شناني عدد المشاركات >> 172 التاريخ >> 26/12/2002
|
عندما كنت في الصف الثالث الثانوي ، كان أستاذ الجغرافيا يقرعني أشد تقريع عندما أقول : العالم العربي . ويصرخ في وجهي : الوطن العربي يا ابني وليس العالم العربي . وقبل أن أتمكن من سؤاله عن الفرق ، يتابع : كلمة العالم يا بني تطلق على مجموعة دول متضاربة الأهواء والمصالح ، أما كلمة الوطن ، فهي تطلق على مجموعة لها روابط كبيرة غائرة في التاريخ والدين والجغرافيا واللغة وووو ، كلمة الوطن العربي يا ابني كلمة عاطفية جدا ، نحن أمة عاطفية يا ولدي .
ولكن بعد أن كبرت قليلا ، واطلعت قليلا على واقع هذا الوطن العربي ، قلت في قلبي : الله يسامحك يا أستاذي الكريم . ولا أدري كم ستحكم لي محاكم حقوق الإنسان فيما لو رفعت على أستاذي الكريم دعوى تضليل وتغرير بتلميذ ذهب ضحية مناهج التعليم العربية ، التي تشبه تحاميل خافض الحرارة وتسكين الألم ، هذه التحاميل التي جعلت كل شيء ساكنا في بلادي وبلا حرارة ، رغم التصحر الذي أصاب أرواحنا ، ثم جاءت العولمة الأميركية لتطحن ما تبقى من عظامنا وتمتص ما تبقى من دمائنا ، وتلثم ما تبقى من كرامتنا وشرفنا ، في دلالة تاريخية على أن الفتاة العذراء ، لا يمكنها أن تبقى كذلك ، بدون رجل قوي يحميها ! فالكرامة ليست كلاما يقال ، أو شعرا يغنى ، أو خطابا يتلى ، فالكرامة لا تأتي على أجنحة الخيال ، والأحلام العربية جميلة جدا ، ولكن أول خطوة لتحقيقها هي أن نستيقظ ، كما قال المفكر الليبي ، الصادق النيهوم ، وهو ، بالمناسبة ، ممنوعة كتبه في غالبية الدول العربية
ولأن الأخلاق وحدها لا تكفي ، ولأن هناك فارقا كبيرا بين قوة الحق وحق القوة فإن الله تعالى ، لم يدعنا نعتمد على كل الأخلاق الرفيعة التي جاء بها ديننا الإسلامي ، وهو حكيم عليم بأن الحجة وحدها لا تنفع في بناء وحماية الدول ، لذلك أمرنا أمرا صريحا بأن (( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ..)) ولتلك ، فإن الأخلاق ، مهما كانت رفيعة وسامية ، فهي بدون قوة تحميها ليست أكثر من عظة من فم خطيب بائس يرجو الناس بأن يستمعوا له !م
ولكن ما لي وهذا الهذيان ،
أعود إلى كلام الأخ نايف ، لأقول :
الدساتير يا عزيزي في الدول العربية ، كلها واحد ، وكلها تقوم على مبدأ واحد وإن اختلفت الصياغات والمصطلحات ، ولعل الواقع العملي ، دليل قاطع على ذلك
فالدستور العربي ، هو : ضمان بقاء وحماية الكرسي الحاكم مهما كان الثمن ، وليس مهما أن يعم الفساد ، وتخرب البلاد ، ويموت العباد ، وأن تضيع الأراضي العربية أو تؤجر ، أو تضيع الثروات العربية أو تتبخر ، أو يتحطم الإنسان العربي ويتهشم العقل العربي ، ويتحول المواطن العربي إلى كائن خرافي ، ويتحول العرب إلى مجرد جماعة إرهابية محظورة ، ليس لهم صوت ولا صورة ، ولا مكان على سطح المعمورة .... كل هذا ليس مهما
المهم أن يبقى السلطان على كرسيه متنعما ، مسرورا ببعض المنافقين من حوله الذين يجيدون فن التصفيق ، والتعذيب و ... السرقة
والشعب العربي المسكين تائه يلهث وراء لقمة عيشه ، التي باتت بيد السلطان نفسه وأعوانه وزبانيته ،
وعندما يبدأ الشعب بالتساؤل قليلا : تثار قضية جانبية حتى يلتهي فيها ويأكل بعضه بعضا ، ويعود الشعب إلى قوقعة النزاعات التاريخية ، وينشغل الشباب بالفصل بمسألة التاريخ : من كان الأحق بالخلافة ، أبو بكر أم أبو تراب !!م
وعلى شاكلة هذه القضايا ، يمضي الشعب حياته في تقاتل وتناحر وتقية ونفاق بينما السلطان وأعوانه يقطعون الكعكة بينهم
والسلطان المستبد ، تنتابه حمى هستيرية عندما يسمع بكلمة ديمقراطية . أو عندما يسمع بأي مصطلح يعني إعطاء الشعب الصلاحية لحكم نفسه أو اختيار من يحكمه ونظام الحكم .
