عبد الرحمن الكواكبي (1854 - 1902 م) مفكر وعلامة عربي سوري رائد من رواد التعليم ومن رواد الحركة الإصلاحية العربية وكاتب ومؤلف ومحامي وفقيه شهير.

مولده

ولد في سنة 1271 هـ الموافق 1849 في مدينة حلب لعائلة لها شأن كبير. والده هو أحمد بهائي بن محمد بن مسعود الكواكبي، والدته السيدة عفيفة بنت مسعود ال نقيب وهي ابنة مفتي أنطاكية في سوريا.

[] العلم

في مدينة حلب التي كانت تزدهر بالعلوم والفقهاء والعلماء درس الشريعة والأدب وعلوم الطبيعة والرياضة في المدرسة الكواكبية التي تتبع نهج الشريعة في علومها، وكان يشرف عليها ويدرّس فيها والده مع نفر من كبار العلماء في حلب.

لم يكتفِ بالمعلومات المدرسية، فقد اتسعت آفاقه أيضا بالاطلاع على كنوز المكتبة الكواكبية التي تحتوي مخطوطات قديمة وحديثة، ومطبوعات أول عهد الطباعة في العالم، فاستطاع أن يطلع على علوم السياسة والمجتمع والتاريخ والفلسفة وغيرها من العلوم.

[] حياته

بدأ الكواكبي حياته بالكتابة إلى الصحافة وعين محرراً في جريدة الفرات التي كانت تصدر في حلب،وعرف ألكواكبي بمقالاته التي تفضح فساد الولاة، ويرجح حفيده سعد زغلول الكواكبي أن جده عمل في صحيفة "الفرات" الرسمية سنتين تقريبا، براتب شهري 800 قرش سوري.‏

وقد شعر أن العمل في صحيفة رسمية يعرقل طموحه في تنوير العامة وتزويدها بالأخبار الصحيحة، فالصحف الرسمية لم تكن سوى مطلب للسلطة، ولذلك رأى أن ينشئ صحيفة خاصة، فأصدر في حلب صحيفة "الشهباء" عام 1877، وكانت أول صحيفة تصدر باللغة العربية، وسجلها باسم صديقه كي يفوز بموافقة السلطة العثمانية ايامها وبموافقة والي حلب ،‏لم تستمر هذه الصحيفة طويلاً، إذ لم تستطع السلطة تحمل جرأته في النقد، فالحكومة كما يقول الكواكبي نفسه "تخاف من القلم خوفها من النار".‏

بسبب حبة للصحافة والكتابة تابع جهاده الصحفي ضد الاستبداد فأصدر عام 1879 باسم صديق آخر جريدة "الاعتدال" سار فيها على نهج "الشهباء" لكنها لم تستمر طويلا فتوقفت عن الصدور.

بعد أن تعطّلت صحيفتاه الشهباء والاعتدال، انكبّ على دراسة الحقوق حتى برع فيها، وعيّن عضواً في لجنتي المالية والمعارف العمومية في حلب، والأشغال العامة (النافعة) ثم عضواً فخريا في لجنة امتحان المحامين للمدينة.‏

بعد أن أحس أن السلطة تقف في وجه طموحاته، انصرف إلى العمل بعيدا عنها، فاتخذ مكتبا للمحاماة في حي الفرافرة إحدى احياء مدينة حلب قريبا من بيته، كان يستقبل فيه الجميع من سائر الفئات ويساعدهم ويحصل حقوق المتظلمين عند المراجع العليا ويسعى إلى مساعدتهم ،وقد كان يؤدي عمله في معظم الأحيان دون أي مقابل مادي، حتى اشتهر في جميع أنحاء حلب بلقب (أبي الضعفاء)‏.

تقلد عبد الرحمن الكواكبي عدة مناصب في ولاية حلب فبعد أن عين عضواً فخرياً في لجنتي المعارف والمالية، عين مديراً رسمياً لمطبعة الولاية، رئيسا فخريا للجنة الاشغال العامة في حلب وحقق في عهده الكثير من المشاريع الهامه التي افاد بها حلب والمناطق التابعة لها وفي 1892 عين رئيسا لبلدية حلب. استمر الكواكبي بالكتابة ضد السلطة التي كانت في نظره تمثل الاستبداد، وعندما لم يستطع تحمل ما وصل اليه الامر من مضايقات من السلطة العثمانية في حلب التي كانت موجوده آنذاك، سافر الكواكبي إلى آسيا الهند والصين وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا وإلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان عبد الحميد، وذاع صيتة في مصر وتتلمذ على يدية الكثيرون وكان واحدا من أشهر العلماء.

أمضى الكواكبي حياته مصلحا وداعية إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية وقد شكل النوادي الإصلاحية والجمعيات الخيرية التي تقوم بتوعية الناس وقد دعا المسلمين لتحرير عقولهم من الخرافات وقد قسم الأخلاق إلى فرعين فرع أخلاقي يخدم الحاكم المطلق وفرع يخدم الرعية أو المحكومين ودعا الحكام إلى التحلي بمكارم الأخلاق لنهم الموجهون للبشر ودعا لإقامة خلافة عربية على أنقاض الخلافة التركية وطالب العرب بالثورة على الأتراك وقد حمل الحكومة التركية المستبدة مسؤولية الرعية.

[] مؤلفاته

ألف العديد من الكتب وترك لنا تراثا ادبيا كبيرا من كتب عبد الرحمن الكواكبي طبائع الاستبداد وام القرى كما ألف العظمة للهوصحائف قريش وقد فقد مخطوطين مع جملة اوراقه ومذكراته ليلة وفاته، له الكثير من المخطوطات والكتب والمذكرات التي طبعت وما زالت سيرة وكتب ومؤلفات عبد الرحمن الكواكبي مرجعا هاما لكل باحث.

[] وفاته

توفي في القاهرة متأثرا بسم دس له في فنجان القهوة عام 1320 هـ الموافق 1902 حيث دفن فيها.

رثاه كبار رجال الفكر والشعر والادب في سوريا ومصر ونقش على قبره بيتان لحافظ إبراهيم:

هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى*** هنا خير مظلوم هنا خير كاتـب

قفوا وأقرؤوا (أم الكتاب) وسلموا*** عليه فهذا القبر قبر الكواكبي

وقد أقيم مسجد كبير في حي العجوزة بمحافظة الجيزة يحمل اسمه تخليداً لذكراه.

