رحالة الي الجنة

الحلقة الثانية

بقلم : صالح عينر

(((  مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) )))

 

 

النفس تبكي علي الدنيا وقد علمت

ان الســـلامة فيهــــا ترك مافيها

لادار للمرء يسكنها بعد الموت

الا التي كان قبل الموت يبنيها

فان بناها بخير طاب مسكنه

وان بناها بشر خاب بانيها

لاتركنن الي الدنيا وزينتها

فالموت لاشك يفنيك ويفنيها

واعما لدار غدا رضوان خازنها

والجار احمد والحمن ناشيها

قصورها ذهب والمسك طينتها

والزعفران حشيش ناب فيها

 

هذي الحياة ...!!!

قبل أن نأتي الي الدنيا ؛ كم سيقتنا من عصور ..؟

وبعدأن نغادر الحياة ؛ كم سعقبنا من عصور ..؟

وما نسبة هذا العمر المحدود الذي نعيشة بين ما سبقه وما الحقه من أزمنة ..؟

يقينا هو قليل قليل ..!!

ومن هذا القليل الممنوح لي ولك ؛ تتكون الحياة الدنيا ..!!

من هذا الظهور المحفوف بالفناء قبله ؛ والخفاء  بعده تعمر الأرض ..!!

في طريق الحياة الممتد يجري جيل من البشر .. وما يزال يجري .. حتي اذا نال منه الكلال وأدركه الاعياء .. مات !!

وقبل ان يخلو الطريق من الانفاس اللاهثة ؛ والاقدام اللاغية ؛ ينبت جيل اخر ؛ يستأنف السعي ويمثل الدور نفسه ..! ويسحب الجيل المنهوك ؛ فيلف في أكفان الموتي ويواري التراب ..! وينفرد الجيل الجديد بالسعي ؛ حتي اذا الحقه ما اصاب خلفه ؛ سحب - كذلك – وجيء بأخرين .. وهكذا الحياة دواليك ...!!

هذه اذن هي مواكب الحياة ... عمل متواصل من أعمار متقطعه ..!!

والعجيب أن هذا العمل الموصول يسخر القائمين به ؛ والغريب أنهم لايحسبون أنفسهم حلقة من السلسلة المتقطعة المتراخية مع الامس ؛ المتطاولة مع الغـد ..!

بل ان الواحد منهم يخدعه الغرور ؛ فما يفكر انه جديد علي الدنيا ؛ وانه - ظهر فجأة – وسيختفي بغته ؛ كلا ان الغرور يخيل اليه انه كان من الازل وسيبقي الي الابد ..!!

فإذا جاء الموت دهش لمقدمه ..كأن الموت حدث غريب ...!!

مع انهها اجل مكتوبه .. لاتتأخر ساعة .. ولا تستقدم ساعة ..!!

((( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) ))) سورة الاعراف

نعم اذا جاء اجلهم لايؤخؤ ولا يستقدم ساعة واحدة .. ولا حتي مثقال ذرة من ثانية .. انها اجال معلومة .. واعمار محتومة ..!!

ذلك انهم اذهلتهم البغتة .. وادهشتهم النهاية .. لانهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم ؛ كما احبرنا الحق تبارك وتعالي في ومضات يقينية عن هؤلاء الغافلون :

(((  وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ))) سورة الحشر الاية 19

لقد عاشوا في هذه الحياة وكأنهم في خلود دائم ؛ وكأن الموت لن يأتي بعد ؛ جاذبتهم الخطوب المتلاحقة ؛ واغلتهم الاحداث المتتالية ؛ والهاهم الامل الذي هو ركن في النفس البشرية ؛ فأكلوا وتمتعوا بملذات الحياة المادية .. والمعنوية ؛ وفعلوا كل ما يحلوا لهم ؛ وكانوا دائما في تلافيف نفوسهم امل الخلود ؛ والبفاء للابد ؛ فتمتعوا بكل جاد رخيم أو لهو ولعب من ملذات الحياة الفانية :

(( ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)  ))) سورة الحجر

فلما جاء ملك الموت قابضا ؛ وكأن الموت لم يكتب علي من قبلهم ورأوه باعينهم يموت ؛ فاندهشوا ؛ فافاقوا من غفلتهم ؛  حينئذ يندمون اشد الندم ؛ ويتحسروا ايما حسرة ؛ ويتمنوا ان لو كانوا من المهتدين المتقين ؛ ويتمنون ان لو لديهم كرة وعودة للحياة الدنيا لكانوا علي غير ما كانوا ؛ انها لحظات حقيقية لمن ينازع خروج الروح ؛ لكنه يري ولا يتكلم لانه قد ختم علي لسانه ؛ فرأي مالا نري ؛ وايقن بما هو مقدم عليه ؛ اذ رفع الله عنه غطاء الحجب يري مالم يكن يراه من قبل ؛ ومالا يراه اهل الدنيا من حوله :

