توطئة
كان لتواصل المهتمين في كثير من أسئلتهم عن مدى شرعية الحكم بهذه البدائل الفضل بعد الله تعالى أن أجمع عدة مباحث في فقه بدائل السجون , محاولاً تبديد تساؤلات تطرح هنا وهنا وهل هي تبديل لحكم الله وهل هي ضرب من القوانين الوضعية المصادمة للكتاب والسنة , المصدران الوحيدان والشرعيان للقوانين والأحكام القضائية الاسلامية. فكتبت عدة مقالات وتصاريح ومقابلات صحفية أشرح فيها خريطة الأحكام البديلة للعقوبات السالبة للحرية وأهمها بدائل السجون مسلطاً الضوء على التطور الإجرائي في هذا الفقه التوفيقي وعن مدى إستفادتنا منه في القضاء الجزائي الإسلامي . فأحببت أن أضمنها هذه الموسوعة المفتوحة لتكون سبباً في الإثراء الفكري .
التشريع الإسلامي وصلاحيته لكل زمان ومكان :
بداية إن النظام ضرورة لا مفر منه للمجتمع ولا غني عنها للبشرية وهو في حقيقته ليس إلا أداة لخدمتها وإسعادها، فوظيفة القانون تتمثل في تنظيم تحرك الفرد في المجتمع ومنع المظالم وحفظ الحقوق وتحقيق العدالة وتوجيه الشعوب نحو النافع والمفيد، ولكل المجتمعات أنظمتها التي تحرص على سلامتها وقوانينها التي تتمسك باحترامها وبالتالي فالقوانين الجزائية أداة لفرض النظام والأمن في المجتمع ومنه يعتبر التشريع الجنائي والجزائي أداة ضرورية لزجر المجرم وردعه حتى نقي المجتمع من شر الانحراف. ولدينا تشريعنا الجنائي الخاص المستمد من شريعتنا السمحاء والذي يهدف في الإسلام لحفظ الكليات الخمس التي لا تقوم الحياة ولا تستمر بدونها وهي( حفظ النفس، وحفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال) وأي جريمة اعتداء علي احدى هذه الكليات السابقة، فقد شرعت كافة العقوبات في الإسلام للمحافظة عليها . وتنقسم العقوبات إلى قسمين : الحدود وهي العقوبات المقدرة والمنصوصة من الشرع (كحد السكر والقذف والسرقة ) نقف مع الحد الشرعي البات ولا مجال أمامنا إلا الوقوف عند شرع الله . والقسم الثاني: التعازير هو التأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود. والعقوبة فيها دائرة واسعة متروكة لاجتهاد القاضي وفق حدود وشروط وأركان ومصالح يترك فيها لاجتهاد الحاكم دون تقييده باجتهاد محدد. فكافة النظم القانونية الوضعية الموجودة في العالم قد جرمت الاعتداء علي أي من هذه الأصول الخمسة، ولكنها فشلت في المحافظة عليها حتى أن مجتمعات هذه النظم منها من انهار تحت وطأة الجريمة ، فمعدلات الجريمة بلغت أرقام قياسية مرعبة تنذر بكارثة محققة في تلك المجتمعات، فهل بإمكانك في هذه الدول الغربية الخروج ليلاً بعد التاسعة أو الاستجابة لطارق باب منزلك. لقد فشلت هذه النظم عن الوصول لبر الأمان . وذلك لخلل المنظومة الأخلاقية والانهماك في الأنانية المادية والبعد عن شريعة الله التي هي فيها كل خير للإنسانية. ونجد الشريعة الإسلامية وسياستها الجنائية من حيث التجريم