- وقوله: ( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، وَعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ )[مسلم: 1631] قال النووي رحمه الله: ( قال العلماء معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته وينقطع تجدد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه وكذلك العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيف ) [شرح النووي على مسلم ج11 ص85]
فالعلم النافع من الأمور التي لا تنقطع بموت الإنسان بل يستمر أجرها حتى بعد مماته، لكن يشترط أن يكون العلم الذي يخلفه المرء بعد مماته نافعاً بل ينبغي للمرء أن يختار من العلوم الأنفع فالأنفع إذ إن من العلم ما لا ينفع صاحبه، وكم من عالم بالحكم ثم لا يمتثله وعصى الله وانحرف عن الجادة والعياذ بالله!؟ فنسأل الله تعالى أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح.
- ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: « من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر » رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه.
ذكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أن هذا الحديث اشتمل على عدد من الفوائد: منها: فضيلة العلم، وطلب العلم؛ والمراد به العلم الشرعي، أي: علم ما جاء به النبي صلي الله عليه وسلم أما علم الدنيا فللدنيا، لكن طلب العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي فيه الثناء والمدح، والحث عليه في القرآن والسنة. وهو نوع من الجهاد في سبيل الله، لأن هذا الدين قام بأمرين: قام بالعلم والبيان، وبالسلاح: بالسيف والسنان. حتى إن بعض العلماء قال: إن طلب العلم أفضل من الجهاد في سبيل الله بالسلاح؛ لأن حفظ الشريعة إنما يكون بالعلم، والجهاد بالسلاح في سبيل الله مبني على العلم، لا يسير المجاهد، ولا يقاتل، ولا يحجم، ولا يقسم الغنيمة، ولا يحكم بالأسرى؛ إلا عن طريق العلم، فالعلم هو كل شيء (شرح رياض الصالحين لابن عثيمين) 1/108.
وردت نصوص كثيرة تمدح أهل العلم وترفع من شأنهم؛ لأن العالم يعرف أوامر الله فيمتثل بها، ويعرف نواهيه ومحرماته فيجتنبها بينما الجاهل يتحرك خبط عشواء وبغير هدى من الله، وقد يقع في المنكر، ويفعل الحرام ظناً منه أنه يحسن صنعاً وما يفسده أكثر مما يصلحه؛ ولهذا كان الجهل سبباً لكثير من المفاسد والمظالم الواقعة بين الناس، وهو أحد الأمراض الفتاكة التي تعاني منها كثير من الشعوب والمجتمعات بالإضافة إلى المرض والجوع؛ ولذا وصف الله سبحانه وتعالى الإنسان بالجهل قال تعالى: { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً }[ الأحزاب: 72 ]. فشرف العلم كبير ومكانته عظيمة؛ إذ به تبنى الحضارات، وبه تتقدم الأمم، وبه أرسلت الرسل لإخراج العباد من الجهل والظلام والتخلف إلى النور والهدى قال تعالى: { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور..} [سورة البقرة: 257] ولهذا كانت أول آية نزلت من القرآن الكريم { اقرأ باسم ربك الذي خلق..}[سورة العلق:1] يفهم من ذلك أهمية العلم؛ إذ القراءة المأمور بها في هذه الآية من وسائل تحصيل العلم.
وفيما يلي أذكر لك أخي الطالب بعض الوسائل التي أرجو من الله سبحانه وتعالى أن تكون معينة لك على طلب العلم وتحصيل العلم النافع:
1- إخلاص النية لله لقوله صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات ) قِيلَ، ثمَّ أُمِرَ بهِ فسُحِبَ على وجْهِهِ حتى أُلْقِيَ في النارِ، ورجلٌ تعلَّمَ العِلْمَ وعلَّمَهُ، وقَرَأَ القُرآنَ، فأُتِيَ بهِ فعَرَّفَهُ نِعمَهُ، فعَرَفَها، قال: فما عمِلْتَ فيها؟ قال: تعلَّمْتُ العِلْمَ وعلَّمْتَهُ، وقَرَأْتُ فِيكَ القُرآنَ، قال: كذبْتَ، ولكنَّكَ تعلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقالَ عالِمٌ، وقرأْتَ القُرآنَ لِيُقالَ: هو قارِئٌ فقدْ قِيلَ، ثمَّ أُمِرَ بهِ فسُحِبَ على وجْهِهِ حتى أُلْقِيَ في النارِ ) صححه الألباني في صحيح الجامع. [متفق عليه) ولزوم تقوى الله في السر والعلن قال تعالى: { واتقوا الله ويعلمكم الله }[ سورة البقرة: 282]. وليكن هدفك من طلب العلم معرفة الله تعالى وخشيته حق التقوى{ إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28] وليس الفخر أو ليقال لك: عالم، أو الوصول إلى غرض دنيوي، ورد في الحديث أن من الذين يدخلون النار عالماً كان هدفه الرياء والفخر وليقال له عالم، قال صلى الله عليه وسلم: ( إنّ أوَّلَ الناسِ يُقْضَى يومَ القيامةِ عليه رجلٌ اسْتُشْهِدَ، فأُتِيَ بهِ، فعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فعَرَفَها، قال: فما عمِلْتَ فيها؟ قال: قاتَلْتُ فِيكَ حتى اسْتُشْهِدْت، قال: كذبْتَ، ولكنَّكَ قاتَلْتَ لِيُقالَ جِريءٌ، فقدْ
وإذا صححت النية وجعلت علمك وعملك لوجه الله فإن الدنيا تأتي تبعاً بإذن الله، ولن تموت نفس حتى تستوفي ما كتب لها من هذه الدنيا؛ لذا كان لزاماً عليك إخلاص النية لله والإحسان في الطلب.