(((  لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)  ))) سورة ق

فلما رأي ما هو مقبل عليه ؛ كان حاله الحسرة والندم حيث لايفع الندم ؛ فيتمني ان لو يعود للدنيا يوما واحدا ليكون علي غير ما كان من الغفلة ؛ ونسيان نفسه ؛ لانه يوقن في نهاية الامر ؛ ان ما اخذه من الدنيا ليس الا ما كتبه الله له من رزق محتوم ؛ واما عمله الذي كان يجب الاشتغال به فقد ضل طريقه اليه ؛ انها لقطات ساقها لنا المولس سبحانه وتعالي اذ قال جل شأنه :

((( أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ (58)   ))) سورة الزمر

من الخير للمرء اذن.. الان وهو في صحته البدنية ؛ وبقظته الذهنية -  ان يعرف طبيعة الدار التي يعيش فيها – فلا يبني طباقا عالية علي دعائم واهية كمن يبني ناطحة سحاب علي سطح الرمال بلا اساس ..!!

لكن ما معني هذا ..؟!

أهذا فقط حظ الانسان من الوجود ..؟!

ان الاجابة الحاسمة يقينا : كلا .. ثم كلا ..

فلئن كانت الحياة علي ظهر الارض بهذه المثابة فانها تكون بلا معني .

ولو كان العيش في هذهالحياة الدنيا هو كل شىء لكان الانتحار العاجل اولي  بالناس اجمعين ..!

ان الدار الاخرة هي الحيوان - جمع حياة – والاستعداد لها وظيفة العقلاء في هذه  الفترة الضيقة من اجالهم في الحياة الدنيا .

والحصيف هوالذي يوزع اهمامه علي كلتا الدارين ؛ دار الدنيا .. ودار الاخرة .. بقدر ما تستحقانه ؛ فيجعل عمله لهذه بقدر مقامه فيها ؛ وعمله لتلك بقدر خلوده فيها .

 

ما وراء الحياة الدنيا

يعلم الناس جميعاً أن الموت نهاية حاسمة لكل حي ؛ ومصير لابد ان ترده كل نفس ..

والموت هو الحقيقة الوحيدة التي توقن بها البشرية بلا استثناء ..!

ولكن الاكثر من الناس يأخذ عن هذه الحقيقة للموت فكرة غامضة ؛ ويكون للموت صورا مغلوطة مشوهة ؛ فهم يظنونه ختاما للحياة والعدم بحيث لايصير المرء شيئا مذكورا  ويظنون انه حالة من انعدام الشعور والاحساس ؛ قيظنون ان الانسان مثل الدواب النافقة تحت اكوان التراب ؛ او الانعام المهضومة في بطون اكليها ؛ ثم يظنون انه لاشىء بعد ذلك ..!!

وهذا الاعتقاد ضلال مبين .. فلي الموت فناء .. ولا حتي شبه فناء ...!!

وربما كان الموت نومه  طويله .. كان ان النوم الذي نعرفه وفاة قصيرة ..!!

وهو ما اخبرنا به المولي جل شأنه ؛ بأن المت قيبما للنوم ؛ وجعل الحالتين - النم والموت – اعراضا للانفس لاتتأثر كثيرا بها :

((( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)  ))) سورة الزمر

ولئن كانت الارواح تفارق الاجساد الي حين ؛ فان ذلك لايغير من حقيقة الانسان شيئا ؛ فالجسد كالثوب ؛ يكسي الانسان ويعري عنه ؛ ولا مدخل له في جوهر الانسان .

ولا يجوز ان نعد الموت فناءاًً .. بل انه انتقال من مكان الي مكان ؛ لاينقص فيه ادراك لحقائق الوجود شيئا  ؛ ولايخفف من احساسه بها ؛ بل قد يتضح ويزيد ؛ ولوتدبرنا وفهمنا وعلمنا يقينا تلك الحقيقة لما اكترثنا للموت ولما تهيبنا الاقبال عليه ؛ ولما شعرنا بالتوحش من بوادره ومواطنه ..؟!

الـبرزخ

لايكادالمرء يترك دنيانا هذه حتي يبدأ حسابه ؛ ويظهر ثوابه أو عقابه ؛ وقد ساق لنا القرآن الكريم طرفاً من أحوال الصالحين والطالحين ؛ لقطات وامضة من أحوال الناس في هذه المرحلة من حياتهم الاخرة ..

