منذ أربعين عاماً وقف قتلة حرس الحدود الإسرائيلي في مدخل كفر قاسم ينتظرون الضحايا من سكان هذا البلد الآمنين… وفي لحظة سقط تسعة وأربعون شهيداً ما بين شاب وشيخ وإمرأة وطفل. الكل كان عائداً إلى قريته, إلى بيته, إلى زوجه وأولاده يحمل لقمة الخبز بعد يوم شاق من العمل المضني, كما يحمل بين ضلوعه الأمل بحياة أفضل وأكثر إستقراراً لكنهم حصدوا… ونحن في الذكرى الأربعين إخترنا شعاراً لها:إعترفوا بالجريمة كي لا تتكرر. والشعار موجه إلى حكومة إسرائيل,وليس الى ذلك الجانب المعترف بمسؤولية الحكومة عن المجزرة.ومنذ ارتكاب المجزرة وحكومات اسرائيل المتعاقبة تتملص من المسؤولية عن المجزرة. وللشعار بعده المتعلق بالماضي والحاضر ومن خلاله ننظر إلى المستقبل. ونريد توظيف هذه المجزرة لعدم تكرار المجازر التي لا تكف السلطات عن إرتكابها ضدنا بدءاً من سياسة التمييز, وضرب التاريخ والإنتماء, إلى ممارسات القمع ضد شعبنا والشعوب العربية ومقدساتنا ومستقبلنا. كفر قاسم التي إكتوت بنار المجزرة لا تزال تعاني من سياسة هذه الدولة وخصوصاً في موضوع الأراضي والحدود على رأس العين, والتي لا تزال تنتظر الجواب والقرار العادل من حكومة إسرائيل. في الذكرى الأربعين للمجزرة الرهيبة التي لها وقعها الرهيب وموقعها في تاريخنا الفلسطيني والعربي رأينا أن تكون هذه المناسبة مختلفة عن المناسبات الماضية, فهناك شخصيات لها مساهمتها المباركة والواضحة في الكشف عن المجزرة يبرز بينها القادة الثلاثة توفيق طوبي, مئير فلنير ولطيف دوري. ورأينا من المناسب والملائم, بل من الواجب علينا, تكريم الثلاثة الذين كانوا طلائعيين في إختراق الحصار والدخول إلى القرية. وأقل ما يمكن عمله هو منحهم مواطنة شرف تعتز بها وبهم كفر قاسم. وتأتي الذكرى الأربعون لمجزرة كفر قاسم والمشاعر والأحاسيس مختلطة. المجازر مستمرة في فلسطين, الدماء لا تزال تنزف ووضع المنطقة على شفا الهاوية. وبهذه المناسبة نقدم لجماهيرنا هذا الكراس بعنوان – المجزرة على حقيقتها – متضمناً الحقائق المؤلمة للمجزرة, والتي أسفر عنها النقاب في العقد الأخير, خدمة لأجيالنا الشابة بالذات حتى يتمكنوا من إستخلاص النتائج من الماضي ومعرفة تاريخهم بهدف ترسيخ إنتمائنا وبقائنا في وطننا الذي لا وطن لنا سواه. كما وأقدم شكري الجزيل للإخوة والأخوات من منظمة العمل الديمقراطي (دعم) على مساهمتهم الجليلة في اخراج هذه النشرة القيمة.
في التاسع والعشرين من تشرين الأول 1996, ومع إكتمال الساعة الخامسة مساءاً يكتمل العقد الرابع للمجزرة الرهيبة التي إقترفها حرس الحدود الإسرائيلي في كفر قاسم, القرية العربية الواقعة في أقصى جنوبي المثلث العربي المحاذي لرأس العين ولقريتي كفر برا وجلجولية. ولمن يريد أن يقف على أبعاد هذه المجزرة فلا بد له من إدراك أهمية موقع كفر قاسم. فهي قرية حدودية تفصل بين إسرائيل والضفة الغربية, وقد ضمت لإسرائيل مع بقية قرى المثلث بحكم إتفاقية الهدنة التي أبرمت بين الممكلة الهاشمية والحكومة الإسرائيلية, والتي قضت بتجزئة فلسطين بين الطرفين. وتم ذلك بعد أن رفعت حرب عام 1948 أوزارها, ولكن أحداً لم يسأل أهل قرى المثلث عن رغبتهم في الإنضمام إلى الدول اليهودية الناشئة, ومنذ اليوم الأول لضم المثلث لإسرائيل بدأ العد التنازلي, والذي صادفت بدايته الساعة الخامسة من التاسع والعشرين من تشرين الأول قبل أربعين عاماً خلت.