نقلا عن ويكيديا الموسوعه الحره

أبو الضعفاء: عبد الرحمن الكواكبي


بعد أن تجاوزَ الليلُ منتصفَه بقليل، طوى عبدالرحمن أوراقَهُ، ثم صلّى ركعتين، ودعا ربَّه أن يَهديه إلى اختيارٍ صائب، يدفعُ عنه البلاءَ ويقيه شرَّ غضبِ السلطان.

دلف(1) إلى غرفِ أولاده للاطمئنان على أغطيةِ أبنائِهِ الخمسة وبناتِهِ الأربع.. قبّلَ ابنتَهُ الصغيرة، ثم أوى إلى فراشِه، وهو يُسِرُّ (2) – كعادته – قصارَ السُّوَر من القرآن الكريم.

لم يكدْ يُنهي سورةَ " الضُّحى " حتّى سمعَ سؤالَ زوجِهِ فاطمة :

- ما الذي تنوي فعلَهُ يا أبا كاظم ؟

أجابَ متأنيّاً : - اللهُ يفعلُ مايشاء، وهو على كلِّ شيءٍ قدير. فوّضتُ أمري إلى الله. وكما قال الإمام الشافعي :

دعِ الأيّامَ تفعلْ ماتشاءُ وطِب نفساً إذا حكمَ القضاءُ ومهما حدثَ ياأمَّ كاظم، فإنني أوصيكِ بالأولادِ خيراً، وأرجو منكِ أن تستمرّي في حثِّهم(3) على متابعةِ العِلْمِ، والحفاظِ على روحِ التعاونِ بينَهُم. تصبحينَ على خير.

بالرَّغمِ من القلقِ الذي انتابَها من نبرةِ كلامِهِ وأسلوبِه، إلاّ أنّها لم تشأ الإثقالَ عليه، فلم تُزد على القول:

- تصبحُ على خيرٍ وعافية.

جافى (4) عبدَالرحمنِ النومُ وهو يفكّرُ في عرضِ السلطانِ عليه. تقلَّبَ في فراشِهِ طويلاً بحثاً عن حلٍّ مناسبٍ للخروجِ من الأزمة.

وحين كان يرتدي قفطانَهُ (5) ويضعُ عمامَتَهُ، شعرتْ زوجُهُ به فنظرتْ إليهِ بطَرَفِ عينيها، لكنَّها لم تتكلَّمْ. أغلقَ البابَ بهدوءٍ وخرجَ يتجوَّلُ حولَ القلعةِ مستنيراً بضوءِ القمر. لقد تعوّد أن يتَّجِهَ إليها ليدورَ حولَ صرحِها الأثريّ الشامخِ كلّما شعرَ بالحزنِ والغمّ. دارَ حولَها ساعاتٍ وساعات.

بدا اللّيلُ موحِشاً وهو يضمُّ بناءً ضخماً ينبعثُ منه ضوءٌ خافت، وتلوحُ خلفَهُ أشباحٌ تتحرّكُ ببطءٍ ورتابة.. ولا يصعُبُ على أحدٍ معرفةُ أنّهُمْ حرّاسُ القلعة. تذكَّرَ أيّامَ سيفِ الدولةِ الحمْدانيّ الّذي كان يجمعُ حولَهُ العلماءَ والمفكّرينَ ليشاورَهُمْ في شؤونِ البلاد.

هنا صَدَحَ المتنبي بأجملِ قصائِدِه وأبدعَ الفارابي كتابَ الموسيقا الكبير، وألّفَ كتابَ المدينةِ الفاضلة. وحيثُ تغنَّى أبو فراس(1)، هُرِعَ (2) الأصبهاني (3) لِيُقَدِّمَ كتابَهُ الأغاني إلى أميرٍ يُقَدِّرُ العِلْمَ والعُلَماء. والآن.. هذه القلعة تضمُّ والياً لايعرفُ إلاّ الغدرَ والبطش، وبدلاً من إكرام العلماء يودعهم غياهب (4) سجنها الرهيب.

يمشي الكواكبي الهوينى(5)، ويمرّ في ذاكرته شريط الذكريات.. ثلاثة وأربعون عاماً تلقي بثقلها عليه، ولا تشفع له المعاناة التي كابدها في كلّ الأعمال التي تنقّل بها وهو يحاول إصلاح مايراه فاسداً من أحوال حلب.. من المحكمة الشرعيّة إلى البلديّة إلى العمل الصُّحُفي، في كلّ مرة كان يحارب الفساد ويحاول فعل ماينفع النّاس وما يُصلح نظام الإدارة التي يعمل فيها. ومع ذلك وجد نفسه يواجه هذا المصير.

مع خيوط الفجر الأولى أتعبه المسير، ولكنّ مكانته لم تكن تسمح له بالجلوس على الرصيف ليستريح، لذلك لم يتردّد في قبول دعوة صاحب الخان حين مرّ بخان الوزير(6).

دلف إلى الخان، حيث يأوي الغرباء لقضاء ليلة أو بضع ليالٍ في حلب، لشأن تجاري أو معاملة إدارية.

أجلسه صاحبُ الخان في صدر المضافة، فراح يرتشف القهوة بصمت ينمّ (7) عن هموم ثقيلة ترمي بظلالها عليه..

في الطرف الآخر من الغرفة، كان يجلس غريب إلى جانب التاجر هاشم العطار.

سأل الغريبُ التاجر:

- مَن هذا الشيخ الجليل الذي يطفح وجهه بالبِشر، وتبدو عليه سيماء (1) الوقار ؟

أجاب التاجر: إنّه أبو الضعفاء، عبدالرحمن الكواكبي، من خيرة أهالي حلب، ووجه مشرق من أعلامها المشهورين.

- ولماذا سُمّيَ أبا الضعفاء ؟

أجابَ صاحبُ الخان:

- لأنه اتّخذ مكتباً للمحاماة يستقبلُ فيه المظلومين، ويردُّ عنهم الظّلمَ، ويسعى إلى تحصيلِ حقوقهم، ورفعِ الجورِ (2) عنهم، بتحرير شكاوى لهم من دون أجر، بل لقد كان يدفعُ عنهم رسومَ (3) العرائضِ وأجورَ البريد.

- وهل هو حلبيّ ؟

- نعم، وُلِدَ عبدُالرّحمن الكواكبيّ بحي الجلّوم في التاسع من تموز عام /1855/ ميلاديّة(4)، وعاش في حي الفرافرة القريب من قلعةِ حلب الشهباء(5). وفي حلب نشأ برعاية والده الشيخ أحمد بهائي الكواكبي الذي يمتدّ نسبه إلى علي بن أبي طالب (رض). وقد كان أميناً للفتوى في مدينة حلب، ومدرّساً في مسجدها الجامع الأموي الكبير(6)، ومديراً للمدرسة الكواكبية.

