الشرح الممتع على زاد المستنقع
كِتَابُ الدِّيَاتِ
كُلُّ مَنْ أَتْلَفَ إِنْسَاناً بِمُبَاشَرَةٍ، أَوْ سَبَبٍ لَزِمَتْهُ دِيَتُهُ،
قوله: «الديات» جمع دية، وهي المال المؤدى إلى المجني عليه أو ورثته بسبب الجناية، أي: الجناية بالمعنى الاصطلاحي، وهي التعدي على البدن بما يوجب قصاصاً أو مالاً، وبناءً على ذلك فإن الدية قد تكون للنفس، وقد تكون للأعضاء، وقد تكون للمنافع؛ والقاعدة العامة في وجوب الدية هي ما ذكره المؤلف ـ رحمه الله ـ بقوله:
«كل من أتلف إنساناً بمباشرة أو سبب لزمته ديته» سواء كانت الدية للبدن، أو لجزء منه، أو للمنافع، فإن اجتمع مباشران فعليهما الدية، وإن اجتمع متسببان فعليهما الدية، وإن اجتمع متسبب ومباشر، فإن كان المباشر يمكن تضمينه فعلى المباشر وحده، وإن كان لا يمكن تضمينه فعلى المتسبب وحده.
مثال المباشرة: أن يأخذ الإنسان آلة تقتل، فيقتل بها هذا الإنسان، سواء عمداً أو خطأ، أو يلقيه من شاهق.
ومثال السبب: أن يحفر حفرة في طريق الناس، فيقع فيها الناس، فهذا لم يباشر لكنه تسبب، فيكون الضمان عليه.
ومثال المباشرين: أن يشترك اثنان في قتل شخص، فعليهما الدية.
(14/91)
ومثال المتسببين: أن يشترك اثنان في حفر حفرة في الطريق، فعليهما الدية.
ومثال اجتماع المباشر والمتسبب: شخص حفر حفرة، ووقف شخص آخر عليها، فجاء إنسان فدفعه فيها حتى سقط ومات، فالضمان على المباشر وهو الدافع؛ لأنه أقوى صلة بالجناية من المتسبب.
وكذلك لو أن شخصاً أعطى إنساناً سكيناً بدون مواطأة على القتل، فقتل بها إنساناً، فالضمان على المباشر، فإن كان المباشر لا يمكن تضمينه فعلى المتسبب، كما لو أن رجلاً ألقى إنساناً مكتوفاً بحضرة الأسد، فأكله الأسد، فعندنا مباشر ومتسبب، المباشر هو الأسد، والمتسبب هو الذي ألقى الرجل مكتوفاً بحضرة الأسد، فالضمان هنا على المتسبب؛ لأن المباشر لا يمكن تضمينه، كذلك إذا كان المباشر غير معتدٍ، وكان المتسبب هو المعتدي، وكانت المباشرة مبنية على ذلك السبب، فإن الضمان يكون على المتسبب، وذلك مثل لو شهد جماعة على شخص بما يوجب قتله، فقتله السلطان، ثم بعد ذلك رجعوا، وقالوا: عمدنا قتله، فهنا المباشر السلطان والمتسبب هم الشهود، لكن المباشر قد بنى مباشرته على مسوِّغ شرعي، وهو شهادة الشهود، ولا يمكنه أن يتخلص من هذه الشهادة الموجبة للقتل، وهذا السبب هو الذي أقر على نفسه بالجناية، فيكون الضمان على المتسبب، فهاتان حالتان.
والحال الثالثة: إذا كان المباشر لا يمكن تضمينه؛ لعدم تكليفه، فالضمان يكون على المتسبب، كمن أمر غير مكلف
(14/92)
بالقتل، فالضمان على الآمر؛ لأنه هو السبب، وهنا المباشر غير مكلف فلا يمكن تضمينه؛ لأنه لا قصد له، ولولا أمر هذا الإنسان ما قتل.
فهذه ثلاث مسائل، وإن كانت المسألة الأولى والأخيرة داخلاً بعضها في بعض؛ لأن كلاًّ من المسألتين يقال فيها: لا يمكن إحالة الضمان على المباشر، إلاَّ أن الفرق بينهما هو أنَّ عدم إحالة الضمان على المباشر في المسألة الأخيرة، لا لقصور فيه، ولكن لأنه مبنيٌّ على سبب أقوى، بخلاف الأولى فإن المباشر فيها ـ وهو السبُع ـ لا يمكن تضمينه بحال من الأحوال، لكن غير المكلف، كالصبي، والمجنون يمكن تضمينهما؛ لأن عمدهما خطأ، لكن لما كان السبب قوياً مؤثراً في قصدهما صار العمل بالسبب.
والخلاصة أن القاعدة في موجب الدية، إما مباشرة أو سبب، وهذه القاعدة يتفرع عليها المسائل التالية:
الأولى: أن يجتمع مباشران، فعليهما الدية.
الثانية: أن يجتمع متسببان فعليهما الدية.
الثالثة: أن يجتمع متسبب ومباشر، فالضمان على المباشر، إلا في ثلاث مسائل:
الأولى: أن لا يمكن إحالة الضمان على المباشر بأي حال من الأحوال، بأن كان المباشر غير أهل للتضمين كالمثال الأول.
الثانية: إذا كانت المباشرة مبنية على سبب يسوغ شرعاً العمل به، كالمثال الثاني.
(14/93)
الثالثة: إذا كانت المباشرة مبنية على السبب، وكان لهذا السبب تأثير قوي فيها، مع عدم صحة القصد منها، كالمثال الثالث.
فإن كان الذي قتل كالآلة، بأن أخذه إنسان وضرب به إنساناً آخر فمات، فالضمان على الإنسان الذي جعله كالآلة؛ لأن هذا الذي أُخِذ وضرب به الآخر حتى مات كالآلة، فكأنه عصا ليس له أي اختيار، وسبق لنا أنه لو أكره إنساناً على القتل فالضمان عليهما، على المذهب، وقيل: على المكرَه، وقيل: على المكرِه.
فَإِنْ كَانَتْ عَمْداً مَحْضاً فَفِي مَالِ الْجَانِي حَالَّةً. وَشِبْهُ العَمْدِ وَالخَطَأُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وإِنْ غَصَبَ حُرّاً صَغِيراً فَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ، أَوْ أَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ، أَوْ مَاتَ بِمَرَضٍ، أَوْ غَلَّ حُرّاً مُكَلَّفاً وَقَيَّدَهُ، فَمَاتَ بالصَّاعِقَةِ، أَوِ الْحَيَّةِ وَجَبَتِ الدِّيَةُ.
قوله: «فإن كانت» أي: الجناية.
قوله: «عمداً» خرج به الخطأ.
قوله: «محضاً» خرج به شبه العمد؛ لأن شبه العمد، وإن كان عمداً إلا أن صاحبه لا يقصد القتل؛ لأنه جنى بما لا يقتل غالباً.
ومراد المؤلف عمداً محضاً وعدواناً؛ لأن ما كان بحق فإنه لا قصاص فيه ولا دية.
قوله: «ففي مال الجاني» أي: أن الدية في مال الجاني.
قوله: «حالة» أي: غير مؤجلة، فتخالف دية شبه العمد والخطأ بأنها حالة في مال الجاني، فالعاقلة لا يجب عليها حمل شيء منها.
مثاله: رجل قتل إنساناً عمداً محضاً، واختار أولياء المقتول الدية، فوجبت الدية، فالذي يقوم بدفع الدية هو الجاني، ولا يلزم عاقلته أن يؤدوا عنه، فإن تبرعوا بالأداء عنه جاز ولا مانع.
(14/94)
وقوله: «حالة» باعتبار وضعها، فإذا كان القاتل فقيراً فإنها تبقى في ذمته حتى يوسر الله عليه، كسائر ديونه.
وفي هذه الحال هل يجوز أن ندفع عنه من الزكاة؟
الجواب: نعم؛ لأنه داخل في عموم قوله تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} وهو غارم، ولكن يجب أن يتوب إلى الله مما صنع، فإذا علمنا توبته فإننا نقضي دينه من الزكاة.
قوله: «وشبه العمد والخطأ» بالرفع، ويجوز أن نقول: «شبهِ» بالكسر بناءً على أن المضاف حُذف، وأن التقدير «ودية شبه العمد»، ولكنَّ المشهور أنه إذا حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه، كما قال ابن مالك:
وما يَلِي المضافَ يأتي خَلَفا *** عنه في الإعراب إذ ما حُذِفا
وربَّما جَرُّوا الذي أبْقَوْا كما *** لو كان قَبلَ حَذْفِ ما تقدَّما
قوله: «على عاقلته» «العاقلة» اسم فاعل من العقل، والعقل الدية، وسُميت عقلاً؛ لأنه جرت العادة أن الإبل المؤداة يؤتى بها إلى مكان أولياء المقتول، وتُناخ وتعقل بعُقلها، ولهذا تسمى الدية عقلاً، والمؤدون لها يسمون عاقلة.
والدليل على أن دية شبه العمد والخطأ على العاقلة ما ثبت في الصحيحين «في قصة المرأتين اللتين اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فقضى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ديتها على العاقلة» (1) ، أي: عاقلة القاتلة، فهذا دليل أثري.
__________
(1) سبق تخريجه ص(5).
(14/95)
وأما الدليل النظري: فهو أنه لمَّا كان الخطأ بغير قصد من الفاعل، كان من المناسب أن يخفَّف عنه في أداء الدية، وهو يتحمل الكفَّارة وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين؛ لأن الكفارة حق لله تعالى، فهي عبادة يُلزم بها المكلف، وأما الدية فهي عبارة عن غرم كغرامة الأموال، فخفِّف عن هذا القاتل الذي لم يقصد القتل بأن حُمِّلته العاقلة، وهذا ـ والله أعلم ـ هو سرُّ تعبير القرآن حيث قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] ولم يقل: «يسلِّمها» بل قال: {مُسَلَّمَةٌ} بالبناء للمفعول؛ لأن الذي سيسلم هذه الدية هم العاقلة.
قوله: «وإن غصب حراً» هذا من باب التسامح والتساهل في العبارة؛ لأن الحر لا يغصب، حيث إن اليد لا تثبت عليه، ولا تثبت اليد إلاَّ على الأموال، والحر ليس بمالٍ، حتى لو غصب وباعه الغاصب، فلا يصح البيع، لكن العبد يغصب؛ لأنه مال، لكن المؤلف يريد أنه إذا قهر حراً.
قوله: «صغيراً» أي: لم يبلغ، ومثله المجنون؛ لأن كلاً منهما ليس له قصد، ولا يتمكن من الامتناع.
قوله: «فنهشته حية» يعني إذا أكره الحرَّ الصغيرَ، وجاء به إلى بيته، واستخدمه كرهاً، فنهشته في البيت حية، فعليه ديته؛ لعدوانه عليه بإكراهه على أن يبقى في هذا المكان.
أمَّا لو كانت الحية أمامه فالأمر ظاهر، لكن لو لم تكن أمامه، بأن جاءت من خارج البيت، ونهشت هذا الصبي، فمات فإنه
(14/96)
يضمن؛ لأنه معتدٍ بقهره واستيلائه عليه، ولولا أنه قهر هذا الصبي، أو هذا المجنون، حتى كان في هذا المكان لما أصيب بهذه الحية.
قوله: «أو أصابته صاعقة» كذلك لو أصابته صاعقة، قال الجوهري: هي نار تنزل من السماء فيها رعدٌ شديد.
والآن العلم الحديث يشهد لذلك، فإن الصاعقة عبارة عن كتلة كهربائية شديدة الحرارة، تنزل على هذا المكان، وتحرقه في لحظة، حتى أني قرأت في بعض المجلات أن الطاقة في الصاعقة الواحدة، لو تجتمع جميع مولدات الأرض كلها بأعلى طاقاتها ما ساوت هذه الصاعقة التي يخلقها الله بلحظة.
وهذه الصاعقة كان الناس يقولون: إنها حديدة تنزل من السماء، ويقولون: نحن شاهدنا ذلك، ولكن هذا ليس بصحيح، وإنما هي نار محرقة؛ ولهذا أحياناً تسقط على الأشجار فتشتعل ناراً، وتسقط على الحيوان، ويشاهد فيه لسعات من هذه النار، ولكن يظهر لي ـ والله أعلم، إن صح ما نُقل من أنهم وجدوا حديداً ـ أنها لمَّا ضربت الأرض انصهر الحديد واجتمع وأخرجُوه، وليست الصاعقة هي البرق، بل إنها تنزل مع البرق، وقد يكون برقٌ بلا صاعقة.
فهذا الطفل لمَّا غصبه الرجل، وأكرهه على الجلوس في بيته أنزل الله عليه صاعقة، وأهلكته، فالضمان على هذا القاهِر الذي أكرهه على الجلوس في بيته، ولا يقول: هذا هلك بفعل الله بآفة سماوية، ليس لي فيها دخل! بل نقول له: أنت اعتديت على هذا وحبسته في هذا المكان.
(14/97)
قوله: «أو مات بمرض» أي: الصغير الذي حبسه هذا الإنسان لو مرض ومات فإنه يضمنه، وهذا إذا كان عبداً فظاهر أنه يضمنه؛ لأنه غاصب، وضمان العبيد ضمان مالٍ يضمنه الغاصب بكل حال، لكنه حر، فإذا مات بمرض فإنَّه يضمنه، مع أنهم يقولون: إن اليد لا تستولي على الحر، ولا ضمان له، ولهذا قيده بعض أهل العلم بأن المراد مات بمرض يختص بتلك البقعة، وهذا صحيح، أما لو مات موتاً عادياً بغير سبب يختص بهذه البقعة، فلا وجه لضمانه؛ لأن اليد لا تثبت عليه، لكن إذا مات بمرض يختص بتلك البقعة، مثل لو قهره وذهب به إلى أرض وَبِيئة، فمرض ومات، فلا شك أنه هو السبب في جلبه إلى هذه الأرض التي مات فيها بسبب الوباء.
وعلى هذا فإطلاق كلام المؤلف مرجوح، والصواب إذا مات بمرض يختص بتلك البقعة؛ لأنه هو السبب في مجيئه لهذه البقعة الموبوءة، وهذا إذا كان حراً، أما إن كان عبداً فإنه يضمنه مطلقاً؛ لأن ضمان العبد ضمان أموال، فإذا استولى عليه ضمن منافعه، وضمن نقصه إن نقص بمرض، وضمن كل آفة تحدث عليه؛ لأن استيلاءه عليه محرم.
فإن شككنا في سبب موت الحر، هل مات بسبب كونه في هذه البقعة، أو بسبب آخر خارجي؟ فالأصل عدم الضمان.
قوله: «أو غلَّ حراً مكلفاً وقيده فمات بالصاعقة أو الحية وجبت الدية» الصغير تقدم أنه بمجرد قهره وحبسه يضمنه إذا مات
(14/98)
بالحية، أو بالصاعقة، أو بمرض يختص بالبقعة، أمَّا المكلَّف فذكر أنه لا بدَّ من أمرين: الأول: أن يغلّه، الثاني: أن يقيده.
فالغل في اليد، والقيد في الرِّجل، فإذا أخذ حراً وغلَّه وقيَّده وحبسه، ثم جاءت حية ونهشته فإنه يضمنه، وكذلك إذا أصابته صاعقة فإنه يضمنه؛ لأن سبب الموت اختص بهذه البقعة، فإن مات بمرض فظاهر كلام المؤلف أنه لا ضمان؛ لأنه قال: «فمات بالصاعقة أو الحية» ولكن الصحيح أنه إن مات بمرض يختص بتلك البقعة فإنه يضمنه؛ لأنه لا فرق بين الصغير وبين المكلف الذي غلَّه وقيده؛ لأنه إذا غلَّه وقيده فإنه لا يستطيع أن يتخلص، ولا أن يدافع عن نفسه، فكان حكمه حكم الصغير.
وهذه الأمثلة في مسألة الصغير، أو المكلف هي من باب السبب، لا من باب المباشرة.
* * *
(14/99)
فَصْلٌ
وَإِذَا أَدَّبَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ، أَوْ سُلْطَانٌ رَعِيَّتَهُ، أَوْ مُعَلِّمٌ صَبِيَّهُ، وَلَمْ يُسْرِفْ لَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ، وَلَوْ كَانَ التَّأْدِيبُ لِحَامِلٍ فَأَسْقَطَتْ جَنِيناً ضَمِنَهُ المُؤَدِّبُ، ................
هذا الفصل مبني على قاعدة وهي: «ما ترتب على المأذون فليس بمضمون، وما ترتب على غير المأذون فهو مضمون»، وهي من أحسن قواعد الفقه.
قوله: «وإذا أدَّب الرجل ولده، أو سلطان رعيته، أو معلِّم صبيَّه، ولم يسرف لم يضمن ما تلف به» .
فقوله: «وإذا أدَّب الرجل ولده» هذه الجملة نفهم منها أربعة شروط:
فقوله: «أدَّب» ، التأديب بمعنى التقويم والتهذيب، تقول: أدَّبته، أي: قوَّمت أخلاقه وهذَّبتها، فكلمة «أدَّب» يؤخذ منها ثلاثة شروط:
الأول: أن يكون هذا الولد مستحقاً للتأديب، أي فعل ما يستحق التأديب عليه، أما لو ضربه بدون سبب فإنه ضامن.
الثاني: أن يكون هذا الولد قابلاً للتأديب، فإن كان غير قابل، وهو الذي لم يميز، أو لا عقل له ـ أي: المجنون ـ فهذا لا ينفع فيه التأديب، بل تأديبه عدوان.
الثالث: أن يقصد المؤدِّب التأديب لا الانتقام لنفسه، فإن قصد الانتقام لنفسه لم يكن مؤدِّباً بل منتصراً، وحينئذٍ يضمن ما ترتب على فعله.
وكثير من الناس يضرب ولده ضرباً شديداً، لا لأنه ترك
(14/100)
خلقاً فاضلاً أمره به، لكن لأنه عانده وخالفه، فيضربه انتقاماً لنفسه وغضباً.
الرابع: قوله: «ولده» وهذا يشمل الذكر والأنثى؛ لأن الولد في اللغة العربية يشمل الذكر والأنثى، قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}، وقال تعالى: {وَلأَِبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] .
وقوله: «ولده» الإضافة تقتضي الاختصاص، فيؤخذ من هذا شرط أن يكون له عليه ولاية، فإن لم يكن عليه ولاية، فلا حق له في ضربه، وإذا ترتب على ضربه شيء فإنه ضامن، لأنه لا حق له في هذا، مثل أبي أمٍّ يؤدب أولاد ابنته، فأدَبُهم ليس إليه، ولكنه إلى أبيهم.
وقوله: «رعيته» و «صبيه» يؤخذ منه أنه لا بد أن يكون للمؤدب ولاية التأديب، وإلا كان ضامناً.
وقوله: «أو سلطانٌ رعيَّتَه» فلا ضمان، أيضاً تراعى فيه الشروط الأربعة السابقة، والسلطان عندما يطلقه العلماء فإنهم يريدون به الرئيس الأعلى في الدولة، وقد يُراد به من دون ذلك، وهو من له سُلطة، فيشمل الأمير، والمحتسب، وما أشبه ذلك؛ لأن هؤلاء لهم سلطان على من تحت ولايتهم.
فالأمير مثلاً سلطانه على بلدته التي أُمِّر فيها، والمحتسب كذلك على بلدته التي أمر فيها، فالأحسن أن نقول في المراد بالسلطان: ذو السلطة على من أدَّبه، سواء كان السلطان
(14/101)
الأعلى أو من دونه، فإذا أدب رعيته، وتمت الشروط فلا ضمان عليه.
وقوله: «أو معلمٌ صبِيَّهُ» الإضافة هنا على أدنى ملابسة، يعني الصبي الذي ينتسب إليه ولو بالتعليم، فإذا أدَّب صبيه وتمَّت الشروط فلا ضمان.
واستفدنا من كلام المؤلف أن للمعلم أن يؤدِّب الصبيان بالضرب، والضرب لا شك أنه وسيلة من وسائل التعليم والتأديب، وقد قال أحكم المؤدِّبين، وأرحم المؤدِّبين من الناس صلّى الله عليه وسلّم: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر» (1) .
والفوضويون الذين يدَّعون التقدم الآن يقولون: لا تضرب الصغار؛ لأن الضرب ينافي التربية الحديثة! وهذه لا شك أنها خطة يراد بها أن يصبح الأولاد فوضويين، لا يستفيدون شيئاً.
فطالب له عشر سنوات لن ينتفع حين يقول له المدرس: يا بني، إنّ التعليم طيب، فلا تضيِّع الوقت؛ لأن الوقت من ذهب، فاحرص وقم بالواجبات.
فيقول له الطالب: أنا حين وصلت إلى البيت، وضعت الكتب، وذهبت ألعب! فهذا لا ينفعه الكلام، لكن لو مسَّه بعذاب
__________
(1) رواه أحمد (2/180)، وأبو داود في الصلاة/ باب متى يؤمر الغلام بالصلاة (495) عن عمرو بن شعيب، عن
أبيه، عن جده به مرفوعاً، وأخرجه الترمذي بلفظ مقارب في الصلاة/ باب ما جاء متى يؤمر الصبي بالصلاة؟ (407)
وصححه.
قال النووي: «رواه أبو داود بإسناد حسن»، «الخلاصة» (687).
والحديث صححه: ابن خزيمة، والحاكم، وغيرهما.
(14/102)
فإنه سيقوم بالواجب، ولذلك فأنا أعتقد أن هذه الخطة مع مخالفتها للشرع، ولحكمة النبي صلّى الله عليه وسلّم، لا شك أنها لا تجدي.
وقوله: «وإذا أدب الرجل ولده» ظاهره العموم، وأنه ما دام تحت رعايته فإنه مسؤول عنه، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راعٍ في أهل بيته ومسؤول في رعيته» (1) ، فما دام أنه في بيته فهو مسؤول عنه، أما إذا انفصل فليس بمسؤول عنه، إلا إن كانت ولايته عامة، كما لو كان ذا سلطان في مكانه فله أن يؤدِّبه.
وأمَّا تأديب المعلم صبيه فالظاهر لي أن المعلِّم كل من يدرس عنده فله أن يؤدِّبه، حتى لو كان أكبر منه.
وقوله: «ولم يسرف» هذا هو الشرط الخامس، والإسراف مجاوزة الحد بالكمية أو بالكيفية، فإذا قدَّرنا أنه يتأدَّب بضربتين، صارت الثالثة إسرافاً، وإن كان يتأدب بعشر صارت الحادية عشرة إسرافاً، وكذلك بالكيفية فإذا قدَّرنا أنَّه يتأدب بضرب بسيط فلا نضربه ضرباً شديداً، ولا نضربه ـ أيضاً ـ في أمكنة تضره، كالوجه، والمقاتل، وشبهها فإن هذا إسرافٌ، فالإسراف إذاً مجاوزة الحد كمية أو كيفية، ويدخل في الكيفية موضع الضرب، ويدخل فيه ـ أيضاً ـ أن الناس يختلفون، فتحمُّل الكبير للضرب ليس كتحمل الصغير.
__________
(1) أخرجه البخاري في الجمعة/ باب الجمعة في القرى والمدن (893)، ومسلم في الإمارة/ باب فضيلة الإمام العادل
وعقوبة الجائر... (1829) (20) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(14/103)
فصارت الشروط خمسة:
الأول: أن يكون المؤدَّب مستحقاً للتأديب.
الثاني: أن يكون المؤدَّب قابلاً للتأديب.
الثالث: أن يقصد المؤدِّب بذلك التأديب، لا الانتقام لنفسه.
الرابع: أن تكون له ولاية التأديب، سواء كانت ولاية عامة أو خاصة.
الخامس: ألاَّ يسرف، فإن أسرف كان ضامناً؛ لأنه معتدٍ، والله تعالى يقول في النساء الناشزات: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] ، والآية مطلقة، لكن النبي صلّى الله عليه وسلّم بيّن أنه ضربٌ غير مبرِّح (1) .
قوله: «ولو كان التأديب لحامل فأسقطت جنيناً ضمِنه المؤدِّب» الزوج يُتَصَوَّر أن يؤدب امرأته بأن تكون ناشزة، والله تعالى قال: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}.
وكذلك المعلِّم قد يؤدِّب امرأة حاملاً؛ لأنه يجوز للمعلم الذكر أن يُعَلِّم النساء، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم النساء، وجئن إليه مرة يطلبن منه وعظاً، وقلن له: إن الرجال غلبونا عليك، فاجعل لنا من نفسك يوماً تعلمنا فيه مما علمك الله، فوعدهن في بيت امرأة منهن، وأتى إليهن ـ عليه الصلاة والسلام ـ ووعظهن، وهذا
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج/ باب حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم (1218) (147) عن جابر بن عبد الله رضي الله
عنهما.
(14/104)
ثابت في البخاري (1) ، وسواء كان المعلم أعمى أو مبصراً، لكن المبصر لا بد أن يكون بينه وبين النساء حجاب.
وكذلك السلطان يملك أن يؤدب امرأة حاملاً من رعيته، فإن كان التأديب لحامل، وهي لم تتضرر، ولكن أسقطت جنيناً فإن المؤدب يضمنه، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ مقدار دية الجنين، ومتى يضمن.