وهذا السلطان ، يحب أن يرى الشياطين ، ولا أن يرى شعبه يطالب بسيادة القانون . لماذا : لأن الاستبداد مقترن بخرق القانون ، وبالمنح والأعطيات والمكرمات ، ولا يريد السلطان أن يشعر المواطن بأنه أخذ حقه القانوني والدستوري ، فهو إن منحه راتبا ، يسميه مكرمة ، وإن منحه ما يسد به رمقه يسميه عطاءا .. لذلك ، يحب السلطان أن يشعر كل فرد بأنه يعيش ويأكل ويشرب بفضله وبفضل رضاه وكرمه ، وأن يقتنع بأن حكم هذا السلطان هو من حكمة الرحمن ومن قضاء الله وقدره ، واقرأوا معي مقطعا من خطبة والي مكة ، خالد القسري ، أيام خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، إذ قال : (( عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة وإياكم والشبهات ، فإني والله ما أوتيت بأحد يطعن بإمامه إلا صلبته في الحرم !!! إن الله جعل الخلافة فيه بالموضع الذي جعلها ، فسلموا وأطيعوا ولا تقولوا كيت وكيت ، إنه لا رأي فيما كتب به الخليفة أو رآه إلا إمضاؤه .. )) لا تعليق لي على هذا الخطاب سوى أن شريعتنا الإسلامية حرمت قتل الحيوان في المسجد الحرام ، وقد اختلف الفقهاء فيما إذا كان يجوز قتل الأفاعي والعقارب ، فما بالنا بصلب المسلمين فيه !!!!!!!م
لذلك ، فإن السلطان دائما ومن لف لفه ، يكره مبدأ سيادة القانون ، لأنه يعطي المواطن حقه بقوة القانون ، وليس برضا السلطان ، فالسلطان يحب ويفضل نظام المحسوبيات وفق نظام الترهيب والترغيب ، لأنه يجعل الرجال يتوددون لذوي السلطان ، كي يفوزوا بالمناصب العليا ، ويغدو المنصب أو الوظيفة متوقفا على مدى رضا السلطان ، وليس بمدى أحقية المواطن وفقا للقانون
ولسان حال السلطان الحالي ، وكأنه يردد خطبة الدوانيقي ، وهو أبو جعفر المنصور ، ثاني خلفاء بني العباس والمؤسس الحقيقي للدولة العباسية في بغداد حيث خطب يوم عرفة فقال : (( أيها الناس ، إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه وتسديده !! وأنا خازنه على فيئه أعمل بمشيئته وأقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه فقد جعلني الله عليه قفلا !! إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم فتحني !! وإذا شاء أن يقفلني أقفلني !! فارغبوا إلى الله أيها الناس !!! وسلوه في هذا اليوم الشريف أن يوفقني للصواب ويسددني للرشاد ويلهمني الرأفة !! بكم والإحسان إليكم ويفتحني لأعطياتكم ))م
ولكن قد يكون هذا الخطاب ردا على خطاب معاوية بن أبي سفيان حين استلم الخلافة ، فقال في خطبة له : (( .. الأرض لله ، وأنا خليفة الله ، فما أخذت فلي ، وما تركته للناس فبالفضل مني !!))م
والدساتير العربية ، كلها تعمل وفق هذه الآلية ، مهما تضمنت من عبارات رنانة فالواقع ينطق بالحقيقة ، والسيف أصدق إنباءا من الكتب و .. الدستور ، فسيف السلطان هو الحاكم الأعلى للبلاد ، وما زالت هذه السنة سارية إلى يومنا هذا، فالسلطان هو الواهب وهو المانع ، وبكلمة منه تصعد إلى أعلى ، وبكلمة منه توضع في زنزانة منفردة تحت الأرض السابعة ، ولا سيادة قانون ولا حقوق إنسان ولا من يحزنون ، بل إن مجرد كلمة قد تجعلك وزيرا ، هل تستغرب ، اقرأ معي :