تدخّل التاجر هاشم(7) قائلاً :

- لاتنسَ أن عبدالرحمن ترعرع على حنان أمّه عفيفة بنت مسعود آل نقيب، مفتي أنطاكية (8) .

قال صاحب الخان: - لكنّ العيش في كَنَفِها (9) كان قصير الأمد، إذ توفّيت وتركته صغيراً لايتجاوز السادسة من عمره. فتعهّدته خالته صفيّة، وتولّت تربيته في أنطاكية. وقد كانت سيّدة متعلّمة، رعته أربعة أعوام، تعلّم خلالها اللغة التركية، وتلقّى بعض الدروس في الحساب، وحفظ شيئاً من القرآن الكريم.

قال هاشم: - في العاشرة من عمره عاد إلى حلب وانتسب إلى المدرسة الكواكبية، حيث أكمل حفظ القرآن الكريم، ودرس أصول الدين، وتعلّم اللغة الفارسية، ثم أخذ يطالع كتب التاريخ والفلسفة منذ صِغَره، فأصاب حظّاً وافراً من العلم، ولكنّه عانى الكثير.

قال الغريب: - الحلبيّون جميعهم يعانون، لأنهم في ولاية تابعة للسلطنة العثمانية التي نسمع أنّها غارقة في الديون والفساد، فهل هذا صحيح؟

أجاب صاحب الخان وهو يصبّ القهوة للضيوف: - نعم إن السلطان العثماني عبدالحميد الثاني مستبدّ، يرهق الولايات العثمانية بالضرائب، وهي لاتكفي حياة البذخ والإسراف التي يعيشها، لذلك يستدين. وقد حوَّل الجيشَ من مهمّةِ الدّفاعِ عن الولايات، إلى الدفاع عن أمنِهِ الشخصيّ ليضمَنَ بقاءَهُ سلطاناً. وهو يستعينُ بالجواسيس لينقلوا له أحاديثَ النَّاسِ ويشوا (1) بمن يتذمَّرُ من أسلوبِهِ في الحكم .

رشف هاشم قهوتَهُ ثم قال: فرض السلطانُ رقابةً مشدَّدةً على المطبوعاتِ والجرائد، وهو لايتورَّعُ عن التنكيلِ بمخالِفِيه، ولا يترَدَّدُ في قتلِ كلِّ مَن يعارضُهُ، حتَّى لُقّبَ بالسلطان الأحمر. وهو لايعيّنُ حاكماً على ولايةٍ مالم يتأكَّدْ من موالاتِهِ (2) والانصياعِ (3) لأوامره، وتنفيذِ رغباته.

بعد لحظة صمت سأل الغريب : - سمعنا أنّ حريقاً متعمَّداً شبّ منذ فترةٍ في أسواقِ حلب، فما هي قصّتُهُ ؟

أجابَ صاحبُ الخان: هذه إحدى أفاعيل الولاة. لقد بدأت الدولةُ بملاحقةِ الناس ليدفعوا مزيداً من الضرائب، فتذمَّرَ التُجَّارَ في سوق الصاغة(4)، واحتجّوا على ضريبة جديدة. وقد دُهشوا لأنّ أحداً لم يتعرّض لهم بسوء. لكنّ المفاجأةَ كانت بانتظارهم، فحين استيقظوا في اليوم التالي، وجدوا عدداً من الأسواق وقد التهمتْها نيرانُ ظُلْمِ الوالي، حتَّى طالت مايزيدُ على ثلاثةِ آلاف متجر.

عدّل الغريبُ جلستَهُ، ثم قال :

- إذن وسط هذا الجو نشأ الكواكبي وترعرع، فلا عجب أن نرى الحماسة في مقالاته التي ينشرها في مصر.

قال صاحب الخان: نعم، لقد حاول أن يصلح البلاد من خلال علمه، مستعيناً على ذلك بأقرانه الذين تجمّعوا حوله، معجبين بما حباه الله به من ذكاء فائق، وفطرة سليمة، وبما عُرف عنه من حبّه لأهله، وجرأته على اقتحام المخاطر.

أضاف هاشم :

- وقد أفاضت عليه لحيتُه القصيرة وعمامته المعتدلة، طلعةً مَهيبة (1).

قال صاحب الخان:

- نعم، ذلك كلّه جعل الناس يلتفّون حوله ويصغون إليه ليقرأ عليهم مايستطيع الحصول عليه من الصحف التي تصدر في مصر وبيروت وباريس، كما يطلبون إليه أن يقرأ عليهم بعض المقالات التي يكتبها، والتي فتح من خلالها أذهاننا على علم جديد هو علم السياسة، يسعى الناس من خلاله إلى تطوير حياتهم في أوطانهم.

تنهّد هاشم وهو يقول: لم تنسجم كتاباتُه مع رغبة الحكومة التي تريد أن يكيل لها المديح جزافاً (2)، فترك العمل في صحيفة (فرات) الرسميّة ليدرّس في المدرسة الكواكبية بعض الوقت، كما تقلّب في وظائف عديدة، ثم انكبّ على دراسة الحقوق حتى برع فيها، فعُيّن في لجنة امتحان المحامين.

قطّب الغريب حاجبيه وهو يسأل:

- وما هي مهمّة تلك اللجنة.

قبل أن يجيب صاحب الخان سمع أذان الصبح يُرفع، فوقف قائلاً:

- نذهب إلى الجامع الكبير لصلاة الصبح ثم نكمل الحديث.

خرج الثلاثة برفقة الكواكبي وهو مايزال يفكّر بصمت.

* * *

بعد انتهاء الصلاة، شرع الكواكبي في صلاة نافلة. ولاحظ كامل الغزّي (3) الذي أنهى صلاته أنّ صاحبَه يطيل السجود، اقترب من صاحب الخان متسائلاً:

- لقد جئتم معاً، فهل يعاني الكواكبي خطباً ما ؟

قال صاحب الخان والحزن بادٍ في عينيه : - لابدّ أنّ همّاً كبيراً يشغله، لكنه لم يفصحْ لنا عن شيء.

تدخّل الغريب في الحديث:

- قد يكون الأمر متعلّقاً بعمله في لجنة امتحان المحامين.