وظاهر كلام المؤلف أن المؤدب يضمنه مطلقاً؛ لأن الجناية هنا تعدت إلى الغير، والجنين لم يفعل ما يستحق التأديب عليه حتى نقول: إنه تلف بتأديبه، فلما تعدى حكم التأديب إلى الغير صار مضموناً؛ لأن ضمان الآدمي لا يشترط فيه التحريم، فيضمن حتى لو فعل الإنسان ما يباح له، وقد سبق لنا أن الإنسان لو رمى صيداً فأصاب إنساناً ضمنه، فعلى هذا إذا أدب الرجل امرأة حاملاً فأسقطت جنيناً، فعليه ضمانه، وأما هي فإذا تمت الشروط الخمسة فلا ضمان.
وَإِنْ طَلَبَ السُّلْطَانُ امْرَأَةً لِكَشْفِ حَقِّ اللهِ تَعَالَى، أَوِ اسْتَعْدَى عَلَيْهَا رَجُلٌ بالشُّرَطِ فِي دَعْوَى لَهُ فَأَسْقَطَتْ ضَمِنَهُ السُّلْطَانُ وَالْمُسْتَعْدِي، وَلَوْ مَاتَتْ فَزَعاً لَمْ يَضْمَنَا،................
قوله: «وإن طلب السلطان امرأة لكشف حق الله تعالى» بأن اتُّهِمَت بشيء من حقوق الله عزّ وجل، فطلبها وأمرها أن تحضر، فأسقطت جنينها من الروعة، فإنه يضمنه؛ لأن هذا الأمر تعدى إلى الغير.
وظاهر كلام المؤلف سواء طلبها لحق الله عزّ وجل وهي ظالمة، أو طلبها وهو الظالم، أو طلبها قبل أن يتبين الأمر،
__________
(1) أخرجه البخاري في العلم/ بابٌ هل يَجْعَلُ للنساء يوماً على حدة في العلم؟ (102) عن أبي سعيد الخدري رضي الله
عنه.
(14/105)
فيضمنها السلطان مطلقاً في الأحوال الثلاثة، ولكن بعض أصحابنا ـ رحمه الله ـ قيد هذا بما إذا لم تكن ظالمة، وقال: إن كانت ظالمة فهي الجانية على نفسها، وهذا القول له وجه قوي؛ لأن طلب السلطان إياها في حال الظلم مأمور به شرعاً، والقاعدة العظيمة النافعة «أن ما ترتب على المأذون فغير مضمون» لا سيما إذا كان السلطان لا يعلم عن حال المرأة، هل هي حامل أو لا؟ ولا يعلم هل هي من النساء اللاتي يفزعن بأدنى سبب، أو لا؟
ثم على القول بالضمان فظاهر كلام المؤلف أن السلطان يضمنها ضمان شخص، يعني ضماناً شخصياً، لا ضمان ولاية، بمعنى أن الدية تكون على عاقلته، وكأنما قتل شخصاً عادياً.
ولكن القول الراجح ـ على القول بالضمان ـ أن الدية في بيت المال؛ لأن السلطان يتصرف لحقوق المسلمين بالولاية، فلو أننا ضمنَّاه كل شيء يكون من تصرفه لاجتحنا ماله، ومال عاقلته، نعم لو تيقنَّا أن السلطان ظالم، فهنا يتوجَّه أن يكون الضمان عليه، أو على عاقلته، حسب ما تقتضيه الأدلة الشرعية.
قوله: «أو استعدى عليها رجل بالشُّرَط في دعوى له فأسقطت» «استعدى» بمعنى أقام دعوى عليها، ولكنه استعان بالشرط، والشُّرط: جمع شُرْطة، كحجة جمعها حُجَج، والشرطة جمع شُرَطي.
مثاله : رجل أقام على حاملٍ دعوى، وذهب إلى الشرطة، وقال: أنا أدعي على فلانة كذا وكذا، فقال الضابط للشرط: اذهبوا وائتوا بها، فذهب رجلان من الشرطة بلباسهما الرسمي،
(14/106)
وقالا للمرأة: تعالي معنا، ففزعت المرأة، وأسقطت الجنين.
قوله: «ضمنه السلطان والمستعدي» أي: ضمنه السلطان في المسألة الأولى، والمستعدي في المسألة الثانية؛ لأنه هو السبب في هلاك هذا الجنين، فكان عليه الضمان.
وظاهر كلام المؤلف ـ أيضاً ـ ولو كان المستعدي مستحقاً للاستعداء، وكانت هي ظالمة، فإن الضمان على المستعدي.
ولكن في هذا الظاهر نظر، فإنه إذا كان على حق، ولم يعلم عن حال المرأة، فكيف نضمِّنه؟! أما إذا كان يعلم أن هذه المرأة من النساء اللاتي يفزعن، وأنَّه يخشى على حملها، فربما يقال: إن تضمينه له وجه.
وقوله: «ضمنه السلطان والمستعدي» أفلا يكون هذا ناقِضاً لقاعدة: «إذا اجتمع متسبب ومباشر فالضمان على المباشر»؟
فهنا عندنا متسبب وهو المستعدي، وعندنا مباشر وهم الشرط، وإنما جعلنا الضمان على المستعدي ـ أي: المتسبب ـ لأن المباشرة مبنية على السبب، وذلك أن الشُّرط مأمورون شرعاً بأن يستجيبوا لمثل هذه الدعاوى، فهو كحكم الحاكم بشهادة الشهود الذين قالوا: إنما تعمَّدنا قتله، ورجعوا عن شهادتهم فالضمان على الشهود، فكذلك هنا نجعل الضمان على المستعدي؛ لأن الشُّرَط عبارة عن آلة لهذا الرجل.
قوله: «ولو ماتت فزعاً لم يضمنا» هذه المرأة لما جاءها مندوب السلطان الذي طلبها لكشف حق الله، فزعت، وماتت سريعاً، فليس عليهما الضمان.
(14/107)
فإن قيل: كيف لا يكون عليهما الضمان، مع أنه لولا مندوب السلطان لم تمُت؟
الجواب: أن مثل هذا لا يحصل به الموت عادة، وما لم يكن معتاداً فليس فيه ضمان، كما لو دخَلْتَ على شخص وسَلَّمْتَ عليه، وهو يهابُك هيبة عظيمة، فلما صافحته وهززت يده مات، فهنا لا تضمنه؛ لأنه لم تجرِ العادة بأن يموت الإنسان بمثل هذا العمل.
وهناك قول آخر ـ وهو المذهب ـ أنهما ضامنان؛ لأنها هلكت بسببهما، ولكن يجاب عنه بما سبق، من أن مثل هذا الفعل ليس سبباً للقتل إطلاقاً، وقد جرت عادة الناس بمثله.
وَمَنْ أَمَرَ شَخْصاً مُكلَّفاً أَنْ يَنْزِلَ بِئْراً، أَوْ يَصْعَدَ شَجَرَةً فَهَلَكَ بِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ،......
قوله: «ومن أمر شخصاً مكلفاً أن ينزل بئراً، أو يصعد شجرة، فهلك به لم يضمنه» .
فقوله: «شخصاً» أي: ذكراً أو أنثى.
وقوله: «مكلفاً» أي: بالغاً عاقلاً.
وقوله: «لم يضمنه» أي: الآمر.
فلو أمر شخصاً مكلفاً أن ينزل بئراً، فلما نزل زلَّت قدمه فسقط في البئر فمات، فلا ضمان على الآمر؛ لأن النازل بالغ عاقل يعرف الذي ينفعه، والذي لا ينفعه، وكان بإمكانه أن يقول: لست بنازل، إلاَّ إذا كان الآمر يعلم أن في البئر ما يكون سبباً للهلاك، ولم يخبره، كأن تكون البئر ملساء، لا يستطيع الإنسان النزول فيها، لكنه لم يُعلمه ذلك، فعليه الضمان؛ لأنه غرَّه،
(14/108)
وكذلك لو كان في البئر حية، وإذا أحسَّت بإنسانٍ وشَّت عليه، فلما نزل هذا الرجل وشَّت عليه فارْتَبَكَ وسقط، فعليه الضمان؛ لأنه مفرِّط بعدم تنبيه هذا الرجل على ما في البئر من أسباب الهلاك.
وكذلك لو كانت البئر قديمة ولم يُخبره، فلما نزل انهدمت عليه، فعليه الضمان، وعلى هذا فكلام المؤلف يحتاج إلى قيد، وهو إذا لم يكن منه تفريط بإعلامه بما يكون سبباً لهلاكه، فإن كان منه تفريط في ذلك فعليه الضمان.
مسألة: لو تحدَّى رجُل آخر بشيء كان سبباً في هلاكه، فهل عليه الضمان؟
مثاله: رجل قال: من أكل هذا الخروف كاملاً فله كذا وكذا من المال، فلو أكله رجل حتى انتفخ بطنه ومات، فلا ضمان على المتحدي؛ لأن الرجل لم يجبره أحدٌ على أكل الخروف.
وكذلك لو أَمره أن يصعد شجرة نخلٍ مثلاً، وكان الرجل عاقلاً بالغاً، فصعدها، ثم سقط ومات، فهنا ليس على الآمر ضمان؛ لأن المأمور بالغ عاقل.
وعُلِم من قول المؤلف: «ومن أمر» أنه لو أكرهه على ذلك فعليه الضمان؛ لأنه تسبب في هلاكه بغير اختيار الهالك، فصار معتدياً، والمعتدي عليه الضمان.
وعُلم من قول المؤلف: «من أمر شخصاً مكلفاً» أنه لو أمر غير مكلَّف فعليه الضمان مطلقاً، وهذا هو المشهور من المذهب، لكن ذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا كان المأمور مميزاً ـ أي:
(14/109)
يفهم الخطاب ـ له سبع سنوات أو نحوها، وكان هذا الأمر مما جرت به العادة أن يؤمر مثله فإنه لا ضمان، مثال ذلك: قلتَ لصبي عمره عشر سنوات: اشترِ لي بهذا الدرهم خبزاً، فذهب الصبي، وقدر الله على هذا الصبي أن انزلق في الطريق ومات، أو حصل حريق في المخبز وتلف به هذا الصبي، فظاهر كلام المؤلف أنك ضامن؛ لأنه غير مكلَّف، ولكن بعض أصحاب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ قالوا: لا ضمان إذا كان ذلك مما جرت به العادة؛ لأنه ما زال الناس منذ عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى يومنا هذا يرسلون المميزين في مثل هذه الأشياء القليلة السهلة، ولا يعدون ذلك عدواناً، وما ترتب على المأذون فليس بمضمون.
وَلَوْ أَنَّ الآمِرَ سُلْطَانٌ، كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَهُ سُلْطَانٌ أَوْ غَيْرُهُ.
قوله: «ولو أنَّ الآمر سلطان» «لو» إشارة خلاف، فإن بعض أهل العلم يقول: إذا كان الذي أمره أن ينزل البئر، أو يصعد الشجرة سلطان وهلك فعلى السلطان الضمان؛ لأن أمر السلطان لا يسع الإنسان مخالفته، لا سيما إذا كان السلطان من الظلمة الذين إذا خولفوا حبسوا، أو ضربوا، أو ما أشبه ذلك، أما إذا كان السلطان من السلاطين العابدين الذين إذا قلت لهم: لا أستطيع صعود الشجرة لم يُلزمك، فإنه هنا لا وجه لتضمين السلطان؛ لإمكان هذا المأمور أن يقول: لا أستطيع.
والصحيح في مسألة السلطان أنه إذا كان السلطان ممن يخشى شرُّه بحيث إذا أبيت حبسك، أو ضربك، أو هضمك مالاً، أو ظلمك في أهلك، فإن أمره مثل الإكراه، وعلى هذا فيكون ضامناً.
(14/110)
وأما إذا كان السلطان من ذوي العدل والرحمة الذين إذا قلت: لا أستطيع قال: إذن نطلب غيرك، فإنه لا ضمان عليه في هذه الحال؛ لأنه كسائر الناس، فلم يُكرهه.
فإذا كان الآمر هو الضابط في الجيش، أو الشرطة، وقال لأحد الجنود: اصعد عمود الكهرباء هذا وركِّب لنا المصباح، فقال الجندي: لا أستطيع، فقال له الضابط: حاول الصعود، ولم يُكرهه أو يضربه، فصعد الجندي ثم سقط فهنا يضمن الضابط؛ لأن أوامره عند الجنود واجبة الطاعة، ومخالفته توجب العقوبة، من حبسه أو توقيفه أمام الجنود، أو عزله، أو تنزيل رتبته، فالمهم أن هذا يكون كالإكراه.
قوله: «كما لو استأجره سلطان» يعني أن السلطان لو استأجر أحداً ليصعد شجرة، أو ينزل بئراً فهلك به لم يضمنه، وهذا واضح.
والمؤلف هنا قاس ما يشتبه فيه على ما هو واضح، فقال: «كما لو استأجره سلطان» ، ووجه ذلك أنَّ الأمر غير عقد الإجارة، لأن عقد الإجارة الرضى فيه واضح، وليس فيه آمِر ومأمور؛ إذ إنَّه عقد تام بين شخصين برضىً منهما، وليس أحدهما آمراً للآخر، وعدم الضمان فيه ظاهر جداً، فهو كما لو استأجره سلطان على أن يصعد شجرة، أو ينزل بئراً لهلك به فلا ضمان، فكذلك لو أمره، والجامع بينهما هو الرضا وعدم الإكراه في كل منهما، فهنا قاس ما يشتبه فيه على ما لا يشتبه فيه، وقد اشتهر عند العامة التفريق بين الاستئجار وغيره، فقالوا: إن استأجرته
(14/111)
فديته أُجرته، وإن نزل تبرعاً فعليك ضمانه، ولكن هذا لا أصل له، ولا فرق بين الأمر وبين الاستئجار، إذا كان الأمر ليس فيه إكراه أو غيره.
قوله: «أو غيره» أي: لو استأجره غير السلطان، فلو استأجرت إنساناً أن يصعد لك شجرة، أو أن ينزل بئراً، فهلك فإنه لا ضمان عليك؛ لأنه فعل ذلك برضاه واختياره.
وبهذا نعرف خطأ تلك القوانين التي قُنِّنَت في بعض الدول، أن العامل لدى الشركات يكون مضموناً بكل حال، حتى لو كان بالغاً عاقلاً مختاراً، وحتى لو كان غير مغرور، بأن عرف عمله وخطره إن كان فيه خطورة، فهذا حكم طاغوتي مخالف لحكم الشريعة، ولا يجوز العمل به، ويجب أن يحكم فيه بمقتضى شريعة الله، فيقال: إن هذا العامل غير مضمون؛ إلاَّ إذا كان مكرهاً على العمل فيكون مضموناً.
فإن قلت: أليس هذا قانوناً دولياً عاماً؟
الجواب: لا، بل القانون الدولي العام هو قانون الله ـ عزّ وجل ـ، وليس لأحد من عباد الله أن يُقنِّن في عباد الله ما ليس في شريعة الله، فالحكم لله ـ عزّ وجل ـ وحده، كما قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [يوسف: 40] ، فأي إنسان يشرع قوانين تخالف شريعة الله فقد اتخذ لنفسه جانباً من الربوبية، وشارك الله ـ تعالى ـ فيما هو من خصائصه، فلا أحد يحكم في عباد الله إلاَّ بما اقتضاه شرع الله، وعلى هذا نقول: إن القانون الدولي العام، والشعبي الإفرادي هو قانون الله عزّ وجل، الذي شرعه لعباده،
(14/112)
وكل القوانين سوى ذلك فإنها باطلة؛ لأنها ناقصة وقاصرة، حتى لو اجتمع أذكياء العالم على مشروعيتها فإنها ناقصة قاصرة، لا تفي بأي غرض من الأغراض، وإن وَفَتْ بغرض من جانب هدمت أغراضاً أخرى من جوانب أخرى، وإن قدر أنها تخدم غرضاً من جانب، فإنها لا تخدم هذا الغرض إلا في أناس معينين، وفي مكان معين، وفي زمان معين، أما الأحكام الصالحة لكل زمان ومكان فإنها أحكام الله ـ سبحانه وتعالى ـ، وبهذا نعرف خطورة الذهاب هذا المذهب، وهي أن نسن القوانين الوضعية التي لم يضعها الشرع ونحكم بها عباد الله، ونجعل التحاكم إليها لا إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد نوَّه الله ـ تعالى ـ عن أحوال هؤلاء فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60] ، وتأمل كلمة {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا}، فهم في الحقيقة غير مؤمنين، بل هو زعم فقط، والزعم قد يوافق الواقع وقد لا يوافقه، فهم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك بألسنتهم، لكن قلوبهم على العكس من ذلك لقوله: {يُرِيدُونَ} والإرادة محلها القلب {أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}، ولو كانوا صادقين في إيمانهم لكفروا بهذا الطاغوت، ولم يريدوا أن يتحاكموا إليه، {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا}، وعلى هذا فهم موافقون لمراد الشيطان لا لمراد الرحمن {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} أي: إلى الكتاب والسنَّة فلا يُصرِّحون بقولهم: لا،
(14/113)
حتى لا يظهر كفرهم، ولكنهم {يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} أي: يعرضون، {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقًا *}، أي: أردنا أن نحسن وأن نوفِّق بين الشريعة والوضيعة، وهل هم صادقون؟ قال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا *} {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 63 ـ 64] لا ليتلاعب بأحكامه وتترك، ويراد التحاكم إلى الطاغوت.
واعلم أنَّ الناس لو جعلوا التحاكم إلى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وحكَّموا الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في كل شيءٍ لصلحت أحوالهم، ولكنها تفسد بمقدار ما أبعدوا عن الدين، فيظنون أن هذا الفساد بسبب تمسكهم بما تمسكوا به من الدين، فَيُوغِلُون في الإعراض عن دين الله، وعن التحاكم إلى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا هو الواقع، يظنون أن ما أصابهم من الخلل الاقتصادي، والمادي، والتخلف المعنوي، والعسكري، بسبب ما هم عليه من أحكام الشريعة، والحقيقة أنه بسبب ما قاموا به من مخالفة الشريعة، ولو أنهم وافقوا الشريعة، لكانت هذه شريعة الله العادلة القاهرة الغالبة، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الصف: 9] {لِيُظْهِرَهُ} بمعنى لِيُعْليه، ولسنا بحاجة إلى بيان ذلك؛ لأن هذا معلوم بالتاريخ، فلمَّا كانت الأمة متمسكة بدين الله، لا تقاتل إلاَّ بكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم مستعينة بالله عزّ وجل، سقطت الأديان والإمبراطوريَّات أمامها،
(14/114)
فسقطت النصارى بسقوط الروم «هرقل»، وسقط دين المجوس بسقوط كسرى، وسقط دين المشركين بفتح مكة، فسقطت الأديان كلها، ومَلَكَ المسلمون مشارق الأرض ومغاربها، ولما حصل ما حصل من مخالفة الشريعة تفرَّقت الأمة، وتنازعت، وصار بأسها بينها، وتغلَّب عليها أعداؤها، فصاروا يأتون الأرض ينقصونها من أطرافها، فأخذوا الأندلس، وأخذوا الشام، ومصر، والعراق، وغير ذلك، وكل ذلك بسبب البعد عن شريعة الله، وإننا ندعو إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ونضمن لكل من رجع بصدق وإخلاص في ظاهره وباطنه، في روحه وقالبه، نضمن له أن ينتصر على أعدائه مهما كانت الظروف؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ } [غافر:51] بل أبلغ من ذلك أننا نضمن له أن يكون عدوه ـ ولو كان بينه وبينه مسافة شهر ـ راهباً وخائفاً منه، كما قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في التيمم/ باب (335)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة/ باب المساجد ومواضع الصلاة (
521) (3) عن جابر رضي الله عنه، واللفظ للبخاري.
(14/115)
بَابُ مَقَادِيرِ دِيَاتِ النَّفْسِ
دِيَةُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ مِائَةُ بَعِيرٍ، أَوْ أَلْفُ مِثْقَالٍ ذَهَباً، أَوِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِضَّةً، أَوْ مِائَتَا بَقَرَةٍ، أَوْ أَلْفَا شَاةٍ،........
قوله: «مقادير ديات النفس» «مقادير» جمع مقدار، يعني القدر الذي تكون عليه الدية، والباب هنا بيان للمقادير والكيفيات أيضاً، فهو بيان للكمية والكيفية.
وأصل الدية ثابت في القرآن والسنة، لكن تفصيل الدية إنما جاء في السنة؛ لأن السنة تبين القرآن، وتفسِّره، وتعبِّر عنه.
قوله: «دية الحر المسلم» هذان شرطان: الأول: أن يكون حراً، الثاني: أن يكون مسلماً، فخرج بالحر العبد المملوك، وبالمسلم من ليس بمسلم.
وعموم قول المؤلف: «الحر المسلم» يشمل الكبير والصغير؛ لأنه لم يقيد، ويشمل العاقل والمجنون، ويشمل العالم والجاهل، ويشمل الذكر والأنثى، لكن الأنثى سيتبين فيما بعد إخراجها من هذا العموم، ويشمل المريض والصحيح، والأخرس والناطق، والأعمى والبصير، والأصم والسميع، والمريض مرضاً مخوفاً، وغير ذلك.
قوله: «مائة بعير» وسيأتي بيان أسمائها.
قوله: «أو ألف مثقال ذهباً» «ذهباً» تمييز لـ «ألف مثقال» ، يعني ألف مثقال من الذهب، وكان الدينار في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم يساوي مثقالاً من الذهب، ولهذا جاء في حديث عمرو بن حزم: «وعلى
(14/116)
أهل الذهب ألف دينار» (1) ، وإذا كان الدينار مثقالاً، صار ألف دينار يساوي ألف مثقال، وإنما عدل المؤلف عن ألف دينار إلى ألف مثقال؛ لأن الدنانير قد تختلف، فمثلاً الدينار السعودي ثمانية مثاقيل، بينما كان في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي صدر الإسلام مثقالاً واحداً.
قوله: «أو اثنا عشر ألف درهم فضة» «فضة» تمييز، والدرهم سبعة أعشار المثقال، فيكون الدرهم الإسلامي أقل من الدينار الإسلامي، فكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، فالاثنا عشر ألفاً من الدراهم تساوي ثمانية آلاف وأربعمائة مثقال من الفضة.
وعندما نحوِّل الاثني عشر ألف درهم إلى الجنيهات الموجودة الآن، والجنيه يساوي ثمانية مثاقيل، تساوي ألفاً وخمسين جنيهاً.
وكل مائتي درهم تساوي ستة وخمسين ريالاً سعودياً، فتكون الدية ثلاثة آلاف وثلاثمائة وستين ريال فضة سعودياً.
قوله: «أو مائتا بقرة أو ألفا شاة» دية البعير تختلف قيمتها
__________
(1) هذه إحدى روايات حديث عمرو بن حزم، أخرجها النسائي في القسامة/ باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول
... (8/57 ـ 58)، والدَّارمي في الديات/ باب كم الدية من الورق والذهب؟ (275)، والحاكم (1/395 ـ 397)،
والطبراني في الأحاديث الطوال (1/310)، وابن حبان (6525) ط. الأفكار الدولية، والبيهقي (4/89)، وأخرجه مختصراً
مالك (2/849)، قال ابن عبد البر في كتاب عمرو بن حزم: «هو كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل
العلم معرفة نستغني بشهرتها عن الإسناد؛ لأنه أشبه التواتر في حجيته لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة. التمهيد (
17/338)، وانظر: نصب الراية (2/339 ـ 341).
(14/117)
باختلاف الأزمان واختلاف الأمكنة، وكذلك مائتا بقرة وألفا شاة، فلا يمكن ضبطها بالدراهم والدنانير، والدراهم والدنانير ثابتة غالباً، الدراهم اثنا عشر ألف درهم، وبالمثاقيل ثمانية آلاف وأربعمائة مثقال، والدنانير ألف دينار، وهي ألف مثقال، والمثقال بالغرام يساوي أربعة غرامات وربعاً، وبهذا يمكن أن تقيس جميع دراهم العالم ودنانيره، وتعرف مقدار الدية بالذهب والفضة في أي مكان.
أما الإبل، والبقر، والغنم، فهذه خاضعة للقبول والعرض، والكثرة والقلة، وتختلف باختلاف الزمان والمكان.
هذِهِ أُصُولُ الدِّيَةِ، فأيَّهَا أَحْضَرَ مَنْ تَلْزَمُهُ لَزِمَ الْوَلِيَّ قَبُولُهُ، فَفِي قَتْلِ الْعَمْدِ وَشِبْهِهِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً،....................
قوله: «هذه أصول الدية» «هذه» اسم إشارة، والمشار إليه خمسة الأصناف السابقة، وهي: الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة، فهذه هي أصول الدية، وهذا الذي مشى عليه المؤلف إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله.
والرواية الثانية أن هناك أصلاً سادساً وهو الحُلَل، جمع حلة، وهي إزار ورداء، والدية من الحلل مائتا حُلَّة.