والعقوبة والموائمة بينهما فقد نجحت بصورة تثير الإعجاب في حماية هذه الكليات الخمس, يدعمها منظومة حضارية أخلاقية أسرية تعليمية مرتبطة بكل اتجاه إلى الإسلام (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين وبذلك أمرت وانأ أول المسلمين). يقول دكتور "روان وليامز" كبير أساقفة كانتربيري في بريطانيا : والذي أثارت تصريحاته لزوبعة إعلامية بشأن ضرورة الاعتراف الرسمي البريطاني بقانون الشريعة الإسلامية ويرى أنه أصبح أمرًا حتميًا لا مفر منه في المستقبل.بل وطالب الكثير من الغربيين باستنساخ تجربة محاكم الشريعة الإسلامية وتحركت كثير من البرلمانات ومجالس الشورى العالمية من أجل الترخيص لتحكيم الشريعة الإسلامية. فقد أعلن لورد فيليبس رئيس القضاء البريطاني أنه بالامكان تطبيق الشريعة الإسلامية في بريطانيا لتسوية الخلافات الزوجية والنزاعات المالية. وكانت الحكومة البريطانية قد وافقت مؤخراً على تشكيل خمس محاكم إسلامية لتطبيق أحكام الشريعة في قضايا الطلاق والنزاعات المالية والعنف الأسرى في "لندن"، و"برمنجهام"، و"برادفورد"، و"مانشستر"، و"وارويكشير"، ومن المقرر تشكيل محكمتين أخريين في "جلاسجو"، و"أدنبرج". لتنظم إلى ما لا يقل عن 85 محكمة بريطانية تطبق أحكام الشريعة الإسلامية في المملكة المتحدة. وأصبحت قراراتها ملزمة رسميًا في ظل القوانين المعمول بها . بل ويلجأ العديد من البريطانيين غير المسلمين إلى محاكم الشريعة الإسلامية للفصل في النزاعات الداخلية؛ وذلك لأنها أقل تعقيدًا من النظام القانوني الرسمي للبلاد. حيث أوضح تقرير نشرته جريدة التايمز البريطانية, أنّ نسبة عدد القضايا التي تنظرها محاكم الشريعة في بريطانيا من غير المسلمين تصل إلى أكثر من 5% من نسبة القضايا الكلية التي تقوم بالاستماع إليها، الأمر الذي دفع هذه المحاكم- بحسب الصحيفة- للتخطيط من أجل زيادة أعدادها ثلاث مرات في عشر مدن جديدة. وكذلك الأمر يسير على هذا النحو بكندا. والآن نقاش حاد حول تأسيس محاكم الشريعة الإسلامية في هولندا، في صورة رائعة في امتداد سلطان الشريعة الإسلامية في الدول الغربية. أسوق هذه الأمور فقط لمن اهتزت لديهم صورة القضاء المنبني على أحكام الشريعة الإسلامية ولمن وقعوا ضحية الذوبان وضعف الاعتزاز بالهوية و نحن بحمدالله في بلادنا مقتنعون تمام القناعة بشريعتنا ونلمس أثار الحياة الهانئة مصداقاً لقوله تعالى ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب).
الفصل الأول: ماهية الأحكام البديلة ودواعيها
ماهي الأحكام البديلة:
الأحكام البديلة عرف كتواضع عرفي إعلامي فضفاض أكثر منه كمصطلح علمي جامع مانع شملت أنواعا كثيرة من التعازير البديلة للسجن وكثير من الإلزامات القضائية ذات الصفة الأدبية والمعنوية والتصالحات الرضائية بين المتخاصمين في الحقوق الخاصة في القضايا ذات الصفة الجنائية.