تسعة وأربعون شهيداً وشهيدة من أطفال وشيوخ, نساء ورجال, فتية وفتيات, سقطوا شهداء شهوة عسف حرس الحدود الإسرائيلي. مشاهد تضرم نيران الإنسانية التي تستنجد طالبة الرحمة, ولكن الرحمة لم تكن عند مدخل البلد فتتابع سقوط الضحايا عنده, وإمتزجت الدماء الزكية بالتربة التي ستبقى شاهدة على عمق المأساة. وبكل الألم والإشمئزاز لا بد لذاكرتنا الحية أن تستعيد سلسلة المجازر التي إرتكبت بحق شعبنا الفلسطيني. ويدرج إسم كفر قاسم من جديد في كل مقال وخطاب لدى وقوع أعمال دموية رهيبة مثل صبرا وشتيلا, والأقصى, والحرم الإبراهيمي وحتى قانا.
ولكن ما يميز هذه المجزرة الرهيبة, والمفروض أن يثير إهتمام كل مواطن داخل إسرائيل وخارجها, هو أن ضحايا المجزرة المستهدفين هم من مواطني هذه الدولة نفسها, ونفذت بأيدي وحدة تابعة لشرطة إسرائيل. أي أن الأساليب التي إستخدمت ضد هؤلاء المواطنين العرب هي نفسها التي تستخدم في العادة ضد من يعتبر عدو الدولة. وإذا كان المجتمع الإنساني برمته يحرم قتل المدنيين بدم بارد حتى في حالة حرب, فكم بالحري عندما نتكلم عن مواطني الدولة نفسها الذين يتمتعون بحقوق وواجبات بقية مواطني الدولة من أصل قومي آخر, ونعني هنا المواطنين اليهود.
بعد أن تنقضي ساعات المجزرة تترسب الآلام وتنزف الجروح, آلام عائلات تيتمت بفقدان آبائها, وعائلات ثكلت أبناءها, آلام قرية بأكملها تحيي في كل سنة ذكرى الحوادث الدموية التي لا تمحوها الأيام مهما مر عليها ذيل النسيان الطويل, وجروح تنزف في تاريخ هذا الشعب الذي لم يصل بعد إلى شاطئ الأمان. وتنتصب وثائق ومحاضر المحكمة شاهدة على فظائع تلك الأيام. فقد حظيت كفر قاسم مثل صبرا وشتيلا, والحرم الإبراهيمي, بلجنة تحقيق ومحكمة دونت شهادات شهود العيان. وأرخت الكتب والمقالات الحوادث لتكشف أموراً لم تنكشف من قبل. والأهم من ذلك هو البعد التاريخي الذي تكتسبه المجزرة المفجعة على مدى الأيام مما يزيد فهمنا لها. علينا جميعاً أن ندرك الدوافع الحقيقية لإرتكاب المجزرة, ومجريات الأمور من خلف أبواب المحكمة المغلقة, والسر الكبير الذي لم يسمح للضحايا معرفته. بعد إنقضاء أربعين عاماً بدأت الحقائق تظهر الواحدة تلو الأخرى بشكل غير منتظم. وكان علينا تركيب وجمع كل الأجزاء المبعثرة حتى تكتمل الصورة, لأن من حقنا أن نعرف الحقيقة.
في يوم 29 تشرين الأول 1956 بدأ العدوان الثلاثي على مصر شنته إسرائيل بالتعاون مع بريطانيا وفرنسا بهدف الإطاحة بنظام جمال عبدالناصر بعد تأميمه قناة السويس, وتأييده العلني للثورة الجزائرية ضد الإستعمار الفرنسي, وسعيه الحثيث لتوحيد الصف العربي ضد الوجود الإستعماري في الشرق الأوسط.