نظر الغزي إلى صاحب الخان مندهشاً، ثم وجّه نظره إلى الغريب قائلاً:

- لقد ترك العمل في تلك اللجنة منذ فترة طويلة.

أضاف صاحب الخان : - جاءه ذات يوم أحد الراغبين بالعمل في مجال المحاماة، وحين امتحنه وجد أنّه غير مؤهّل لهذا العمل، لكنَّ باقي أعضاء اللجنة اعتمدوه لأنّه يحمل بطاقة توصية من أصحاب النفوذ، فاختلف الكواكبي معهم. ومنذ ذلك الحين اعتزل اللجنة التي دبّ فيها الفساد، وأمست خاضعة لاعتبارات شخصية لاعلاقة لها بمؤهّلات طالبي الأعمال.

سأل الغريب: وماذا عمل بعد ذلك؟

أجاب الغزّي: - لم يجد متنفَّساً له سوى بإنشاء جريدة خاصّة يبثّ فيها أفكاره، ويعرض مشكلات أبناء وطنه، ويدعو فيها الحكومة إلى تطوير القوانين واحترامها. صمت الغزي برهة. فأردف هاشم قائلاً : - لم تسمح له الحكومة بإنشاء صحيفة خاصّة، لأنّ عمله في صحيفة (فرات) أوضح للحكومة أنه عازم على محاربة فساد إدارتها. فاتّفق معي على إصدار صحيفة باسمي ويتولّى هو رئاسة التحرير. وبالفعل، لم يمضِ زمن طويل على طلبي، حتى جاءت الموافقة على إنشاء الجريدة.

وهنا تدخّل الغزي قائلاً :

- لقد استلم الكواكبي تحرير الجريدة التي سمّاها "الشهباء" وهو مايزال في الثانية والعشرين من عمره، ممّا جعله يتوغّل (1)– مبكّراً – في خِضَمّ (2) أحداث أمّته. وقد ساعده على ذلك نشأته الدينية والوطنية، فهبّ يحارب البدع والتزمّت (3) والشعوذة، ويدعو للعودة إلى أصول الدين الذي يتميّز باللين والتسامح. وبدأ يساهم على صفحات (الشهباء) في النهضة الثقافية، وينبّه الجمهور إلى مصالحهم، ويعرض شكاواهم وحاجاتِهم على المسؤولين.

قال الغريب: لقد اطّلعت على جريدة (الشهباء) وقد كان لها صدىً واسعٌ في سائر البلاد العربية، وغدا النّاس يردّدون مقالات الكواكبي الناقدة فيها، ويحفظونها غيباً، ولكنّ الصحيفة توقّفت الآن، أليس كذلك؟

أجاب الغزّي : - حين شعر والي حلب (كامل باشا القبرصي) بخطر مقالات الجريدة على سياسته، أمر بإغلاقها وسحب رخصتها، بعد سنة من صدورها، ممّا كبّد الكواكبي خسائر كبيرة. إنّه والٍ ظالم.

أكّد صاحبُ الخان كلامَ الغزّي وأضاف:

- والوالي الذي تلاه لم يكن أفضل منه.

نظر هاشم إلى الكواكبي الذي مايزال ساجداً ثم قال:

- ولكنّ الكواكبي لم يستسلم، فحين تغيّر الوالي بعد عامين، أنشأ صحيفة أخرى سمّاها (اعتدال).

قال صاحب الخان: - لكنّ الحكومة منعتها أيضاً بعد شهرين ونصف من إصدارها.

رفع الغزّي عمامته، حكّ شعر رأسه ثم أسند ظهره إلى أحد عواميد المسجد وهو يقول :

- هكذا كان الولاة يتغيّرون، ولكن الحياة الحلبية لم تسلم من الأذى،، لأنّ السلطان بقي هو نفسه، وما فتئ يكلّف ذوي النفوس الضعيفة بحكم الولايات.

قال صاحب الخان: - هذا صحيح، فحين عُيّن (جميل باشا) والياً على مدينة حلب، نكّل(1) بأهلها وقتل وسجن ونفى كثيرين، وأرهق الناس بالضرائب، وشاعت الرشوة في فترة ولايته، من خلال سماحه للتجّار والموظّفين بمخالفة القوانين، من أجل أن يحصل على أموال طائلة يرسل قسماً كبيراً منها إلى السلطان كي يرضى عنه ويتركه في منصبه. وكي يأمن غضب الناس ويؤكّد استسلامهم وخنوعهم، أمر بمنع صحيفة (اعتدال)، وأوعز إلى أعوانه كي يطاردوا الكواكبي من أجل إسكات صوته الذي يجاهر بالحق.

تدخّل كامل الغزّي قائلاً: - أتذكر مافعلوه مع الكواكبي؟

صمت برهة ثم توجّه بالحديث إلى الغريب:

- في أحد الأيام صادروا بيته وطردوا حرّاس مزرعته وأتلفوا المزروعات، ثم ساقوه إلى دار الحكومة مكبّلاً بالأصفاد(2)، متذرّعين(3) بأنّه يثير الفتنة. فأرسل الكواكبي برقيّاتٍ كثيرةً إلى دار الحكومة في استانبول، يشكو فيها سوء معاملة الوالي له وتربّصه به . ومن كثرة البرقيّات التي أرسلها، والاضطراب الذي حدث في حلب نتيجة حبس الكواكبي، اضطرّت السلطات إلى الإيعاز بالإفراج عنه.

قال هاشم : - نعم، لقد حيكت ضدّه مؤامرات عديدة ، سيق خلالها إلى المحاكمة وبُرِّئت ساحته وثبت كذب الولاة. وفي إحدى المرّات التي سُجن فيها ظلماً، خرجت نساء حلب في مظاهرة احتجاجيّة على حبسه بغير ذنب، فاضطرت السلطات إلى إخلاء سبيله.

جلس الغزّي وأومى(1) لرفيقيه بالجلوس ثم تابع كلامه قائلاً :

- بعد أن تعطّلت صحيفتا الكواكبي، استمرّ يكتب المقالات وينشرها بأسماء مستعارة في صحف عربية أخرى تصدر في القاهرة ولبنان وباريس. في هذه الأثناء توفّي والده، ممّا أثّر في نفسه كثيراً، وشعر بغربة قاسية، وبدأ يفكّر في مصير الإنسان، ممّا دفعه إلى الاستمرار في نصرة المظلومين، وانتقاد الفساد، ومساعدة المحتاجين، واستمرّت الحكومة في إغرائه بالمناصب بعد إخفاقها في مضايقته ليسكت عن أوزارها (2).