والرواية الثالثة أنَّ الأصل الإبل فقط، وما عداها فهو مقوَّم بها، وليس أصلاً؛ وذلك لأنَّ جميع الأعضاء التي فيها مقادير تقدّر بالإبل، ففي الموضحة خمس من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الأصبع عشر من الإبل، فالشارع دائماً يقدر أجزاء الدية بالإبل، فدل هذا على أنه هو الأصل، وأن ما ذكر من الفضة، والذهب، والبقر، والغنم فهو من باب التقويم، وتابع
(14/118)
لها، وليس أصلاً، وهذا هو ظاهر كلام الخرقي ـ رحمه الله ـ واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وجماعة من الأصحاب، وهذا هو الذي عليه العمل عندنا، فلا يزال الناس من قديم الزمان يحكمون بأن الأصل في الدية الإبل، والدية عندنا الآن تقدَّر بمائة ألف ريال، ولو كانت الفضة أصلاً لكانت دية الإنسان ثلاثة آلاف وثلاثمائة وستين ريال فضة.
قوله: «فأيها أحضر من تلزمه لزم الوليَّ قبوله» فـ «أيَّها» بالنصب، مفعول به مقدّم لـ «أحضر» ، و «من» فاعل.
وقوله: «تلزمه» لم يقل: القاتل؛ لأن الدية قد تكون على العاقلة لا على القاتل، فأتى بقوله: «من تلزمه» ليكون عاماً في القاتل والعاقلة.
وقوله: «لزم الوليَّ قبولُه» لم يقل: المجني عليه؛ لأنه قد يكون ميتاً، وقد يكون حياً؛ لأنه سيأتينا في دية الأعضاء أنه لو قطع يديه لزمه دية كاملة؛ ولهذا لو قال المؤلف: «لزم من هي له قبوله» لكان أعم.
على كل حال إذا أحضر الجاني مائة من الإبل، فقال الذي له الدية: أنا أريد ألف مثقالٍ ذهباً، نقول له: الأمرُ ليس لك، بل للجاني.
وكذلك لو أحضر الجاني ثمانية آلاف، وأربعمائة مثقال فضة، فقال من له الدية: أنا أريدها من الإبل، نقول له: الأمر ليس إليك.
ومن هذا الحكم نعرف أنه لوحظ في رفع الدية التخفيف
(14/119)
على من تلزمه؛ لأن الخيار له، أما إذا قلنا بأن الأصل هو الإبل، فإنه إذا أحضر ما سواها فلا بد من موافقة من هي له، وعلى هذا القول لو أحضر الجاني الدية اثني عشر ألفاً من الفضة، فقال من هي له: أنا أريد إبلاً، فهنا يُلزم الجاني بإحضار الإبل، حتى لو كانت الاثنا عشر تعادل مائة من الإبل، أو أكثر منها، لكن إذا رأى ولي الأمر أن تؤخذ الديات من صنف من هذه الأصناف، وأنه من المصلحة، حتى لا يحصل النزاع، فله ذلك.
قوله: «ففي قتل العمد وشبهه خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة» فقوله: «ففي قتل العمد» يجوز أن نقدر المبتدأ محذوفاً تقديره: «الواجب خمس وعشرون».
ولنا أن نقول: «ففي قتل العمد» خبر مقدم، و «خمس وعشرون» مبتدأ مؤخر.
وعلم من قوله: «ففي قتل العمد وشبهه» أن العمد وشبهه متفقان في أسنان الإبل.
وقوله: «خمس وعشرون بنت مخاض» بنت المخاض هي بكرة لها سنة، سميت بذلك؛ لأن أمها تكون ماخضاً في الغالب، أي: حاملاً.
(14/120)
وقوله: «وخمس وعشرون بنت لبون» أي: بكرة لها سنتان؛ لأن أمها صارت ذات لبن غالباً.
وقوله: «وخمس وعشرون حقة» وهي بكرة لها ثلاث سنوات، سميت حقة؛ لأنها استحقت أن يطرقها الفحل.
وقوله: «خمس وعشرون جذعة» هي بكرة تم لها أربع سنوات.
فلو أن من تلزمه الدية جاء بخمس وعشرين بنت لبون، وخمس وعشرين حقة، وخمس وعشرين جذعة، وخمس وعشرين ثنية.
فقال من له الدية: لا أقبل، فهل يلزمه قبولها؟
هذه المسألة سبقت في باب السلم عند قول المؤلف: «فإن جاء بما شرط، أو أجود منه من نوعه ولو قبل محله، ولا ضرر في قبضه لزمه أخذه» وأن المذهب يرون لزوم قبول الصفات دون الأعيان، فإذا جاءه قبل مَحلِّه أو جاءه بأجود، أو أبرأه من الدَّيْن لزمه القبول، وسبق أن الأصح في ذلك التفصيل، فإذا خاف أن هذا الذي أعطاه أجود أن يمنَّ عليه فلا نُلزمه بالقبول، أما إذا كان لا يتضرر المدفوع إليه بهذه الزيادة، لا حالاً ولا مستقبلاً فإنه يجب عليه القبول، ولنا في ذلك أصل وهي قصة عمر ـ رضي الله عنه ـ مع محمد بن مسلمة وجاره حينما امتنع أن يجري الماء من ملكه إلى ملك الآخر، فقال له عمر ـ رضي الله عنه ـ: «لأجرينَّه ولو على بطنك» (1) .
__________
(1) أخرجه مالك في الأقضية/ باب القضاء في المرفق (1463)، ومن طريقه أخرجه الشافعي في مسنده (1098)،
والبيهقي في سننه (11662) عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه به، وصححه الحافظ في الفتح (5/133).
(14/121)
وأبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ حينما كان أميراً على المدينة قال: «والله لأرمين بها بين أكتافكم» (1) فيمن منع جاره مِن وضع الأخشاب فوق جداره.
وَفِي الْخَطَإِ تَجِبُ أَخْمَاساً، ثَمَانُونَ مِنَ الأَْرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَعِشْرُونَ مِنْ بَنِي مَخَاضٍ،.........
قوله: «وفي الخطأ تجب أخماساً، ثمانون من الأربعة المذكورة وعشرون من بني مخاض» «أخماساً» حال.
هذه الدية فيها تخفيف؛ لأننا أدخلنا فيها الذكور، والذكور عند الناس أقل رغبة من الإناث، فتكون دية الخطأ عشرين بنت مخاض، وعشرين بنت لبون، وعشرين حقة، وعشرين جذعة، وعشرين بني مخاض، يعني ذكوراً لكل واحد سنة.
وهذا التقسيم إذا كان الواجب دية كاملة، أما إذا كان الواجب بعض الدية فهل نعامل هذا البعض معاملة الكل؟ نعم، فمثلاً إذا كانت الموضحة عمداً ففيها خمس من الإبل، واحدة بنت مخاض، والثانية بنت لبون، والثالثة حقة، والرابعة جذعة، والخامسة وسطاً على قدر القيمة.
أما إذا كانت الموضحة خطأ فهي أخماس، واحدة بنت مخاض، والثانية بنت لبون، والثالثة حقة، والرابعة جذعة، والخامسة ابن مخاض.
__________
(1) أخرجه البخاري في المظالم/ باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبةً في جداره (2463)، ومسلم في المساقاة/ باب
غرز الخشب في جدار الجار (1609) (136).
(14/122)
والدليل على ذلك ما رواه أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه ذكر الدية (1) على نحوٍ مما ذكره المؤلف.
وهناك سُنَّة أخرى في هذه المسألة، وهي أن الدية تجب أثلاثاً، ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خَلِفَة ـ أي: حاملاً ـ في بطونها أولاد (2) .
وكلتاهما صح فيها الحديث، فمن العلماء من أخذ بهذا، ومنهم من أخذ بهذا، والأخير أغلظ من الأول، فإن قيل: أي القولين نسلك؟
فالجواب: يمكن أن نرد ذلك إلى رأي الحاكم الشرعي، فإذا رأى أن يجعلها هكذا فعل، وإذا رأى أن يجعلها هكذا فعل، حسب ما تقتضيه الأحوال، وأما المذهب فإنها متعيِّنة في الأسنان الأربعة، في العمد وشبهه، وفي الخطأ في الأسنان
__________
(1) أخرجه أحمد (1/450)، وأبو داود في الديات/ باب الدية كم هي؟ (4545)، والنسائي في القسامة/ باب ذكر أسنان
دية الخطأ (8/43)، والترمذي في الديات/ باب ما جاء في الدية كم هي من الإبل؟ (1386)، وابن ماجه في الديات/ باب
دية الخطأ (2631).
قال الترمذي: «لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وقد روي عن عبد الله موقوفاً»، وضعفه الدارقطني من عدة وجوه،
انظر: السنن (3364) ط. الرسالة وصحح الموقوف، ونصب الراية (4/357)، وخلاصة البدر المنير (2235)،
والتلخيص (1695).
(2) أخرجه الترمذي في الديات/ باب ما جاء في الدية كم هي من الإبل؟ (1387)، وابن ماجه في الديات/ باب من قتل
عمداً فرضوا بالدية (2626) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال الترمذي: «حديث حسن غريب».
(14/123)
الخمسة، وبهذا نعرف أن العمد وشبه العمد من ناحية الدية يشتركان في شيء، ويفترقان في شيء، فيشتركان في تغليظ الدية، فكلاهما الدية فيه مغلظة، ويختلفان في التحميل والتأجيل، فشبه العمد على العاقلة مؤجلاً ثلاث سنوات، والعمد على الجاني حالًّا.
ويشترك الخطأ وشبه العمد من ناحية الدية في أنها على العاقلة، ومؤجلة بثلاث سنوات، ويختلفان في التغليظ.
والحكمة في هذا الاختلاف، قالوا: لأننا إذا نظرنا إلى القصد في شبه العمد ألحقناه بالعمد، وإذا نظرنا إلى عدم قصد القتل ألحقناه بالخطأ، فروعي فيه الأمران، فبالنظر إلى أنه عمد غلَّظناه، وبالنظر إلى أن القاتل لم يقصد القتل خففناه، وجعلنا الدية على العاقلة مؤجلة ثلاث سنوات.
واعلم أن التغليظ خاص بالإبل فقط، أما سائر الأصناف فلا تغلظ، فلا يلزم ـ مثلاً ـ أن يدفع ذهباً عيار أربعة وعشرين، فما دام أنه ذهب فإنه يجزئ بشرط عدم كونه معيباً.
وكذلك لا تغليظ في البقر، بل تدفع نصفها مسنَّات، ونصفها أتبعة، وفي الغنم نصفها ثنايا، ونصفها أجذعة، إذا كانت من الضأن، أما إذا كانت من المعز فكلها ثنايا، وليس فيها تغليظ، فلا فرق بين العمد، وشبه العمد، والخطأ، وهذا مما يدل على أن دية الإبل هي الأصل.
وهل هناك تغليظ بزمان أو مكان؟
(14/124)
في ذلك خلاف بين العلماء، فمنهم من يرى أنه لا تغليظ في الزمان، ولا في المكان؛ لأن الأدلة عامة، وليس فيها تفصيل.
ومنهم من يرى أن هناك تغليظاً في الزمان، أو المكان، أو الحال، فقالوا: تغلظ إذا كانت في الحَرم، أو كانت في الإحرام، أو كانت في الأشهر الحرم، وهي: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، ومُحَرَّم، فكل صفة تغلظ إلى ثلث الدية، فإذا قتل شخصاً في ذي القعدة غير مُحْرِم، ولم يكن بالحرم فعليه دية وثلث الدية، وإن قتله، وهو مُحْرِم، في مكة، في غير أشهر الحرم، فيلزمه دية وثلثا دية، أي: مائة وستة وستون بعيراً وثلثا بعير، فإذا اجتمعت الثلاثة بأن قتله في الحرم، وهو مُحرِم، وفي الأشهر الحرم فعليه ديتان.
وبعضهم قال: لا تغليظ في الإحرام، إنما التغليظ في المقتول إذا كان ذا محرَمٍ منه، فإنه تغلظ عليه الدية.
والقول الراجح أنه لا تغليظ، لا في حرم، ولا في إحرام، ولا في الأشهر الحرم؛ لعموم الأدلة وعدم التفصيل، وعلى هذا تكون الدية مائة من الإبل في كل حال، والراجح ـ أيضاً ـ أن الدية مائة من الإبل، وليس الذهب، ولا الفضة، ولا البقر، ولا الغنم أصلاً فيها.
وَلاَ تُعْتَبرُ الْقِيمَةُ في ذلِكَ، بَلِ السَّلاَمَةُ، وَدِيَةُ الْكِتَابِيِّ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ،.......
قوله: «ولا تعتبر القيمة في ذلك» المشار إليه ما سبق، يعني لا يُعتبر أن يكون كل واحد من الأصول مثل الآخر؛ لأن ذلك غير ممكن غالباً، فلا يشترط أن تكون قيمة مائة الإبل هي مائتي بقرة، وألفي شاة، واثني عشر ألف فضة، وألف مثقال ذهباً.
(14/125)
فلو فرض أن الإبل رخصت حتى صارت مائة بعير تساوي خمسمائة مثقال من الذهب، فهل نقول: نرفع دية الإبل إلى مائتين؟ لا.
ولو فرض أن ألف مثقال ذهباً لا تساوي إلا خمسين من الإبل، فإننا لا نرفع الذهب إلى ألفي مثقال.
قوله: «بل السلامة» أي: المعتبر هو السلامة لا القيمة، ومعنى السلامة، أي: أن تكون سالمة من العيوب، وهل المراد العيوب الشرعية، أو العيوب العرفية؟
الظاهر أن المراد العيوب العرفية؛ لأن الدية حق للآدمي، فإذا كان حقاً لآدمي فإن المعتبر في العيوب ما ينقصها في حق الآدمي، أو لا ينقصها.
والفرق بين العيوب الشرعية والعيوب العرفية، أن العيوب الشرعية هي ما لا يقبل معه الشيء عند الله، والعيوب العرفية ما لا يقبل معه عند الخلق.
مثال ذلك: إذا كانت الإبل عرجاء عرجاً غير بَيِّن، فهي عند الله غير معيبة، وعند الناس معيبة، وإذا كانت عوراء عوراً غير بيِّن فهي عند الله غير معيبة، وعند الناس معيبة.
فالمعتبر هو السلامة من العيوب العرفية، حتى لو كانت شرعاً غير معيبة، وعرفاً معيبة، فلا يلزم الولي أن يقبلها؛ لأنها حق للآدمي، ولهذا لو تنازل من تجب له الدية، وقال: يكفيني أن تعطيني مائة من الإبل، كلها بنت مخاض، فإنه يجوز.
(14/126)
قوله: «ودية الكتابي نصف دية المسلم» «الكتابي» هو اليهودي والنصراني، وسمي كتابياً؛ لأنهم أهل كتاب، والكتب التي بقيت ينتسب إليها هي التوراة، والإنجيل، فسمي من انتسب إليها كتابياً.
وقوله: «ودية الكتابي» يشمل المعاهد، والذمِّي، والمستأمِن، ولا يشمل الحربي؛ لأنه غير معصوم فلا دية له، فهؤلاء ديتهم نصف دية المسلم، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «قضى بأنّ عقْل أهل الكتاب نصف عقل المسلمين» رواه أحمد (1) ، ولو قرأ هذا عامي لقال: سبحان الله عقول الكفار ناقصة عن المسلمين، وهذا من المحاذير التي قالها بعض الناس من اعتماد الإنسان على مجرَّد الكتب؛ لأنه قد يقرأ المكتوب ويفهمه على غير مراده، فيَضل ويُضل، والمراد بالعقل في الحديث الدية، وسميت عقلاً باسم المصدر؛ لأنها من عقلت البعير أعقِلُه عقلاً، فسميت عقلاً لأنه من عادتهم أن دافع الدية يأتي بالإبل إلى بيت من هي له، وينيخها ويعقلها.
وفي لفظ آخر للحديث: «عقل الكفار نصف عقل المسلمين» (2) ، وفرقٌ بين قوله: «عقل الكفار» وبين قوله: «عقل
__________
(1) رواه أحمد (2/224)، والنسائي في القسامة/ باب كم دية الكافر؟ (8/45)، وابن ماجه في الديات/ باب دية الكافر
(2644) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(2) رواه الترمذي في الديات/ باب ما جاء في دية الكفار (1413)، والنسائي في القسامة/ باب كم دية الكافر؟ (8/45)
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً: «عقل الكافر نصف عقل المؤمن» ، وقال الترمذي في روايته: «دية عقل
الكافر نصف دية عقل المؤمن» ، ورواه أحمد (2/180) من طريقه ولفظه: «دية الكافر نصف دية المسلم» .
(14/127)
الكتابي»، لأن «عقل الكفار» عام، و«عقل الكتابي» خاص، فتكون دية الواحد من أهل الكتاب خمسين بعيراً، ومائة بقرة، وألف شاة، وخمسمائة دينار أو مثقال، ستة آلاف درهم.
وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى النِّصْفِ كَالْمُسْلِمِينَ،.........
قوله: «ودية المجوسي والوثني ثمانمائة درهم» المجوسي هو الذي يعبد النار، والوثني هو الذي يعبد الأصنام، وعلى هذا فالمجوس نوع من الوثنيين، لكن خصه المؤلف بالذكر؛ لأن لهم أحكاماً خاصة كأخذ الجزية منهم دون غيرهم من المشركين، على رأي أكثر أهل العلم، والصحيح أن المشركين ولو كانوا غير مجوس تؤخذ منهم الجزية.
وقوله: «ثمانمائة درهم» إذا جعلنا كل مائتي درهم ستة وخمسين ريالاً، فتكون ثمانمائة الدرهم مائتين وأربعة وعشرين ريال فضة، فدية المجوسي، والوثني، ومن لا دِين له، والشيوعي ومن أشبههم مائتان وأربعة وعشرون ريال فضة سعودي فقط، وهذا مروي عن عمر وعثمان وابن مسعود ـ رضي الله عنهم ـ (1) .
ولكن هل هذا القول توقيفي أو تقدير؟
قال بعض العلماء: إنه توقيف، وأنه نص في ثمانمائة درهم.
وقال آخرون: إنه تقدير، وأنه ورد حديث ـ وإن كان
__________
(1) أخرجه عن عمر ـ رضي الله عنه ـ الشافعي في الأم (7/324)، وعبد الرزاق (10214، 10215)، وابن أبي
شيبة (5/407) ط. الحوت، والدارقطني (3247)، والبيهقي (8/100).
قال في خلاصة البدر المنير (2296): إسناده صحيح.
أما عثمان: فعزاه الحافظ في التلخيص لابن حزم في الإيصال، انظر: التلخيص (4/34).
أما ابن مسعود فأخرجه عنه البيهقي (8/101).
(14/128)
ضعيفاً ـ «أن ديتهم ثلثا عشر دية المسلم» (1) وأنه قدِّر بثمانمائة درهم.
وذهب بعض العلماء إلى أن دية الكتابي وغيره كدية المسلم، وقال: إن الأحاديث المفرِّقة في صحتها نظر، والآية الكريمة قال الله فيها: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}، وقال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] ، فقال: «دية» في الموضعين، والأصل عدم الفرق حتى يقوم دليل صحيح على ذلك.
ولأنَّ كلًّا منهما آدمي، ومن الممكن أن يهدي الله هذا الكافر حتى يكون كالمسلم، وإذا كنا لا نفرِّق بين أَعْبَدِ الناس وأطوعهم لله، وبين أفسق الناس وأفجرهم، فكذلك لا نفرق بين الكافر والمسلم، وهذا يدل على أن الدِّين لا دخل له في الدية ولا يعطي تقويماً فيها، وعلى هذا تكون دية المسلم والكافر ـ أياً كان نوعه ـ سواء.
وذهب آخرون إلى قول وسط، وهو أنَّ الكفار كلهم على النصف من دية المسلم، واستدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «عقل الكفار نصف عقل المسلمين» (2) وهذا عام، قالوا: وتخصيص الكتابي ببعض الألفاظ لا يقتضي تخصيص الحكم أو تقييده؛ لأن القاعدة في العام والخاص: «أن
__________
(1) أخرجه البيهقي (8/101) عن عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ وضعفه.
(2) سبق تخريجه ص(127).
(14/129)
ذكر بعض أفراد العام بحكم يطابق العام لا يقتضي التخصيص» كما لو قلت: أكرم الطلبة، ثم قلت: أكرم زيداً، وزيد منهم، فهل معنى ذلك أن الكلام الثاني يخصص الأول؟ لا، لكن لو قلت: أكرم الطلبة، ثم قلت: لا تكرم زيداً، وهو منهم، فهنا صار في العموم تخصيص، وهو أننا أخرجنا زيداً من العموم، بخلاف ما لو ذكرناه بحكم يطابق العام فإن ذلك لا يقتضي التخصيص.
وأما قول بعضهم في حديث «عقل الكتابي نصف عقل المسلم» : إنه مفهوم لقب، ومفهوم اللقب عند جمهور أهل العلم غير معتبر؛ لأن المفهوم المخصص عندهم هو الذي يتضمن معنى يكون من أجله التخصيص، وأما مجرد اسم زيد، وعمرو، وبكر، أو ثوب، وحجر، أو أسد مما ليس فيه معنى يقتضي التخصيص فإنه يُسمى مفهوم لقب، ولا عبرة به.
فجوابنا على هذا: أن مفهوم أهل الكتاب ليس من باب مفهوم اللقب؛ لأن «أهل الكتاب» المفهوم فيه مفهوم وصف؛ لأن معنى أهل الكتاب المنتسبون لليهود والنصارى، وهذا وصف وله معنى.
وكما أنه بإجماع المسلمين لا يحل نكاح المرأة الكافرة، سوى التي من أهل الكتاب، فإن كل حكم خصص بأهل الكتاب يجب ألاَّ نعتبره مفهوم لقب، بل نجعله مفهوم وصف، ونحن لا نستدل على جواز نكاح الكافرة اليهودية، أو النصرانية، إلا بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] ، وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز للإنسان أن يتزوج مجوسية،
(14/130)
أو وثنية، أو ملحدة، واعتبروا هذا مفهوم وصف.
وعلى كل حال، فالقول الثالث هو أرجح الأقوال عندي، وهو أن دية الكافر على النصف من دية المسلم؛ ووجه ذلك أن نقول: إن أهل الكتاب كفار، وهم في نار جهنم خالدون فيها، فأي فرقٍ بين أن ينتسب إلى اليهودية، أو النصرانية، وهي أديان نسخت بدين الإسلام، وبين أن ينتسب لغير دين؟! لا فرق عند الله، فأهل الكتاب لا يخفف عنهم العذاب يوم القيامة، بل هم بحسب ما كان منهم من العدوان والظلم كغيرهم.
وأما الجواب عمَّن استدل بالآية فنقول: إنَّ الأحاديث صحت، وهي أحاديث جياد حسنة جداً، على أن عقل الكافر نصف عقل المسلم.
قوله: «ونساؤهم على النصف» فتكون دية المجوسية أربعمائة درهم، يعني مائة واثني عشر ريالاً، فلو قتل إنسان امرأةً شيوعية عمداً فديتها مائة واثنا عشر ريالاً، ولكنه يأثم إن كان عهد، أو ذمة، أو أمان، فإن قتل امرأة لا تصلي عمداً فليس لها دية؛ لأن قتل المرتد ليس فيه دية؛ فهو غير معصوم، ولكن يعاقب القاتل تعزيراً وتأديباً؛ لافتياته على ولي الأمر.
قوله: «كالمسلمين» أي: كما أنَّ نساء المسلمين على النصف فهؤلاء مثلهم، فدية المرأة المسلمة على النصف من دية المسلم، وهي خمسون بعيراً، ومائة بقرة، وألف شاة، وخمسمائة دينار، وستة آلاف درهم، إلاَّ فيما دون الثلث فإنها مثل الرجل، أي: أنَّ الجناية التي توجب ثلث الدية تكون هي والرجل سواء،
(14/131)
وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، والمسألة خلافية.
وعلى هذا فإذا قطع الإنسان أصبع امرأة ففيه عَشْرٌ من الإبل، وإن قطع أصبعين ففيه عشرون من الإبل، وإن قطع ثلاثة ففيها ثلاثون من الإبل، وإن قطع أربعة ففيها عشرون من الإبل، سبحان الله! لما عظمت المصيبة قلَّت الدية.
فلو أن رجلاً قطع ثلاثة أصابع من امرأة، فقالوا له: عليك ثلاثون بعيراً، ولو قطعت أربعاً لم يكن عليك إلاَّ عشرون فذهب وقطع الإصبع الرابع، فهنا نقول له: سنقطع أصبعك المماثل؛ قصاصاً؛ لأنك قطعت إصبعها عمداً، وتؤخذ منك ثلاثون بعيراً، فهنا حيلته ضَرَّتَهُ، مع ما وقع فيه من الإثم.
إذاً المرأة على النصف من دية الرجل، إلاَّ فيما دون الثلث فإنهما يتساويان، وقيل: هما سواء مطلقاً، وقيل: هي على النصف مطلقاً، وهذه المسألة لم أحرِّرها تماماً.
وَدِيَةُ قِنٍّ قِيمَتُهُ، وَفِي جِرَاحِهِ مَا نَقَصَهُ بَعْدَ البُرْءِ، وَيَجِبُ فِي الْجَنِينِ ذَكَراً كَانَ أَوْ أُنْثَى عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ غُرَّةٌ، .........