في صبيحة نفس اليوم أبلغ قائد المنطقة الوسطى, الجنرال تسفي تسور, العقيد شدمي الذي كان قائد أحد الألوية المسؤولة عن الحدود مع الأردن, والتي شملت منطقة المثلث من بير السكة حتى كفر قاسم. إن سياسة الأركان العامة تجاه السكان العرب في المنطقة تقتصر على تميكن المواطنين من مزاولة أعمالهم العادية دون إزعاجهم أو المس بهم بهدف الحفاظ على الهدوء في منطقة الحدود مع الأردن إذ أن العدوان سيتركز في الجبهة الجنوبية ضد مصر.
ولكن العقيد شدمي طلب فرض منع التجول لتسهيل إنتشار الجيش, ولمنع جنود الإحتياط, لدى إقترابهم من مواقع الجيش في الليل, من المساس بسكان القرى. وإستجاب قائد المنطقة لطلب شدمي, وتجدر الإشارة إلى أن القرى المذكورة كانت تحت نظام الحكم العسكري, وكان منع التجول الليلي بين الساعة العاشرة ليلاً والرابعة فجراً أمراً دائماً. وتم في الساعة الواحدة من بعد الظهر لقاء بين العقيد شدمي وملينكي, قائد وحدة حرس الحدود, وأمره شدمي بفرض نظام منع التجول في كفر قاسم, كفر برا, جلجولية, الطيرة, الطيبة, قلنسوة, بير السكة وإبثان إبتداءاً من الساعة الخامسة مساءً وليس من الساعة العاشرة كالمعتاد.
وأصدر ملينكي أوامره بفرض منع تجول صارم وتطبيقه بوسيلة إطلاق النار, وعندما سأله ملينكي ماذا سيكون مصير المواطن العائد من عمله دون علم بأمر منع التجول, أجاب شدمي "الله يرحمه". ونفى شدمي مقولته هذه أثناء محاكمته. وبعد ثلث ساعة من اللقاء بين ملينكي وشدمي, إجتمع ملينكي بضباطه, وأبلغهم بسياسة منع التجول المعتمدة على عدم المساس بمن يستترون في بيوتهم, وإطلاق النار على كل من يخرج منها. وأوضح القائد ملينكي أنه يفضل وقوع بعض القتلى على إتباع سياسة الإعتقالات لحفظ منع التجول في الأيام القادمة. وعندما سأل أحد الضباط مليكني, ماذا سنفعل بالمصابين؟ أجاب ملينكي, لن يكون هناك مصابون, وعن سؤال الجندي مناشيس أرييه حول مصير النساء والأطفال, أجاب ملينكي: "بلا عواطف". وعندما سأله نفس الجندي عن العائدني من العمل قال ملينكي: "الله يرحمهم".
وقسم ملينكي القرى إلى قسمين, وسلم النقيب ليفي المسؤولية عن كفر قاسم, كفر برا, جلجولية والطيرة. بينما تسلم النقيب أليكسندروني المسؤولية عن الطيبة, قلنسوة, بير السكة وإبثان. وإجتمع النقيب ليفي مع ضباطه, ومن بينهم الملازم جبريئل دهان الذي تسلم المسؤولية عن كفر قاسم, وكرر على مسامعهم أوامر ملينكي. ومباشرة بعد ذلك إجتمع دهان بجنوده قبل الوصول للموقع, وشرح لهم طبيعة المهمة التي ألقيت على عاتقهم, وأمرهم بفرض منع التجول, وإطلاق النار, وقتل كل إنسان يظهر من بعد الساعة الخامسة مساء خارج بيته دون التفريق بين رجال ونساء وأطفال وعائدين من خارج القرية, ونهاهم عن الدخول إلى البيوت وقتل نزلانها موضحاً لهم أن هذا سيعتبر عملية إغتيال, بينما قتل الناس خارج بيوتهم أثناء منع التجول يعتبر قتلاً, وهو عملية قانونية لجندي أثناء أداء مهمته.
ومن الجدير ذكره أنه بإستثناء كفر قاسم, تعامل الضباط في بقية القرى مع الأوامر الصارمة بمرونة, وكل حسب أسلوبه الخاص, ومنعوا وقوع مجازر بين العائدين من العمل الذين جهلوا الوضع داخل قراهم. وبشكل عام سمحوا لهم بدخول بيوتهم حتى بعد أن فرض منع التجول. ولكن كان معروفاً أن هؤلاء الضباط لم ينفذوا الأوامر نصاً وروحاً كما شاء قائدهم ملينكي.