2- التخلق بالأخلاق الحسنة أخلاق أهل العلم مظهراً ومنطقاَ، قولاَ وعملاَ، سراً وعلانية، وقد كان السلف يهتمون بالأدب والأخلاق قبل العلم قال الخطيب البغدادي - رحمه الله: ( والواجب أن يكون طلبة الحديث أكمل الناس أدباً، وأشد الخلق تواضعاً ، وأعظمهم نزاهة وتديُّناً، وأقلهم طيشاً وغضباً )[الجامع لأخلاق الراوي للخطيب البغدادي، 1/78].
3- تحديد الأهداف القريبة والبعيدة من طلبك للعلم منذ البداية، ومن خلال الاستشعار بالمسؤولية العظيمة الملقاة على عاتقك تجاه نفسك وتجاه أهلك وتجاه أمتك، واعتبار تعلمك للعلم وإتقانك لتخصصك واجباً شرعياً وسداً لثغر من ثغور أمتك ومجتمعك، قال صلى الله عليه وسلم ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )[متفق عليه] فكل فرد في المجتمع عليه دور يلزمه القيام به، فاهتمامك بالتحصيل العلمي وإتقانك لتخصصك واجب أنت مسؤول عنه.
4- التخطيط المسبق المبني على الإدراك لطبيعة العلم الذي تتعلمه وما يتطلبه من الجهد والصبر والتفرغ والعمل المتواصل وترك الراحة والبعد عن طلب السيادة أو الشهرة، أو الانشغال الزائد بكسب المال وجمعه ونحو ذلك قال تعالى: { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله }[سورة النور:37]وقال { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون} [المنافقون: 9].
5- تنظيم الوقت وحسن الاستفادة منه بإدراك أهمية الوقت وأنه هو الحياة، وإدراك أن التنظيم أمر لابد منه للنجاح، بل هو سنة كونية، وأقرب مثال لذلك تعاقب الليل والنهار، والشمس والقمر، التي تسير وفق تنظيم إلهي دقيق قال تعالى: { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ *وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ *لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 37-40 ] ولنا في رسول الله أسوة حسنة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتولى ما تتولاه كثير من مؤسساتنا الحكومية والمدنية اليوم، ويقوم بكثير من الأعمال الرسمية والخاصة، وكان يقوم بخدمة أهله مع ذلك، ويروح عن نفسه مع أهله، ولا شك أن من الأسباب التي مكنته من كل ذلك تنظيم الوقت بعد توفيق الله وإعانته له.
وعليك عدم التفريط بأيّ جزء من الوقت سفراً أو حضراً إذ إن كثيرا من ساعات السفر والانتظار والإجازات تذهب هدراً بدون فائدة مع إمكانية الاستفادة منها فيما ينفع في الدنيا أو في الآخرة.
6- ترتيب الأولويات والبدء بالأهم فالأهم، فينبغي البدء بدراسة القرآن وحفظه قبل دراسة الحديث، والفقه وقبل العلوم الأخرى، فيتعلم أحكام الواجبات قبل أحكام السنن والمباحات ويقدم تعلم الأحكام المتعلقة بالصلاة والزكاة والصيام والحج بعد فهم معنى الشهادتين والأمور العقدية المتعلقة بهما كأركان الإيمان.