عدّل صاحب الخان جلسته ودعا للكواكبي قائلاً : أعانه الله، إنّ المناصب لم تثنِه عن عزمه، بل آثر ترك العمل الحكومي، واتّخذ مكتباً للمحاماة مما أغضب الوالي فسعى للإيقاع به من جديد.

قاطعه هاشم :

- أتذكر حكاية القنصل أيضاً ؟

قال الغريب : - أيّ قنصل ؟

تابع الغزّي: - ذات يوم كان قنصل إيطاليا بحلب مارّاً بعربته من محلّة الكواكبي، فضُرب بحجر أصابه بألم شديد، فشكا إلى الوالي (عارف باشا) ماأصابه، وطلب إليه أن يعرف الفاعل. اغتنم الوالي فرصة الحادث لإلصاق التهمة بالكواكبي، وسارع بإرسال الشرطة إلى بيت الكواكبي لتفتيشه، ودسّ ورقة كُتب فيها مايدلّ على نيّة الكواكبي بإحداث ثورة على السلطنة العثمانية. وسرعان مازُجّ به في السجن، وأُحِيل إلى المحكمة لإصدار الحكم عليه في محكمة تأتمر بما يقوله الوالي، بعيداً عن الحق والعدل، فرفض الكواكبي المحكمة وطلب أن تُنقل المحاكمة إلى أيّ ولاية أخرى. لكنّ القاضي لم يستجب إليه، وخان ضميره وحكم على الكواكبي بالإعدام.

تساءل الغريب متلهّفاً: وكيف استطاع الكواكبي إنقاذ نفسه من الإعدام ؟

قال الغزّي – لم يرضخ الكواكبي للمؤامرة، وما انفكّ يطلب من المراجع العليا إعادة محاكمته في ولاية لاسلطة لهذا الوالي الظالم عليها. وبعد إلحاح ومثابرة قُبل استئناف الحكم ونُقلت محاكمته إلى بيروت.

قال صاحب الخان: - لقد رافقته إلى بيروت وشهدت كيف دافع الكواكبي عن نفسه في محكمتها، بكلمات بليغة وحجج دامغة، ممّا جعل المحكمة تستجيب إلى طلبه واستدعت الشهود، ومن خلالهم اتّضح للمحكمة أنّ الورقة مدسوسة بين أوراقه، كما تبيّن أن الحجر الذي أصاب القنصل، هو حجر طائش رمى به أحد الأولاد وهو يلعب. وهكذا، بعد أن أمضى الكواكبي ثمانية أشهر في السجن، أعلنت محكمة بيروت براءته من كلّ التّهم الموجّهة إليه، وأمرت بالإفراج عنه.

قال هاشم بلهجة مرحة تعبّر عن الانتصار:

- في اليوم نفسه عُزل الوالي المفتري(1) عارف باشا من منصبه، وعاد الكواكبي إلى حلب ليرى المئات من أهالي بلدته يحتشدون للترحيب به وسط زغاريد النساء فرحاً بعودته وانتصاره على أعدائه.

سأل الغريب : وما الذي فعله بعد ذلك.. وهل تخلّت الحكومة عن مضايقته ؟

أجاب الغزّي:

- تفرّغ الكواكبي بعضاً من الوقت لتدوين آرائه حول أوضاع المسلمين ومشكلاتهم وسبل(2) تطوير البلاد وتحسين ظروف العيش وإصلاح السياسة، وجمع ذلك كلّه في مخطوط سمّاه " أمّ القرى " وفيه تخيّل أنّ بعض العلماء اجتمعوا لدراسة أحوال المسلمين وأسباب تأخّرهم. واتّفقوا على إنشاء جمعية إسلامية تؤلّف بينهم تحت قيادة عرب الجزيرة لما فيهم من خصال حميدة، وتكون غاية الجمعية إعادة الحكم العادل إلى البلاد الإسلامية، وجمع كلمة المسلمين تحت راية خليفة عربيّ .

صمت الغزّي برهة وهو يتأمّل الكواكبي في سجوده، ثم تابع القول:

- أرسل الكواكبي بعض مقالاته إلى مصر حيث نُشرت بأسماء مستعارة، فلما سمع السلطان بها، أمر جواسيسه فتقصّوا له عن صاحبها، ولمّا عرفوه، استدعى السلطان الكواكبي إلى قصره، ولم أعلم أنّه عاد إلاّ عندما دخلتم المسجد معاً، وظننت أنكم علمتم منه نتائج سفره.

قال الغريب: - بدا الرجل حزيناً.

قال صاحب الخان: - ولهذا لم نسأله، وتركناه يتابع التأمّل.

قال هاشم: - دعونا نسمعْ منه عمّا حدث في الآستانة (3).

عندما نهض الكواكبي من سجوده اقترب الأربعة منه… تبادلوا الدعوات بقبول الصلاة وخرجوا باتّجاه القلعة.

بدأ الغزّي الحديث بالسؤال عن نتائج سفر الكواكبي الأخير.

قال الكواكبي: - يريد السلطان إسكاتي من خلال منصب عرضه عليّ شخصيّاً.. لقد دعاني إلى الآستانة ليخبرني قرار تعييني قاضياً في بلدة راشيّا في قضاء لبنان.

قال الغريب: - ولكنّها بعيدة عن حلب.

قال هاشم: أنا أعرفك جيّداً، لايمكن أن تغدو من أتباع الظلم بعيداً عن الذين يحتاجونك.

قال الغزي: - تريّث ياهاشم أفندي .. لايستطيع أن يرفض منصب القضاء وإلاّ غضب السلطان عليه.

قال الكواكبي: - هذا صحيح، لم أستطع رفض المنصب وأنا في القصر، خشية أن يلقي السلطان بي في البحر كما يفعل بكل من يعارضه، لذلك تظاهرتُ بالقبول، وطلبت مهلة لترتيب أمور بيتي، ولكنّني، في الحقيقة، عقدتُ العزم على رفض المنصب.

قال الغريب: - لماذا لاتسافر إلى مصر، إنّها بعيدة عن نفوذ السلطان، وهناك تنعم بالأمن وتتابع آراءك الإصلاحية، مغتنماً فرصة الخلاف القائم بين السلطان العثماني والخديوي في مصر؟

قال الكواكبي: الله يفعل مايشاء، وهو على كل شيء قدير.

تفرّق الأربعة كلٌّ إلى شأنه بعد أن دعوا للكواكبي بالخير والتوفيق.