قوله: «ودية قِن قيمته» القن هو العبد المملوك الذي يباع ويشترى، ويُسمَّى رقيقاً، فدية القن قيمته بالغةً ما بلغت، وعلى هذا فتختلف الدية في الأرقاء.
فلو أن أحداً قتل رقيقاً شاباً قوياً عالماً صناعياً ماهراً في كل الميادين، فهذا قيمته غالية جداً، بل يكون كدية الحر أو أكثر، ولو قتل قناً كبيراً أعمى العينين أشَل، فهذا ديته قليلة جداً.
إذاً فالمعتبر القيمة؛ لأن العبد بمنزلة ما يباع ويشترى ويُقوَّم، والدليل على ذلك ما تضافرت به السنة من بيع الرقيق، فهذه بريرة ـ رضي الله عنها ـ كاتبت أهلها على تسع أواقٍ من
(14/132)
الفضة، وأقرَّها الرسول صلّى الله عليه وسلّم (1) ، وهذا الرجل الذي أعتق غلاماً له عن دُبُر ـ أي: أعتقه بعد حياته ـ وكان عليه دين، فباعه النبي صلّى الله عليه وسلّم في دَيْنِهِ (2) ، والأدلة في هذا كثيرة على أن الرقيق حكمه حكم ما يباع ويشترى، لأنه متموَّل، فهو مال.
قوله: «وفي جراحه ما نقصه بعد البرء» أي: في جراح الرقيق ما نقصه بعد البرء، وجراح الحرِّ غالبها مقدَّر، وأما الرقيق فإنه ما نقصه بعد البرء، بمعنى أننا نُقوِّم هذا الرقيق سليماً من الجرح، ثم نقوِّمه بعد البرء معيباً بالجرح، فالفرق بين القيمتين هو الدية.
مثال ذلك: رجل جنى على رقيق، فقطع إبهام يده اليسرى وبرئ، فكيف نعرف دية هذه الأصبع؟
نقول: يُقوَّم الرقيق سليماً، ويقوَّم بعد البرء، فإذا كانت قيمته سليماً عشرة آلاف درهم، وقيمته مقطوع الإبهام تسعة آلاف درهم، فتكون دية الإبهام ألف درهم.
وما ذكره المؤلف من أنَّ في جراحِه ما نقصه بعد البرء هو الصحيح، والمذهب أن ديته في الجراح، إنْ كان مقدراً من حر فبنسبته من القيمة، وإن كان غير مقدر من حر فبما نقصه بعد البرء، مثاله: عبد قطعت يده اليمنى خطأ، وكان يساوي قبل قطع
__________
(1) أخرجه البخاري في المكاتب باب استعانة المكاتَب وسؤاله الناسَ (2563)، ومسلم في العتق باب إنما الولاء لمن
أعتق (1504) (8) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
(2) أخرجه البخاري في البيوع باب بيع المزايدة (2141)، ومسلم في الزكاة باب الابتداء بالنفقة بالنفس (997) (41)
عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.
(14/133)
اليد عشرة آلاف ريال، وبعد قطع يده صار يساوي ألفي ريال فقط، فتكون دية يده اليمنى ثمانية آلاف، لكن لو قطعت يده اليسرى لكان يساوي بعد قطعها ستة آلاف، فهنا تكون دية يده اليسرى أربعة آلاف، فتختلف دية يده اليمنى عن دية يده اليسرى.
فإن لم ينقصه شيئاً أو زادته حسناً فلا دية.
وعدم نقصان قيمته مثل أن يجرحه بموضحة فبرئت ولم يكن لها أثر، ولم تُنقِص قيمته فلا دية عليه، وأما إن زادته حسناً فكأن يكون للعبد إصبع زائدة، فهذه إذا زالت تزيده حسناً وجمالاً.
فالمذهب في هذه المسألة يوافق قول المؤلف بشرط ألاَّ يكون فيه مقدَّر من حُرٍّ، فإن كان فيه مقدَّر من حر ففيه نسبته من الدية، ودية القن قيمته.
مثاله: اليد فيها مقدر من الحر وهو نصف الدية، فهذا رجل قطع يد قن خطأ، وقيمته عشرة آلاف، ونقص بقطع يده بعد البرء ستة آلاف، فديته على ما مشى عليه المؤلف ستة آلاف، ولكن على المذهب ديته خمسة آلاف؛ لأن اليد فيها في الحر نصف الدية فتكون في العبد نصف القيمة.
ولو قطع يده اليسرى ونقص أربعة آلاف فقط، ففيها على ما مشى عليه المؤلف أربعة آلاف، وعلى المذهب خمسة آلاف؛ لأنها نصف الدية، وعلى هذا فقس.
مثال آخر: هذا العبد يساوي عشرة آلاف درهم، فقطع أصبعه الإبهام، فنقص ألفي درهم، فدية هذا العبد على ما مشى عليه المؤلف ألفا درهم.
(14/134)
أما على المذهب فديته ألف درهم فقط؛ لأن الأصبع فيه عُشْر الدية من الحر، فيكون فيه عشر الدية من العبد، وعشر دية العبد عشر قيمته؛ لأن دية العبد قيمته.
ولا شك أن ما ذهب إليه المؤلف هو الصواب؛ لأننا ما دُمنا اعتبرنا القيمة في العبد، وجعلناه كسلعة من السِّلع، فإن الجناية على السلع تضمن بنقصها، بقطع النظر عن كونها مقدرة من حر أو غير مقدَّرة.
مثال الجرح غير المقدر: أن يجرحه في بطنه ولم يصل إلى الجوف، فهذا فيه حكومة، أو مثلاً جرحه حتى تعطّلت يده بعض الشيء، ولكنَّه لم يفقد الحركة مطلقاً، فهذا أيضاً غير مقدر، فعلى المذهب، وعلى ما مشى عليه المؤلف تكون دية هذه الجناية ما نقص العبد بعد برئه.
قوله: «ويجب في الجنين ذكراً كان أو أنثى عُشْر دية أمه غرة» الجنين الحمل ما دام في البطن، فإن سقط ميتاً فهو سِقط، مأخوذ من الاجتنان وهو الاستتار، ومادة الجيم والنون كلها تدل على الاستتار، فالجنَّة هي البستان كثير الأشجار، والجِنَّة من الجن؛ لأنهم مستترون، والجُنَّة بالضم ما يستتر به الإنسان كالترس ونحوه، والجنين فعيل بمعنى مفعول؛ لأنه مستور.
فالجنين إذا جَنى الإنسان عليه، أو على أمه وسقط ميتاً فإن ديته غُرة، عشر دية أمه.
(14/135)
فإن كانت أمه حرة مسلِمة فديتها خمسون من الإبل، وعُشْرُها خمس من الإبل.
وإن كانت كتابية فديتها خمس وعشرون من الإبل، وعشرها بعيران ونصف، والنصف يقدَّر بالقيمة.
وإن كانت كافرة من غير الكتابين فديتها أربعمائة وعُشْرُها أربعون درهماً.
والدليل على ذلك: «قصة المرأتين اللتين اقتتلتا من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن دية جنينها غُرَّة» (1) ، والغُرَّة هي العبد، أو الأمة التي قيمتها خمس من الإبل.
واعتبر العلماء القيمة؛ لأن الغرَّة قد تزيد وقد تنقص، لا سيَّما وأن بعض المحدثين قال: إن قوله: «عبد أو وليدة» شك من الراوي، وأن الغرَّة ليست خاصة بالعبيد، بل كل ما يرغب فيه من المال فهو غرَّة؛ لأن غرَّة الشيء مقدَّمه، كغرَّة الشهر مثلاً، وغرَّة الإنسان لوجهه.
وعلى كل حال فالذي جرى عليه الحنابلة رحمهم الله أن دية الجنين عشر دية أمه، يعني خمساً من الإبل، وهذا ما لم يسقط حياً ثم يموت، فإن سقط حياً ثم مات ففيه دية كاملة، ولكن لو مات في بطنها ثم سقط ففيه عشر دية أمه، غرَّة.
__________
(1) سبق تخريجه ص(5).
(14/136)
وَعُشْرُ قِيمَتِهَا إِنْ كَانَ مَمْلُوكاً وَتُقَدَّرُ الحُرَّةُ أَمَةً، وَإِنْ جَنَى رَقِيقٌ خَطَأً أَوْ عَمْداً لاَ قَوَدَ فِيهِ، أَوْ فِيهِ قَوَدٌ وَاخْتِيرَ فِيهِ الْمَالُ، أَوْ أَتْلَفَ مَالاً بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ تَعَلَّقَ ذلِكَ بِرَقَبَتِهِ، فَيُخَيَّرُ سَيِّدُهُ بَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ، أَوْ يُسَلِّمَهُ إِلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَيَمْلِكَهُ، أَوْ يَبِيعَهُ وَيَدْفَعَ ثَمَنَهُ.
قوله: «وعشر قيمتها إن كان مملوكاً» هذا بناء على أن دية القن قيمته، فتكون الدية عُشْر قيمتها إن كان مملوكاً، ويُملك الجنين إذا كانت أمه رقيقة وهو لغير سيدها، فإن كانت أمه رقيقة وهو لسيدها فهو حر.
وكذلك لو كانت أمه رقيقة ووطئها حر بشبهة فإنه يكون حراً.
وكذلك لو كانت أمه رقيقة، واشتُرط على مالكها أن أولادها أحرار فإنه يكون حراً.
وعلى هذا فولد الأمة يكون حراً في ثلاث مسائل:
الأولى: إن كان من سيدها.
الثانية: إذا كان من وطء شبهة من حر.
الثالثة: إذا اشترط أنه حر.
وإذا كان الجنين رقيقاً ففيه عشر دية أمه، أي: عشر قيمتها، مثاله: هذه المرأة التي قُتل جنينها تساوي عشرة آلاف ريال، فدية جنينها ألف ريال.
وذهب بعض العلماء إلى أن دية جنين الأمة ما نقصها، بمعنى أن تقدَّر حاملاً وحائلاً، وما بين القيمتين فهو دية الجنين.
وهذا القول أقرب إلى القياس، كما لو أن أحداً جنى على بهيمة حامل، وأسقطت البهيمة، فإن الشاة مثلاً تقدر حاملاً وحائلاً فما بين القيمتين فهو قيمة الجنين.
وهذا القول أقرب إلى كلام المؤلف حيث قال في دية جراح العبد: «ما نقصه بعد البرء».
قوله: «وتقدَّر الحرة أمةً» يعني لو فرضنا أن حرة كانت
(14/137)
حاملاً برقيق، فإنها تقدَّر أمة، ويكون ذلك بأن تحمل الأمة من سيدها، ثم يعتقها ويستثني حملها، فإذا جُني عليها بعد تحريرها، ثم مات الجنين فإنها تقدَّر أمة عند التقويم، ولا حرج في ذلك، ولا يقال: إننا كذبنا مثلاً، ولكن هذا من أجل أن نعرف دية هذا الجنين.
قوله: «وإن جنى رقيق خطأ أو عمداً لا قود فيه، أو فيه قود واختير فيه المال، أو أتلف مالاً بغير إذن سيده تعلق ذلك برقبته» .
هذه أربع مسائل:
الأولى: قوله: «وإن جنى رقيق خطأ» إذا جنى الرقيق خطأ، فليس هناك قود وإنما الدية.
مثاله: رجل له عبد مملوك، وهذا العبد أراد أن يرمي صيداً فأصاب إنساناً، فالجناية خطأ، فتجب الدية ويتعلق ذلك برقبته، أي: أن موجَب الجناية يتعلق برقبة العبد.
الثانية: قوله: «أو عمداً لا قود فيه» مثل أن يقتل هذا الرقيق المسلم كافراً عمداً، فلا قود؛ لأنه أفضل منه في الدين، ومن شروط القصاص أن لا يفضل القاتل المقتول في الدين.
الثالثة: قوله: «أو فيه قود واختير فيه المال» يعني أن شروط القصاص تامة، ولكنَّ أولياء المقتول اختاروا المال.
الرابعة: قوله: «أو أتلف مالاً بغير إذن سيده» يعني أن هذا
(14/138)
الرقيق وجد سيارة لشخص وأحرقها، أو وجد كتاباً فأحرقه أو وجد خبزاً فأكله.
وقوله: «بغير إذن سيده» فإن أذن سيدهُ، وقال له: أتلف السيارة، أو خذ الخبز من الغير، فهذا له حكم آخر سنذكره إن شاء الله.
وقوله: «تعلق ذلك برقبته» أي: يتعلق برقبة العبد، وهل هناك تعلق آخر؟ نعم، وهو أنه يتعلق بذمة سيده، وذلك فيما إذا أتلف مالاً بإذن سيده، فإن الضمان يتعلق بذمة السيد.
والفرق بينهما أنه إذا تعلق بذمة السيد طولب به السيد مطلقاً، ولا ينظر للعبد، فلو كان الذي أتلف يساوي مليون درهم والعبد لو بِعْناه لا يساوي إلاَّ ألف درهم فإننا نُطالب السيد؛ لأنه يتعلق بذمته، وحينئذٍ لا ننظر لقيمة العبد إطلاقاً، وإنما نأخذ الضمان من السيد.
وأما إذا تعلق برقبته ففيه أحكام ذكرها المؤلف بقوله:
«فيخير سيده بين أن يفديه بأرش جنايته، أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملِكَه، أو يبيعه ويدفع ثمنه» فيُخير السيد بين هذه الأمور الثلاثة:
الأول: قوله: «بين أن يفديه» سماه فداءً؛ لأن الجناية تعلقت برقبته، فكأن السيد إذا دفع موجب الجناية فداه.
الثاني: قوله: «أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه» أي:
(14/139)
أن السيد يسلم هذا الرقيق إلى ولي الجناية فيملكه.
الثالث: قوله: «أو يبيعه ويدفع ثمنه» أي: أن السيد يبيع هذا الرقيق ويسلم ثمنه لولي الجناية، فإذا قُدِّر أن ثمنه لا يبلغ قيمة الجناية، فإننا نقول لولي الجناية: ليس لك إلا هذا، حتى لو كان السيد غنياً؛ لأن هذه الجناية حصلت بغير إذن من السيد؛ فليس مسؤولاً عنها، نعم لو فرض أنَّ هذا السيد يعلم أنَّ هذا العبد شرير، متلف للأموال والأنفس، فهنا قد نقول: إنَّ الضمان يتعلق بذمة السيد، كما قالوا فيمن عنده كلب عقور: إنه يضمن ما تلف به.
فأي هذه الأمور الثلاثة يختار السيد؟
الجواب: على حسب الأحوال، إن كان عنده مال والعبد غير رخيص عنده فسيختار الفدية، وإن كان ليس عنده شيء، أو يُحب أن يتخلص من هذا العبد، وولي الجناية ما منه خطر على العبد بإيذاء أو غيره فسوف يسلمه، ويَسْلم منه ومن العناء ببيعه وتسليم الثمن، وإن كان يخشى على العبد من ولي الجناية بإيذاء، أو هتك عرض، أو غير ذلك فإنه سيختار أن يبيعه، ويسلم ثمنه إلى ولي الجناية.
فإن مات العبد قبل هذه الأشياء الثلاثة، فما الحكم؟
الجواب: لا شيء لولي الجناية؛ لأنه تعلق برقبته، والسيد بريء منه.
(14/140)
بَابُ دِيَاتِ الأَعْضَاءِ وَمَنَافِعِهَا
مَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الإِنْسَانِ مِنْهُ شَيءٌ وَاحِدٌ، كَالأَْنْفِ، وَاللِّسَانِ، وَالذَّكَرِ، فَفِيهِ دِيَةُ النَّفْسِ....
الأعضاء جمع عضو، وهو الجزء المستقل من الإنسان، مثل: اليد، والرجل، والأصبع، والعين، والأنف، وما أشبه ذلك.
واعلم أن هاهنا قاعدتين:
الأولى: كل عضو أشل فليس فيه دية، بل فيه حكومة، إلا عضوين وهما الأذن والأنف.
الثانية: كل من جنى على عضو فأشلَّه فعليه دية ذلك العضو، إلاّ الأنف والأذن؛ لأن الأنف والأذن جمالهما باقٍ ولو شُلاَّ.
قوله: «من أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد كالأنف، واللسان، والذكر، ففيه دية النفس» «من» شرطية، وجواب الشرط جملة «ففيه دية النفس» ووجب اقترانها بالفاء؛ لأنها جملة اسمية.
وقوله: «ففيه دية النفس» أي: فإنَّ عليه دية النفس، إن كانت أنثى فخمسون بعيراً، وإن كان ذكراً فمائة بعير.
مسألة: لو أن هذا الرجل الذي أُذهب أنفه أجرى عملية وركَّب أنفاً، ونجحت العملية، فهل تجب الدية؟
ظاهر كلام العلماء أنّ الدية تجب، وقد ذكروا أنَّ من أتلف
(14/141)
شعراً ثم نبت فإنه تسقط ديته، فهل نقول: إن هذا مثل الشعر لما أعاده بعملية فلا شيء له؟
الجواب: إن أعاد نفس الأنف وبقي فهذا ديته تسقط بلا شك، وأما إذا أعاد أنفاً غيره فهذا محل نظر وتأمل.
وقوله: «كالأنف» لو كان الأنف من إنسان أخشم، أي: لا يشم، أو أشل ففيه دية.
وقوله: «واللسان» أيضاً فيه دية النفس، إن كان من امرأة ففيه دية امرأة، وإن كان من رجل ففيه دية رجل، مع أنه إذا قطع لسانه سوف يفوِّت عليه منفعتين: منفعة الكلام، ومنفعة الذوق، ولكن لا عبرة بالمنافع إذا كان المتلف عضواً، كما أن الإنسان لو أتلف رَجُلاً سيتلف منافع متعددة.
وقوله: «والذكر» أي: فيه دية النفس؛ لأنه ليس في الإنسان منه إلاّ شيء واحد.
والدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث: «وفي الذَّكَر الدية، وفي الأنف إذا أُوْعب جَدْعُه الدية، وفي اللسان الدية» (1) .
وَمَا فِيهِ مِنْهُ شَيْئَانِ، كَالْعَيْنَيْنِ، وَالأُْذُنَيْنِ، وَالشَّفَتَيْنِ، وَاللَّحْيَيْنِ، وَثَدْيَيِ الْمَرْأَةِ، وَثَنْدُؤَتَيِ الرَّجُلِ، وَاليَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، وَالأَلْيَتَيْنِ، وَالأُْنْثَيَيْنِ، وَإِسْكَتَيِ المَرْأَةِ فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُهَا، ...
قوله: «وما فيه منه شيئان، كالعينين، والأذنين، والشفتين، واللحيين» ففيهما الدية، وفي أحدهما نصفها، فما فيه منه شيئان وأتلفا جميعاً ففيهما الدية، وفي أحدهما نصف الدية.
__________
(1) أخرجه النسائي في القسامة باب عقل الأصابع 8/58 عن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده، والدارمي (2366)،
وانظر: الإرواء (2267).
وأخرجه أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ آخر (4/217، 224)، وكذا أبو داود في الديات/ باب
دية الأعضاء (4564) وانظر: التلخيص (4/27، 29)، ونصب الراية (2/141).
(14/142)
وقوله: «كالعينين» ففيهما الدية ولو مع ضعف النظر، ولو مع عَمَشٍ، ولو مع حَوَلٍ؛ لأن هذا مثل ما لو أتلف الإنسان المريض، ففيه دية كاملة، فكذلك إذا أتلف هذه العين، ففيها دية كاملة، ولو كانت قاصرة النظر، أو فيها حول، أو ما أشبه ذلك.
وأما إذا كانت العينان لا تريان فليس فيهما دية كاملة؛ لأنه ليس فيهما منفعة.
وقوله: «والأذنين» أي: فيهما دية النفس، ولو كان لا يسمع بهما.
وقوله: «والشفتين» أي: إذا أذهب الشفتين جميعاً ففيهما الدية.
وقوله: «واللحيين» وهما العظمان النابت عليهما الأسنان، فإذا أتلفهما ففيهما دية النفس، وفي أحدهما نصف الدية.
قوله: «وثديي المرأة» وهذا واضح.
قوله: «وثندؤتي الرجل» وهما للرجل بمنزلة الثديين من المرأة.
قوله: «واليدين والرجلين» أي: فيهما الدية؛ لأن في الإنسان منهما شيئين، وفي كل واحد منهما النصف.
ولا فرق بين أن يقطع اليد من مفصل الكف، أو من مفصل المرفق، أو من مفصل الكتف، فكل هذه تسمى يداً، مع العلم أنه إذا قطع مع مفصل الكف فهو أهون؛ لأنه سينتفع بما بقي من الذراع والعضد، ولكن يقولون: إن الأصل الكف، فإذا قطع
(14/143)
الكف ففيه نصف الدية، وإذا قطع من المرفق ففيه نصف الدية، وإذا قطع من المنكب ففيه نصف الدية.
وقال بعض العلماء: إنه إذا قطع من الكف ففيه نصف الدية، وإذا قطع من المرفق أو المنكب ففيه مع نصف الدية حكومة، وهذا إذا كان القطع واحداً، بمعنى أنه أمسك رجلاً وقطع يده من الكتف ففيه الدية، وأما إذا قطع أولاً من الكف، ثم من المرفق، ثم من الكتف، فكل واحد جناية مستقلة.
والحاصل أن هذه المسألة فيها قولان لأهل العلم:
الأول: لا فرق بين أن يقطعها من مفصل الكف، أو المرفق، أو الكتف.
الثاني: إذا قطعها مما فوق مفصل الكف ففي الزائد حكومة.
ولكن القول الأول أصح؛ لأن هذا يكون تابعاً، كما لو قلع اللحيين، مع أن اللحيين يكون عليهما أسنان، ويكون فيهما لِحية، ومع ذلك ما عليه إلاَّ دية اللحيين فقط، فهذا تابع.
قوله: «والأليتين» مثنى «ألية» وهي المقعدة التي يقعد عليها الإنسان، فإذا جنى عليهما شخص ففيهما الدية، وفي الواحدة نصف الدية.
قوله: «والأنثيين» هما خصيتا الرجل، فإن قطعتا جميعاً ففيهما الدية، وفي إحداهما نصف الدية.
قوله: «وإسكتي المرأة ففيهما الدية وفي أحدهما نصفها»
(14/144)
«إسكتي المرأة» بفتح الهمزة وكسرها، وهما حافتا فرج المرأة، فلو جنى عليهما إنسان وقطعهما ففيهما الدية، وفي إحداهما نصف الدية.
وكذلك الكليتان من أخذ إحداهما ففيها نصف الدية، وفي كلتيهما الدية كاملة، جرياً على القاعدة؛ والفقهاء ما تكلموا على هذا العضو؛ لأنه في الباطن، وأرى أنه يجب أن نتكلم عليه؛ لأن الناس أصبحوا يجعلون هذا العضو الباطن كالعضو الظاهر.
وَفِي الْمِنْخَرَيْنِ ثُلُثَا الدِّيَةِ، وَفِي الْحَاجِزِ بَيْنَهُمَا ثُلُثُهَا، وَفِي الأَْجْفَانِ الأَْرْبَعَةِ الدِّيَةُ، وَفِي كُلِّ جَفْنٍ رُبْعُهَا، وَفِي أَصَابِعِ اليَدَيْنِ الدِّيَةُ كَأَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ، وَفِي كُلِّ أُصْبَعٍ عُشْرُ الدِّيَةِ، وَفِي كُلِّ أَنْمُلَةٍ ثُلُثُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَالإِْبْهَامُ مَفْصِلاَنِ، وَفِي كُلِّ مَفْصِلٍ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ كَدِيَةِ السِّنِّ.
قوله: «وفي المنخرين ثلثا الدية وفي الحاجز بينهما ثلثها» المنخران سمِّيا بذلك؛ لأنه يخرج منهما النَّخَر، والحاجز بينهما معلوم، والجميع يُسمَّى مارناً، ومارن الأنف ما لان منه.
فالمارن يشتمل على ثلاثة أشياء: المنخرين، والحاجز بينهما.
فإذا قطع منخراً فعليه ثلث الدية، ثلاثة وثلاثون بعيراً وثلث بعير، وإن قطع المنخر الثاني فعليه ستة وستون بعيراً وثلثا بعير، وإن قطع الحاجز بينهما فعليه مائة بعير، وإن قطع الحاجز وحده فعليه ثلث الدية.
وهذا بناءً على القاعدة السابقة أن ما في الإنسان منه واحد ففيه الدية كاملة، كما جاء في حديث عمرو بن حزم: «وفي اللسان الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية» (1) ، وهذا كله مجمع عليه.
__________
(1) سبق تخريجه ص(142).
(14/145)
والعلماء ـ رحمهم الله ـ استنتجوا من ذلك أن ما في الإنسان منه واحد ففيه دية، وما فيه شيئان ففيه نصف دية، وما فيه ثلاثة ففي الواحد ثلث الدية، وفي الجميع دية كاملة.
قوله: «وفي الأجفان الأربعة الدية، وفي كل جفن ربعها» الأجفان هما غطاء العينين، وفي كل عين غطاءان، أحدهما فوق والآخر تحت، ففي كل جفن ربع الدية، وفي الجميع الدية كاملة، وفي الثلاثة ثلاثة أرباع الدية، ولا فرق في الدية بين الأعلى والأسفل.