7- بر الوالدين فهو من أوجب الواجبات وأفضل القربات ولا نجاح ولا سعادة في الدنيا والآخرة بدون بر الوالدين وقد قرن الله سبحانه الوالدين بنفسه فقال: {أن اشكر لي ولوالديك }[لقمان: 14]، وقال: ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً )[ النساء: 36] فلا ينبغي التفريط في بر الوالدين والقيام بحقوقهما بحجة طلب العلم، ولتكن كل تصرفاتك المهمة تحت توجيههما وموافقتهما ورضاهما، بل الأولى التضحية في سبيل إرضائهما بالمعروف؛ إذ من المعلوم أنهما يضحيان من أجل تحقيق مصالحك، فمن الوفاء لهما التضحية بمصالحك من أجلهما والله يعوضك خيراً ولذا أمر الله سبحانه بالدعاء لهما بالرحمة فقال: { وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا }[سورة الإسراء: 24).
8- علو الهمة والثقة بالنفس مع الصبر على متاعب طلب العلم، مع الاستمرار في طلب العلم حتى الممات والسعي دوماً إلى التميز والتفوق في العلم.
9- العمل بما علمت وكن قدوة لمن حولك وللمجتمع كافة، فالعلم بلا عمل شجر بلا ثمر، فلا تكن مثل الذي يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، فالعلم والعمل يكمل أحدهما الآخر فلا ينفع أحدهما دون الآخر قال تعالى: { والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات... }[سورة العصر: 1 ،2، 3] فلا يمكن النجاة من هذه الخسارة إلا بالإيمان والعمل الصالح.
10- الاعتدال والوسطية ونبذ الإفراط والغلو والتفريط قولاً وعملاً، والرجوع لأهل العلم والعلماء الربانيين في الأمور المصيرية للأمة وفيما يشكل عليك، ومراعاة أدب الخلاف وقبول الرأي المخالف في المسائل الاجتهادية يقول العلماء: لا إنكار في المسائل الاجتهادية، واجعل قاعدة: ( رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ) نصب عينيك، ولا تغتر بما حصلته من العلم القليل مهما قرأت من الكتب وحصلت من الشهادات والمؤهلات فلا يحيط بعلم الله إلا هو سبحانه، واعترف لأهل الفضل فضلهم واتهم نفسك بالقصور والجهل.
11- الحرص على الاستفادة من كل أحد لديه علم، فالحكمة ضالة المؤمن، مع الحرص على إفادة كل أحد وبذل العلم للناس، ما دام عندك علم قال تعالى: { وافعلوا الخير لعلكم تفلحون } [الحج:77] ونشر العلم من أفضل ما يقدمه المرء لنفسه من الخير ومن فوائد نشر العلم العاجلة زيادة العلم، فالعلم يزداد بالإنفاق.
12- الاستفادة القصوى من علوم العصر والتقنية الحديثة والاستفادة مما توفره من تسهيلات وخدمات تقرب كثيرا مما كان صعب المنال من كتب ودروس علمية تتمكن من الوصول إليها وأنت في قريتك في أي مكان كانت في العالم وفي وقت يسير.
13- عدم الاغترار بالصحة والفراغ وفترة الشباب، والحرص على اغتنام أوقات الفراغ قبل الانشغال، والاستفادة من وقت الصحة قبل المرض، والشباب قبل الكبر، وإلا ستندم عن كل دقيقة ذهبت لم تستغلها فيما ينفعك في دنياك أو أخراك.
14- الإيجابية والنظر إلى الأمور بروح متفائلة راضية عالية وطموحة ترنو إلى معالي الأمور وإلى ما فيه الخير لعامة خلق الله تفعل ما تفعل، وتترك ما تترك لنيل رضا الله لا لغرض أو مصلحة دنيوية أخرى، مال أو جاه أو غير ذلك قال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا...} [ طه: 131].
قال محمد صديق خان رحمه الله: ( اعلم أنه على كل خير مانع؛ وعلى العلم موانع، منها: الوثوق بالمستقبل، والوثوق بالذكاء، والانتقال من علم إلى علم، قبل أن يحصّل منه قدرا يعتد به، أو من كتاب إلى كتاب قبل ختمه، ومنها: طلب المال، أو الجاه، أو الركون إلى اللذات البهيمية. ومنها: ضيق الحال، وعدم المعونة على الاشتغال، ومنها: أفعال الدنيا، وتقليد الأعمال ) [ أبجد العلوم، 1/132].
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تمنياتنا للجميع بالتوفيق،
الباحث القانوني/ فهد بن منصور العرجاني