* * *

ولكنّ ماحدث لم يكن بالحسبان، إذ سرعان مانقل جواسيس السلطان نبأ هرب الكواكبي من الآستانة متّجهاً إلى حلب. ودبّروا خطة للتخلّص منه من غير أن يثيروا أنصاره ومؤيّديه.

فحين كان الكواكبي في طريق عودته إلى بيته، فوجئ برجل ملثّم يهاجمه من الخلف ويطعنه بسكّين، ولكنّ هيبة الكواكبي ووقاره جعلا المعتدي يكتفي بطعنة واحدة ويفرّ هارباً من غير أن يجرؤ على النظر في وجه الشيخ الجليل، الذي تغلب على جراحه وزحف إلى بيت قريب من مكان الحادث، حيث أسعفه أهل البيت وأوصلوه إلى داره.

لزم الشيخ الكواكبي البيت لبضعة أيّام منكبّاً على إكمال تآليفه، ولأنّ الطعنة الغادرة أصابت يده، اضطر إلى الاستعانة بابنه كاظم وابنته عدويّة، يملي عليهما فصول كتاباته بالتناوب.

بعد شفائه من مرضه وحين وجد الفرصة سانحةً، ودّع أهل بيته الذين اتّفق معهم على اللّحاق به بعد أن يهيّء لهم الظروف المناسبة هناك، وغادر إلى مصر سرّاً، في العام الأخير من القرن التاسع عشر.

وفي مصر نشر كثيراً من مقالاته التي تدعو إلى التوعية وإلى حبّ العلم والعمل والكفاح من أجل حياة حرّة كريمة.

وذات صباح صدرت جريدة (المؤيّد) تحمل إلى قرّائها مقالةً من كتاب (طبائع الاستبداد) من دون أن تشير إلى مؤلِّفه.

وما كادت تُوزَّع أعدادٌ من الصحيفة حتى أحدثت دويّاً كبيراً في مصر، وأخذ الناس يتساءلون عن مؤلِّف هذا الأثر النفيس الذي ذيّل مقالته بتوقيع (مجيب) يقول فيها:

" ياقوم : وأريد بكم شباب اليوم، رجال الغد، شباب الفكر رجال الجِدّ، أعيذكم من الخزي والخذلان بتفرقة الأديان؛ وأعيذكم من الجهل… حماكم الله من السوء، فنرجو لكم أن تنشؤوا على التمسّك بأصول الدين، دون أوهام المتفنّنين، فتعرفوا قدْر نفوسكم في هذه الحياة فتكرموها، وتعرفوا قدْر أرواحكم وأنّها خالدة تُثاب وتُجزى… وأن تعلموا أنّكم خُلقتم أحراراً لتموتوا كراماً، فاجهدوا أن تحيوا ذلكما اليومين حياة رضيّة، يتسنّى فيها لكلّ منكم أن يكون سلطاناً مستقلاًّ في شؤونه، لايحكمه غير الحق؛ ومَديناً وفيّاً لقومه لايضنّ عليهم بعين أو عون، وولداً بارّاً لوطنه، لايبخل عليه بجزء من فكره ووقته وماله؛ ومحبّاً للإنسانية يعمل(1) على أن خير الناس أنفعهم للناس " .

شغلت تلك المقالة الناس لأسابيع، وصارت مدار أحاديثهم، مما جعل الخوف يدبّ في أوصال(2) حاكم مصر – آنذاك – الخديوي عباس حلمي الثاني، فأرسل في طلب الكواكبي محذّراً إيّاه من إثارة الفتنة من خلال مقالاته التحريضية اللاذعة. فتأكّد للكواكبي أن الاستبداد واحد في كل زمان ومكان.

لكنّ هذا الصراع في مصر، وتلك الشهرة، ورفقاء النضال والأدب؛ كلّ ذلك لم ينسِ الكواكبي أسرته، فقد كان دائم الحنين إلى زوجه وأبنائه، يحاول متابعة أمورهم وهو بعيد عنهم، من خلال مراسلتهم بلغة سهلة مبسّطة… يوصيهم بالتعاون، ويحضّهم على المثابرة في تحسين ثقافتهم وأخلاقهم، ويدعوهم إلى المحافظة على الصلاة في أوقاتها.

وداوم على مراسلتهم، باستمرار، حتى وهو خارج مصر، حيث قام برحلة إلى بعض البلاد العربية والإسلامية، للتعرّف على أحوال تلك البلاد، والتباحث مع علمائها، في سبيل إغناء فكره وإشاعة مبادئه، والتعاون معهم من أجل توعية نفوس ألفت الذلّ والهوان من طول إطباقه على الصدور. وما زال يتجوّل رغم صعوبة السفر ومشقّة التجوال، حبّاً بمعرفة أحوال البلاد وآراء أهلها، داعياً إلى وحدة الصف في وجه الطغيان والاستعمار، ولسان حاله يقول :

هلمّوا إلى بذل التعــاون إنّــه بإهمالــه إثـم على كــلّ مؤمنِ

هلمّوا إلى ( أمّ القرى ) وتآمروا(1) ولا تقنطوا(2) من روح ربٍّ مهيمنِ(3)

في تلك الأثناء، كان يعدّ فصول كتابه للطباعة، ويُعمل فكره في مسوّدات كتب أخرى. وما إن انتهى من تبييض كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) حتى نشره تحت اسم مستعار هو (الرحالة كاف) حرصاً منه على عدم استدلال جواسيس السلطان العثماني عليه. ولكنّ الناس مازالوا يسألون عن صاحب الكتاب حتى عُرف للقاصي والداني(4)، وجابت شهرته الآفاق.

والكواكبي في هذا الكتاب ينتقد السلطة العثمانية، ويبحث في نشأة الاستبداد، ويشرح عداء المستبد للحق والعدل والحرية والعلم، ويبيّن تأثيرات الاستبداد على الدين والأخلاق والتربية؛ ويبيّن فيه أصول المساواة والحرية والشورى. كما يبحث وسائل التخلّص من الاستبداد لإقامة حكومة عادلة تعتني بإنشاء المدارس لتربية الأمّة.

وحين أدرك السلطان العثماني خطورة الكتابين على مركزه وسلطته الاستبدادية، منع دخولهما إلى الممالك العثمانية، ومنع تداولهما بين الناس. بل لقد كان يحكم بالإعدام على كل من يوجد عنده واحد من هذين الكتابين.