مصطلح "الأحكام البديلة" . حقيقة لا توجد دراسات علمية تبحث في مصدر هذه التسمية وهذا الإطلاق وإن كنت لا أحبذ التسمية به لكونها ترسم صورة نمطية وذهنية سلبية والتي تذهب بتصور المستمع لها إلى ان هناك عقوبة أصلية وعقوبة بدلية أو الى أنها من جنس الأحكام المبدلة لشرع الله , وأحبذ التسمية ( ببدائل السجون) لكونه السبب الحقيقي والمؤثر لإعتماد تنويع العقوبات لغرض التهذيب تقليصاً لسلبيات السجون . ويمكن أن نعرفها تعريفاً عاماً بما يلي : الأحكام البديلة للسجون هي مجموعة من الأحكام القضائية التي اهتم بها القضاة على تضمينها أحكامهم في غير "الحدودالشرعية" , توسعا في تقدير التعزيرات لتشمل عقوبات والزامات قضائية تربوية وشروطاً اصلاحية لإصلاح الفرد وزجره وتأديبه بدلاً عن حبسه ". كالتوسع في العقوبات المالية وتقرير العقوبات بالخدمة الاجتماعية والأعمال التطوعية أو الإلزامات الأدبية أو الأعمال الشاقة أو الإقامة الجبرية أو الحرمان من المزايا والخدمات والحقوق الشخصية وتقييد حركته وتعويق الانتفاع ومنعه من السفر حسب ماتسمح به الأنظمة التنفيذية للسياسات العقابية في الدولة. يقول الدكتور الطيب السنوسي أحمد : البدائل: جمع: بديل، على غير القياس الصرفي؛ والبديل في اللغة: ما يخلف الشيء ويقوم مقامه . وبدائل السجن مصطلح لم يتعرض له الفقهاء؛ ولذا لم يوجد له تعريف في كتبهم وقد عرفه من أعد مشروع بدائل السجن المقترح في وزارة العدل المملكة العربية السعودية بأنه: "مجموعة من التدابير التي تحل محل عقوبة السجن وتعمل على تطبيق سياسة منع الجريمة" أولى المحاولات العربية لتعريف ووصف هذه النمط من الممارسة الجزائية كان في قانون العقوبات القطري حيث جاء في مادة (63 مكرراً): "عقوبة التشغيل الاجتماعي هي إلزام المحكوم عليه بأن يؤدي لمدة محددة عملا من الأعمال المبينة في جدول الأعمال الاجتماعية المرفق بهذا القانون".
كيف تبلورت "بدائل السجون"
ظهر في الفقه الجنائي اتجاه توفيقي في شأن العقوبات السالبة للحرية ، وخاصة قصيرة المدة منها , والتي تتصل بحالات الإجرام متوسط الخطورة ، فلا يتجاوز إلى حد المناداة بإلغائها ، ولا يبقي أسيراً لها فيقبلها بحالها دون ما تعديل. فهو اتجاه يعمل على التقليل بقدر الإمكان من مساوئ هذه العقوبة والتخفيف من أثارها الضارة. لذا يدعو هذا الاتجاه إلى استعمال العديد من البدائل العقابية التي تحل محل العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة متى كانت ظروف الجريمة وشخصية المجرم توجب هذا. فإن رأت المحكمة أن هذا البديل لا يجدي في مواجهه حاله إجرامية معينه كان لها أن تقضي بالعقوبة السالبة للحرية رغم قصر مدتها. فهذه البدائل من قبيل نظم المعاملة العقابية التفريدية (في النظم التشريعية العقابية العالمية) المقررة تشريعياً لتكون بين يدي القاضي ، إن شاء أعملها إذا استدعت ظروف الجريمة ذلك ، وإن شاء قضى بالعقوبة السالبة للحرية أياً كانت مدتها.هذا الفقه الجنائي الجديد رآه القضاة والقانونيون المسلمون في العالم فرصة جديدة من جولات إعمال الفقه الإسلامي في المدونات التشريعية العقابية العالمية , حيث دعوا إلى الاستفادة من الإرث التشريعي الإسلامي وضوابط الشريعة في مفهومها التأديبي والردعي وفي الحقيقة فإن هذه البدائل متنوعة ، وسوف نعطي بعض التفصيلات عن تلك الأنظمة التي تعالج البدائل كمنظومة من الممارسة القضائية و التي تعاقبت عليها التشريعات كافة ، والغربية منها خاصة ، على الأخذ بها. في آخر البحث .