في كفر قاسم قسم قائد الفصيلة دهان جبرئيل فصيلته إلى خليات مكونة من ثلاثة إلى أربعة أشخاص (بمن فيهم قائد الخلية) مزودين ببنادق أوتوماتيكية ورشاشات وبنادق. وفرض على قواد الخلايا مسؤولية تنفيذ منع التجول, ومنحهم الصلاحية لإطلاق النار حسب أوامره السابقة التي كررها.
في المدخل الغربي للقرية, المكان المشرف على الشارع الوحيد المؤدي لكفر قاسم, نصبت خلية بقيادة العريف عوفر شالوم (المتهم رقم 3), رافقه إثنان من الجنود (المتهمان رقم 4 و 5), وزودوا جميعاً ببندقية أتوماتيكية من طراز برين وبندقيتين عاديتين.
في المدخل الشرقي للقرية نصبت خلية بقيادة العريف أوليئل جبريئل (المتهم رقم 6) رافقه ثلاثة جنود (الجندي بورشطين والمتهمان 7 و 8). وضم المتهمون (رقم 6-8) لخلية عوفر في المدخل الغربي.
الملازم دهان نفسه ومعه ثلاثة من الجنود المتهمين (رقم 9-11), ومعهم سائف سيارة الجيب, شكلوا خلية متنقلة, وتجولوا في القرية مزودين ببندقية رشاش من طراز عوزي, وبرين وثلاثة بنادق عادية. وكان دور هذه الخلية الوصل بين الخليات المختلفة.
وسرى منع التجول في الخامسة, وأعلم مختار القرية بأمر المنع في الساعة الرابعة والنصف. وخلال الساعة الأولى لمنع التجول (بين الساعة الخامسة والسادسة) قتل في كفر قاسم 47 مواطناً وجرح مواطنون آخرون بجروح بليغة. وقتل منهم طفل في السادسة من عمره (عبدالله شاكر عيسى) في مركز القرية, وثلاثة آخرون (من بينهم فتى في الخامسة عشرة) في شمال القرية, أما الـ 43 الباقون فقتلوا في المدخل الغربي.
وتداولت المحكمة قضية مقتل الـ 43 في المدخل الغربي فقط. أما قضية الطفل والمواطنين الثلثاة الآخرين الذين قتلوا في مركز القرية وشمالها, فلم تدرج في جدول أعمال المحكمة, ولم تتضح ملابساتها. وقد أدرج هؤلاء الضحايا خطاً في لائحة الإتهام, وطلب النائب العام بتبرئة المتهمين من تهمة قتلهم.
المواطنين الـ 43 الذين قتلوا عند المدخل الغربي لكفر قاسم من سكان القرية (إثنان منهم من قريتين مجاورتين), كانوا عائدين ما بين الساعة الخامسة والسادسة من أعمالهم خارج القرية, ولم يعلم معظمهم بأمر منع التجول. وأتى كل العائدين تقريباً من الشارع الرئيسي. في معظم الحالات واجه العائدون عند وصولهم لحدود القرية خلية لحرس الحدود, وأمرهم قائد الخلية بالوقوف, وفي حالة واحدة كان ذلك قائد الفصيلة بنفسه, وأمر الراكبين منهم بالترجل, ولما عرف فيهم سكان كفر قاسم العائدين من عمله, أعطى أمر بإطلاق النار. ورأساً إنهال الرصاص على الواقفين, من مدى قصير من الأسلحة الأتوماتيكية والبنادق. وقتل في كلمجموعة عائدين قسم, وأصيب قسم آخر, وقلائل جداً إستطاعوا الهرب دون إصابة. وكانت نسبة القتلى بين العائدين في إزدياد, ففي المجموعة الأخيرة المكونة من 14 إمرأة وطفلة وأربعة رجال قتل الجميع ما عدا فتاة واحدة أصيبت بجراح بليغة.