بعد فترة قصيرة تمّت المصالحة بين السلطان العثماني عبدالحميد في استانبول، والخديوي عباس في مصر، وبدأا بالتعاون على منع كتب الكواكبي. لذلك دعا الخديوي عباس الكواكبي إلى حفل غداء في الاسكندرية، وعرض عليه أن يكفّ عن انتقاد الدولة العثمانية مقابل عفو السلطان عنه.

رفض الكواكبي العرض وقال: - لست ممّن يتركون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجل مصالحهم الشخصية… وأرجو أن يسجّل التاريخ عنّي: إنني في يوم الخميس الرابع عشر من حزيران عام 1902/ ميلادي(1) ، أعلن أنني سأبقى أحارب الطغيان حتى يزول من الوجود.

حاول الخديوي التظاهر بقبول هذا الجواب، وأصرّ على الكواكبي أن يشاركه الغداء.

بعد الغداء غادر الكواكبي مدينة الاسكندرية إلى القاهرة وهو يدرك أن الخديوي غاضب منه.

وفي مساء ذلك اليوم، كان الكواكبي متواعداً مع لفيف من أصدقائه في مقهى (يلدز) الذي يقبع في حي القبة بالقاهرة، ليتبيّنوا منه أسباب المقابلة مع الخديوي ونتائجها. ولمّا وصل إلى الموعد، طلب فنجان قهوته المميّز الذي تعوّد نادل المقهى على تقديمه إليه غير محلّى بالسكّر. ولم يكد ينتهي من رشف قهوته حتّى شعر بألم فظيع في أحشائه، فاستأذن أصحابه بالمغادرة، وانصرف مع ابنه كاظم ورفيقه عبدالقادر الدباغ إلى البيت.

وفي الطريق أصابته نوبة ألم حادّة، فطلب من ابنه أن يأتيه بطبيب، ثم خاطب رفيقه قائلاً: لقد سمّموني ياعبدالقادر. وقبل أن يصل الطبيب، عاجلَ الأجلُ الشيخَ الذي لم يكد يتمّ السابعة والأربعين من عمره. فحين عاد ابنه برفقة الطبيب وجدا الكواكبي قد فارق الحياة.

في اليوم التالي، شُيِّعَ جثمانُه الطّاهر بموكب حافل، شارك فيه الأدباء والمفكّرون والسياسيون، ودُفن في سفح جبل المقطَّم في القاهرة. وعلى القبر رثاه الشعراء والأدباء، ونُقش على قبره بيتان لحافظ إبراهيم، قال فيهما :

هنا رجل الدنيا، هنا مهبط التّقى هنا خيرُ مظلومٍ، هنا خيرُ كاتبِ

قفوا واقرؤوا (أمَّ الكتاب) وسلّموا عليه، فهذا القبرُ قبرُ الكواكبي

وصل نبأ وفاته إلى حلب، فخرج أهلها حزانى صامتين، يدورون حول القلعة، يرقبون جلالها، ويأسفون على رحيل عظماء الأمّة، ومَعقِد آمالها.

ولم تقوَ زوجُه على مفارقته، فقد توفّيت بعد تسعة أشهر من رحيله.

أما في الآستانة فقد قامت مظاهرات تطالب بالدستور، فتحوّلت الحكومة العثمانية من الحالة الاستبدادية إلى حالة المشروطية المقيّدة، وعاد مجلس النواب، ورُفعت شعارات الحرية والمساواة. وتحت ضغط الأهالي، صدر العفو عن السجناء السياسيين.

وهكذا تحققت نبوءة الكواكبي الّتي صدّر بها كتابه طبائع الاستبداد: " وهي كلمات حقّ وصرخة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح، لقد تذهب غداً بالأوتاد " .

وبعد خمس عشرة سنة نُقل جثمانه إلى مقبرة المشاهير في (باب الوزير) بالقاهرة وسط حفل تأبيني كبير.

وهكذا طُويت حياة مفكّر مجاهد من أعلام روّاد النهضة العربية، بذل وسعه من أجل خدمة الإنسان والوطن والدين، غير وَجِلٍ ولا هيّاب (1). وكان دأبُهُ رفعَ راية العروبة والإسلام، محاولاً أن يعيد حضارتنا العربية الإسلامية إلى سيرتها الأولى، حيث يتحلّى الإنسان بالعزّة والكرامة في ظلّ بلاد تحترم الحياة.



--------------------------------------------------------------------------------

(1) دلف : دخل.

(2) يسرُّ : يقرأ سرّاً .

(3) حثِّهم : دفعهم إليه، وترغيبهم به.

(4) جافاه النوم : ابتعد عنه، وأصابه بالأرق.

(5) قفطانه : عباءته. كساء يُلبَس فوق الثياب.

(1) أبو فراس: أبو فراس الحمداني شاعر فارس، ابن عم سيف الدولة حاكم حلب في القرن العاشر الميلادي.

(2) هُـرِعَ : أسرع.

(3) الأصبهاني : أبو الفرج الأصبهاني أديب، ترك بغداد واتّجه إلى حلب خصيصاً ليقدّم إلى سيف الدولة الحمداني كتابه (الأغاني) الذي جمع فيه كثيراً من الأشعار وذكر أسماء الذين وضعوا لحنها وغنّوها.

(4) غياهب : جمع غيهب : الظلمة .

(5) الهوينى : البطء في المشي.

(6) خان الوزير : مكان ينام فيه المسافرون: فندق، وقديماً كان يسكنه أحد الوزراء لذلك سمي خان الوزير.

(7) ينمّ عن هموم : يظهرها.

(1) سيماء : علامـة .

(2) الجور : الظلم .

(3) رسوم : تكاليف .

(4) الموافق 23 شوال 1271 هجرية.

(5) من أشهر القلاع في العالم، وكانت حصناً ثم غدت من أهم الآثار في سورية.

(6) من أهم مساجد حلب وأقدمهـا.

(7) هاشم العطّار تاجر حلبي عاصر الكواكبي.

(8) انطاكية : مدينة قرب حلب، احتلّها الأتراك، وما تزال محتلة حتى الآن.

(9) رعايتها وعونهـا.

(1) يشون : ينمّون ويكذبون وينقلون الكلام كالجواسيس.

(2) موالاته : مناصرته .

(3) الانصياع لأوامـره : الرضوخ لمشيئتـه.

(4) سوق الصاغة : مكان تصنع فيه الحلي من الذهب وسواه.

(1) مَهيبـة : مقدّرة ومحترمة.

(2) جزافاً : بغير حقّ .