لماذا السياسات العقابية العالمية توجهت لبدائل السجون :
لقد تحدثنا سابقاً لنشوء فكر توفيقي في السياسة العقابية نتيجة لما أظهرت الدراسات المسحية سلبيات كثيرة ومتعدية لأكثر العقوبات انتشاراً وذيوعاً وهي السجن مما ولد قناعة لدى الجهات القضائية والجهات التنفيذية بالتفكير الجاد والواسع لبدائل السجن , وخاصة قصيرة المدة منها , والتي تتصل بحالات الإجرام متوسط الخطورة ، فلا يتجاوز إلى حد المناداة بإلغائها ، ولا يبقي أسيراً لها فيقبلها بحالها دون ما تعديل. فهو اتجاه يعمل على التقليل بقدر الإمكان من مساوئ هذه العقوبة والتخفيف من أثارها الضارة. عقوبة متعدية فلقد ظهرت بجلاء الآثار السلبية والمشكلات التي تتعرض لها أسرة السجين نتيجة سجن عائلها ,وتتنوع الآثار السلبية من طلاق وخلع وانحراف للأبناء وفقر مما تؤدي لحدوث تفكك في تلك الأسر وتغير في وظائفها نحو الأسوأ . . نظرة المجتمع الوصمة المجتمعية تلاحق من يسجن بوصف خريج سجون فينفر منه بعض أفراد المجتمع وزملائه وزوجته وبعض أفراد عائلته وبذلك يدخل في حيز من القيود على نفسه لخوفه من وصمة السجن لاسيما في مجتمع محافظ لا يتوانى البعض في الشماتة به بطريقة غير مباشرة مما يؤثر عليه معنويا . حواجز تتلاشى حاجز الردع يبدأ بالتلاشي عند الوصول في العقوبة إلى درجة قسوة السجن مما يولد انتفاء هيبة السجن لدى الإنسان , ويتزايد الشعور بالاتكالية والرغبة بالبطالة وعدم العمل مما يولد لديه اللجوء للجريمة لتأمين بعض احتياجاته أو الرجوع لمجتمع السجن الذي ألف عليه. حيث أظهرت بعض الدراسات المسحية الغير رسمية أن نسبة العودة إلى السجون تقريبا (20% إلى 30%) من عدد السجناء المفرج عنهم مما قد يفقد القصد من عقوبة الحكم البسيط ويساعد في الإجرام المستقبلي لهذا الإنسان . خلطة وسرقة طباع يتعرض السجين أثناء فترة سجنه للاحتكاك بمجرمين عتاة لهم ضلع كبير في الإجرام وتجارب غزيرة في الأساليب الإجرامية ولا شك أن القصص التي تسرد من قبل بعض السجناء للآخرين ستؤثر في معلوماته بالأساليب السيئة في الإجرام لا قدر الله وقد تساعد بانحرافه في يوم ما . كلفة مالية باهظة التكاليف المالية التي تصرف على السجناء ذو الأحكام البسيطة مع غياب الفائدة من مدة السجن البسيطة وبالتالي يصبح حكم السجن قد أرهق الخزينة ولم تتحقق الفائدة الموجودة . قلق مستمر تشهد بعض السجون حاليا حالة من الاكتظاظ . ممايجعل الحياة في السجون مقلقة للراحة ويعيش معها السجين في عذاب مستمر. تغير معطيات وتغير سياسات وعندما أصبح إيقاع العقوبة تحيط به عدة اعتبارات ونشأ عنها عدة تعقيدات ومشاكل اجتماعية تتطلب حلها ومعالجتها , تتعلق بالمحكوم عليه ومن يعول , وبالمجتمع وتأثره بتعدي العقوبة , وبالدولة وما تنفق , جاءت الدعوة الصريحة لإيجاد مراجعات للعقوبات الشهيرة فيما يحقق الهدف من دفع جماح الخطيئة بأسهل الطرق وأسلم الأحكام