(( دخل المعتصم دار خاقان وزيره يعوده ، فمازح ابنه الفتح ، وكان عمره سبع سنين ، فقال له : يا فتح أيهما أحسن ، داري أم داركم ؟ فقال الصبي : يا أمير المؤمنين ، أي الدارين كنت فيها فهي أحسن ، فأمر الخليفة بأن ينثر عليه مئة ألف درهم !! ثم كان هذا الصبي وزير الخليفة المتوكل ابن المعتصم !!))م
وما زالت المناصب في الدول العربية ، تأتي بطريقة لا تختلف كثيرا عن ذلك
لذلك ، فأنا لا أرى الدساتير العربية ، مختلفة إطلاقا ، وهي تحصيل حاصل وجودها وعدمه سيان ، بعد أن تحول الإنسان إلى قرود كالتي ذكرها ذات مرة الأخ أحمد سليم ذات مرة
ولكن المشكلة الخطيرة حاليا ، هي قيام أميركا بمحاربة بعض الأنظمة العربية بحجة عدم احترامها لحقوق الإنسان ، وبحجة عدم ديمقراطيتها !!م
فمنذ متى كان قلب أميركا علينا . إنها خطة ومؤامرة لا أكثر
فكيف يتصرف مواطن مثلي يطالب بالديمقراطية واحترام الحريات العامة وحقوق الإنسان في بلده وسائر الدول العربية ، ثم تأتي أميركا وتنادي بنفس المطالب !!! ماذا سيكون عليه موقفي ، وكيف تجرأت أميركا على خلق هذا التماهي بيني وبينها ، رغم أنني أعتبرها العدو الأول والأخطر للديمقراطية وحقوق الإنسان وهي كاذبة في ادعائها أيضا ، لأن مصلحتها متحققة ، وتحققت كثيرا فيما مضى ، مع الأنظمة القائمة ، ولازالت هذه الأنظمة تخدم مصالحها بشكل أو بآخر ، بدليل كل هذا الذل والخنوع والسكوت عما يحدث
لذلك ، فإن أميركا الآن تقوم بضرب وخنق كل الأصوات التي تنادي بالديمقراطية واحترام الحريات العامة وحقوق الإنسان في الدول العربية ، عن طريق خلق هذا التماهي الخطير ، فتغدو مطالبتنا بهذه القيم ، وكأنه ترديد لمقولات أميركية ، أو صدى السياسة الأميركية ، رغم أن مناداة أميركا حاليا بهذه القيم ما هي إلا كلمة حق يراد بها باطل
وكما قال أحد المفكرين السعوديين على شاشة الجزيرة ذات مرة في حوار حول تحديث وتغيير المناهج ، إذ قال : بأن تغيير المناهج الدينية العربية وتحديثها بشكل عام ، هو مطلبنا منذ زمن بعيد ، ولكن لم يكن أحد يعير صوتنا أي اهتمام ، حتى جاء هذا المطلب من الأميركان ..... إنها لعبة سياسية خطيرة
وكم سيكون السلطان العربي فرحا بهذه المطالب الأميركية ، حتى يرفضها ، ويظهر بأنه يقاوم ( الإملاءات ) الأميركية ، ليبقى المواطن العربي أسير حاله البائس لعشرات السنين القادمة
كلماتك يا أخ نايف أثارتني كثيرا
واقتراحك أكثر من رائع
أن يتم الاتفاق على وضع دستور واحد لكل الدول العربية ، أو نموذج دستور يشكل حدا أدنى لضمان الحريات العامة وسيادة القانون والعدل في المجتمع ،
ولكن هيهــــــــــــات
السياسة تقوم على المصلحة فقط ولا شيء غير المصلحة ، ولكن هذه المصلحة تحتاج إلى قوة لتحققها
ولكن مصالح الشعوب العربية تركت هباءا منثورا تذروها الرياح ، ونهبا للفساد والاستبداد
والسلطان الذي يوافق على إعطاء شعبه حرية الاختيار ، ينطبق عليه المثل العربي : كالباحث عن حتفه .... بظفره
ورحم الله عبد الرحمن الكواكبي !!م
|