وهذا مما في الإنسان منه أربعة، ولم يذكر المؤلف ما في الإنسان منه خمسة؛ لأن هذه لا تأتي في الأعضاء، وإنما تأتي في المنافع، قالوا: إن المذاقات خمسة: حلاوة، ومرارة، وعذوبة، وملوحة، وحموضة، فإذا جنى على إنسان وأذهب مذاقاته الخمس، فعليه الدية كاملة، وإن أذهب واحدة منها فعليه خمس الدية.
قوله: «وفي أصابع اليدين الدية كأصابع الرجلين» يعني كما أن أصابع الرجلين فيهما الدية، فكذلك أصابع اليدين، وإن لم يقطع الكف، وإن لم يقطع القدم؛ لأن هذه أعضاء يوجد في الإنسان منها كذا وكذا، فيكون لكل عضو حصته من الدية.
قوله: «وفي كل أصبع عشر الدية» فلو فرض أن أصابع
(14/146)
يديه، أو رجليه اثنا عشر أصبعاً، فإن الدية لا توزَّع عليها جميعاً؛ لأن الزائد عيب.
قوله: «وفي كل أنملة ثلث عشر الدية» يعني أن كل أنملة فيها ثلاث من الإبل وثلث.
وكل أصبع من الأصابع فيه ثلاثة أنامل ما عدا الإبهام، ففيه أنملتان.
قوله: «والإبهام مفصلان، وفي كل مفصل نصف عشر الدية» إذا كان مفصلان فإن الدية تقسم على الاثنين، فيكون في كل مفصل نصف عشر الدية، يعني خمساً من الإبل.
ولا فرق في ذلك بين الأنملة العليا والسفلى، فإذا قطع العليا ففيها خمس من الإبل، وإذا قطع السفلى فالدية عشر من الإبل؛ لأنه إذا قطع السفلى انقطعت العليا.
قوله: «كدية السن» يعني كما أن في السن خمساً من الإبل، كما جاء في الحديث: «وفي السن خمس من الإبل» (1) .
ولا فرق بين السن والضرس، وعلى هذا فدية الأسنان جميعاً مائة وستون بعيراً، فالعلماء يعتبرون دية الأسنان أفراداً.
أما إذا كان بجنايات متعددة فكل سن له حكمه، فلو جنى عليه مرة واحدة، وأتلف جميع أسنانه فإن الفقهاء ـ رحمهم الله ـ يقولون فيه بعدد الأسنان.
__________
(1) سبق تخريجه من حديث عمرو بن حزم ص(117).
(14/147)
وذهب بعض العلماء إلى أنه إذا كانت بجناية واحدة فهي منفعة واحدة فعليه دية واحدة.
ولكن ظاهر الحديث العموم فيؤخذ به، وعلى هذا فإذا جنى عليه حتى ذهبت كل أسنانه، فعليه مائة وستون بعيراً.
وهذا الحكم في الإنسان الذي نبتت أسنانه مرةً ثانية، وأما الذي كان في النبات الأول فَيُنْظَر؛ لأن هذه الأسنان ـ وهي ما يسمى بأسنان اللبن ـ إذا سقطت نبتت مرة أخرى، فإذا نبتت سقط موجبها، ولم يجب فيها شيء، لكن إذا كان الإنسان قد أسقط الأسنان الأولى، ثم نبتت الثانية، فإنها إذا أتلفت فعلى الجاني ديتها.
* * *
(14/148)
فَصْلٌ
وَفِي كُلِّ حَاسَّةٍ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَهِيَ السَّمْعُ، وَالْبَصَرُ، وَالشَّمُّ، وَالذَّوْقُ وَكَذَا فِي الكَلاَمِ وَالْعَقْلِ، وَمَنْفَعَةُ الْمَشْيِ، وَالأَْكْلِ، وَالنِّكَاحِ، وَعَدَمِ استِمْسَاكِ الْبَوْلِ، أَوِ الْغَائِطِ،.........
هذا الفصل يتكلم فيه المؤلف عن المنافع؛ والمنافع هي الحواس.
قوله: «وفي كل حاسة دية كاملة، وهي السمع والبصر، والشم، والذوق» المؤلف لم يعد من الحواس إلا أربعاً، والمعروف أن الحواس خمس، فأسقط اللمس.
وقوله: «السمع» بمعنى أن يجني عليه حتى يصير لا يسمع، وإن بقيت الأذن، فتجب الدية كاملة، وورد حديث لكنه ضعيف: «في السمع الدية» (1) ، فإن نقص السمع فحكومة؛ لأنه لا يمكن تقدير السمع.
ولكن لو ادعى المجني عليه زواله، وأنكر الجاني، فإنه يُتَحايل عليه، فيأتيه أحدٌ بغتة، ويطلق عنده أشياء لها صوت مزعج، فإن تحرك، أو التفت فهو يسمع، وإلا فلا.
وقوله: «والبصر» إذا جنى على البصر حتى أذهبه ففيه الدية، وسواء كان ذلك عن طريق العين، أو عن طريق الدماغ، فإن أذهب البصر في عين فعليه دية العين، وإن كان في العينين فعليه دية كاملة، فإن أضعف البصر فحكومة.
وهذا يقال فيه ما قيل في السمع: فإذا ادعى المجني عليه أنه لا يبصر وأنكر الجاني، فيُتحايل عليه، قال بعضهم: نفتح عينه
__________
(1) أخرجه البيهقي وضعفه (8/85) من حديث معاذ رضي الله عنه، وانظر: الإرواء (7/321).
(14/149)
بالشمس فإن أدمعت عينه، أو أغضى فهو يبصر، وإلا فلا.
وقال بعضهم: نستغفله، ثم نحذف شيئاً أمام عينه، فإن أحس فهو دليل على أنه يبصر وإلا فلا، والآن الطب الحديث يمكنه تحديد ذلك فنرجع إليه، ولا حاجة لهذه الأشياء.
وقوله: «والشم» وأصله في الدماغ، وطريقه الأنف، فإذا جنى عليه حتى أذهب شمه، فعليه دية كاملة، وإذا ادعى المجني عليه أنه قد ذهب شمه وأنكر الجاني، فقال العلماء: يُؤتى له بأخبث رائحة وتوضع عنده، فإن اقشعرَّ منها علمنا أنه يشم، وإلا فلا.
وقوله: «والذوق» إذا جنى عليه فأذهب ذوقه ففيه الدية كاملة؛ لأن الذوق نعمة من الله ـ عزّ وجل ـ فالإنسان يتلذذ بالطعام، أو الشراب قبل أن ينتفع به من الناحية الجسمية.
وإذا ادعى المجني عليه أن ذوقه قد ذهب وأنكر الجاني فإنه يُختبر بالأشياء التي لا يمكن أن يصبر عنها لو كان ذوقه باقياً.
فإذا جنى عليه فأذهب حاسة اللمس من يده فصارت لا تحس بالخشن واللين فعليه دية اليد، حتى لو كانت تتحرك، فهناك فرق بين زوال اللمس والشلل، فزوال اللمس في الجلد، والشلل في الأعصاب.
وقال بعض العلماء: إن جنى على عضو فأذهب إحساسه فعليه حكومة؛ لأنه فرق بين الشلل واللمس، اللمس يستطيع أن يحرك يده، ويأخذ ويعطي بها، لكنه ما يحس، والشلل لا يحركها فَقَدْ فَقَدَ منفعتها بالكلية.
(14/150)
وأما إذا جنى عليه فأذهب لمسه من جميع بدنه، وصار جميع بدنه ليس له لمس فعليه الدية كاملة؛ لأنه أفقد البدن نفعاً مستقلاً، بخلاف ما إذا أذهب لمس شيء معين من البدن، فإن فيه حكومة، وهذا ـ والله أعلم ـ هو السر في أن المؤلف لم يذكره، وهو أن فيه هذا الخلاف، وهذا التفصيل.
والأقرب عندي أن يقال: إن أذهب لَمْسَه بالكلية من جميع البدن فعليه الدية كاملة، وإلاّ فعليه حكومة، ولا يصح أن يقاس إذهاب اللمس على الشلل، لأن بينهما فرقاً عظيماً.
قوله: «وكذا في الكلام» الكلام إذا أذهبه بالكلية حتى صار أخرسَ فعليه دية كاملة، وأمّا إن أذهب بعض الحروف ففيه قسطه من الدية، فتقسم على ثمانية وعشرين حرفاً، فإذا أذهب الراء مثلاً فيجب عليه قسطه من الدية، وإن أذهب حرفين فبقسطهما وهكذا، فإن أذهب أربعة عشر حرفاً فنصف الدية.
وأما إذا لم يُذهب الحروف، ولكنه صار يتأتِئُ أو يفأفِئُ، فالواجب حكومة؛ لأن تقدير هذا بالنسبة للدية صعب، ولا يمكن الإحاطة به فعليه حكومة.
قوله: «والعقل» أي: إذا جنى عليه حتى أذهب عقله فعليه دية كاملة، وهذا أشد شيء، فإذا ادعى المجني عليه زوال عقله، وأنكر الجاني فإن المجني عليه يُراقَب.
وأما إذا فقد الذاكرة فالظاهر أن عليه دية كاملة.
فإذا نقص عقله، بأن كان من قبل مِن أذكى الناس، ثم خفَّ ذكاؤه ففيه حكومة.
(14/151)
قوله: «ومنفعة المشي» أي: لو جني عليه حتى أذهب منفعة مشيه، كأن شُلَّت رجلاه فأصبح لا يمشي، وهذا يقع كثيراً كما لو ضرب صلبه مثلاً، وفصل المخ حتى صار لا يتصل بالأسفل فعليه دية كاملة؛ لأنه أذهب منفعة لا نظير لها في الجسم.
قوله: «والأكل» إذا أذهب منفعة الأكل فعليه دية كاملة، وهي ذات شُعَب، فقد يذهب اشتهاؤه الأكل، أو صار يأكل ولكنه لا ينتفع بالأكل، أو صار يأكل ولكنه لا يهضم، فيبقى الطعام في معدته لا ينزل أبداً، ففي هذه الأحوال دية كاملة؛ لأن الأكل ينتفع به في مذاقه، وفي اشتهائه، وفي هضمه، وفي منفعة الجسم به، فإن أفقده أكل بعض المأكولات كمرض السكري مثلاً، فهذا فيه حكومة.
قوله: «والنكاح» أي: جني عليه حتى صار لا يشتهي النساء، أو يشتهي ولكنه لا يستطيع الجماع، كأن يصير عنيناً، أو يجامع ولكن لا ينزل، أو ينزل ولكنه لا يلقح، فإذا أفسد واحدة من هذه الأربع ففيه الدية كاملة.
قوله: «وعدم استمساك البول» فإذا جنى عليه حتى صار لا يستطيع إمساك البول فعليه دية كاملة؛ لأنه أتلف منه منفعة ليس في جسمه منها إلا شيء واحد.
قوله: «أو الغائط» أي: لا يستمسك الغائط، كأن يضربه على صلبه ويرتخي، فلا يستطيع إمساك الغائط، فعليه دية كاملة، وكذلك إذا جنى عليه حتى صار لا يمسك الريح فعليه دية كاملة.
(14/152)
وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّعُورِ الأَرْبَعَةِ الدِّيَةُ، وَهِيَ شَعْرُ الرَّأْسِ، وَاللِّحْيَةِ، وَالْحَاجِبَيْنِ، وَأَهْدَابِ الْعَيْنَيْنِ فَإِنْ عَادَ فَنَبَتَ سَقَطَ مُوجَبُهُ، وَفِي عَيْنِ الأَْعْوَرِ الدِّيَةُ كَامِلَةً،........
قوله: «وفي كل واحد من الشعور الأربعة الدية، وهي شعر الرأس، واللحية، والحاجبين، وأهداب العينين» فقوله: «شعر الرأس» أي: إذا جنى على شخص جناية حتى أذهب شعر رأسه وصار لا ينبت فإن فيه الدية كاملة؛ لأن شعر الرأس لا شك أنه جمال ووقاية، وفي فقده عيب وقذر عند الناس، ففيه ثلاثة أمور: الجمال، والوقاية، وأن فقده عيب وقذر عند الناس، ولهذا في قصة الثلاثة الذين ابتلوا، كان أحدهم أقرع يقذره الناس (1) .
وقوله: «واللحية» فإذا جنى عليه جناية حتى صارت لحيته لا تنبت فعليه دية كاملة، حتى لو كان هذا المجني عليه ممن اعتاد حلق لحيته، فظاهر كلام المؤلف أنَّ له الدية؛ وذلك لأنه أذهب شيئاً ليس في الإنسان منه إلا واحد، وأيضاً فيها جمال، فإن جمال الرجل باللحية أمر ظاهر.
وقوله: «والحاجبين» وهما العظمان الناتئان فوق العينين، وفي شعرهما الدية كاملة، وفي الواحد نصف الدية، والحاجبان من نعم الله على الإنسان؛ لأنهما يحميان العين من نزول ما يضرها من ناحية الجبهة من عرق أو غيره، وأيضاً يظللانها من أشعة الشمس، ولهما فوائد أكثر من هذا.
__________
(1) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء باب حديث أبرص وأقرع وأعمى في بني إسرائيل (3464)، ومسلم في الزهد
باب الدنيا سجن للمؤمن وجنة للكافر (2964) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(14/153)
وقوله: «وأهداب العينين» ففيها الدية كاملة، وفي الواحد ربع الدية، ولو جنى عليه حتى أذهب شعر شاربه فما الذي عليه؟ عليه حكومة، والعنفقة فيها حكومة؛ لأنها ليست من اللحية، وأما شعر الإبطين فإنه يُنظر، فإذا قال الأطباء: إن وجود هذا الشعر خير وأن إزالته بالنتف فيه مصلحة للبدن، فإن هذا المجني عليه يعطى حكومة، وإن قالوا: هذا إحسان إليه فلا شيء في إزالته، وشعر العانة كالإبط، فيقال فيه ما قيل في شعر الإبط.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن هذه الشعور الأربعة لا تجب فيها الدية، وقالوا: إنه لا منفعة منها إلا الجمال، فهي كاليد الشلاء، والعين القائمة، وعلى هذا ففيها حكومة، كما لو جنى عليه فخدش وجهه حتى ذهب جماله ففيه حكومة، وهذا رواية عن الإمام أحمد، ومذهب الشافعي، ومالك رحمهم الله.
ولكن المشهور من المذهب أنه يجب فيها الدية، بخلاف الشعور الأخرى فإنه يجب فيها حكومة، والظاهر أن المذهب أصح، لا سيما شعر الرأس واللحية.
قوله: «فإن عاد فنبت سقط موجَبه» «موجَبه» بفتح الجيم وهذا متعين؛ لأن موجِب الشيء ما كان سبباً لوجوبه، وموجَب الشيء ما وجب بسببه، فبينهما فرق، ونظير ذلك المقتضي والمقتضى، فمقتضي الشيء ما كان سبباً لوجوده، ومقتضاه ما وجد بسببه.
وقوله: «فإن عاد فنبت سقط موجبه» فإن كان هذا الرجل قد
(14/154)
سلَّم الدية، مثل أن يجني عليه حتى ذهب شعر رأسه، وأعطاه الدية، مائة بعير، ثم بعد ذلك نبت، فإن المجني عليه يردّ الدية على الجاني.
فإن مات قبل أن يرجع ثبتت الدية، فإن طالب المجني عليه بالدية، وقال الجاني: انتظر ربما يرجع الشعر، يُرجع إلى أهل الخبرة، فيمهل مدةً يُعلم أن الشعر إن لم يُنبت فيها فليس بنابت.
والحاصل أنَّ عندنا حالات:
أولاً: إذا نبت الشعر ولو بعد مدة يسقط موجَبه، فإن كان المجني عليه قد قبض الدية فإنه يردها.
ثانياً: إذا مات قبل أن ينبت، استقر وجوب الدية.
ثالثاً: إذا طالب الجاني بالإمهال، فإنه يرجع إلى أهل الخبرة، فإن قالوا: إن هذه الجناية لا يمكن أن يرجع معها الشعر أبداً ثبت الموجَب، وإن قالوا: يمكن في خلال ستة أشهر، أُنْظِرَ ستة أشهر، حسب ما يقرِّره أهل الخبرة.
فإن قلع سنه، وقال الجاني: ننتظر ربما يعود، نقول: إن كان سن اللبن، فإنه يعود، وينتظر، وإن كان غيره فإنه لا ينتظر؛ لأن الأصل عدم نباته.
وَإِنْ قَلَعَ الأَْعْوَرُ عَيْنَ الصَّحِيحِ المُمَاثِلَةَ لِعَيْنِهِ الصَّحِيحَةِ عَمْداً فَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ وَلاَ قِصَاصَ. وَفِي قَطْعِ يَدِ الأَْقْطَعِ نِصْفُ الدِّيَةِ كَغَيْرِهِ.
قوله: «وفي عين الأعور الدية كاملة» لماذا جعل دية كاملة وهي عين واحدة؛ قالوا: من أجل إذهاب المنفعة؛ لأن الأعور ينظر بالواحدة نَظَره بالثنتين، وإن كان نظره قاصراً؛ لأن الذي ينظر بالثنتين ينظر من كل الجوانب، والذي ينظر بعين واحدة ينظر من جانب واحد.
(14/155)
فلو أن إنساناً فقع عين أعور حتى فقد بصره فعليه دية كاملة؛ لأنه أفقده منفعة البصر، صحيح أن العين الواحدة ليست فيها إلاَّ نصف الدية، ولكن هذا ليس من أجل أنها عين واحدة، ولكن من أجل أنه أفقده منفعة البصر فوجبت الدية كاملة، وهذا القول هو الصحيح، وإن كان بعض العلماء أخذ بالعموم، وأن في العين الواحدة نصف الدية، وكونه أفقده البصر كله هذا تابع للعين.
مسألة: لو أن رجلاً لا يسمع إلا من جانب واحد فجني عليه حتى ذهب السمع كله، فما الواجب؟
المذهب يقولون: عليه نصف الدية، ولكن عند التأمل تجد أنه لا فرق بين هذه المسألة وبين عين الأعور.
فإن قالوا: الفرق أن الذي يسمع من أذن واحدة إذا كنت تتكلم بجانبه لا يسمعك، ولهذا إذا أراد أن يسمع منك يلوي عنقه، أو يقول: تعال من الجانب الآخر، وهذا بخلاف الأعور.
والجواب: أن نقول: وكذلك الأعور لو يأتي أحد عن يساره، وعينه اليسرى لا تبصر فإنه لا يشعر به، إذاً لا فرق بين المسألتين.
واستدل بعض أهل العلم لذلك بأن من نظر من خَصاص البيت فإنها تفقأ عينه بدون إنذار، وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصحيحين أن رجلاً اطلع في حجر في باب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومع رسول الله مِدرىً يحك به رأسه، فلما رآه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أعلم أنك
(14/156)
تنتظرني لطعنت به في عينك» (1) .
وكذلك قال العلماء: إذا تسمَّعَ فلك أن تطعن أُذُنه، وهذه المسألة خلافية؛ لأن النص إنما ورد في العين، ولكن ما دمنا ألحقنا السمع بالبصر في مسألة الذي ينظر من خصاص البيت، فإننا نقول: إذن نلحق السمع في مسألة الدية بالبصر.
فالقول بأنه إذا أذهب سمعه من جانب واحد يلزمه دية كاملة لا شك أنه هو القياس والعدل، ولا فرق بينه وبين البصر.
قوله: «وإن قلع الأعور عين الصحيح المماثلة لعينه الصحيحة عمداً فعليه دية كاملة ولا قصاص» رجل عنده العين اليمنى سليمة، والعين اليسرى عوراء، فقلع من رجلٍ صحيح العينين عينه اليمنى، فلو قلعنا عين الأعور صار أعمى، مع أن هذا الأعور لما قلع عين الصحيح صار أعور لا أعمى، فلا قصاص على هذا الرجل الأعور، مع أن ظاهر القرآن {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] القصاص، وإذا تلف بصر هذا الأعور فهو الذي جنى على نفسه وتعمد، فلماذا لم يَتَعمد أن يفقأ عينه اليسرى لأجل أن تبقى عينه؟!
قالوا: نعم، الله ـ عزّ وجل ـ يقول: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}، والباء تدل على العوض، وعين هذا قيمتها ليست كقيمة عين
__________
(1) أخرجه البخاري في الديات باب من اطلع في بيت قوم ففقأوا عينه فلا دية (6901)، ومسلم في الآداب باب تحريم
النظر في بيت غيره (2157) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ واللفظ للبخاري.
(14/157)
الأعور، فعين الأعور أغلى فهو أفضل منه، وزيادة على كونها عيناً فهي محتفظة بالبصر كله، ولهذا لا يمكن أن تتحقق المماثلة حتى يثبت القصاص.
وقال بعضهم: إنه لا قصاص، وعليه نصف الدية، وهؤلاء اعتبروا عين المجني عليه، وقالوا: المجني عليه لم يذهب منه إلاّ نصف البصر فله نصف الدية، فالأقوال إذاً ثلاثة:
الأول: القصاص.
الثاني: لا قصاص، وعليه الدية كاملة.
الثالث: لا قصاص، وعليه نصف الدية اعتباراً بحال المجني عليه، فإنه لم يفت في حقه إلا نصف البصر، فكيف نوجب عليه دية كاملة؟!
وحُجّة المذهب أنه مروي عن عمر، وعثمان رضي الله عنهما (1) ، ولا يعرف لهما مخالف، ولأننا أسقطنا عنه القصاص لمصلحته وأبقينا له حاسة كاملة، فلزمه ديةٌ كاملة.
مسألة: إذا قلع الصحيح عين الأعور الصحيحة فعليه الدية كاملة، وإن كان عمداً فعليه القصاص، وهل يُلزَم الجاني مع القصاص بأن يدفع نصف الدية؟ المذهب أنه يلزم بذلك؛ لأنه أفقده حاسة كاملة، وهي البصر.
والقول الثاني: أنه لا يلزم بنصف الدية؛ لأنها عين بعين كما قال تعالى، وكون الصحيح تبقى له عين ثانية فهذا ليس من
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (9/333)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/94).
(14/158)
جهة المجني عليه، وهذه المسألة تحتاج إلى تأمل ونظر؛ لأن كلا القولين قوي.
ولو قلع الأعور عين الصحيح التي لا تماثل عينه، فلا يقتص منه؛ لعدم المماثلة.
قوله: «وفي قطع يد الأقطع نصف الدية كغيره» الأقطع الذي ليس له إلاّ يد واحدة، فجاء إنسان وقطع اليد الأخرى فعليه نصف الدية فقط، والفرق بينه وبين العين أنه في العين أذهب البصر كلّه، أما اليد التي بقيت فإنه لا ينتفع بها إلا نصف انتفاع، ولهذا من أمثلة العامة «اليد الواحدة لا تصفق»، فلما كانت نصف المنفعة مفقودة في الأول صار الواجب نصف الدية.
وقوله: «كغيره» أي: كغير الأقطع، فإن غير الأقطع ليس في يده إلاّ نصف الدية.
مسألة: أقطع الرِّجْل، ما الحكم فيمن قطع رِجْله الثانية؟
كلام المؤلف يدل على أنه ليس له إلاّ نصف الدية؛ لأنه لمَّا قطعت رجله الأولى زال عنه نصف المشي، ففُقد من المنفعة نصفها، فليس من له إلاّ رِجْل واحدة كمن له رجلان.
فإن قيل: الأقطع كان يمشي على عصا، أما بعد الجناية فلا يستطيع المشي مطلقاً؟ الجواب: هذا صحيح، لكن الجاني لم يُذهب إلاّ نصف المنفعة فقط، فعليه نصف الدية فقط.
(14/159)
بَابُ الشِّجَاجِ وَكَسْرِ الْعِظَامِ
الشَّجَّةُ: الْجُرْحُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ خَاصَّةً، وَهِيَ عَشْرٌ: الْحَارِصَةُ الَّتِي تَحْرِصُ الْجِلْدَ، أَيْ: تَشُقُّهُ قَليلاً وَلاَ تُدْمِيهِ، ثُمَّ الْبَازِلَةُ الدَّامِيَةُ الدَّامِعَةُ وَهِيَ الَّتِي يَسِيلُ مِنْهَا الدَّمُ، ثُمَّ الْبَاضِعَةُ وَهِيَ الَّتِي تَبْضَعُ اللَّحْمَ، ثُمَّ الْمُتَلاَحِمَةُ وَهِيَ الْغَائِصَةُ فِي اللَّحْمِ، ثُمَّ السِّمْحَاقُ وَهِيَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَظْمِ قِشْرَةٌ رَقِيقَةٌ، فَهذِهِ الْخَمْسُ لاَ مُقَدَّرَ فِيهَا، بَلْ حُكُومَةٌ،.....
قوله: «الشجاج» : جمع شجة، و «كسر العظام» معروف.
قوله: «الشجة الجرح في الرأس والوجه خاصة» هذا هو تعريف الشجة، وإنما يتلقى معناها ومدلولها من العرب، والعرب لا يسمون شجة ما كان جرحاً في ساق، أو فخذ، أو صدر وغيره.
