها، قل أو كثر مطابقة لأحكام القانون المدني العراقي أو لأحكام القانون المدني المصري أو الأحكام كل من القانونين.. إلخ ص 28). والمهم في ذلك كله أن هذا التطور الدائم سوف ينتهي بذلك التشريع الإسلامي المزعوم في المدى القريب أو البعيد إلى أن يصبح شيئاً مختلفاً عن الإسلام الذي أنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام اختلافاً تاماً، بل إنه لكذلك منذ بدء وضعه أو التفكير فيه كما هو ظاهر في هذا البحث). انتهى كلام الأستاذ محمد محمد حسين -رحمه الله-.
لماذا يدافع الدكتور محمد عمارة عن السنهوري؟ !
لقد قام الدكتور محمد عمارة بتجنيد نفسه مدافعاً ومحامياً عن السنهوري باشا صانع قوانين الكفر من خلال نشر المقالات في الصحف والمجلات() وتأليف كتاب بعنوان (الدكتور عبد الرزاق السنهوري: إسلامية الدولة والمدنية والقانون)()!! زاعماً أن السنهوري لم يكن علمانياً أبداً()، وإنما كان إسلامياً يسعى إلى قيام حكم الإسلام واتخذ من القوانين الوضعية المطعمة بمواد إسلامية قنطرة وسلماً لذلك الهدف العظيم!
وهذه مغالطة مكشوفة من الدكتور يعلمها كل باحث اطلع على تراث وجهود السنهوري، كان ينبغي على صاحبها أن يستحي من ادعائها، وأن يتذكر قوله تعالى (ولا تكن للخائنين خصيماً)، وقوله (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً)
وما سبق نقله من انحرافات وأقوال السنهوري نفسه تدحض هذا الإدعاء من الدكتور عمارة.
وفي ظني – والله أعلم- أن الذي حدا الدكتور عمارة لاقتحام هذا الأمر هو سعيه الدؤوب لإحياء تراث المدرسة العصرانية، ونشره بين أبناء المسلمين(). فلما رأى أن السنهوري معجب ببعض رموز هذه المدرسة؛ كالكواكبي وغيره، ورأى توافق فكر الرجل مع شيوخه العصرانيين تحمس للدفاع عنه وتلميع صورته (الكالحة) أمام أبناء الإسلام؛ ليُرَوج عليهم ضلالاته.
ومن أعجب مقالات الدكتور عمارة عن السنهوري قوله عنه : (جعل رسالة حياته منذ فجر شبابه إحياء الشريعة الإسلامية) ()!!
وأنه (كان أسبق وأعمق من الإخوان المسلمين) ()!
وأنه كان مؤمناً أشد الإيمان بالله ! لقوله عنه تعالى: (أنت موجود لأنك خلقتني) ()!!! أو قوله: (أدرك أن هناك قوة غير منظورة تحيطني وأؤمن بها، وإني من صُنْع هذه القوة) () !!
إلى آخر هذا الهراء..
ونسي عمارة أن هذا مما يشترك فيه الوثني باليهودي بالنصراني بالمسلم، وإنما الذي يُميز المسلم عن غيره من الكفرة هو إيمانه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وتحقيقه توحيد العبادة لربه، وعدم نقضه بأيٍ من نواقض الإسلام المعروفة، إضافة إلى كفره بالطاغوت. وهذا مما لم يحققه السنهوري لا سيما الأخير، بل كان (طاغوتاً) من ضمن الطواغيت –والعياذ بالله-
ولقد قام الدكتور الفاضل عباس حسني محمد عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء بالرياض بالرد على ادعاءات الدكتور عمارة التي حاول فيها الدفاع عن السنهوري وتحسين صورته أمام المسلمين . فإليك مقاله الرائع، وقد أتى فيه ببعض الفوائد والزيادات التي لم يتطرق لها هذا البحث فيما سبق.
قال الدكتور عباس تحت عنوان : (هذا هو موقف السنهوري باشا من الشريعة):
(لقد أشاد الكاتب –أي محمد عمارة- بالسنهوري باشا باعتباره من الدعاة إلى إحياء الشريعة الإسلامية، والحق أن السنهوري كان على العكس من ذلك تماماً، وإني أسوق فيما يلي بعضاً من مظاهر موقف السنهوري من الشريعة الإسلامية الغراء وهي مظاهر واضحة وثابتة إما بصفة رسمية أو بقلمه:
1- من المعلوم أن السنهوري هو واضع القانون المدني المصري، وقد نصت المادة (1) من هذا القانون على ما يأتي:
(1- تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها.
2- فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة).
فهذا النص يقدم أولاً نصوص القانون الوضعي وفحواها على العرف، ثم يقدم العرف على الشريعة، وواضح أن العرف هنا منفصل عن الشريعة فهو ما تعارف عليه الناس دون تقيد بالشريعة، ولذلك جاء هذا العرف الفاسد مقدماً على الشريعة.
ثم يفترض أن الشريعة ناقصة، فيأمر بالرجوع إلى قواعد القانون الطبيعي والعدالة، وهذا ازدراء بالشريعة، وهو أمر يتعارض مع ما أمر به الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم باللجوء أولاً وآخراً إلى الشريعة في كل الأمور صغيرها وكبيرها، وفي كل حال سواء في المنشط أو المكره، قال تعالى (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً)
وهذا التعبير القرآني البليغ يشمل كل أحوال الإنسان إلى يوم القيامة، لأن الناس إما في أمن أو في خوف، وقد أمر تعالى المسلمين باللجوء بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العلماء الذي يستنبطون الأحكام من أدلتها الشرعية، وقال تعالى (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً* وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا)
2- زعم السنهوري أن الفقه الإسلامي لم يعرف الحوالة فهو يقول : "فلم يكن الفقه الإسلامي إذن بدعاً في تطوره كما قدمنا ولم يقر حوالة الدين دون أن يقر حوالة الحق، بل هو قد سار على السنن المألوفة في التطور، إذ هو قد بدأ بإقرار حوالة الحق بسبب الموت ثم بإقرار هذه الحوالة بين الأحياء، ولكن في مذهب واحد من مذاهبه، ثم وقف تطوره عند ذلك فلم يقر حوالة الحق بين الأحياء في المذاهب الأخرى ولم يقر حوالة الدين لا بسبب الموت ولا بين الأحياء" (الوسيط، للسنهوري: ج3 ص437).
فالسنهوري يعلن هنا أن الفقه الإسلامي شأنه شأن القوانين الوضعية لا يستطيع أن يعرف إلا ما يعرفه بالعقل عن طريق سنة التطور، وهذا نفي صريح للوحي؛ لأن الفقه الإسلامي هو بيان للشريعة الإسلامية التي ما هي إلا وحي يوحى.
ولقد عرف الفقه الإسلامي الحوالة بنوعيها عن طريق الوحي وليس عن طريق التطور، فقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحيل بحقه على مليء فليحتل" رواه البخاري، وفي رواية صحيحة أخرى: "وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع"، وهذه صريحة في إثبات كافة أحوال الحوالة سواء أكانت حوالة حق أم حوالة دين. هذا ويلاحظ أن السنهوري رتب هذه النتيجة وهي عدم جواز معرفة الفقه الإسلامي للحوالة، لأن هذا مخالف للتطور القانوني على مقدمة غير صحيحة تدل على عدم معرفته للفقه الإسلامي، فهو قد ظن أن الفقه الإسلامي لم يعرف انتقال الالتزام "الدين" بسبب الموت، لأن المبدأ السائد في مصر يقوم على أساس أنه لا تركة إلا بعد سداد الديون، أي لا يجوز نقل الدين بسبب الموت.
ولكنه لم يعلم أن الفقه الإسلامي يصرح بأن هناك رأياً آخر يذهب إلى أن الالتزام ينتقل بالموت، وفي هذا يقول ابن قدامة: "حكى بعض أصحابنا فيمن مات وعليه دين: هل يمنع الدين نقل التركة إلى الورثة؟ روايتان: إحداهما: لا يمنعه، للخبر: "من ترك حقاً أو مالاً فلورثته"، ولأن تعلق الدين بالمال لا يزيل الملك في حق الجاني والراهن والمفلس، فلم يمنع نقله، فإن تصرف الورثة في التركة ببيع أو غيره صح تصرفهم ولزمهم أداء الدين.
والرواية الثانية: منع نقل التركة إليهم "أي: لا تركة إلا بعد سداد الديون".