وأيسرها. ومن هنا تحركت الجهات البحثية العلمية والمؤسسات القضائية , والمؤسسات العقابية والجهات التنفيذية لتفعيل أنواع من العقاب تخرج عن دائرة العقوبة بالسجن, فأُعدت الأنظمة واللوائح المبدئية والإسترشادية والدراسات لتقرير بدائل عقابية متنوعة تطرح أفقاً واسعاً لمفهوم العقاب, يمكن إنزاله في المجتمعات لدفع الجريمة وحصر آثارها السلبية . وقد ظهرت مناداة عامة بالدعوة للتوسع في إيقاع العقوبات البديلة عن السجن بشتى أنواعها وقد وجدت دراسات تقرر مدى الحاجة لهذه البدائل وتؤصل اطرها المرجعية وتدعو لها . احتاج هذا الفكر التوفيقي في السياسات العقابية في تطبيقه لتطوير هذه السياسات العقابية , إلى أبتكار مسارات عدة وفي إتجاهات مختلفة منها في تشريع الأنظمة المقننة لهذه الممارسة التوفيقية , وتدريب القضاة التدريب المتخصص وتزويدهم بالكفاءات في التخصصات الشرعية و النفسية والاجتماعية والسلوكية والطبية وكذلك في ترقية دور وآليات تنفيذ التطبيقات العقابية لتكون ملائمة لتطبيق هذا الفكر التطبيقي الجديد.
الفصل الثاني :مشروعية تطبيق البدائل في التشريع الاسلامي
مدخل:
يتميز القضاء في الشريعة الإسلامية بصلاحه لكل زمان ومكان وفيه من عناصر البقاء والحيوية والديمومة وقابليتها للتجديد والإبداع . والتشريع الإسلامي وحدة حقوقية كاملة، تبدأ من تنظيم علاقة الكائن الإنساني بذاته، وأسرته، ومجتمعه أفراداً وكياناً، وعلاقة دولة الإسلام بالعالم الذي يحيط بها، ثم علاقة الإنسان والدولة باللّه تعالى، وحدة مترابطة الأجزاء، مكتملة الجوانب. هذه المنظومة لا تعطي نتاجها ولا تظهر فوائدها ولا تميزها إلا بالتطبيق الحي الصادق الشامل لمفردات تلك المنظومة كاملة، ولذلك فان الجانب النظري في منهجيه الفقه الإسلامي لا تعرف الفصل بين النظام المدني عن نظام الأسرة، عن الجنائي، عن الدستوري، عن الدولي، إنما هي وحدة واحدة في الأسس والمنطلقات والحقائق الأساسية التي يقوم عليها مجمل التشريع. إن اللّه تعالى قد أرشد الإنسان المسلم إلى طرق استمداد الحكم الشرعي،وكونه مظلة للجميع يقف الناس أجمع تحت سلطانها بسواسية تامة لا حصانة لأحد في الخروج عن إطارها ومظلة مشروعيتها , ويجب ترسيخ مبادئ النزاهة والعدالة وحماية الحقوق ونثق ثقة كبيرة بما لدينا من إرث ونفتخر به افتخاراً أمام الآخرين . هذه الثقاقة وهذه الممارسة يجب أن تبدأ في الترسخ لدى أبنائنا من مولدهم إلى مماتهم ليسلموا الراية لمن بعدهم . هذه عقيدتنا وهي مبعث افتخارنا . وقد أبدع فقهاؤنا، فأنتجوا ثروة فقهيه واسعة، نزلت إلى عالم التطبيق الفعلي قروناً عديدة، شكلت جزءاً مشرقاً من تاريخ المسلمين، وسوابق في معالجه الوقائع التي لم يرد فيها نص شرعي، وتعد تلك الثروة خزينة تشريعية هائلة في معالجه قضايا العصر ومشكلاته . هذه الشمولية تمنحنا أرضية ضخمة في إعمال كثير من الإجراءات الحديثة في البيئة العدلية.