والشجة عند العرب مراتب، بدأ المؤلف فيها بالأسهل فالأسهل، فقال: «وهي عشر: الحارصة التي تحرص الجلد، أي: تشقه قليلاً ولا تدميه» ، فهي سهلة جداً كحكة الظفر.
قوله: «ثم البازلة الدامية الدامعة وهي التي يسيل منها الدم» «البازلة» من البزل وهو الشق، ومنه البزول التي يفعلونها في النخيل، فيشققون في النخيل شقاً لأجل أن يتسرب عنه الماء المالح، فالبازلة سميت دامية؛ لأنه ظهر منها الدم.
وسميت دامعة؛ لأنه يسيل منها الدم تشبيهاً بدمع العين، حتى لو كان الدم قليلاً كنطفة فهي بازلة ما دام أن الدم قد سال.
(14/160)
قوله: «ثم الباضعة وهي التي تبضع اللحم» أي: تجاوزت الجلد إلى اللحم وبضعته، أي: شقته.
قوله: «ثم المتلاحمة وهي الغائصة في اللحم» سميت بذلك لغوصها في اللحم، فكأنها صارت جزءاً منه.
قوله: «ثم السمحاق وهي ما بينها وبين العظم قشرة رقيقة» السمحاق أصلها القشرة التي بين اللحم والعظم، وهي القشرة البيضاء، فسميت الشجة باسم هذه القشرة؛ لأنها وصلت إليها.
وهذه الشجاج يرجع فيها إلى أهل الخبرة، وأهل الخبرة عندهم مسبار، وهي آلة يسبرون بها مقدار الجرح ويعرفونه تماماً.
قوله: «فهذه الخمس لا مقدّر فيها بل حكومة» أي: ليس فيها شيء مقدر من الدية، بل فيها حكومة، فإذا طالب المجني عليه بدية، فليس له إلا حكومة.
والحكومة: أن نقدر هذا الذي جُني عليه كأنه عبد لا جناية به، ثم نقدره كأنه عبد بريء منها، فما بين القيمتين له مثل نسبته من الدية.
فإذ قدّرنا أن قيمته عشرة الآف ريال لو كان عبداً بدون جناية، وهو بالجناية وقد برئت يساوي تسعة الآف وخمسمائة، فديته نصف العشر ـ أي: خمس من الإبل ـ فيكون في الجناية خمس من الإبل.
(14/161)
ولكنهم يقولون: إنه إذا كانت في موضع له مقدَّر فإنه لا يبلغ بها المقدر، وهنا في موضع له مقدر؛ لأن غالب الشجاج فيها شيء مقدر، وعلى هذا فإذا قالوا: إنَّ الحكومة تبلغ خمساً من الإبل نقول: لا نعطيه خمساً من الإبل، لأن في الموضحة وهي أعظم من هذه خمساً من الإبل، ولكن نعطيه خمساً من الإبل إلا قليلاً.
وَفِي الْمُوضِحَةِ وَهِيَ مَا تُوضِحُ اللَّحْمَ وَتُبْرِزُهُ خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ، ثُمَّ الْهَاشِمَةُ وَهِيَ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ وَتُهْشِمُهُ وَفِيهَا عَشَرَةُ أَبْعِرَةٍ، ثُمَّ الْمُنْقِلَةُ وَهِيَ مَا تُوضِحُ الْعَظْمَ وَتَهْشِمُهُ وَتَنْقُلُ عِظَامَهَا، وَفِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الإِْبِلِ، وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَأْمُومَةِ وَالدَّامِغَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ،
قوله: «وفي الموضحة وهي ما توضح اللحم وتبرزه» هكذا قال المؤلف ـ رحمه الله ـ، لكن قال في الروض (1) : «الصواب العظم»، لكن يقولون: إن النقل أمانة، فانقل الكتاب على ما هو عليه، لا سيما إذا كان بخط المؤلف، ثم تعقبه إذا كان فيه شيء من الخطأ.
فهنا نقول: هي بخط المؤلف «ما توضح اللحم» وهو خطأ بلا شك، فلعلّه سبق قلمٍ من المؤلف، والصواب أنها توضح العظم.
وسميت بهذا الاسم؛ لأنها أوضحته وبيَّنته، فالموضحة وصف لموصوف محذوف، والتقدير شجة موضحة للعظم.
قوله: «خمسة أبعرة» جناية الموضحة إذا كانت خطأ فله خمسة أبعرة، واحدة لها سنة، والثانية سنتان، والثالثة ثلاث سنوات، والرابعة أربع سنوات، والخامسة ذكر من بني مخاض له سنة.
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/270).
(14/162)
وإذا كانت الجناية شبه عمد أو عمداً ولم يختر القصاص فتكون أرباعاً، ونجعل الخامسة من الوسط.
قوله: «ثم الهاشمة وهي التي توضح العظم وتهشمه وفيها عشرة أبعرة» اشترط المؤلف شرطين، وهما إيضاح العظم وهشمه، فإن هشمته بدون إيضاح فحكومة، ولا تكون هاشمة؛ لأن الهاشمة لا بد أن توضح العظم وتهشمه، وفيها عشرة أبعرة.
قوله: «ثم المنقلة وهي ما توضح العظم، وتهشمه، وتنقل عظامها، وفيها خمس عشرة من الإبل» هذه أشد من التي قبلها، وفيها خمسة عشر من الإبل، وكل هذه ورد فيها النص عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (1) .
قوله: «وفي كل واحدة من المأمومة والدامغة ثلث الدية» المأمومة: هي التي توضح وتهشم وتكسر العظام، وتنقلها وتصل إلى أم الدماغ، وأم الدماغ هي الوعاء الذي فيه المخ، فيها ثلث الدية كما صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث قال: «في المأمومة ثلث الدية» (2) .
وقوله: «والدامغة» وهي التي تخرق جلدة الدماغ، وهي أشد من المأمومة وفيها ثلث الدية.
__________
(1) سبق تخريجه ص(117).
(2) سبق تخريجه ص(117).
(14/163)
وقال بعض العلماء: في الدامغة ثلث الدية وأرش؛ لأنها أعظم من المأمومة، فإذا كانت أعظم فيجب أن تكون أكثر.
والمذهب يقولون: إن هذه مثل ما لو قطع الكف، أو الكف والمرفق، فإذا قطع الكف ففيه نصف الدية، وإذا قطعه مع المرفق فكذلك نصف الدية، فإذا وصل إلى أم الدماغ وهي أعظم الشجاج استوى ما خرق الدماغ وما لم يخرقه، والذين يقولون بالأرش قالوا بالتفريق، وأما القياس على اليد ففيه نظر؛ لأن اليد عضو واحد، فهي يد سواء قطعتها من الكتف، أو من المرفق، أو من العضد، وأما الدامغة فهي أكثر خطراً من المأمومة التي تصل إلى أم الدماغ ولا تخرقه، فلا يمكن أن نسوي بين مختلفين، وهذا القول قوي جداً، وهو أنه إذا خرقت الدماغ فيعطى المأمومة والأرش.
وأيضاً يقولون: نحن لدينا نص يفرق بين هذه الشجاج، فالهاشمة ليست كالمنقلة، مع أن الموضع واحد، والهاشمة ليست كالموضحة فبينها فرق، وإذا كان الشرع فرَّق بينهما والمحلّ واحد عُلِمَ أنه لا بدّ من التفريق، ولذلك فالقول الراجح في المسألة أن الدامغة تجب فيها ثلث الدية مع الأرش.
ولكن يبقى عندنا الحق العام وهو التعدي، فهو لولي الأمر يعزره إن شاء لتعديه.
وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إِلى بَاطِنِ الْجَوْفِ، وَفِي الضِّلَعِ وَكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ التَّرْقُوَتَيْنِ بَعِيرٌ، وَفِي كَسْرِ الذِّرَاعِ وَهُوَ السَّاعِدُ الْجَامِعُ لِعَظْمَيِ الزِّنْدِ، وَالْعَضُدِ، وَالْفَخِذِ وَالسَّاقِ إِذَا جَبَرَ ذلِكَ مُسْتَقِيماً بَعِيرَانِ،..........
قوله: «وفي الجائفة ثلث الدية، وهي التي تصل إلى باطن الجوف» كل ما لا يرى من المجوف فهو جوف، كالبطن،
(14/164)
والصدر، وما بين الأنثيين، والحلق، وما أشبهها، وفيها ثلث الدية، وكل هذه المقادير التي نذكرها ما لم تصل إلى الموت، فإن مات المجني عليه ففيها دية كاملة؛ لأن سراية الجناية مضمونة.
قوله: «وفي الضّلع وكل واحدةٍ من الترقوتين بعير» الضِّلع فيه بعير من جنس أسنان الدية السابقة.
وقوله: «الترقوتين» وهما العظمان المحيطان بالعُنُق، وفي كل ترقوة بعير، وفي الثنتين بعيران.
قوله: «وفي كسر الذراع وهو الساعد الجامع لعظمي الزند» الذراع فيه بعيران.
وقوله: «وهو الساعد الجامع لعظمي الزند» كل يد فيها زندان، أحدهما متصل بالكوع، والثاني بالكرسوع، قال الناظم:
وعظم يلي الإبهام كُوع وما يلي
لخنصره الكرسوع والرُّسغ ما وسط
وعظم يلي إبهام رِجْلٍ ملقب
ببُوع فخُذ بالعلم واحذر من الغلط
ومراد المؤلف بقوله: «وفي كسر الذراع» إذا كسر ولم ينفصل، أما إذا انفصل ففيه دية اليد كاملة، أي: نصف الدية.
قوله: «والعضُد» معطوفة على الذراع، وليس معطوفاً على الزند، وهو العظم الذي بين الكتف والمِرفق، وفيه بعيران.
قوله: «والفخذ» وهو ما بين الركبة والورك، فإذا كسره ففيه بعيران.
(14/165)
قوله: «والساق» أي: أن في الساق بعيرين، وهذا له شرط وهو ما ذكره المؤلف بقوله:
«إذا جبر ذلك مستقيماً بعيران» فإن جبر غير مستقيم ففيه حكومة.
فمثلاً: لو جبر الساق معوجّاً، أو العضد، أو الذراع، أو الزند أو ما أشبه ذلك ففيه حكومة، ولا بد أن ترجع حركة العضو على ما كانت عليه، فإن نقصت ففيه حكومة.
فمثلاً بعد أن كسر انشلَّت يده بعض الشيء، فإن فيه حكومة، وإن جبر مستقيماً؛ لأنه فوَّته بعض المنفعة.
وأما الأدلة على ما سبق، فالضلع والترقوة والزند فيها آثار عن الصحابة رضي الله عنهم (1) ، وأما البقية فإنها بالقياس، فالترقوة والضلع جنس واحد تقريباً؛ لأنهما في الصدر، وأما الذراع فإنه قد ورد عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أثر أن في الزند الواحد بعيرين (2) ، وفي كل يد زندان، ففي الزندين أربعة أبعرة، فإذا كان الزند إذا كسر فيه بعيران، فالذراع من باب أولى؛ لأن الذراع جامع لهما، وإذا كان الذراع فيه بعيران، فالساق من باب أولى، وإذا كان الساق فيه بعيران، فالفخذ من باب أولى، ولهذا فقهاؤنا ـ رحمهم الله ـ قاسوا هذه المسألة بعضها على بعض،
__________
(1) أخرجها مالك في الموطأ (2/861)، والشافعي في الأم (7/234)، وعبد الرزاق (17578)، وابن أبي شيبة (
26955)، وابن حزم في المحلى (10/453) ط. إحياء التراث.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (27779).
(14/166)
وقالوا: الآثار وردت في ثلاثة، وقيس الباقي عليه؛ لأنه مثله، أو أولى منه.
وقال بعض فقهائنا: إنه لا تقدير إلا فيما ورد به الأثر؛ أي: الضلع، والترقوة، والزند، والباقي حكومة.
وذهب أكثر أهل العلم: إلى أن الجميع فيه حكومة، وحملوا ما ورد عن عمر في ذلك على أنه من باب التقويم، وإذا كان من باب التقويم صار حكومة، وقالوا: إن الحكومة أقرب إلى العدل، ما دامت المسألة ليس فيها نص من الشارع يجب العمل به، فإنه ليس كسر الزند الواحد ككسر الذراع، والزند الواحد فيه بعيران، والزندان فيهما أربعة، فإذا كان الفرعان فيهما أربعة أبعرة، فكيف لا يكون الأصل وهو الذراع فيه أربعة أبعرة؟! أو العضد أيضاً؟! ولهذا فالقول بالحكومة في هذه الأعضاء أقرب إلى العدل، وحمل ما ورد عن أمير المؤمنين ـ رضي الله عنه ـ على أنه من باب التقويم له وجه، فربما رأى عمر أن الحكومة تساوي بعيرين في ذلك الوقت، فقال: فيه بعيران.
ثم على فرض أنه ليس تقويماً، وأنه توقيف فإن هذا الفعل من عمر ـ رضي الله عنه ـ يدل على أن له أصلاً في السنة، فيقتصر على ما ورد به النص، ويبقى الباقي على أنه حكومة، وأما أن نقول: إن كسر الفخذ ككسر واحد من الزندين، ليس فيه إلا بعيران، فالمسألة فيها نظر ظاهر.
والراجح عندي في هذه المسألة أن نقول: إن فيها حكومة في الجميع، ويحمل ما ورد عن عمر على أنه من باب التقويم،
(14/167)
وما دام الأمر فيه احتمال أن يكون هذا من عمر ـ رضي الله عنه ـ على سبيل التوقيف، أو على سبيل التقويم، فالأصل عدم الإلزام بهذا التقدير حتى يثبت أنه تشريع، وليس تقويماً، ثم إذا تنازلنا، نقول: نجري ما جاء به النص عن أمير المؤمنين ـ رضي الله عنه ـ، والباقي يكون حكومة، وقد فسرها المؤلف بقوله:
وَمَا عَدَا ذلِكَ مِنَ الْجِرَاحِ وَكَسْرِ الْعِظَامِ فَفِيهِ حُكُومَةٌ، وَالْحُكُومَةُ: أَنْ يُقَوَّمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ عَبْدٌ لاَ جِنَايَةَ بِهِ، ثُمَّ يُقَوَّمَ وَهِيَ بِهِ قَدْ بَرِئَتْ، فَمَا نَقَصَ مِنَ الْقِيمَةِ فَلَهُ مِثْلُ نِسْبَتِهِ مِنَ الدِّيَةِ.
«والحكومة: أن يُقوَّم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به، ثم يقوم وهي به قد برئت، فما نقص من القيمة فله مثل نسبته من الدية» فقوله: «أن يقوَّم» أي: تقدَّر قيمته، ومصدر قَوَّمَ تقويم، وبهذا نعرف الخطأ الشائع عند الناس، يقولون: تقييم، مأخوذ من القيمة، فيقال لهم: أصل القيمة القيومة، ولكن حوِّلت «الواو» إلى «ياء» لعلة تصريفية، وعلى هذا نقول: مصدر قوَّم تقويم.
وقوله: «لا جناية به» أي: أنه سليم، و«الباء» هنا بمعنى «في».
وقوله: «ثم يقوم وهي به» الواو هنا للحال، والحال أن الجناية به، ولكن بشرط، وهو قوله: «قد برئت» وبهذا نعرف أن التقويم لا يكون إلا بعد البرء.
وهل يلزم من هذا التقويم أن ننادي عليه في السوق،
(14/168)
ونقول: من يسوم هذا العبد؟ لا، بل يسأل أهل الخبرة، فإن لم يوجد أهل خبرة نأتِ باثنين، أو ثلاثة ممن يوثق بهم، ونقول لهم: قدِّروه لنا.
كَأَنَّ قِيمَتَهُ عَبْداً سَلِيماً سِتُّونَ، وَقِيمَتَهُ بِالْجِنَايَةِ خَمْسُونَ، فَفِيهِ سُدُسُ دِيَتِهِ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْحُكُومَةُ فِي مَحَلٍّ لَهُ مُقَدَّرٌ فَلاَ يُبْلَغُ بِهَا الْمُقَدَّرُ.
قوله: «كأن قيمته عبداً سليماً ستون وقيمته بالجناية خمسون، ففيه سدس ديته».
قوله: «كأن» في نسخة أخرى «فإن كان».
وقوله: «عبداً» حال مؤولة أي: مملوكاً، وهي مثل قولهم: بعه مداً.
مثاله: رجل جُني عليه جناية غير مقدَّرة شرعاً، ففيها حكومة، فنقول: قوِّموا هذا الرجل عبداً سليماً، وقوموه عبداً قد جُني عليه وبرئت جنايته، وما بين القيمتين هو ديته، فيعطى مثل نسبته من الدية، فلو قدّرنا هذا الرجل عبداً سليماً قيمته ستون ألفاً، ثم قدرناه عبداً قد جُني عليه بجناية برئت بخمسين ألفاً، فالفرق بينهما عشرة من ستين، أي: السدس، فيُعطى سدس الدية، ولو قدِّر أن قيمته عبداً سليماً مائة، وقيمته بالجناية خمسون، فنصف الدية، وهكذا.
قوله: «إلا أن تكون الحكومة في محل له مقدَّر فلا يبلغ بها المقدَّر» مثال ذلك: السمحاق ليس فيها مقدَّر، والواجب فيها حكومة، فإذا قدرناها بالحكومة فكانت تستوعب عشرة من الإبل،
(14/169)
فلا نُعطيه عشرة من الإبل؛ لأن الموضحة وهي أعظم منها قدَّرها الشرع بخمسة، فلا نزيد على الشرع بل نعطيه خمسة إلا قليلاً؛ لأننا لسنا أحكم من الشرع، وإذا كنا كذلك فإن ما حدده الشرع لا يبلغ به ما كان من جنسه.
ونظير ذلك لو أن رجلاً خلا بامرأة ونام معها، واستمتع معها ما بين الفخذين، كل الليل، ثم أردنا أن نعاقبه فلا نجلده مائة جلدة؛ لأننا إذا جلدناه مائة جلدة بلغنا الحد، وهذا الفعل أقل مما يوجب الحد، فلا نعزِّره بتعزير يبلغ الحد؛ لأنه يلزم من ذلك أن يكون عملنا أحكم من عمل الشرع.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يجوز أن نبلغ المقدر، أو أكثر في هذه المسألة، قال: لأن ما ورد به الشرع لا يمكننا مجاوزته لورود الشرع به، وما لم يقدره الشرع فقد جعل تقديره إلينا، وإذا جعل تقديره إلينا، فالواجب أن نتبع ما حصل فيه من نقص، فالشرع لمَّا سكت عنه فمعناه أنه يريد أن يكون الأمر إلينا، ونحن نقدر الأمر وننظر فيه.
ولكن المشهور من المذهب أنه إذا كانت في موضع له مقدر فلا يبلغ بها المقدر.
(14/170)
بَابُ العَاقِلَةِ وَمَا تَحْمِلُ
هذا الباب يشتمل على موضوعين: الموضوع الأول العاقلة، والموضوع الثاني ما تحمله العاقلة.
العاقلة: اسم فاعل على الأصل من العقل، وليس مصدراً بمعنى اسم الفاعل؛ لأننا لا نلجأ إلى جعل اسم الفاعل بمعنى المصدر، إلا إذا لم يصح أن يكون اسم فاعل، مثل العاقبة، والعافية وما أشبههما.
وهل العقل مأخوذ من الدية؛ لأنهم يؤدونها عن قريبهم؟ أو من العقل وهو المنع؛ لأن العاقلة يمنعون قريبهم من أن يعتدى عليه، أو أن يذهب مذهباً يسيء إلى سمعتهم؟
الجواب: أنه شامل للجميع؛ لأن هذه المعاني لا تتناقض.
عَاقِلَةُ الإِنْسَانِ عَصَبَاتُهُ كُلُّهُمْ مِنَ النَّسَبِ وَالوَلاَءِ، قَرِيبُهُمْ وَبَعِيدُهُمْ حَاضِرُهُمْ وَغَائِبُهُمْ، حَتَّى عَمُودَيْ نَسَبِهِ،...
قوله: «عاقلة الإنسان عصباته كلهم من النسب» عصباته من النسب كل ذكر لم يدلِ بأنثى، فخرج به الزوج فليس منهم؛ لأنه ليس بعاصب، والأخ من الأم كذلك ليس منهم؛ لأنه مدلٍ بأم، وأيضاً ليس بعاصب، ودخل فيه الإخوة، والأعمام، وأبناء الإخوة، وأبناء الأعمام، وما أشبه ذلك.
قوله: «والولاء» العصبات من الولاء كالمعتِق، وأبناء المعتِق، وآباء المعتِق، وإخوة المعتِق؛ لأن الولاء كما جاء في
(14/171)
الحديث «لُحمة كلُحمة النسب» (1) ، يورث به.
فلو فرض أن عبداً أُعتق، وجنى خطأ، وليس له أقارب من النسب، فالذي يحمل عقله سيده إن كان موجوداً، أو عصباته.
قوله: «قريبهم وبعيدهم» يحتمل أن المعنى أن القريب والبعيد يشتركون في العقل، ولا نظر إلى الحجب.
ويحتمل أن المعنى أن العصبات وإن بعدوا فإنهم من العاقلة، وتحميلهم على حسب إرثهم.
ولكن المعنى الأول هو المراد، وهو أن قريبهم وبعيدهم كلهم عاقلة، يعقلون ويؤدُّون، ولكن لا يحمّل البعيد إذا أمكن تحميل القريب، وهذا هو الفرق بينه وبين الإرث؛ لأن الإرث لا يرث البعيد مع القريب، ولكن هذا لا يحمَّل إذا أمكن تحميل القريب، فإن لم يمكن حُمِّل، كما لو كان له أعمام فقراء، وأبناء عم أغنياء، فأبناء العم لا يرثون، ولكن يحمَّلون مع العاقلة؛ لأنهم عصبة من حيث الجملة.
قوله: «حاضرهم وغائبهم» أي: حتى الغائب يراسل ويطلب منه أن يؤدي ما حمِّل من الدية، وإلا لكان كلٌّ يغيب ويدع الحمل.
قوله: «حتى عمودي نسبه» الصواب «عمودا» لأنها معطوفة
__________
(1) أخرجه الشافعي في «المسند» (237)، وابن حبان (4950) إحسان، والحاكم (4/341)، والبيهقي (10/292) عن
ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وله شواهد تقويه، وقد صححه ابن التركماني في «الجوهر النقي» (10/292)، والحافظ
في «التلخيص» (2151)، والألباني في «الإرواء» (5/109).
(14/172)
على «عصباته» وهي خبر مبتدأ، وليست «حتى» هنا غائية حتى تكون جارَّة، بل هي عاطفة، ولا تصلح أن تكون غائية؛ لأن ما بعدها ليس غاية لما قبلها، أو يقدر لها عامل مناسب، والتقدير: حتى من عمودي نسبه، فتكون منصوبة بنزع الخافض.
وعمودا نسبه من ينتسبون إليه، أو يُنسب إليهم، فالذين ينتسبون إليه: فروعه، والذين ينتسب إليهم: أصوله.
وإنما نصَّ المؤلف على عمودي النسب مع دخولهم في عموم قوله: «عصباته كلهم» ؛ لأن في المسألة خلافاً، وأهل العلم لا ينصُّون على شيء داخلٍ في عموم إلا لوجود خلافٍ، أو لرفع توهُّمٍ، أو ما أشبه ذلك، فلا بد أن يكون له فائدة، وهنا الفائدة الإشارة إلى الخلاف.
فالقول الثاني: أن عمودي النسب لا عقل عليهم، وإنما العقل على الكلالة ـ أي: الحواشي ـ من الإخوة والأعمام ومن تفرع منهم.
والقول الثالث: أن الفرع لا عقل عليه، بخلاف الأصل
والقول الرابع: أن الأصول والفروع يعقلون، إلا أن الفرع لا عقل عليه إن كان من قبيلة أخرى، مثل أبناء المرأة، فإذا كانت المرأة من آل فلان، وتزوجها رجل من آل فلان، صار أبناؤها من غير قبيلتها، فذهب بعض أهل العلم إلى أنهم لا يؤدُّون شيئاً من العقل؛ لأن العقل مبني على النصرة، والدفاع، والحماية، ومن كان من قبيلة أخرى فليس من أهل النصرة، والدفاع، والحماية.
والمشهور من المذهب: أن عمودي النسب يعقلون؛ وذلك
(14/173)
أنه كما أنهم غانمون بالإرث، فهم غارمون بالعقل.
وكيف نجعلهم غانمين ونورِّثهم، ثم لا يساعدون مورِّثهم إذا دعت الحاجة إلى ذلك بالعقل؟!
إذاً فالأقوال في عمودي النسب أربعة:
القول الأول: أنهم كغيرهم من العصبات.
القول الثاني: أنهم لا يعقلون مطلقاً.
القول الثالث: أنه يعقل الأصول دون الفروع.
القول الرابع: أنه يعقل الأصول والفروع، إلا من كان من الفروع من غير القبيلة، مثل أبناء المرأة إذا كانوا من غير قبيلتها.
والصحيح العموم؛ لأن أولادها وإن كانوا من غير قبيلتها فقد وجب عليهم نصرها.