بين الـ 43 قتيلاً في المدخل الغربي للقرية كان هناك سبعة من الأولاد والبنات, رياض في الثامنة, جمال في الحادية عشرة, فتحي في الثانية عشرة, رشيقة في الثانية عشرة, لطيفة في الثانية عشرة, فاطمة في الرابعة عشرة, وزهدية في الرابعة عشرة, وكذلك تسع نساء شابات ومسنات منهم حلوة في السادسة والستين.
ووقف على منصة الشهود في المحكمة 18 من الناجين, ومنهم المصابين, المشوهين والثكلى في أعقاب الأحداث المتداولة. وقدموا شهادات مسهبة ومؤثرة, وشهد كل شاهد بالقسم الذي رآه. وجمعت كل المشاهد لتكون صورة كبيرة مروعة للمجزرة المتواصلة والمنهجية. وبذل المحامون جهوداً جبارة في أداء دورهم في محكمة القتل, فحاصروا كل شاهد من هؤلاء الشهود بسيل من التحقيق والأسئلة الدقيقة والصعبة والمتواصلة, إلا أن جهودهم ذهبت أدراج الرياح. وبعد سماع كل الشهادات… نحن موقنون تمام اليقين أن أساس شهادات شهود العيان من أبناء القرية هو الحقيقة.
الأحداث المتداولة والتي قتل فيها 43 مواطناً عند المدخل الغربي للقرية, تمت جميعها بجانب مفترق الطرق المشرف على مدخل القرية حيث نصبت من بداية منع التجول خلية عوفر..
من أوائل العائدين الذين أطلق عليهم الرصاص في المدخل الغربي للقرية كانوا أربعة من عمال المحاجر, أثناء عودتهم على دراجاتهم من أماكن عملهم في ضواحي بيتاح تكفا ورأس العين. بعد وقت قصير من بداية منع التجول قطع العمال الأربعة مفترق الطرق جارين دراجاتهم بأيديهم, وبعد مسيرة مسافة 10-15 متراً على طريق المدرسة أطلق عليهم الرصاص من الخلف أو من يسارهم من مدى قصير. إثنان من الأربعة, أحمد محمد فريج وعلي عثمان طه, قتلوا برصاص حرس الحدود. محمود محمد فريج, أخو القتيل أحمد محمود فريج, أصيب في فخذه وذراعه. وعبدالله سمير بدير أسقط نفسه أرضاً دون إصابة. وسقطت على محمود المصاب دراجته وغطته, وبقي مستلقياً دون حراك طيلة بقية الحوادث الدموية التي حدثت أمامه. وفي النهاية تمكن من الزحف حتى كرم زيتون مجاور, وتمدد تحت شجرة زيتون حتى إنفجر الصبح, ووجهت طلقات الرصاص نحو عبدالله مرة أخرى عندما تدحرج من الشارع جانباً, فتنهد وتظاهر بالموت. وبعد الحادثتين التاليتين إختبأ بين قطيع من الماعز قتل راعياه هما أيضاً, وفر هارباً إلى القرية مع القطيع.
على أية حال من الواضح أن الأربعة كانوا مواطنين وصلوا إلى المكان دون أن يوقفهم حرس الحدود, ودون أن يمنعهم من المضي في طريقهم إلى القرية. وبعد أن خطوا عدة خطوات على الشارع جارين الدراجات بأيديهم بهدوء وفي ظروف لم تكن لتثير أي شك نحوهم إطلاقاً, أمطروا فجأة بسيل من الطلقات من مدى قصير مما أدى إلى مقتل إثنين منهم. ولم يقدم أي إسعاف أولي للشخص الثالث الذي سقط مصاباً تحت دراجته, طيلة المدة التي تمدد فيها في المكان أمام ناظري حرس الحدود.