نعم فان الحياة في الدنيا لها طبيعة ؛ والحياة في العالم الاخر لها طبيعة ايضاً ؛ وكلها نوع من الحياة ؛ قد تغيب عن أذهان الكثيرين ؛ لذلك فإن القرآن الكريم يقول عن الكفار من آل فرعون :

((((  النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)  ))) سورة غافر

وفي الجهة الاخريس ؛ يصف أيضاً نعيم الشهداء ؛وترقيهم لإخوانهم وأبنائهم كي يقدموا عليهم ويشاركوهم في السعادة  التي غمروا بها ؛ والسرور الذي ارتقوا اليه ؛ والمكانة العلية التي تبوءوها ؛ والمحلة السامية التي وصلوا اليها :

(((  وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)  ))) سورة ال عمران

اذ بهذه الحياة ذات الطبيعة الخاصة يخبر مولانا جل شأنه انها حياة ايضاً ؛ سواء للاشرار ؛ أو أهل الخير ..

وما يجب ان نعلمه ونوقن به أن بواكير الخير ؛ أو بوادر الشر ؛ تظهر بطريقة يقينية في اللحظات الأخيرة من عمر الانسان ؛ علي أخر درجة من السلم لهذه الدنيا ؛ لان بعدها مباشرة اول درجة من سلم الاخرة ؛ قال الله تعالي :

(((   إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)  ))) سورة فصلت

فالملائكة تنزل علي من يحتضر ؛ مؤمن أو كافر ؛ وعلي هيئة عمل ابن ادم يراهم ؛ كما جاء في نص حديث البراء بن عازب ؛ اما بيض الوجة كأن وجوههم الشمس  اذال كان مؤمن ؛ او يراهم سود الوجوه ان كان كافر عاصيا لله تعالي ؛ وكما سنري مجرد رؤيتهم تبشر بالخير ان كان العبد من الصالحين ؛ فالذين استقاموا علي الدين ؛ لم يبدلوا او يغيروا او يقاتلوا دين الله ؛ تنزل ملائكة من السماء عليهم تبشرهم ؛ وتقول لهم : لاتخافوا ولاتحزنوا مما تركتم من هذه الحياة الدنيا باهلها واموالها وسلطانها واحبابكم ؛ لانكم مقبلون علي الجنة التي وعدكم ربكم ؛ وفيها مالاعين رأت ؛ ولا اذن سمعت ؛ ولا خطر علي قلب بشر..

كما ان نذر العقاب ايضا للطالحين ؛ وبوادر العذاب الاليم تواجه العصاة والفساق والظلمة في حال الاحتضار وبداية خروج الروح ؛ ففي تلك الساعة الحرجة ؛ وصف الله تعالي كيف يكون حالهم ؛ اذ يقوم ملك الموت بيانتزاع الروح نزعا اليما ؛ بعد ان تتفرق في جسدهم خوفا من العذاب ومما هي ايقنت انها مقبلة عليه ؛ فتكون للملائكة المعونة لملك الموت عمل ؛ بينما يقوم ملك الموت بانتزاعها كما سياتي في حديث البراء بن  عازب بعد قليل ..

فبينما ملك الموت يقوم بانتزاع الروح ؛ كما ينزع السفود من الصوف المبلول – نص حرفي عبر به النبي في حديث البراء من عازب – تقوم الملائكة المعاونة بضرب الميت.. علي وجهه .. وعلي دبرة .. 

وهذا ما اخبرنا به الله تعالي في غير موضع من كتابه القرآن الكريم  ؛ ففي الموضع الاول من سورة الانعام  يصف جل شأنه حال هؤلاء العصاه اثناء غمرات او سكرات الموت ؛ والملائكة باسطة يدها – أي بالعذاب – وهي تقول لهم هذا يومكم الذي سوف تتلقون فيه عذاب الهون والمذلة  ؛ وذلك بما قدمتم من المعاصي والاثام ؛ وكنتم تقولون علي الله غير الحق ؛ وبما كنتم تستكبرون عن ءايت الله اذ جاءتكم ؛ قال جل شأنه :

((( وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) )))

وقد يقول قائل ؛ وهل  الطالحين والعصاه الذين ارتكبوا الاثاموالمعاصي  يضربون فعلاً ..؟!

الاجابة اليقينية :  نعم ..

والملائكة هي التي تضربهم ..

وتضربهم الملائكة علي موضع الوجه والدير ..

