حكم المطالبة بالأرض المشغولة بالبناء أو نحوه
فقد كثر في هذا الزمن حصول الخطأ في تطبيق قطعة أرض مملوكة لشخص على موقع آخر مملوك لغيره بحيث تُسلّم له قطعة أخرى على الطبيعة غير المملوكة له ثم يقوم ببنائها فيتضح فيما بعد أنه قد بنى على أرض مجاورة وليس على أرضه فيطالب مالك الأرض بهدم البناء الذي بُني على أرضه وتسليمه الأرض خاليه من الشواغل وحيث إن في هذا الطلب إهداراً للأموال وإتلافاً لها وتغريماً لمن بنى مع الجهل أنها أرض غيره وقد يكون الخطأ من الجهة المختصة وقد تأملت هذه القضية فوجدت في قواعد ابن رجب ما يقتضي أن يخير مالك الأرض بين تملّك البناء الذي أُقيم على أرضه بقيمته وبين أن يدفع له من بنى قيمة الأرض وتصبح مُلكاً لمن بنى عليها ولا شك أن هذا هو العدل بدل إهدار الأموال وإتلافها وتغريم المُخطئ وهو لم يقصد الاستيلاء على ملك الغير, قال ابن رجب في القواعد ص109,106-113 /ط2 دار ابن عفان في القاعدة السابعة والسبعين ما نصه:( من اتصل بملكه ملك غيره متميزاً عنه وهو تابع له ولم يمكن فصله منه بدون ضرر يلحقه وفي إبقائه على الشركة ضرر ولم يفصله مالكه فلمالك الأصل أن يتملكه بالقيمة من مالكه ويجبر المالك على القبول وإن كان يمكن فصله بدون ضرر يلحق مالك الأصل فالمشهور انه ليس له تملكه قهراً لزوال ضرره بالفصل ويتخرج على هذه القاعدة مسائل كثيرة). ثم قال بعد ذلك:
(ومنها: غرس المشتري من الغاصب إذا لم يعلم بالحال والمنصوص عن أحمد أنه يتملك بالقيمة ولا يقلع مجاناً, نقله عنه حرب ويعقوب بن بختان في رجل باع أرضاً من رجل فعمل فيها وغرس ثم استحقها آخر, قال: يرد عليه قيمة الغراس أو نفقته, ليس هذا مثل من غرس في أرض غيره.
وكذلك نقل محمد بن أبي حرب الجَرْجَرائي عن أحمد فيمن اشترى أرضاً فغرس فيها وعمل ثم استحقها آخر: أنه يرد عليه قيمة الغراس يوم يستحق, ليس هذا مثل الغرس في أرض غيره فيقلع غرسه.
وحمل القاضي هذه النصوص على أن له القيمة على من غرّه, كما في المغرور بنكاح أمة, قال: فأما المستحق للأرض فلا ضمان عليه لأنه لم يحصل منه إذن في ذلك وهذا مخالف لمدلول هذه النصوص على ما لا يخفى, وكونه لم يحصل منه إذن لا ينفي كون الغراس محترماً كما نقول فيمن حمل السيل إلى أرضه نوىً, فنبت شجراً: إنه كغراس المستعير على أصح الوجهين, لا يقلع مجاناً, لعدم التعدي في غرسه, وهو اختياره (أعني القاضي) وأقرها القاضي في موضع آخر من خلافه رواية وكذلك صاحب المحرر.
ولكن الذي ذكره ابن أبي موسى والقاضي في المجرد وتبعه عليه المتأخرون أن للمالك قلعة مجاناً, ويرجع المشتري بالنقص على من غرّه.
والصحيح الأول ولا يثبت عن أحمد سواه, وهو قول الليث ومالك وأبي عبيد, وبه قضى عمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز رضي الله عنهما, لكن عمر بن الخطاب خيّر صاحب الأرض بين أن يعطى الغارس قيمة غرسه وبين أن يدفع الغارس إليه قيمة أرضه, وكذلك قضى عمر بن عبدالعزيز لكنه إنما قضى بدفع قيمة الأرض إلى المالك عند عجزه عن دفع قيمة الغراس.
وقد ذكر هذه الآثار أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب (الأموال) والخلال في كتاب القرعة من الجامع. أهـ
وقد يحصل في هذا الزمن استيلاء البعض على أراضي الغير عن طريق الغصب والبناء عليها وقد تكون المباني شاهقة وتقدّر تكلفتها بمئات الملايين فيُطالب صاحب الأرض المستولي الغاصب بهدم البناء ويصعب جداً الاستجابة لطلبه لأن فيه إهداراً للأموال وإتلافاً لها مع وجود حل مرضٍ لصاحب الأرض وذلك بأن تقوم الأرض على الغاصب المستولي بضعفي أو أضعاف قيمتها وتبقى الأرض للغاصب فيستطيع مالك الأرض أن يشتري عدة عقارات بهذه القيمة أو أرضاً أفضل من أرضه وأكبر مساحة لحصوله على أضعاف القيمة ولا مضرة عليه البتة وإنما زيد خيراً مع المحافظة على الأموال من الإهدار والإتلاف ويمكن أيضاً معاقبة المعتدي الغاصب على اعتدائه وغصبه من قبل المحكمة المختصة, هذا ما أراه في هذه القضية وأمثالها وقد ذكر ابن رجب في القاعدة المذكورة آنفاً ما نصّه
( - (ومنها): غراس الغاصب وبناؤه والمشهور عن أحمد أن للمالك قلعة مجاناً, وعليه الأصحاب, وعنه رواية ثانية: لا يقلع, بل يتملك بالقيمة أيضاً, وممن حكاها القاضي وابن عقيل في كتاب الروايتين لهما وخرجاها في خلافيهما من مسألة الصبغ ونص عليها أحمد في ( رواية بكر بن محمد عن أبيه) فيمن غصب أرضاً أو داراً وبنى فيها قال: يعجبني أن يغرم البناء ويعطي لأنه إن أخذ الغاصب بناءه تضررت الأرض في الخراب والهدم, ويكون أيضاً ذهاب مال الغاصب في الآجر والجص وكل شيء وفي مسائل ابن هانئ عن أحمد في رجل اكترى أرضاً يغرس فيها أشجاراً واشترط عليه ربّ الأرض أن لا يغرس فيها غيره فغرس فيها شجراً (يعني: غير ما اشترطه) وأثمر الشجر, وأراد أن يقلع الغرس قال: لايقلع الشجر من الأرض, يضر بهما جميعاً وعلى هذه الرواية, فلا يقلع إلا مضموناً كغرس المستعير كذلك حكاها القاضي وابن عقيل, فلذلك يملكه بالقيمة حيث لم يمكن القلع بدون ضرر. انتهى كلامه.
قلت: وهذا النقل وإن كان فيه عدم مضاعفة قيمة الأرض إلا أنني أرى المضاعفة تطييباً لنفس صاحب الأرض لأن نفسه قد تتعلق بعينها, وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان وفي السُنن الكبرى وصحّحه الألباني في الإرواء. وهذا يحصل إن شاء الله بالمضاعفة والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
تمنياتي للجميع بالتوفيق ،
اخوكم المحامي فهد بن منصور بن راشد العرجاني
جوال : 0531111745
ايميل : METHAG-ALAHD@HOTMAIL.COM