دعا المجلس الأعلى للثقافة وكلية الحقوق بجامعة القاهرة إلى ندوة حول تطور التعليم القانونى فى مصر خلال مائة عام. وإذا كان العام الماضى هو عام احتفالات جامعة القاهرة بمضى مائة عام على إنشائها (١٩٠٨ ـ ٢٠٠٨) فإن الحقيقة أن كلية الحقوق بالذات يصل عمرها الآن إلى أكثر من مائة وعشرين عاماً.
وعندما بدأ محمد على إنشاء مصر الحديثة وأقام مدرسة الألسن ضمن ما أقامه من مدارس عليا ـ جعل فيها ركناً صغيراً للدراسات الإدارية.
وقد تكون البداية الحقيقية لدراسة القانون فى مصر أيام الخديو إسماعيل عام ١٨٦٨ بإنشاء مدرسة الإدارة العليا ولكن مدرسة الإدارة العليا هذه لم تتحول إلى مدرسة للحقوق إلا عام ١٨٨٦ بعد إنشاء المحاكم المختلطة والمحاكم الأهلية، وما يمكن أن يقال له القضاء الحديث بأعوام قليلة.
وهذا يعنى أن عمر كلية الحقوق قد بلغ الآن قرناً وربع القرن.
وقد بدأت الندوة بعد أن ألقى عميد الكلية الدكتور أحمد بلال كلمة الافتتاح - بكلمة من الدكتور نور فرحات مقرر لجنة القانون فى المجلس الأعلى للثقافة وكلمة من المستشار تهانى الجبالى نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا - حدد فيها محاور الندوة، وما يثيره موضوع الدراسات القانونية من تساؤلات وتحديات.
وقد شارك فى الندوة عدد غير قليل من أساتذة كليات الحقوق ومن كبار رجال القضاء ومن شيوخ المحامين وامتدت الندوة على مدار يوم كامل، وتبين عند نهاية اليوم أن الندوة كانت تحتاج إلى أكثر من يوم.
وكان من نصيبى أن أرأس أولى جلسات هذه الندوة.
ورغم أن الدكتورة لطيفة سالم ليست من أساتذة القانون وإنما هى من أساتذة التاريخ الحديث فقد قدمت فى تلك الجلسة ورقة تاريخية ضافية تتبّعت فيها نشأة الدراسات القانونية منذ وقت محمد على وحتى الآن.
وتتابع المحاضرون والمعقبون وأستطيع أن أجمل محاور الندوة وما أثارته من تساؤلات فى الأمور الآتية:
هل تقدمت الدراسات القانونية فى مصر على نحو مطرد أم أنها قد أصيبت فى الفترة الأخيرة بانتكاسات خطيرة أو على حد تعبير المستشار تهانى الجبالى «أين نحن الآن وما هو حال التعليم القانونى فى مصر فى المشهد العام للوطن؟».
وهل استطاعت الدراسات القانونية فى وقتنا الحاضر أن تلبى احتياجات سوق العمل، وهل استطاعت أن تصل إلى مستوى الدراسات القانونية فى دول العالم المتقدم وهل استطاعت أن تتجاوب مع ثقافة العولمة التى تسود العالم الآن؟
وتساؤلات أخرى كثيرة.
وإذا كانت الإجابة عن هذه التساؤلات بالنفى فلا الدراسات القانونية تطورت ولا استطاعت أن تلبى احتياجات سوق العمل، ولا هى اقتربت مجرد اقتراب من مستوى الدراسات القانونية فى كليات الحقوق فى العالم المتقدم، فما الأسباب والتحديات الحقيقية الكامنة وراء هذا كله؟
أذكر بهذه المناسبة حديثاً جرى بينى وبين واحد من أساتذتنا الأجلاء الكبار هو الدكتور حسين خلاف، رحمه الله. ذهبت إليه زائراً وهو مريض فى أواخر أيامه وسألنى السؤال العادى الطبيعى فى مثل هذه المناسبات: كيف الأحوال يا يحيى وكيف تسير الأمور؟
قلت كل شىء يسير إلى الوراء وقد يستثنى من ذلك الجامعة والقضاء وكان ذلك قبل وفاته، رحمه الله، منذ أكثر من ثلاثين عاماً.
فصمت الرجل الحكيم هنيهة ثم قال: يا يحيى الجامعة والقضاء جزء من المجتمع وقد يقاومان بعض الوقت عوامل الانحدار ولكن بعد فترة لابد أن يلحقهما ما يلحق المجتمع كله، إن جوانب المجتمع أشبه بالأوانى المستطرقة.
وقد تحقق ما قاله أستاذنا الجليل رحمه الله.
والسؤال الآن ما الأسباب بالنسبة لدراسات القانون بالذات وما المَخرج؟
وقد يقال ولماذا دراسات القانون بالذات؟
أظن أنه لا أحد ينكر أن كلية الحقوق هى البوابة التى يتخرج فيها من يقيمون العدل فى المجتمع سواء فى ذلك، أكانوا قضاة أم من مساعدى القضاة ولا أحد يستطيع أن ينكر أن العدل فى أى مجتمع هو قوامه وميزانه وضابطه، وأن اختلال ميزان العدل فى أى مجتمع يؤذن بانهيار المجتمع كله.