فاما الدليل ؛ فقد قال جل شأنه في سورة الانفال ما يجزم بذلك بمحكم تنزيل ؛ واوضح لنا سبب هذا الضرب ؛ اذ قال جل شأنه :

(((  وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51)  )))

وقال جل شأنه أيضا في موضع أخر من سورة محمد ؛ اذا كان كل هذا العناد والصد عن دين الله والمكابرة والتناحر مع المؤمنين  من قبل الكافرين والعصاة والفاسقون والمذنبون ؛ فهل ادركوا حالهم عندما تأتيه الملائكة تستخرج ارواحهم ؛ قال جل شانه :

(((  فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)   )))

وهي لحظات شديدة تصور حال الكافر مع الملائكة ابان استخرج أرواحهم بالقوة ؛ فاذا تفرقت هذه الارواح في اجسادهم خوفا من ملك الموت ؛ قامت الملائكة المعانون بضربهم علي وجوههم وادبارهم ..

انها لقطات وامضة لايجب علينا ابداً ان نمر عليها صما وبكما وعميانا ؛ لان سكرات الموت لابد ان نمر عليها وهي اول منازل الاخرة ..

وايضا للعصاة والمذنبون الذين غفلوا عن هذه الحقائق وماتوا علي معاصى واثام وبعدا عن المنهج ؛ لهم حظ من المتاعب والالام جزاء تفريطهم في الواجب الذي كان يجب ان يشتغلوا به ؛ ولاستهانتهم بالحرام ؛ ولا رتكابهم ما نههاهم الله عن اتيانه ؛ ولو استحضر المسلم هذا الحديث من هدي النبي محمد صلي الله عليه وسلم لتوقف طويلا يتأمله ويتدبر ..

فقد جاس في السنة – وهو ثابت من البخاري ومسلم – أن النبي صلي الله عليه وسلم مر علي قبر دفن فيه شخصان من المؤمنين ؛ فقال الرسول صلي الله عليه وسلم :

( ...  يعذبان ؛ وما يعذبان في كبير ؛  كان احدهما لايستبريء من بوله ؛ وكان الاخر يمشي بالنميمة بين الناس ..)

والادلة  ثواب القبر وعقابه كثيرة ؛ تتضافر علي اثبات أن قبل الجنة والنار ؛ مقدمات تحفل بالبشري للطائعين ؛ أو تطمح بالانذار للعاصين ..

وكما قال النبي محمد صلي الله عليه وسلم :

( ان احكم اذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ؛ ان كان من اهل الجنة فمن اهل الجنة ؛ وان كان من اهل النار فمن اهل النار ؛ فيقال هذا مقعده حتي يبعثك الله يوم القيامة )

( رواه البخاري ومسلم )

 

الموت مرحلة

والموت علي حقيقته مرحلة من المراحل ؛ وطور من الاطوار ؛ التي تعرو الحي في سنيه المختلفة ؛ الطفولة والرجولة والكهولة ؛ ولو تصور المقدمون علي الانتحار أ] حياة يقبلون عليها ؛ وأي مرحلة يصيرون اليها ؛ لفكروا طويلاً قبل ان يرتكبوا حماقتهم ؛ انهم يريدون بفعلتهم الشنعاء التي تغضب الله منهم – الانتحار – ان يفروا من الشعور بالضيق ؛ او الفرار من مواجهة نتائج محزنة اليمة علي انفسهم فيقدمون علي الانتحار ظنا منهم ان الموت مرحلة خالية من الشعور ؛ وغائبة عن رؤية النتائج العواقب المحذورة ؛ وما دروا او علموا ان قوام العالم الجديد الذي يقتحمون اسواره هو الاحساس المضاعف ومجابهة شتي النتائج ..

وفكرة كثير من الناس عن الموت تغلب عليها الجهالة والكفران  ؛ فالقبر - في نظرهم – مكان يخيم عليه الصمت والظلام ؛ وتعبث فيه الديدان والحشرات .. لايرون الا ذاك فحسب ..

ولسنا نتجاهل هذا المنظر الكئيب ؛ ولكننا ننكر تماما انه النهاية الحاسمة للعواطف الجياشة بالخير ؛ او المشاعر الملتهبة بالشر ؛ وما انبني علي هذه وتلك من حضارت وعمران ؛ وخصام ووئام ..

ان هذا المنظر -  القبر -  يخفي وراءه  -  في عالم لاندريه – سهول فسيحة تحفل بالازهار والانوار ؛ وتفوح منها العطور اتلمنعشة التي اعدها الله لعباده الصالحين ..