فإذا قال قائل: العاقلة ماذا عليهم؟
الجواب: عليهم أن يؤدُّوا الدية عن القاتل، وهذا بالنص والإجماع في الخطأ، واختلف العلماء في شبه العمد والصحيح أنه كالخطأ، أي: أن العاقلة تحمله.
وَلاَ عَقْلَ عَلَى رَقِيقٍ وَغَيْرِ مُكَلَّفٍ، وَلاَ فَقِيرٍ، وَلاَ أُنْثَى، وَلاَ مُخَالِفٍ لِدِينِ الْجَانِي، وَلاَ تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْداً مَحْضاً، وَلاَ عَبْداً، وَلاَ صُلْحاً، وَلاَ اعْتِرَافاً لَمْ تُصَدِّقْهُ بِهِ، وَلاَ مَا دُونَ ثُلُثِ الدِّيَةِ التَّامَّةِ.
قوله: «ولا عقل على رقيق» يعني لو كان للجاني قريب رقيق فإنه لا عقل عليه؛ لوجهين:
الأول: أنه ليس من أهل النصرة في العادة؛ لأنه مملوك.
الثاني: أنه لا مال له؛ لأن مال المملوك لسيده، والدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من باع عبداً وله مال فماله للذي باعه، إلاّ أن
(14/174)
يشترط المبتاع» (1) فجعل المال للذي باع.
فيؤخذ من قول المؤلف: «ولا عقل على رقيق» أنه يشترط لتحميل العاقلة أن يكون العاقل حراً.
قوله: «وغير مكلف» أي: لا عقل على غير مكلف، وغير المكلف الصغير والمجنون؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» (2) ، فلا يُحمّل الصغير ولو كان عنده مال كثير، ولا يحمَّل المجنون ولو كان عنده مال كثير؛ لأنهما ليسا من أهل النصرة غالباً، ويؤخذ من هذا الشرط الثاني وهو التكليف.
قوله: «ولا فقير» هذه الكلمة مأخوذة من الفقر وهو الخلو؛ وهو موافق للقفر أي: المكان الخالي، وهذا يسمى الاشتقاق الأصغر، يعني أن الكلمتين تتوافقان في الحروف، وتختلفان في الترتيب.
فالفقير وهو الذي لا يجد شيئاً، ولو كان قريباً من الجاني لا يحمَّل شيئاً؛ لأنه ليس عنده مال، ولا يقال: إنه يجب في ذمته حتى يغنيه الله؛ لأن المسألة مبنية على النصرة والحماية، ومن كان فقيراً مُعدماً كيف نلزمه بالمال؟!
__________
(1) أخرجه البخاري في المساقاة باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط (2379)، ومسلم في البيوع باب من باع
نخلاً عليها تمر (1543) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) سبق تخريجه ص(21).
(14/175)
ويؤخذ منه الشرط الثالث وهو أن يكون غنياً.
وما هو الفقر المانع، وما هو الغِنَى؟
يجب أن نعرف أنَّ الفقر في كل موضع بحسبه، فمثلاً في باب إيجاب الزكاة الغَنِيُّ من يملك نصاباً، وفي باب إعطاء الزكاة الغني مَنْ عنده قوته وقوت عائلته لمدة سنة.
وفي باب النفقات الفقير من يعجز عن التكسب، وليس عنده مال.
وفي هذا الباب يقول في الروض في تعريف الفقير (1) : «لا يملك نصاب زكاة عند حلول الحول فاضلاً عنه».
ومعنى هذا أن الفقير هو الذي لا يملك نصاباً عند وجوب دفع الدية، فاضلاً عن كفايته وكفاية عياله.
قوله: «ولا أنثى» أي: لا يجب العقل على أنثى، ولو كانت عاصبة، فلو وُجد أنثى عندها مال كثير جداً، وقَتَل أخوها رجلاً خطأ، فلا نحملها من الدية، حتى لو كانت أمه أو ابنته أو أخته؛ لأن الأنثى ليست من أهل النصرة، ويؤخذ من هذا الشرط الرابع وهو أن يكون العاقل ذكراً.
قوله: «ولا مخالفٍ لدين الجاني» بأن يكون الجاني مسلماً والآخر كافراً، أو العكس؛ لأنه ليس من أهل النصرة؛ لأن الفصل بين المسلم والكافر ـ ولو كان أقرب قريب ـ ثابت شرعاً وعقلاً، قال تعالى لنوح لمَّا قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} قال الله
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/282).
(14/176)
له: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 45، 46] .
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» (1) ، وإذا انقطع التوارث انقطع التعاون والتناصر، فلا يحمل المخالف في الدين شيئاً من العقل، ويؤخذ من هذا الشرط الخامس وهو اتفاق الدين.
وظاهر كلام المؤلف حتى في الولاء، خلافاً لما قالوه في باب الفرائض حيث قالوا: إن اختلاف الدين لا يمنع التوارث في الولاء، والصواب أن اختلاف الدين يمنع التوارث حتى في الولاء.
قوله: «ولا تَحْمِل العاقلة عمداً محضاً» هذا هو الشرط السادس، وهو أن تكون الجناية خطأ، أو شبه عمد.
فبقوله: «عمداً» خرج الخطأ.
وبقوله: «محضاً» خرج شبه العمد.
والدليل على ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل الدية في المرأتين اللتين اقتتلتا من هذيل على العاقلة، وهذا في شبه العمد، وفيه خلاف، والصحيح أنها تحمله، وأما الخطأ فبإجماع العلماء أن العاقلة تحمله.
فإن قلت: لماذا نحمل العاقلة الدية مع أن الجاني غيرها؟
فالجواب على ذلك من وجهين:
__________
(1) أخرجه البخاري في الفرائض باب لا يرث المسلم الكافر... (6764)، ومسلم في الفرائض باب لا يرث المسلم
الكافر... (1614) عن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ.
(14/177)
الأول: أن هذا حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيجب علينا الاستسلام له؛ لأن حقيقة الإسلام لا تتم إلا بالاستسلام لما حكم به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، قال الله ـ عزّ وجل ـ: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء:65] .
فإن قال قائل: سلَّمنا لأمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولكن كيف نجيب عن قول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18]
والجواب: أن هذا في الذنوب والآثام، وأما في النصرة والمساعدة والمعاونة فذاك شيء آخر، فإيجاب الدية على العاقلة من باب النصرة والمعاونة، كما أوجبنا على الغني الإنفاق على قريبه الفقير.
وقال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } [النجم:39] ، وقد أجمع العلماء على أنَّ الرَّجل لو وهب لإنسان شيئاً من ماله الذي حصله بكسبه وكدِّه فذلك جائز، وهو ليس من سعي المُعطى، فدل ذلك على أن المراد بالآية أنه ليس للإنسان من الثواب، إلا ثواب ما سعى وما عمل.
الثاني: أن الخطأ يقع كثيراً من الإنسان، ولو حمّلناه كل خطأ يقع منه لاستنفدنا ماله، فكان من الحكمة أن يُناصر ويعاون.
فإن قلت: هذه الحكمة موجودة في عهد الصحابة، وفي زمن مضى، لكن لها عاقبة سلبية في وقتنا الحاضر، وهو أن الإنسان إذا علم أن عاقلته سوف تحمل الدية عنه صار يتهور، ولا
(14/178)
يبالي، أقتل نفساً أم لم يقتل، فما الجواب عن هذا؟
الجواب: أن الواجب أن نتمشى على الشرع، والذي يظهر منه أمارة التهوُّر وعدم المبالاة فإنه يُعزر بما يراه الإمام، فقد يكون تعزيره ـ مثلاً ـ بسحب رخصته، أو سيارته.
مسألة: إذا لم يكن للجاني عاقلة تحمل لكونهم إناثاً، أو فقراء، أو ما أشبه ذلك فعلى من تجب الدية؟
قالوا: على بيت المال، وإن كان غير مسلم ففي مال الجاني.
قال العلماء: وإذا تعذر بيت المال سقطت الدية.
والصحيح أنه إذا لم يكن له عاقلة فعليه، فإن لم يكن هو واجداً أخذنا من بيت المال؛ وذلك لأن الأصل أن الجناية على الجاني، وحُمِّلَت العاقلة من باب المعاونة والمساعدة.
قوله: «ولا عبداً» فلو أن شخصاً قتل عبداً خطأً، أو شبه عمد فإن العاقلة لا تحمله؛ لأن ضمان العبد يجري مجرى ضمان الأموال، ودية العبد قيمته بالغة ما بلغت، وإذا كان كذلك فإن ضمانه يكون على القاتل، كما لو قتل الإنسان بهيمة، وكما لو رمى شخص صيداً فأصاب بعيراً فإن ضمانها على القاتل، فكذلك العبد.
وقال بعض العلماء: إن دية العبد مضمونة على العاقلة؛ لأنه إنسان، ولأنه تجب الكفارة في قتله، فإذا وجبت الكفارة وجبت الدية، وإذا وجبت الدية فهي على العاقلة.
ولكن القول الأول أصح؛ لأنه لا يلزم من وجوب الكفارة أن تكون الدية على العاقلة.
(14/179)
إذاً يضاف شرط إلى الشروط السابقة، وهو ألاّ يكون ضمان المقتول جارياً مجرى الأموال كالعبد، فإذا كان جارياً مجرى الأموال فإن العاقلة لا تحمله.
قوله: «ولا صُلحاً» أي: لا تحمل العاقلة صلحاً؛ أي: صلحاً عن دعوى قتل أنكره المدعى عليه.
مثاله: ادعى جماعة على شخص أنه قتل مورثهم، وهو لم يقتله، فقالوا: إما أن تسلم الدية، وإما أن نشكوك، فصالحهم عن هذه الدعوى بمبلغ من المال، فهل تحمل العاقلة هذا الصلح؟
الجواب: لا؛ لأنه لم يثبت لا ببينة، ولا باعتراف الذي ادُّعِيَ عليه القتل، وإنما هو صلح عن دعوى لا دخل للعاقلة بها.
فإن قيل: إن هذا قد صالح؟ قلنا: هذا الرجل صالح عن دعوى عليه، وبإمكانه أن يُصرَّ على الإنكار، ثم يحاكم إلى القاضي، وإذا حوكم إلى القاضي تبين الحق.
قوله: «ولا اعترافاً» أي: لا تحمل العاقلة اعترافاً من المدعى عليه.
قوله: «لم تصدقه به» أي: بهذا الاعتراف.
مثاله: أن يُدَّعى على شخص أنه قاتِل، فيعترف بأنه هو القاتل، ولكن العاقلة قالوا: لا نصدِّق، فهل نلزمهم؟
الجواب: لا نلزمهم؛ لأنه ما ثبت ببينة، والدية تكون على الجاني الذي أقر، وعلى هذا فلا يلزم العاقلة ما لم تصدق به أو يثبت ببينة.
ولأننا لو ألزمنا العاقلة بذلك لفتحنا باباً لأهل الحيل،
(14/180)
فيتفقون مع شخص على أنهم هم الجناة، ويحملون العاقلة الدية، وتكون الدية بينهم أنصافاً.
فإن قال قائل: هل الأولى للعاقلة أن تصدق، أو الأولى أن تُنكر؟ وهل إنكارها مقبول؟
الجواب: أنه يجب أن تنظر العاقلة إلى القرائن، فإن دلَّت القرائن على صدق المقر وجب عليها أن تصدق؛ لتبرئ ذمتها مما يجب عليها، وإن لم يغلب على ظنها صدقه فلها أن تنكر.
وإذا اعترف ولم تصدقه العاقلة ثبتت الدية عليه، وعليه الكفارة، ولكن بينه وبين الله، إن كان صادقاً في اعترافه وأنه هو القاتل لزمته، وإلا فلا.
قوله: «ولا ما دون ثلث الدية التامة» أي: لا تحمل العاقلة ما دون ثلث الدية التامة، وهي دية الحر الذكر المسلم، وهي مائة بعير.
فلو أن رجلاً قطع ثلاث أصابع من ذكر مسلم حر خطأ، فلا تحمل العاقلة الدية، وإذا قطع أربعة حملته العاقلة؛ لأن الأربعة فيها أربعون وهي فوق الثلث.
والمأمومة الجائفة فيها ثلث الدية فتحملها العاقلة، وأما الموضحة والهاشمة والمنقلة فلا تحملهما العاقلة؛ لأن ديتها دون الثلث، والدليل أن ذلك هو المروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه (1) ـ ولا ريب أن عمر ـ رضي الله عنه ـ
__________
(1) أخرجه ابن حزم في المحلى معلقاً من طريق ابن وهب (11/51).
وانظر: المصنف لابن أبي شيبة (6/408).
وقال عبد الرزاق عن ابن جريج ومعمر عن عبيد الله بن عمر قال: إنهم مجتمعون، أو قال: كدنا أن نجتمع أن ما دون
الثلث في ماله خاصة. المصنف (9/410).
(14/181)
أحد الخلفاء الذين أمرنا باتباعهم، وهذا في الغالب لا يصدر عن اجتهاد، فقد يكون فيها نص حكم به ـ رضي الله عنه ـ ولم يروِهِ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وأما التعليل فلأن ما دون الثلث قليل لا يشق على الجاني أن يقوم به، ولا يحتاج أن يحمَّل غيره إياه للمواساة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الثلث والثلث كثير» (1) ، وعلى هذا فما دون الثلث لا تحمله، والثلث فما فوق تحمله.
مسألة: لو أن مسلماً قتل مجوسياً فهل تحمل العاقلة الدية؟
الجواب: لا تحملها العاقلة؛ لأنها أقل من ثلث الدية؛ لأن ديته ثمانمائة درهم.
وقال بعض العلماء: إن العاقلة تحملها؛ لأنها دية كاملة، ولكن المشهور من المذهب أنها لا تحملها؛ لأنها قليلة، ولا تحتاج إلى المساعدة والمساندة.
* * *
__________
(1) أخرجه البخاري في الوصايا باب الوصية بالثلث (2744)، ومسلم في الوصية باب الوصية بالثلث (1628) عن
سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ.
(14/182)
فَصْلٌ
مَنْ قَتَلَ نَفْساً مُحَرَّمَةً خَطَأً مُبَاشَرَةً، أَوْ تَسَبُّباً بِغَيْرِ حَقٍّ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
هذا الفصل في كفارة القتل، واعلم أن كفارة القتل من الكفارات المغلظة، ويشاركها في ذلك نوعان من الجريمة وهما: الظهار، والوطء في نهار رمضان لمن يلزمه الصوم، إلا أن هاتين الجريمتين تخالف كفارتهما كفارة القتل بأن فيهما إطعاماً، وليس في كفارة القتل إطعام.
ودليل ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا *} [النساء:92] .
قوله: «من قتل نفساً محرمة خطأ مباشرة، أو تسبباً بغير حق فعليه الكفارة» .
قوله: «من» اسم شرط، وأسماء الشرط للعموم، فيشمل كل قاتل، حتى الصغير، والمجنون، والحر، والعبد، والذكر، والأنثى.
أما إذا كان بالغاً عاقلاً فلا ريب أن الكفارة تلزمه؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ...} إلخ.
وإما إذا كان غير بالغ ولا عاقل فإن في المسألة خلافاً بين أهل العلم.
(14/183)
فذهب أبو حنيفة وجماعة من العلماء: إلى أنه لا كفارة على الصغير والمجنون، قالوا: لأن الكفارة حق لله، وليست حقاً مالياً محضاً؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رفع القلم عن ثلاثة» (1) ومنهم الصغير والمجنون، فلا تلزمهما الكفارة؛ لأنهما ليسا من أهل التكليف.
وهل النائم مثل الصغير والمجنون؟ بمعنى أنه لو نامت امرأة على طفلها، ولم تشعر به فمات، فهل عليها كفارة؟
الجواب: نعم، عليها الكفارة، وإن كانت مرفوعاً عنها القلم؛ لأنها من أهل التكليف، والنوم مانع، وليس فوات شرط، بخلاف الصغير والمجنون فإن الصفة فيهما فوات شرط، وأما الصفة في النائمة فهي وجود مانع، وإلا فهي من أهل التكليف.
وما ذهب إليه أبو حنيفة أقرب إلى الصواب مما ذهب إليه جمهور أهل العلم، وإن كان قولهم له حظ من النظر؛ لأنهم يقولون: إن الله أوجب الكفارة في الخطأ فدل ذلك على عدم اشتراط القصد، وإنما يشترط التكليف في العبادات من أجل القصد الصحيح، والصغير والمجنون لا قصد لهما فلا تجب عليهما العبادات، ووجوب الكفارة في القتل ليس من شرطها القصد بدليل وجوبها على المخطئ.
وهذا القول وجيه جداً، ولكن يُقال: إن أصل التكليف ليس بلازم لمن ليس بمكلف، وهذا التعليل عندي أقوى من تعليل الجمهور.
__________
(1) سبق تخريجه ص(21).
(14/184)
وهل نقول: من لزمته دية إنسان وجبت عليه كفارته؟
والجواب: نقول كما قال المؤلف: «من قتل» لأن الدية قد تجب بدون قتل، ففي ذهاب السمع دية كاملة، وكذلك البصر، فالتعبير بالقتل لا بد منه، ودليله القرآن قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً}.
وقوله: «نفساً» هذه نكرة في سياق الشرط فتكون عامة، لكنها خصصت بأوصاف تمنع القول بالعموم.
وقوله: «من قتل نفساً» هذا يشمل حتى لو قتل نفسه، فلو أن شخصاً كان يعبث بسلاح ثم ثار به وقتله فإنّ عليه الكفارة، وليس عليه الدية، لعموم قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً} وهو مؤمن ويسمَّى قاتلاً؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قتل نفسه بحديدة عذب بها» (1) فهو قاتل لنفس مؤمنة فيلزمه الكفارة، وهذا هو المشهور من المذهب، وجزموا به، وقالوا: إنه يجب أن تؤدَّى الكفارة مِنْ تَرِكَتِه، لعموم الآية.
والقول الثاني: أن الكفارة لا تجب على من قتل نفسه، واستدلوا بقصة عامر بن الأكوع ـ رضي الله عنه ـ في غزوة خيبر حين تقدم عامر ليبارز مَرْحَبا اليهودي، فلما أراد عامر أن يطعنه من الأسفل، كان سيفه قصيراً فعاد السيف وضرب عين ركبة عامر فنزف الدم ومات، فلما مات شك الناس فيه، وقالوا: بطل أجر عامر، حتى إن بعضهم توقف عن الدعاء له، قال سلمة بن
__________
(1) أخرجه البخاري في الجنائز باب ما جاء في قاتل النفس (1363)، ومسلم في الإيمان باب غلظ قتل الإنسان نفسه
... (110) عن ثابت بن الضحاك ـ رضي الله عنه ـ.
(14/185)
الأكوع ـ رضي الله عنه ـ: فبينما أنا مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجدني ساكتاً، شاحباً ـ كأنه مغموم ـ فقال له: ما لَكَ؟ قال: قلت: يا رسول الله، إنهم يقولون: بطل أجر عامر، قتل نفسه! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كذب من قاله، إن له الأجر مرتين، إنه لجَاهِدٌ مجاهد، قلَّ عربي مشى بها مثله» (1) .
فالرسول صلّى الله عليه وسلّم ذكر في هذا الحديث ثلاثة أمور:
أولاً: كذب من قال: إنه بطل أجره، قال العلماء: والكذب هنا بمعنى الخطأ؛ لأن قولهم لم يطابق الواقع؛ لأنهم لم يخبروا عن شيء حدث، إنما قالوا شيئاً ظنُّوه، فكلامهم هذا إنشاء وليس خبراً، وهذا أحد المواضع التي يستشهد بها على أن الكذب يأتي بمعنى الخطأ.
ثانياً: قوله: «إنه لجاهد مجاهد» قيل: إن الكلمتين من باب التوكيد، كما يقال: شعرٌ شاعر، أي: شعر جيد جداً، وجاهد مجاهد، يعني أنه جاهد جداً.
وقيل: بل معنى «الجاهد» الجاد في الأمور، و«المجاهد» أي في سبيل الله، وهذا التفسير أحسن؛ لأنه إذا دار الأمر بين كون الكلام تأسيساً أو توكيداً حُمِلَ على أنه تأسيس؛ لأننا إذا حملناه على التوكيد ألغينا مدلول الكلمتين، وإذا حملناه على التأسيس عملنا بمدلول الكلمتين، ويكون النبي صلّى الله عليه وسلّم أثنى عليه من جهتين: من جهة العمل والجد فيه، ومن جهة الإخلاص.
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة خيبر (4196)، ومسلم في المغازي باب غزوة خيبر (1802) عن سلمة
بن الأكوع ـ رضي الله عنه ـ.
(14/186)
ثالثاً: قوله: «له الأجر مرتين» ، لأن الرجل بارز، وهذا أجر، وقتل نفسه في سبيل الله، وهذا أجر آخر.
ودعا له الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولم يقل: إن عليه الكفارة، ولو كانت الكفارة واجبة عليه لبيَّنها النبي صلّى الله عليه وسلّم لدعاء الحاجة إلى بيانها.
ثم إنك إذا قرأت الآية ظهر لك أنَّ المراد غير قاتل نفسه؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا}، ولا تجتمع الدية مع الكفارة إلا فيما إذا كان المقتول غير نفسه، أما إذا قتل نفسه فإنه لا تجب الدية بالاتفاق، فسياق الآية يدل على أن المراد من قتل غيره، وهذا القول أرجح، لكن ليس من جهة الآية؛ لأن الآية قد ينازع فيها منازع، ولكن من جهة قصة عامر بن الأكوع ـ رضي الله عنه ـ.
وقوله: «محرمة» أي: محرَّم قتلها، وهي المعصومة، والمعصوم أربعة أصناف من الناس المسلم، والذمي، والمعاهد، والمستأمن، فلو قتل حربياً فليس بمضمون لا بِكفارة ولا دِية؛ لأنه غير معصوم.
وقوله: «بغير حق» احترازاً مما إذا قتلها بحق.
وقوله: «مباشرة أو تسبباً» أي: أن يقتلها بمباشرة أو تسبب، فالمباشرة أن يباشر القتل هو بنفسه، مثل ما إذا أراد أن يرمي صيداً فأصاب إنساناً، أو ضربه بعصا صغيرة فمات.
والتسبب مثل أن يحفر بئراً في محل، لا يجوز له حفره
(14/187)
فيه، فيسقط فيه إنسان، فهو لم يباشر القتل، ولكنه فعل ما يكون سبباً في القتل، فعليه الكفارة؛ لأن المتسبب كالمباشر في الضمان، فلزم أن يكون كالمباشر في وجوب الكفارة، وهذا هو القول الراجح.
وذهب بعض أهل العلم: إلى أنَّ المتسبب لا كفارة عليه، وأن الكفارة إنما هي على المباشر؛ لأن المتسبب لا يسمى قاتلاً، ولكن الصحيح أن المتسبب كالمباشر، فكل من تسبب بقتل شخص فعليه الكفارة.
قال في الروض (1) : «أو شارك في قتلها» إذا شارك في القتل فعليه الكفارة، وعليه وعلى شريكه دية واحدة، فالدية واحدة والكفارة متعددة.
فإذا اشترك اثنان في قتل شخص فعليهما دية واحدة، وعلى كل واحد منهما كفارة، وهذا كثير، يصطدم اثنان بسيارتيهما وكلاهما مخطئ، ويموت رجل بينهما، فعليهما دية واحدة وكفارتان، ولو مات شخصان فعليهما ديتان وأربع كفارات، فإذا قال أحدهما: لماذا لا أكفر أنا عن شخص، والآخر يكفر عن الشخص الثاني؟ قلنا: لا؛ لأن الكفارة لا تتبعض، وكل واحد منكما شارك في قتل كل واحد منهما.
وإذا كان التعليل أن الكفارة لا تتبعض، فإنه يقال: إذا كان التكفير بالعتق فيمكن تبعضه، بأن يشتركا في شراء رقبة ويعتقاها،
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/289).
(14/188)
وهذا ممكن، ولكنه في نظر من قال: إن الكفارة لا تتبعض يقول: هذا غير ممكن؛ لأن حقيقة الأمر أن كل واحد منهما أعتق نصف رقبة فقط، وكل واحد منهما قاتِل بالمشاركة.
فالمذهب: أنه إذا شارك ولو في جزء واحد من مائة جزء فعليه كفارة، ولهذا لو اجتمع مائة على قتل شخص فعليهم مائة كفارة، على كل واحد كفارة.
وهناك وجه آخر لأصحاب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ أنهم يشتركون في الكفارة.
وهذا القول في الحقيقة بالنسبة للعتق قد يقال: إنه ممكن، ولكن بالنسبة للصيام فغير ممكن؛ لأنه إذا صام شهراً، والآخر شهراً، لم يكن كل واحد منهما صام شهرين كفارة القتل.
وأما العتق فقد يقول قائل: إن مبناه على التحرير، ويعتمد على المال أكثر، بخلاف الصوم فهو عبادة بدنية محضة.
وعلى كل حال الاحتياط هو المذهب في هذه المسألة، وأنه يلزم كل واحد كفارة، ولو كثر المشتركون.
والكفارة عتق رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، ودليلها قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا *} [النساء:92] .
(14/189)
ذكر الله في الآية ثلاثة أصناف: مؤمن، ومعاهَد، ومِنْ قوم عدو لنا وهو مؤمن، فالمؤمن قال الله فيه: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}، فيجب فيه أمران: تحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله.