خريطة بدائل السجون
عندما نتحدث عن علاقة الأحكام البديلة أو البدائل بالتشريع الإسلامي المتعلق بالعقوبات فهو ينقسم إلى نوعين :
1- عقوبات محددة كالحدود . وهذه لا تدخل في حديثنا للتحديد التعبدي فيها فلا يجوز الاستعاضة عن هذه الحدود المقدرة ببدائل تصادم النص لأنها تدخل في تغيير حكم الله البات والقاطع. بل لها تفاصيلها في التخفيف والتشديد للعقوبة ذات الصفة الخاصة من درء الحدود بالشبهات والتسامح فيما هو من حقوق الله الخالصة وتداخل العقوبات قبل الوصول لولي الأمر والتنفيذ وفق تفاصيل فيها من الرحمة والخير للبشرية.حيث أن من مقاصد الشريعة في جملتها أنها ليست متشوفة إلى إقامة الأحكام بالجملة . يأتي رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: قد أصبت حداً فيعرض عنه ، والمرأة تأتي وتقول: أصبت حداً فطهرني ، فيعرض عنه ، قصص ماعز والغامدية معروفة .. فالشريعة ليست متشوفة ومتشوقة إلى أن تقيم الحدود والأحكام ، لكن إذا ثبت الحكم وتقرر فنعم.
2- النوع الثاني من العقوبات عقوبات غير محددة : وتسمى التعازير : وهذه بابها واسع جداً , وهي أولى مواطن تطبيق الأحكام البديلة أو البدائل فكما قلنا فالتعزير : «وهو التأديب» بكل ما يحصل به الأدب، والأدب هو تقويم الأخلاق، أو فعل ما يحصل به التقويم . والتعزير ليس بواجب على الإطلاق، ولا يُتْرك على الإطلاق، وأن ذلك يرجع إلى اجتهاد الحاكم ولكن لا بد أن يكون منسجماً مع الإطار المرجعي الغني والثري بالفهم المقاصدي للعقوبات في الفقه الإسلامي والذي له ملامحه وإطاراته الفقهية العامة .
يقول ابن عثيمين رحمنا الله وإياه ورحم والدينا وجميع المسلمين : وعندما يقول بعض أهل العلم: إنه ليس بواجب على الإطلاق، ولا يُتْرك على الإطلاق، وأن ذلك يرجع إلى اجتهاد الحاكم، بشرط أن يكون أميناً؛ وعللوا ذلك بأمور كثيرة وقعت في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وترك التأديب عليها، وبأن المقصود التأديب، وكثير من الناس إذا مننت عليه وأطلقته يكون هذا الإطلاق عنده أكبر من التأديب، ويرى لهذا الإطلاق محلاً، ويمتنع عن المعصية أشد مما لو تضربه، ولهذا سبق في الأسرى في الجهاد أنه يجوز للإمام أن يمن عليهم (( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)) [محمد: 4] حسبما تقتضيه المصلحة، فهذا الرجل إذا أتينا به وقلنا: يا أخي، هذا ما ينبغي من مثلك، وأنت ممن يشق علينا أن نؤدبه أمام الناس، ولكن نظراً لمقامك فإننا نريد أن ننصحك أن لا تعود لمثل هذا، فهذا قد يكون في نفسه أنفع مما لو ضربناه أسواطاً في السوق، وهذا هو الصحيح أنه ليس بواجب على الإطلاق، وأن للإمام أو لمن له التأديب أن يسقطه إذا رأى غيره أنفع منه وأحسن.