(3) كاتب حلبي عاصر الكواكبي ، له كتاب مهم عن تاريخ حلب.

(1) يتوغّل في أحداث أمته : يسرع ويمعن في شؤونها .

(2) توغّل في خِضَمّ الأحداث : تعمّق في معرفتها.:

(3) التزمّت : التشديد .

(1) نكّـل بأهلهـا : عاقب أهلها.

(2) الأصفاد : القيـود .

(3) متذرّعين: متّخذين حجّة .

(1) أومـى : أشار .

(2) أوزار : أخطاء وذنوب.

(1) المفتـري : الكاذب .

(2) سبل : جمع سبيل، أي : طريق أو طريقة تطوير البلاد.

(3) الآستانة : الاسم القديم لمدينة استانبول الحالية، وهي في تركيا.

(1) المعنى : يعلم أن خير الناس أنفعهم للناس، ويعمل وفق علمه.

(2) أطراف.

(1) تآمروا : اجتمعوا وأنشئوا مؤتمراً للتباحث.

(2) لاتقنطوا : لاتيأسوا.

(3) هذان البيتان الشعريان من قصيدة نظمها الكواكبي، وهي من البحر الطويل، والبحر الطويل واحد من البحور التي جعلها الفراهيدي قواعد فبسط الشِّعر من الناحية الصوفية.

(4) القاصي والداني : البعيد والقريب.

(1) الموافق /5/ ربيع الأول 1320 هجرية.

(1) غير وجل ولا هيّاب : لايخاف.
  نقلاعن دار ناشري


طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد

 


طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد

المؤلف : عبد الرحمن الكواكبي

دار النشر : دار الشروق

طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد: عبد الرحمن الكواكبي

عبد
                        الرحمن الكواكبي


 
الفكرة :
 
أهم كتاب عن الاستبداد في عالمنا العربي لصاحبه الكواكبي الذي استشهد مسموما عام 1902 فأصبح كما يطلق عليه المفكر الإسلامي الكبير الدكتور محمد عمارة مجدد الإسلام وشهيد الحرية.
 
الملخص:
 

عبد الرحمن الكواكبي (1848 ـ 1902) مفكر ومصلح ولد في حلب، بدأ حياته بالعمل في الصحافة داعيًا للإصلاح والقومية العربية، فتعرض لكثير من المتاعب من قِبَل الدولة العثمانية، فسجن عدة مرات، وعاش شريدًا يطوف العالم العربي داعيا إلى الحرية السياسية، والعدالة الاجتماعية، وتجديد الدين

الكواكبي كان يرى أن الفساد السياسي هو أصل الداء وأن أي إصلاح قبل هذا سيذهب هباء.

لذلك فهو يقدم لنا هذا الكتاب وفي فصله الأول يشرح لنا ما هو الاستبداد مستشهدا بالعديد من الآيات القرآنية التي تتحدث عن الاستبداد وعواقبه القاتلة.

يبدأ بعلاقة الاستبداد والدين وكيف أن المستبدين في التاريخ استخدموا الأديان لتوطيد استبدادهم حتى جاء الإسلام وأقام دولته العادلة محاربا الظلم والاستبداد ثم يبين ما يحدث الآن من ردة تاريخية حيث عاد المستبد ليستخدم رجال الدين الإسلامي في تمرير استبداده رغم أن الإسلام بعيد كل البعد عن هذا بل ومحاربة هذا كان من أولوياته.

ثم ينتقل ليشرح لنا علاقة الاستبداد بالعلم وكيف أن المستبد لا يكره شيئا ولا يخاف من أحدا قدر العلم والمتعلمين وخاصة في علوم الفكر ولهذا فهو يبذل كل جهده لنشر الجهل ومحاربة العلم، فخلاصة الأمر أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان.

ثم ينتقل إلي فصل الاستبداد والمجد وكيف أن المستبد دائما ما يحيط نفسه بصغار الناس فيرقيهم ويعليهم ويضعهم في موضع غير موضعهم فيحاربوا قدر استطاعتهم مدافعين عن الاستبداد فلقد أعطاهم ما لا يستحقون من مجد وقيمة هم ليسوا أهلا لها.

ثم ينتقل إلي فصل الاستبداد والمال ويبدأه بمقدمة شافية يقول فيها " الاستبداد لو كان رجلا وأراد أن يحتسب وينتسب لقال : أنا الشر ،وأبي الظلم ، وأمي الإساءة ،وأخي الغدر ،وأختي المسكنة ،وعمي الضر ،وخالي الذل ،وابني الفقر ،وبنتي البطالة ،وعشيرتي الجهالة ،ووطني الخراب ،أما ديني وشرفي وحياتي فالمال ، المال ، المال " وهو بهذا يلخص تلخيصا وافيا لرؤيته لعلاقة الاستبداد بالمال.

يلي هذا فصلا عن الاستبداد والأخلاق وكيف أن الاستبداد يتسبب في إضعاف وإفساد الأخلاق الحسنة حيث يجعل الإنسان يكفر بنعم مولاه ويجعله حاقدا على قومه فاقدا لحب وطنه ضعيف العلاقة بعائلته لأنه ببساطة أصبح أسيرا للاستبداد فبقده حريته فقد أخلاقه، ثم يبين أن الأخلاق وهي القسم الثاني من الإسلام بجانب القسم الأول وهو العبادات وكيف أن الأخلاق هي المستهدفة بالإفساد حيث أن العبادات فقط تلاؤمه في الأكثر فتتحول العبادات إلي عادات وتفقد غايتها الأسمى في الرقي بالأخلاق.

يلي هذا فصلا عن إفساد الاستبداد للتربية وآخر عن كيفية التخلص من الاستبداد.

 
أقوال من الكتاب:
 
  • " وهي كلمات حق ، وصيحة في واد .. إن ذهبت اليوم مع الريح .. لقد تذهب غدا بالأوتاد "

  • " لقد تمحص عندي أن أصل الداء هو: الاستبداد السياسي.. ودواؤه هو: الشورى الدستورية ".

  • " من أقبح أنواع الاستبداد: استبداد الجهل على العلم.. واستبداد النفس على العقل! "

  • " خلق الله الإنسان حرّا، قائده العقل.. فكفر.. وأبى إلا أن يكون عبدًا، قائده الجهل!!"

  • " إن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه أعداء العدل وأنصار الجور."

  • " تراكم الثروات المفرطة، مولد للاستبداد، ومضر بأخلاق الأفراد."

  • "  الاستبداد أصل لكل فساد! "