والثاني: مؤمن من قوم عدوٍّ لنا، فيه الكفارة دون الدية.
لكن مَنْ هذا الرجل الذي مِنْ قوم عدو لنا، وهو مؤمن؟
قال بعض العلماء صورة ذلك: أن يقف رجُل من المؤمنين في صف الكفار فنقتله، ففي هذه الحال لا تجب له دية؛ لأنه هو الذي فرَّط في نفسه، ولكن علينا الكفارة.
وقال بعض العلماء: صورته أن يكون الرجل مؤمناً، لكن ورثته كفار، وهذا هو الصحيح وهو المتعين، فهو رجل مؤمن وورثته كفار أعداء لنا، فهذا يجب فيه الكفارة؛ لأنه مؤمن، ولا تجب الدية؛ لأننا إذا دفعناها لأهله صاروا يستعينون بها على قتال المسلمين، فلا ندفعها إليهم.
والثالث: من ذكره الله في قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} أي: إذا كان المقتول كافراً معَاهَداً، ففيه الدية والكفارة، وهذا موجودٌ في عهدنا، فهؤلاء العمال الكفار لو أن أحداً قتل أحدهم خطأ، وجب فيه الدية والكفارة.
مسألة: هل في قتل العمد كفارة؟
قال بعض العلماء: في العمد كفارة؛ لأنه إذا وجبت الكفارة في الخطأ فالعمد من باب أولى؛ لأن العمد أشد إثماً،
(14/190)
فإذا أوجب الله ـ عزّ وجل ـ الكفارة في الخطأ، فهو إشارة وإيماءٌ إلى وجوب الكفارة في العمد.
وقال بعض العلماء: إنه لا كفارة في العمد، واستدلوا بأن الله تعالى شرط لوجوب الكفارة أن يكون خطأ فقال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً} ثم أتى بعد ذلك بقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] فلم يجعل له شيئاً يقيه من النار.
وقالوا أيضاً: إن العمد أعظم جرماً من أن تدخله الكفارة، وليس فيه إلا هذا الوعيد الشديد، وهذا القول أصح.
(14/191)
بَابُ الْقَسَامَةِ
وَهِيَ أَيْمَانٌ مُكَرَّرَةٌ فِي دَعْوَى قَتْلِ مَعْصُومٍ. مِنْ شَرْطِهَا اللَّوْثُ،....
قوله: «القسامة» : مأخوذة من القسم وهو اليمين.
وأصل القسامة أن عبد الله بن سهل بن زيد الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ خرج هو ومُحَيِّصة بن مسعود بن زيد الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ في جماعة إلى خيبر بعد أن فتحت، يمتارون ـ أي: يشترون ـ التمر، فتفرقوا وكلٌّ ذهب إلى حائط ونخل، فوجد محيصةُ عبدَ الله بن سهل يتشحَّط في دمه قتيلاً، فقال لليهود: قتلتم صاحبنا، فقالوا: ما قتلناه، فرفع الأمر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أتحلفون خمسين يميناً وتستحقون دم صاحبكم؟
وفي رواية: تحلفون على رجل منهم أنه قتله، فقالوا: يا رسول الله كيف نحلف ونحن لم نر ولم نشهد؟! فأخبرهم أن اليهود يحلفون خمسين يميناً، فقالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فوداه النبي صلّى الله عليه وسلّم من عنده (1) ، وهذا دليل على أنهم لو حلفوا لملكوا قتله.
وقد كانت القسامة معروفة في الجاهلية، فأقرها النبي صلّى الله عليه وسلّم على ما كانت عليه في الجاهلية (2) ، وهذا دليل على أن
__________
(1) أخرجه البخاري في الجزية والموادعة باب إذا قالوا: صبأنا... (3173)، ومسلم في القسامة والمحاربين والقصاص
والديات باب القسامة (1669) عن سهل بن أبي حثمة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه مسلم في الحدود باب القسامة (1670) عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(14/192)
المعاملات التي عند الكفار إذا كانت موافقة للشرع فإنه يؤخذ بها، كما أن المضاربة في الأموال كانت معروفة في الجاهلية وأقرها الإسلام.
قوله: «وهي أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم» صفة القسامة أن يدعي قومٌ أن مورِّثَهم قتله فلان، ويحلفون على أنه هو القاتل، ويكررون الأيمان، فإذا فعلوا ذلك وتمت شروط القسامة أُعطي المدَّعَى عليه لهؤلاء يقتلونه، فليس فيها بيِّنة، وإنما فيها هذه الأيمان فقط.
ويظهر تعريفها بالمثال:
ادعى ورثة زيد على شخص بأنه هو الذي قتل مورثهم، فقال الشخص: لم أقتله، وقالوا: بل أنت القاتل، ثم تحاكموا إلى القاضي، فقال لهم: أتحلفون على هذا أنّه قتل مُورِّثكم؟ قالوا: نعم، نحلف، فإذا حلفوا خمسين يميناً على هذا الرجل أنه قاتل مورثهم، أُخذ وقتل.
والقسامة في الحقيقة فيها مخالفة لغيرها من الدعاوِي من وجوه ثلاثة:
الأول: قبول قول المدَّعِي فيها وجعل اليمين في جانبه.
الثاني: تكرار الأيمان فيها.
الثالث: حَلِفُ المدَّعِي على شيء لم يره، ومع ذلك فإنها حكم شرعي.
أما الوجه الأول وهو أنه أخذ فيه بقول المُدَّعِي وجعل اليمين في جانبه، فإنها لم تخالف الأصول عند التأمل؛ لأنّك
(14/193)
إذا تأملت الأصول وجدت أن اليمين إنما تشرع في الجانب الأقوى، يعني في جانب أقوى المتداعيين، فليست دائماً في جانب المدَّعَى عليه، فأحياناً تكون في جانب المدَّعَى عليه، وأحياناً تكون في جانب المدَّعِي، فينظر للأقوى من الجانبين وتشرع في حقه، بدليل أن أهل العلم قالوا: لو تنازع الرجل والمرأة في أواني البيت، فقالت المرأة: هذه لي، وقال الرجل: هذه لي، فالذي يصلح للرجل يكون له بيمينه، فمثلاً دلة القهوة لو قال الرجل: هي لي، وقالت المرأة: هي لي، فإنه يقبل قول الرجل «المدعي» حتى لو كانت الدلّة في يد المرأة، فنقول للرجل: احلف أنها لك وخذها؛ لأن جانبه أقوى.
مثال آخر: لو أنّ رجلاً ذا وقارٍ وهيئة، وعليه مشلح، وثوب، وغترة، وبيده مسحاة عاملٍ، وإلى جانبه عامل رافع ثوبه متحزِّم، وعليه ثوب غير نظيف، ويظهر من مظهره أنه عامل، ويقول: المسحاة لي، فقال الآخر: بل لي وهي بيدي، فهنا المدعي هو العامل، لكن في هذه الحال نغلب جانب العامل، فنقول له: احلف أنها لك وخذها.
مثال ثالث: لو كان رجلان ببلدٍ من عادتهم أن يستروا رؤوسهم بالشماغ، فوجدنا رجلاً حاسر الرأس ليس عليه شماغ، ورجلاً آخر عليه شماغ، وبيده شماغ، والرجل الحاسر يقول لهذا الذي بيده الشماغ: أعطني شماغي، هذا لي، والرجل الثاني يقول: هذا بيدي فهو لي، وأنت مدعٍ، فهنا الرجل المدعي الذي ليس عليه شيء أقوى جانباً، فنقول له: احلف وخذه.
(14/194)
فتبين أن القسامة ليست شاذة عن أصول الدعاوي؛ لأن في الدعاوي ما يشهد لها، والقسامة فيها قرائن ترجح جانب المدعين، وهو اللَّوْث، أي: العداوة الظاهرة، كما سيأتي في كلام المؤلف.
وأما الوجه الثاني من المخالفة: وهو تكرار الأيمان، وغيرُها من الدعاوي يمين واحد تكفي، فالقسامة إنما تكرر فيها الأيمان لعظم شأن الدماء، حيث إذا أقدم هؤلاء على اليمين وحلفوا خمسين يميناً أُعطوا الرجل وقتلوه، وهذا أبلغ ما يكون من الخطر؛ فمن أجل ذلك كررت بخمسين يميناً.
وأما كونها خمسين يميناً، ولم تجعل عشرة مثلاً، فهذا ليس إلينا، كما أن هذا لا يرِد على أن صلاة الظهر أربع ركعات، ولم تجعل ثماني ركعات مثلاً.
وأما الوجه الثالث: وهو حلف الإنسان على شيء لم يره، فنقول: للإنسان أن يحلف على شيء لم يره اعتماداً على القرائن، وغلبة الظن، والدليل على هذا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقرَّ الرجل الذي جامع زوجته في نهار رمضان، حين قال: «والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني» (1) ، فأقره النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن عنده غلبة ظن، ولم يقل له: لا تحلف، فإنك لا تدري.
وقوله: «في دعوى» فُهِمَ منه أن الذي يحلف هو المدعِي؛
__________
(1) أخرجه البخاري في الصوم باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر (1936)، ومسلم في
الصيام باب تحريم الجماع في شهر رمضان... (1111) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(14/195)
لأنه لم يقل: في رفع دعوى، ولا قال: في قتل، بل قال: في دعوى، ولذلك كانت في جانب المدعي.
وقوله: «في دعوى قتل» أفادنا المؤلف أن القسامة لا تكون في دعوى جَرح، ولا في دعوى مال، وإنما تكون في دعوى قتل فقط، فالمال وما دون القتل ليس فيه قسامة كالجروح والأعضاء وما أشبه ذلك.
فلو أن رجلاً ادعى على عدوِّه أنه قَطَعَ يدَه، والعداوة بينهما ظاهرة بيِّنة، فإنَّنا لا نجري القسامة في ذلك؛ لأن القسامة إنما جاءت في القتل، وأما الأعضاء، والأطراف، والجروح فليس فيها قسامة، ولكننا نقول لهذا المدعي: هل لك بيِّنة؟ أو يُقر المدًّعَى عليه، أو يحلف، وينتهي الأمر.
والدليل على امتناع القسامة في دعوى الأعضاء والجروح تعليل، وهو أن القسامة إنما وردت في دعوى القتل، وهي خارجة عن الأصول والقياس، وما خرج عن الأصول والقياس فلا يقاس عليه، وإنما يقتصر فيه على ما ورد؛ لأنه لا مدخل للعقل فيه، وهذا هو المذهب.
وقال بعض أهل العلم: بل تجرى القسامة في دعوى قطع الأعضاء، والجروح، وعللوا ذلك بأنه لمَّا جرت القسامة في القتل، وهو أعظم من قطع العضو أو الجرح، كان جريانها فيما دون ذلك من باب أولى.
وليست القسامة خارجة عن الأصول، بل الأصول تشهد لها؛ لأننا لو لم نعمل بالقسامة لضاعت الدماء، وهتكت
(14/196)
النفوس، فالأصول تشهد لها؛ لأن لدينا لَوْثاً، وهو القرينة الظاهرة التي تؤيِّد دعوى المدَّعِي، فلا فرق إذاً بين النفس وما دونها.
وقوله: «معصوم» علم منه أن دعوى قتل غير المعصوم لا تُسمع أصلاً، فلو أن أحداً من الكفار الحربيين ادعى أن مورِّثه الحربي قتله المسلمون فلا تسمع الدعوى؛ لأنه وإن ثبت أنهم قاتِلوه فلا شيء عليهم؛ لأنه حربي غير معصوم.
وكذلك لو كان مباح الدم لردَّتِه، أو مباح الدم لزناه وهو محصَن، أو لوجوب قتله في حد قطع الطريق مثلاً، فإن هذا غير معصوم، فلا تسمع الدعوى في قتله؛ لأنه وإن ثبت القتل فهو غير مضمون، فيكون تشكيل الدعوى وسماعها من باب اللغو الذي لا فائدة فيه.
قوله: «من شرطها اللوث» كلمة «من شرطها» قد تشكل على الطالب، فهل المعنى أن اللوث بعض شرط؛ لأن «من» للتبعيض؟
والجواب على هذا: أن «شرط» مفرد مضاف فيفيد العموم، فكأنه قال: من شروطها.
وَهُوَ العَدَاوَةُ الظَّاهِرَةُ، كَالْقَبَائِلِ الَّتِي يَطْلُبُ بَعْضُهَا بَعْضاً بِالثَّأْرِ، فَمَنِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ مِنْ غَيْرِ لَوْثٍ حَلَفَ يَمِيناً وَاحِدَةً وَبَرِئَ،....
وقوله: «اللوث» مصدر لاث يلوث، وبينه المؤلف بقوله:
«وهو العداوة الظاهرة» أي: بين القاتل والمقتول، سواء كانت بين القبائل، أو بين الأفراد، ولكن لا بد أن تكون العداوة ظاهرة؛ بخلاف العداوة الخفية فهذه لا تكون لوثاً، ثم ضرب لذلك مثلاً فقال:
(14/197)
«كالقبائل التي يطلب بعضها بعضاً بالثأر» أي: إذا وُجد قتيل من قبيلة عند قبيلة أخرى معادية لها، فإن هذا يسمى لوثاً.
وقال بعض العلماء: إن اللوث كل ما يغلب على الظن القتل به، أي: بسببه، فكل شيء يَغْلُب على الظن وقوع القتل به فإنه من اللوث، سواء ما كان بين القبائل، أو لو وجدنا قتيلاً وعنده رجل بيده سيف مُلطّخ بالدم، فهذا قرينة ظاهرة على أنه هو القاتل، مع احتمال أنه غيره.
وكذلك لو كان القتيل فيه رمق، وقال: إن قاتله فلان فإنه قرينة تدل على أنه هو القاتل فيؤخذ بذلك، وتجرى القسامة بهذه الصورة؛ لأن لدينا ما يغلب على الظنّ أنه قتله.
ومن الغرائب أن بعض العلماء استدل على هذه الصورة بقصة البقرة، ولكن ليس في القصة دليل، والاستدلال بها بعيد؛ لأن قصة البقرة لما ضربوا القتيل ببعضها، قام وقال: الذي قتلني فلان، فإذا وُجِد آية على هذا النحو لا تجرى فيها القسامة، ولهذا ما أجري فيها قسامة.
وعلى كل حال الرأي الذي يقول: إن اللَّوْث كل ما يَغْلُب على الظن القتل بسببه هو الصحيح، وهو اختيار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ؛ لأن علة القسامة معلومة، وهي غلبة الظن بوقوع القتل، وما دام أنه قد ثبتت غلبة الظن بالقتل فإنه يؤخذ بها.
وأولياء المقتول هل يجوز لهم أن يحلفوا، وهم لم يشهدوا ولم يروا؟
(14/198)
الجواب: إذا غلب على ظنهم ذلك فلهم أن يشهدوا، ولكن يجب عليهم التثبت حتى لا يقعوا في اليمين الغموس؛ لأن اليمين الغموس هي التي يحلف الإنسان وهو فاجر فيها؛ يقتطع بها مال امرئ مسلم، فكيف بمن يقتطع بها نفس امرئ مسلم؟! ولذلك على أولياء المقتول أن يتثبتوا غاية التثبت، حتى إذا كانت القرينة عندهم مثل الشمس حلفوا.
قوله: «فمن ادعي عليه القتلُ من غير لوث حلف يميناً واحدة وبرئ» كسائر الدعاوي، مثاله: رجل ادعى أن فلاناً قتل مورِّثه، وليس هناك لوث، فقال المدعى عليه: ما قتلت، فنقول للمدعي: هل لك بينة؟ فإن قال: نعم، قلنا: أحضرها، وعملنا بما تقتضيه البينة، وإن قال: لا، قلنا للمدعى عليه: احلف مرة واحدة، والله ما قتلت هذا الرجل، ثم يبرأ، فإن أبى المدَّعَى عليه أن يحلف فهل يُحكم عليه، أو لا يُحكم؟
الجواب: إن كان موجَب الجناية المال قُضي عليه بالنكول، وإن كان موجَب الجناية قصاصاً لم يُقْضَ عليه بالنكول.
فإذا قال: إنه قتله عمداً، فالجناية عمداً توجب القصاص، وقال المدعى عليه: لم أقتله، قلنا له: احلف، قال: لا أحلف فنقول: لا نقضي عليك بشيء؛ لأن الجناية توجب القصاص، والقصاص لا يقضى فيه بالنكول؛ لأننا لو قضينا فيه بالنكول لقتلنا هذا الناكل؛ لأن معنى القضاء عليه بالنكول أننا نأخذ منه المدَّعَى به، فهنا لو قضينا عليه بالنكول لقتلناه، والنفس محترمة عظيمة لا
(14/199)
وَيُبْدَأُ بِأَيْمَانِ الرِّجَالِ مِنْ وَرَثَةِ الدَّمِ، فَيَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِيناً، فَإِنْ نَكَلَ الْوَرَثَةُ، أَوْ كَانُوا نِسَاءً حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِيناً وَبَرِئَ.
يمكن أن تقتل بالنكول، لا سيما أن بعض الناس قد تأخذه العزة بالإثم، فيقول: لا أحلف، إما أن يأتي ببينة وإلا لن أحلف، ويكون صادقاً في نفي الدعوى، فلو قتلناه لاقترفنا جرماً عظيماً، ولكن هل نخلي سبيله ونتركه؟ الفقهاء يقولون: يُخلى سبيله، ولكن الصحيح أننا نلزمه بالدية؛ لأن الدية مال، وأَمَّا أن يذهب هكذا فالمسألة خطيرة.
وأما إذا كانت الجناية لا توجب القصاص، وإنما توجب المال فإنه إذا نكل حكمنا عليه بالنكول.
مثال ذلك: رجل ادعى أن صاحب السيارة هو الذي دعس مورِّثه، وهذا في الغالب خطأ، فقال صاحب السيارة: الذي دعسه شخص آخر، وليس أنا، فنقول لصاحب السيارة: احلف؛ لأن المدَّعِي ليس عنده بينة، فقال: لا أحلف؛ فنقول له: نقضي عليك بالنكول، فنُلزمك بالدية؛ لأن الدعوى هنا توجب مالاً، فإذا كانت توجب مالاً فإن المال يُقضى فيه بالنكول.
قوله: «ويُبدأ بأيمان الرجال من ورثة الدم فيحلفون خمسين يميناً» هل المعتبر عدد الأيمان أو عدد الحالفين؟ يعني هل نلزم أولياء المقتول بأن يحلف منهم خمسون رجلاً، أو أن المقصود خمسون يميناً ولو من رجل واحد؟
المؤلف يرى ـ وهو المذهب ـ أن المقصود خمسون يميناً، ولو من رجلٍ واحدٍ، فإذا كان لا يرث المقتول إلا هذا الرجل، فيحلف خمسين يميناً ويستحق.
(14/200)
وقوله: «ويبدأ بأيمان الرجال» هذه العبارة موهمة جداً؛ لأن ظاهرها أن الرجال والنساء يحلفون، لكن يبدأ بأيمان الرجال، والأمر ليس كذلك، فالنساء لا مدخل لهن في القسامة، وينفي هذا الوهم قوله: «فيحلفون خمسين يميناً» والضمير ضمير ذكور.
فمثلاً: إذا كان الميت المقتول يرثه ابنان وبنت، فمسألتهم من خمسة، عليها عشرة أيمان، وعليهما أربعون، فهل نقول: يحلف كل ابن خمساً وعشرين يميناً، أو يحلف كل ابن عشرين يميناً؟
الجواب: الأول، ولهذا قال: «فيحلفون» أي: الذكور، وأما النساء فلا مدخل لهن.
ولو كان المقتول له ابن وعشر بنات، فيحلف الابن فقط خمسين يميناً، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحلف خمسون رجلاً منكم» (1) .
وإذا كان المقتول له ثلاثة أبناء فيحلف كل منهم ست عشرة يميناً ويجبر الكسر إذ لا يمكن تبعُّض اليمين، وعلى هذا فيكون مجموع أيمانهم إحدى وخمسين يميناً، ولا حرج.
فإن قال قائل: لماذا لا تحلِّفون اثنين منهم بالقرعة؟
فالجواب: أن الأيمان لا تدخلها القرعة، فلا مناص من جبر الكسر.
__________
(1) سبق تخريجه ص(192).
(14/201)
هذا ما ذهب إليه المؤلف وهو المذهب، أن الأيمان الخمسين توزَّع على الذكور من الورثة، وأنه لو لم يكن إلا واحد حلف الخمسين كلها.
والقول الثاني في المسألة: إنه لا بد من خمسين رجلاً، يحلف كل واحد يميناً واحدة؛ لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «يحلف خمسون رجلاً منكم» ولم يقل: تحلفون خمسين يميناً؛ ولأن هذا أحوط وأبلغ، لأن هؤلاء الجماعة، أو القبيلة إذا علموا أنه لا بد أن يحلف خمسون منهم، قد ينصح بعضهم بعضاً، ويقول: اتق الله ولا تؤثمنا مثلاً، وحينئذٍ يكون فيه فائدة ومصلحة.
وهذا القول أقرب إلى ظاهر الأدلة، أنه لا بد من حَلِف خمسين رجلاً.
ولكن كيف يكون حلف هؤلاء الرجال؟ نقول: ننظُر للأقرب فالأقرب، فيبدأ بالورثة، ثم بمن يكون وارثاً بعدهم، ثم بمن يكون وارثاً بعد الآخرين، الأول فالأول.
فمثلاً لو كان عندنا أبناء، وأب، وإخوة، وبنو إخوة، وأعمام، وكانت الخمسون يميناً تكمل بأبناء الإخوة، فهنا لا نحلِّف الأعمام.
قوله: «فإن نكل الورثة أو كانوا نساءً حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ» أي: قال الورثة: لا نحلف على شيء لم نره، فتوجه اليمين إلى المدّعى عليه، كما في الحديث، ويقال: احلف خمسين يميناً.
(14/202)
فإذا قال الورثة: نحن لا نرضى بأيمان من ادعينا عليه؛ لأن الذي يتجرأ على القتل يتجرأ على اليمين، ولا يبالي.
نقول: إنه في هذه الحال تؤدَّى ديته من بيت المال، كما فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم لمَّا قال أولياء المقتول: لا نرضى بأيمان اليهود، وهم كفار، فوداه النبي صلّى الله عليه وسلّم من عنده (1) ، فإن حلف المدعى عليه ورضي المدعون فإنه يبرأ.
وقوله: «حلف المدعى عليه» هل المدعى عليه هنا عام يشمل الواحد، والمتعدد؟ نعم، هو كذلك، لكنه عام أريد به الخاص؛ لأن القسامة لا تصح إلا على واحد، فلا يمكن أن ندعي على اثنين، ونقول: هذان قتلا مورثنا؛ لأن لفظ الحديث: «على رجل منهم» فالقسامة لا تجرى إلا إذا كان المدعى عليه واحداً.
والعجيب أن بعض أهل العلم قالوا: لا تجرى القسامة إلا إذا كان المدعى عليه أكثر من واحد، عكس هذه المسألة، قالوا: لأن القسامة بين القبائل، فإذا ادعى على واحد، قلنا: لا قسامة كسائر الدعاوى.
ولو قال قائل: نجعلها كغيرها من الدعاوِي، بمعنى إن ادعى على واحد أجرينا عليه القسامة، وإن ادعى على اثنين فأكثر أجرينا عليهم القسامة؛ لأنه من الممكن أن يدعي المدعون أن شخصين قتلاه مع التواطؤ.
__________
(1) سبق تخريجه ص(192).
(14/203)
وقوله: «أو كانوا نساءً» أي: فإن كان الورثة نساء، كأن يهلك هالك عن بنت وأخت شقيقة، وادعيا أن مورثهما قتله فلان، فلا تجرى القسامة؛ لأنه لا مدخل للنساء في القسامة، حتى لو ادعى العصبة الآخرون، وقالوا: إذا كنتم لا تقبلون دعوى النساء فنحن ندعي، كما لو ادعى عم البنت وأخو الأخت فلا يقبل؛ لأنه لا يرث.
وهذه المسأله تحتاج إلى تحرير؛ لأن في قصة عبد الله بن سهل ـ رضي الله عنه ـ لما جاء أخوه وابنا عمه حويصة ومحيِّصة، قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «كبِّرْ» فبدأ حويصة بالكلام، وهذا يدل على أن العصبة لهم حق؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم خاطبهم، وقال: «تحلفون» (1) ، والحاصل أن هذه المسألة تحتاج إلى تحرير؛ لأنه ربما تكون البنت والأخت الشقيقة لا مدخل لهما في القسامة، لكن العار يلحق هؤلاء بين الناس، فيقال: قُتِلَ صاحبكم، ولا أخذتم بالثأر.
فهذا شيء لو تُرك لحصل فيه مفسدة عظيمة، فيمكن أن يقتلوا بهذا الواحد عشرة، لا سيما إذا كانت هذه القبيلة أقوى من تلك.
__________
وصل اللهم وسلم على اشرف الأنبياء والمرسلين ،
وتقبلوا اسمى تحيه وتقدير ،
من اعداد المحامي/ فهد بن منصور بن راشد العرجاني
موبايل : 00966531111745
ايميل : methag-alahd@hotmail.com