يقول ابن فرحون المالكي في تبصرة الحكام : والتعزير لا يختص بالسوط واليد والحبس , وإنما ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام . قال أبو بكر الطرطوشي في أخبار الخلفاء المتقدمين : أنهم كانوا يعاملون الرجل على قدره وقدر جنايته منهم من يضرب , ومنهم من يحبس , ومنهم من يقام واقفا على قدميه في المحافل , ومنهم من تنزع عمامته , قال القرافي : إن التعزير يختلف باختلاف الأعصار والأمصار , فرب تعزير في بلد يكون إكراما في بلد آخر , كقطع الطيلسان ليس تعزيرا في الشام فإنه إكرام , وكشف الرأس عند الأندلس ليس هوانا , وبمصر والعراق هوانا . قال ابن عابدين : (التعزير يختلف باختلاف الأشخاص ، فلا معنى لتقديره مع حصول المقصود بدونه، فيكون مفوضاً لرأي القاضي ) والتعزير عند الفقهاء عقوبة مفوضة إلى اجتهاد القاضي وتقدير ه ، فهو يختار في كل حاله تعرض عليه العقوبة أو العقوبات التي يراها كافيه لزجر الجاني ، وحامله له على الصلاح والتهذيب ولا يزيد عليها . وهو في كل حالة يراعى ظروف الجاني ، وحجم الجريمة وحال المجني عليه وزمان الجريمة ومكانها . وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن التفويض إلى الحاكم أو القاضي يكون من حيث النوع بمعنى أن يكون مفوضاً في اختيار نوع العقوبة التي يراها مناسبة. قال ابن القيم ـــ رحمه الله ـــ تعليقاً على إجتهاد عمر ــ رضى الله عنه ــ في تحريق قصر سعد لما احتجب عن الرعية 0: ( وهذا الجنس من العقوبات ــ أي المالية ـــ نوعان نوع منضبط ، ونوع غير منضبط ، فالمضبوط : ما قابل المتلف إما لحق الله تعالى كاتلاف الصيد في الإحرام ، أو لحق آدمي كاتلاف ماله، وقد نبه الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ على أن تضمين الصيد متضمن للعقوبة بقوله : ( ليذوق وبال أمره ) ،ومنه مقابلة الجاني بنقيض قصده من الحرمان كعقوبة القاتل لمورثه بحرمان ميراثه وعقوبة المدبر إذا قتل سيده ، ببطلان تدبيره ، وعقوبة الموصى له ببطلان وصيته ، ومن هذا الباب عقوبة الزوجة الناشز لسقوط نفقتها وكسوتها . وأما النوع الثاني غير المقدر فهو : الذي يدخله اجتهاد الأئمة بحسب المصالح ، ولذلك لم تأت فيه الشريعة بأمر عام،وقدر يزاد فيه ولا ينقص كالحدود): إعلام الموقعين: 2/9 0 يقول إبن ابراهيم في فتاواه : أن الحدود قد عرفها العلماء ، قال الله تعالى : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } (1) فما حدث وقدره الشرع فلا يجوز أن يتعدى . فالحدود بمعنى العقوبات المقدرة ، فالحد عقوبة مقدرة تمنع من الوقوع في مثل الذنب الذي شرع له . وتجب إقامة الحدود على كل مكلف ملتزم عالم بالتحريم . سميت عقوبات الجرائم (حدودا) لأن من شأنها أن تمنع ارتكاب الجرائم ، وتجب حقا لله تعالى ، لما في الجرائم المقررة فيها الحدود من الخطورة البالغة على المجتمع وكذلك (التعزير) يطلق على عقوبته اسم (الحد) إذا وجب لحق الله تعالى ، فيجب تنفيذ ما صدر من العقوبات في الحدود والتعزير . فالتعزير أصل كبير من الأصول الشرعية المحمدية الآتية بالمصالح والحكم والغايات المحمودة ، فيه صلاح الدين والدنيا ، لأن (التعزير) هو التأديب ، وهو واجب شرعا في كل معصية لأحد فيها ولا كفارة . فعلى الحاكم الشرعي أن يرى ما يقتضيه حال الشخص المجرم ، فإن العقوبات على قدر الإجرام ، فالقضاة يجتهدون فيما لا نص فيه، فإذا اجتهدوا وجب تنفيذ ما قرره القضاة ومناصرة الشريعة التي جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها ودفع المفاسد وتقليلها ، فإن من واجب ولاة الأمور وفقهم الله مناصرة الحق وأن لا تأخذهم في الله لومة لائم . وغير خاف أن في تأخير البت في تنفيذ الأحكام توهينا للحقث وتطويلا لسجن السجين بدون مبرر . أما تحديد لقاضي عقوبة المجرم ففيها موافقة لما يرغبه ولاة الأمور . ويجب أيضا حسن الظن بالقضاة فإنهم لا يبنون أحكامهم على مجرد دعوى ولا على وشاية واشي ، ولم يصدر مثل ذلك من أحد منهم ، ولا صحة لذلك أصلا بحمد الله . هذا ما تقرره . وبالله التوفيق . رئيس القضاة (ص-ق-1608- في 27-11-1383هـ) الفتاوى (12/2)
وهناك الكثير من الامثلة والادلة على تنوع التعازير فرسول الله صلى الله عليه وسلم عزر بالهجر , وذلك في حق الثلاثة الذين ذكرهم الله - تعالى - في القرآن العظيم , فهجروا خمسين يوما لا يكلمهم أحد , وقصتهم مشهورة في الصحاح . وعزر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفي من المدينة . وكذلك الصحابة من بعده . ومنها : أمره عليه الصلاة والسلام بكسر دنان الخمر وشق ظروفها . ومنها { أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر بكسر القدور التي طبخ فيها لحم الحمر الأهلية ثم استأذنوه في غسلها فأذن لهم } . ومنها : أمر عمر رضي الله عنه بهجر صبيغ الذي كان يسأل عن الذاريات وغيرها ويأمر الناس بالتفقه في المشكلات من القرآن , فضربه ضربا وجيعا ونفاه إلى البصرة أو الكوفة , وأمر بهجره فكان لا يكلمه أحد حتى تاب وكتب عامل البلد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخبره بتوبته فأذن للناس في كلامه . ومنها : تحريق عمر المكان الذي يباع فيه الخمر . ومنها تحريق عمر قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب فيه عن الرعية وصار يحكم في داره . ومنها : مصادرة عمر عماله بأخذ شطر أموالهم فقسمها بينهم وبين المسلمين . فكما ذكرنا فإن العقوبات التعزيرية بجميع أنواعها يرجع أمر تعيينها وتقديرها وتقريرها إلى اجتهاد القاضي المستند إلى النظر المصلحي الذي يناسب الواقعة والفاعل والمجتمع والزمان والمكان.
مواطن إعمال الأحكام البديلة وتطبيقها
1- الأحكام البديلة ودخولها في الإلزامات القضائية المعنوية والأدبية وأحكام التصالح في القصاص والجروح والجنايات والشجاج.
2- الأحكام البديلة بإعمال الضوابط في فقه الحدود في تحديد الأصلية والبدلية ودرء الحدود بالشبهات والتعازير من حيث تقدير العقوبة التعزيرية وضوابط تداخل العقوبات.
3- الأحكام البديلة ودخولها في الإنتقال التقديري للقاضي إلى معالجة أسباب الخصومات والجرائم بإلزامات شبيهة بالإلزامات الحسبية في الإسلام.
4- الأحكام البديلة ودخولها في السلطات التقديرية للقضاة في حد العقوبة الأعلى والأدنى والنزول عن الحد الأدنى لدواع معتبرة.
5- الأحكام البديلة في الإلزام القضائي في رعاية مصلحة غدلية معتبرة بمسببات الجناية .
6- الأحكام البديلة عندما يصدر فيها أنظمة تخول الجهات التنفيذية بالعفو واستبدال العقوبة الصادرة بحكم قضائي دون الرجوع للقضاء.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
نرجو من اخواننا المحامين والمستشارين الاعضاء بهذا المنتدى للمشاركه بابداء مرئياتهم الشرعية والقانونية في ضرورة واهمية العمل نحو تفعيل بدائل العقوبات من السجن الى احكام بديله . ولكم اسمى تحية وتقدير ، ،
اخوكم المحامي فهد بن منصور العرجاني
موبايل : 0531111745
ايميل :METHAG-ALAHD@HOTMAIL.COM