فالسنهوري رتب هذه النتيجة على مقدمة غير صحيحة، وهي أن الفقه الإسلامي لا يعرف إلا مبدأ "لا تركة إلا بعد سداد الديون"، وهذا غير صحيح، ثم أخضع الفقه الإسلامي لما يخضع له القانون الوضعي من سنة التطور، ونسي أن الفقه الإسلامي يعتمد أصلاً على الوحي، أي : المعجزة، وقد حصلت المعجزة الفقهية –فعلاً- في نـزول الوحي بهذا الحديث الصحيح، وهو: "من أحيل بحقه على مليء فليحتل"، فالحوالة جاء بها الشرع، سواء أكان الفقه الإسلامي يرى انتقال الالتزام بسبب الموت أم لا يرى ذلك، والحق أن نزول الحوالة في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي من معجزاته الفقهية، لأن القانون الروماني لم يعرف الحوالة أبدأ، كما لم يعرفها قانون نابليون الصادر في سنة 1804م.
3- اعتذر السنهوري عن عدم اعتبار الشريعة الإسلامية هي الأساس الأول – الذي ينبني عليه القانون المدني- بعذرٍ واه، فقال: "أما جعل الشريعة الإسلامية هي الأساس الأول الذي ينبني عليه تشريعنا المدني، فلا يزال أمنية من أعز الأماني التي تختلج بها الصدور، وتنطوي عليها الجوانح، ولكن قبل أن تصبح هذه الأمنية حقيقة واقعة، ينبغي أن تقوم نهضة علمية قوية لدراسة الشريعة الإسلامية في ضوء القانون" (الوسيط، للسنهوري: ج1 ص 48 هامش:1)
فالسنهوري يزعم أن الشريعة الإسلامية لا يمكن تطبيقها قبل دراستها دراسة قوية في ضوء القانون المقارن، فالشريعة الإسلامية غير قابلة –في نظره- للتطبيق قبل دراستها دراسة عميقة، لقد أنزل الله تعالى الشريعة الإسلامية ميسرة للتطبيق الفوري، وطبقت مئات السنين، وهي تطبق الآن في بعض الدول الإسلامية القليلة، هذا ولا يوجد في العالم تشريع سماوي أو وضعي درس دراسة عميقة مستفيضة مثل الشريعة الإسلامية، ولقد احتوى الفقه الإسلامي على آلاف الدراسات العميقة، ولا توجد أي فكرة تعرض لها الشراح في القوانين القديمة والحديثة إلا وتعرض لها فقهاء الإسلام إما بالقبول أو الرفض.
وإذا كان السنهوري يرى ذلك في الشريعة الإسلامية، فإن علماء القانون المقارن في الغرب أقروا بعظمة الشريعة الإسلامية مع أنهم ليسوا بمسلمين:
- ففي المؤتمر الدولي للقانون المقارن المنعقد في لاهاي سنة 1932م أعلن العالم القانوني الفرنسي لامبير تقديره العظيم للفقه الإسلامي.
- وفي مؤتمر المحامي الدولي المنعقد في لاهاي والذي اشترك فيه كبار علماء القانون من ثلاث وخمسين دولة جاءت قراراته تشيد بالشريعة الإسلامية.
- وفي يوليو سنة 1951م، عقدت شعبة الحقوق الشرقية من المجمع الدولي للحقوق المقارنة مؤتمراً في كلية الحقوق بجامعة باريس للبحث في الفقه الإسلامي، وفي خلال مناقشة المؤتمر قال أحد نقباء المحامين في باريس، ما يأتي : "كيف أوفق بين ما كان يُحكى لنا عن جمود الفقه الإسلامي وعدم صلاحيته أساساً تشريعاً يفي بحاجات المجتمع العصري المتطور وبين ما نسمعه الآن، مما يُثبت خلاف ذلك تماماً ببراهين النصوص والمبادئ".
وقد ألف رجال القانون الدولي جمعية خاصة ببحث كتب محمد بن الحسن الشيباني – صاحب أبي حنيفة- واعتبروه أباً للقانون الدولي.
ولكن السنهوري يرى أن الشريعة الإسلامية لا يمكن تطبيقها الآن إلا بعد إعادة دراستها دراسة قوية في ضوء القانون المقارن، وهو يقدم – رسمياً- العرف عليها ويفترض نقصانها باللجوء إلى قواعد القانون الطبيعي والعدالة.
ولنا أن نتساءل: ما هذه الدراسات التي تحتاج إليها الشريعة الإسلامية؟
يرى السنهوري أنه لابد من تطوير الشريعة الإسلامية، فمثلاً الحدود الشرعية لم تعد تصلح في نظره للتطبيق الآن، ولابد من إحلال عقوبات السجن والغرامة بدلاً من الرجم والجلد والقطع، وهذا أمر مستحيل حصوله إلا من خلال التكذيب بآيات الله البينات، ومما هو معلوم من الدين بالضرورة().