ليس معنى هذا أننى أنكر أهمية الدراسات الطبية أو الدراسات الهندسية أو الدراسات الزراعية. كلها بالغة الأهمية، والارتفاع بها ضرورى ولازم. ولكن اختلال إحداها قد لا يؤدى إلى اختلال موازين المجتمع كله كما يؤدى إليه اختلال ميزان العدل ومن هنا تكتسب الدراسة القانونية أهمية خاصة، تبرر أن يخاطب مثل هذا المقال الرأى العام المستنير كله، وألا يبقى الأمر محصوراً فى دائرة أهل القانون فقط.
وكان هناك شبه إجماع بين المتحدثين على ضرورة وأهمية مواجهة ما يعتور الدراسات القانونية فى كليات الحقوق المختلفة من خلل جسيم أدى ويؤدى إلى تهديد كيان المجتمع كله بأوخم العواقب.
ولعل أول أسباب المشكلة يكمن فى قضية أساسية تتصل بمنظومة التعليم كلها، وليس بالتعليم القانونى فحسب. إننا فى مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا نربى العقل المتلقى، العقل الذاكرة ولا نتوجه إلى العقل المتطلع، الناقد الباحث المبدع، وهذه مشكلة المشاكل والتى يترتب عليها أن «المدخلات» إلى كليات الحقوق هى مدخلات مغلوطة التكوين. وأقصد هنا بالمدخلات الطلاب الذين ينتهون من مرحلة الدراسة الثانوية ويدخلون الجامعة، وعقولهم لم تتعود إلا على الحفظ والتلقين، ولا صلة لها بالتفكير الحر المتطلع الناقد.
وإذا كانت هذه هى حال المدخلات بعامة فإن أسوأ هذه المدخلات ـ فى الأغلب الأعم ـ هم الذين يلقى بهم مكتب التنسيق فى كليات الحقوق من أصحاب المجاميع الهابطة إلا قلة نادرة هى التى تختار كليات الحقوق بإرادتها ونسبة هؤلاء لا تجاوز ٥٪ من نسبة من يدخلون الكلية كل عام، وهكذا تبدو بداية الطريق بائسة قاتمة.
وإلى جوار هبوط المستوى تأتى الأعداد الرهيبة التى تحشر بها مدرجات كليات الحقوق، من يتصور أن كلية الحقوق بجامعة القاهرة وصل عدد طلابها إلى أكثر من أربعين ألف طالب وأن كليتنا قد تكون أقل كليات الحقوق عدداً!! ويقيناً فإن سوق العمل القانونى والإدارى لا تحتاج إلى نسبة ٥٪ من هذه الأعداد.
والذى يحدث أن الذين يعينون من خريجى كل كليات الحقوق فى الأعمال القضائية لا يقتربون من نسبة ١٪ من مجموع الخريجين فى كليات الحقوق الأربع عشرة فى أنحاء الجمهورية والباقون ينضمون إلى سوق العمالة العاطلة غير المنتجة إلا الشر والنصب.
وإلى جوار هاتين المقدمتين البائستين وبعدهما تأتى برامج التدريس وطرائقه.
ويأتى ما يسمى بالكتاب الجامعى وهو بدعة ابتدعناها وصدقناها وسرنا وراءها وتمسكنا بها.
وأخيراً.. وليس آخراً مقاومة كل محاولة للتغيير والإصلاح سواء من جانب الطلاب أو للأسف المر من جانب كثرة من أعضاء هيئات التدريس.
وقد تفهم مقاومة الطلاب للتغيير بحكم أنهم أسرى ما تعودوا عليه، وأن تكوينهم العقلى المتخلف إلى حد كبير لا يساعدهم على فهم وتقبل عوامل الإصلاح.
أما أعضاء هيئة التدريس فإن مقاومتهم للتغيير للأسف مصدرها استسهال الأوضاع القائمة التى لا تتطلب منهم التفرغ للعمل الجامعى والبحث العلمى، وتتيح لهم العمل فى مكاتبهم أو فى عياداتهم حيث يحقق كثير منهم أضعاف ما تحققه الجامعة من دخل.
كذلك فإن مشكلة الكتاب الجامعى والمقررات ـ مناهج الدراسة ـ هى بدورها من المشاكل المتجذرة والتى يرفض الأساتذة ـ أو أغلبهم ـ الاقتراب الشجاع منها.
هل يتصور أحد أن عدد المقررات الدراسية فى كليات الحقوق ـ وكلها نسخ متكررة من حقوق القاهرة ـ يبلغ أضعاف أضعاف عدد المقررات فى كلية الحقوق بجامعة أكسفورد أو جامعة كمبريدج أو جامعة «ييل» وكلها من كليات الحقوق ذات السمعة العالمية العالية؟
هل يتصور أحد أن هذه الكليات جميعاً لا تعرف شيئاً اسمه «كتاب الأستاذ»، وإنما تعرف أن الأستاذ يلقى محاضراته، وأن الطلاب يرجعون إلى المراجع العديدة التى يشير إليها الأستاذ أو التى لا يمكن أن يعبر الطالب من عام إلى آخر، إلا وقد ألمَّ بالعديد من هذه المراجع.
حقاً إن عدد المقررات القليل يمكِّن الطلاب من الذهاب إلى المكتبات والاطلاع على المراجع على حين أن الوضع البائس عندنا لا يمكِّن الطلاب من البحث ولا يساعد على إنضاج العقل، وتبقى الدائرة المفرغة الخبيثة تدور.
إن الأمر يحتاج إلى مواجهة حقيقية جادة تعيد النظر فى الأعداد التى تُقبل، وفى المناهج التى تُدرس وفى طريقة التدريس ـ وفى كل شىء ـ إذا أردنا حقاً أن تكون هناك دراسات قانونية جادة ومنتجة.
والله المستعان