وايضا ان هذا المنظر -  القبر -  يخفي وراءه  -  في عالم لاندريه – ما تتقلب فيه الانفس الشريرة من العذاب والالام التي تئن منها وتقع تحت طائلتها من المهانة والعذاب الاليم التي اعدها الله تعالي للفاسقين عن امر خالقهم ..

وقد كان الحبيب المصطفي صلي الله عليه وسلم يفيض في شرح الحقائق المتصلة بهذا العالم الغيبي حتي يكاد سامعوه ان يرون افاقه ريا العين ؛ الصحو منها والنائم ..

وكان النبي محمد صلي الله عليه وسلم يؤسس في أفئدتهم يقيناً بأن الموت المرتقب ؛ ما هو الا مرحلة ؛ تلي هذه الحياة الدنيا ؛ تماما كما تلي الرجولة والكهولة مرحلة الطفولة ؛ فهي حياة تسبق حياة ؛ او حياة تلحق اخري ؛ ولكنها كلها  مرحلة من مراحل الحياة ؛ وان الاتي بعد الحياة ؛ اما نعيم مقيم ؛واما عذاب اليم ..

وافة النفسالبشرية ؛ انها دائما تحدث نفسها ان الموت لايزال بعيدا ؛ مع انه اقرب لاحدنا من شراك نعله كما علمنا النبي محمد صلي الله عليه وسلم ؛ فما بين لذة طعام وشراب والتمتع بمباهج الحياة الدنيا ؛ كم من امىء فاجئه الموت بغته :

((( ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)  ))) سورة الحجر

وان وقفة مفاجئة لهذا القلب الدائب الخفقان ؛ ترمي بالمرء في احضان هذا العالم الحق ؛ وتلك المرحلة الاتية لامحالة ؛ وان جلطة تأتي علي حين غفلة تنقلنا الي هذا العلالم اليقين ..

كم مرة استيقظنا فعلمنا ان احداً كان بيننا متمتعاً بتما الصحة وعنفوان العافية ؛ فجأة مات ؛ او نام صحيحا معافي ؛ فأيقظوه ؛ فما استيقظ ..؟!

وكم مرة اخبرنا اقرباؤنا ان قريبا لنا بينما كان يسير في الطريق ؛ او مسافر لبلد ما ؛ لم يكن يعاني من ثمة مرض ؛ ولم يكن حتي يشعر بثمة اوجاع ؛ سقط بلا مقدمات مغشياً عليه فلما تم نقله لاقرب مستشفي اذ بالمتخصصون من الاطباء يجزمزن بنه قد مات ؛ وقد فارق هذه الحياة الدنيا ؛ او ان شئت فقل : بل فارقته الحياة الدنيا ..؟!

وكممرة سمعنا عن جلساء المقاهي او النوادي ؛ او ندماء حانات ؛ او حتي زوار المساجد ؛ او زملاء العمل ؛ يخبرون ان رفيقا لهم ؛ وجليسا معهم ؛ مات ؛ فتجمعوا وقالوا : كيف هذا وقد كان يجلس معنا منذ قليل .. او بالامس ..؟!

ومقولة مكررة في مثل هذه المواقف ان يتوقف واحدا او اكثر متعجباً مندهشا : كيف هذا لقد كان صحيحا معافي معنا منذ قليل ..؟!

ولم يحدث لهم هذا التعجب ؛ او تلك الدهشة عبرة او انذار انهم من بعده بوسيلة او اخري قادمون لامحالة ..؟!

بل ربما بعد ايام قليلة تناسوه وغاب عن الاذهان كما غاب هو عن الدنيا ؛ لصير وحده في قبره ليس معه الا عمله الصالح او الطالح ..!

ولما ذهبوا به الي المقابر دفنوه .. وواري عليه التراب .. وعادوا .. وربما وهم في طريق عودتهم .. تحدثوا  في امور الدنيا بما ينبأ بعدم وصول ثمة رسالة للعبرة والعظة ؛ فرأينا وسمعنا ونحن افلون من الدفن من يسئل غيره عن الجاد من الامور التي تجذب للدنيا كعمل معين يدر ربح كبير ؛ أو حتي عن ميعاد مبارة كرة القدم ؛ ومكان لعبها ..

كم مرة عدنل مريض فما عدنا ..؟!

كم مرة مات امامنا عاصي علي ذنب فما اتعظنا ..؟!

كم مرة لمنتذكر ولم نعي اننا من بعده لامحالة قادمون ومقبلون علي الموت ..؟!

 انها الغقلة احدي اعظم افات النفس البشرية ..!

(((  يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)  ))) سورة الروم