4-نصت المادة (492مدني مصري) على أن هبة الأموال المستقبلة باطلة، لأنه تبرع بمعدوم، وذلك رغم أن القانون نفسه يجيز التعامل بعوض في المال المستقبل، وبرغم أن الهبة الأصل فيها عدم وجود مقابل لها، فلا خطر من انعدامها وقت التعاقد، ولا خسارة تعود على الموهوب له إذا لم توجد عند التنفيذ، بعكس الحال في عقود المعاوضات المالية، كما هو واضح، فكان من الأليق وقد أجاز القانون التعامل في الأموال المستقبلة بعوض أن يجيزه من باب أولى في الأموال بغير عوض.
وقد ذكر السنهوري في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي للقانون المدني المصري: أن بطلان هبة المال المستقبل تطبيق لأحكام الشريعة الإسلامية في مبدئها العام الذي يمنع التعامل في المعدوم (الوسيط، للسنهوري: ج5 المجلد الثاني)
لكن فقهاء الإسلام اختلفوا بالنسبة للتعامل في المعدوم: فالحنفية منعوه تماماً، وغيرهم مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومن نحا نحوهما ذهبوا إلى أن التعامل بالمعدوم صحيح إذا وصف وصفاً كافياً نافياً للجهالة، وحجتهم قوية، فأحاديث السلم ثابتة وصحيحة، وهي تُجيز ذلك صراحة، وفقهاء الإسلام بصفة عامة يتخففون في التبرعات فيجيزون فيها ما لا يجوز في المعاوضات، وهم يقسمون المعاوضات إلى مالية وغير مالية، ويذهبون إلى أن الغرر لا يؤثر إلا في المالية، ومن باب أولى لا يؤثر في التبرعات.
ومن هنا نعلم أن ما ذكره السنهوري ليس صحيحاً، بل هو يتعارض تماماً مع الفقه الإسلامي، وكان الأجدر أن يُقال هنا إن القانون المصري جرى وراء التشريع الفرنسي الذي يمنع هبة المال المستقبل (م943 مدني فرنسي).
5- ذهب السنهوري إلى أن الفقه الإسلامي يرفض فكرة الاشتراط لمصلحة الغير، وردده في كتبه، ولقد عرف الفقه الإسلامي الاشتراط لمصلحة الغير باسم: اشتراط نفع الأجنبي عن العقد، واختلف الفقهاء بشأنه، فمنهم من أجازه بإطلاق، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية.
وقد صدرت في عام 1977م رسالة دكتوراه بكلية الحقوق –جامعة القاهرة- قسم الشريعة، عنوانها: "الاشتراط لمصلحة الغير في الفقه الإسلامي والقانون المقارن"، وثبت فيها أن فكرة الاشتراط لمصلحة الغير في الفقه الإسلامي أوسع وأدق من نظيرتها في القانون.
6-إنه لمن العجيب حقاً أن د. محمد عمارة ساق لنا في مقاله عبارات للسنهوري تؤكد ما نقوله تماماً، فيقول: "ولذلك دعا السنهوري إلى إشراك غير المسلمين في حركة تجديد فقه المعاملات وتقنينه، وذلك بإحياء المبدأ الإسلامي: شريعة من قبلنا شريعة لنا ما لم تنسخ".
فالسنهوري يرى ببساطة أنه من المستحسن أن يشترك في الاجتهاد في أحكام المعاملات في الفقه الإسلامي غير المسلمين، وهذا يبطل الاجتهاد، لأنه من أول شرائط الاجتهاد: أن يكون المجتهد مسلماً، فكيف يشترك الكفار في الاجتهاد الذي هو استنباط الحكم الشرعي من الأدلة من الكتاب والسنة؟!
ثم ما علاقة اجتهاد الكافر في الإسلام بقاعدة "شريعة من قبلنا شريعة لنا ما لم تنسخ"؟ إن الاجتهاد لا يكون إلا فيما لم يرد فيه نص، وأما شريعة من قبلنا، فلا يمكن الأخذ بها إلا إذا ثبتت بنص من الكتاب أو السنة أولاً.
وبعد: فإن هذه بعض الأمثلة التي تدل على أن السنهوري لم يكن من أنصار تطبيق الشريعة الإسلامية، وإنما على العكس من ذلك، كان يرى وجوب تطويع الشريعة للقوانين الوضعية، حتى يمكن تطبيقها، وأن يقوم الكفار بهذا العمل، وهذا أمر خطير ولا ريب)().
نظرات شرعية في فكر منحرف
للكاتب / سليمان بن صالح الخراشي