بعد إنقضاء وقت قصير على الحادثة المذكورة آنفاً وصلت إلى مفترق الطرق عربة من عجلتين مربوطة ببغل, وكان بها الشاهد إسماعيل محمود بدير (50 عاماً) وطفلته (ثمانية أعوام), أثناء عودتهما من بيتاح تكفا. بجانب العربة أو خلفها سار رجلان يحملان الخضروات, أحدهما من كفر برا, والثاني هو الشاهد محمود عبدالرحيم عيسى, فتى في الرابعة عشرة. وظهر في نفس الوقت قائد الفصيلة الملازم دهان في سيارته, ومعه خليته (المتهمون رقم 9-11), والسائق حيسكل يعقوب, أثناء جولة بجانب مفترق الطرق. وأمر رجال خليته بالنزول من السيارة, فنزلوا مدججين ببندقية أوتوماتيكية, برين وبندقيتين, ونزل دهان وفي يده رشاش عوزي, وتوجه نحو العربة, وأمر إسماعيل بالنزول والوقوف مع الرجلين الآخرين في صف واحد على جانب الطريق. وأمر دهان الفتي بركوب العربة والعودة للقرية مع الطفلة الباكية. ولما رأى إسماعيل جثث القتلى من الحادث السابق, وشعر بما سيؤول إليه مصيره, توجه لدهان قائلاً: "دخليكم! لماذا تنوون قتلنا؟" فأجاب دهان: "إخرس!" وأعطى أمر بإطلاق النار. وأطلق هو الرصاص لعى الرجال الثلاثة من العوزي الذي حمله. وكذلك أطلق المتهمن 9-11 النار على الثلاثة حسب أمر قائد الفصيلة.. وأصيب الرجال الثلاثة الذين وقفوا على حافة الطريق بالرصاص, وسقطوا أرضاً, حسب شهادة إسماعيل, والذي نصدقه, إستمر إطلال الرصاص عليهم حتى بعد أن إنطرحوا أرضاً, إثنان من الثلاثة, وهما الماشيان اللذان حملوا الخضروات, غازي محمود دوريش, ومحمد عبد سمحان عاصي, والمكنى أيضاً أبو سماحة مواطن كفر برا – قتلا. وأصيب غسماعيل بجروح بليغة بسبب عدة طلقات في خاصريه وفي فخذه, وظن حرس الحدود أنه قد مات. وصرح دهان في شهادة أمام الضابط المحقق بقوله: "قتلنا ثلاثتهم".
الدور الفعال والحاسم للمتهم دهان في الحدث أثبت من خلال شهادة سائق سيارته, الجندي حسكيل يعقوب, ومن خلال إفادة دهان نفسه… "الرجال الثلاثة المذكورون حاولوا الهروب وكان علينا إطلاق الرصاص بإتجاههم" – هذه الإفادة ليس لها ما يبررها. بعد الإستماع إلى كل الإثبتات ليس لدينا أدنى شك أن هؤلاء الذين أطلق عليهم الرصاص من قبل دهان وحسب أوامره, لم يحاولوا الهرب وتصرفوا بشكل ملائم لا ريب فيه. بل إن كل الملابسات بما فيها الإستعدادات التي قام بها دهان, أمره الرجال الثلاثة بالوقوف في صف واحد وإبعاد الشاب والطفلة اللذان كانا برفقتهم, يعتبر ذلك مؤشراً واضحاً لوجود نية متعمدة عند دهان لقتل هؤلاء الرجال رمياً بالرصاص. هؤلاء الرجال الثلاثة كانوا مواطنين عاديين إنصاعوا لأوامر دهان, ووقفوا مجردين من أي سلاح أمام خلية من الجنود المسلحين بالبنادق والبنادق الأوتوماتيكية من طراز عوزي وبرين. لقد توسل إسماعيل للإبقاء عليه وعلى زملاءه أحياء, إلا أن دهان رد عليهم بأمر إطلاق النار. يصعب تصور ملابسات أكثر قسوة من قتل أبرياء بأيد عنيفة. نحن نرى أن المتهم دهان قتل مواطنين أثنين بدم بارد وبشكل متعمد…
بعد وقت قصير من عملية القتل عاد راعي أغنام وإبنه, وهو فتى في الثانية عشرة من عمره, مع غنمهما من المرعى. وإقتربا من طريق مسحة بالقرب من مفترق الطرق, حيث مرت الأغنام ووصلت إلى المدرسة داخل القرية. ورمى الراعي الحجارة بإتجاه أغنامه كي يوجهها بإتجاه طريق مسحة. وقام الجنود الإثنان أو الثلاثة الذين وقفوا بالقرب من مفترق الطرق بإطلاق النار من مدى قصير بإتجاه الراعي وإبنه وأردوهما قتيلين. إسما القتيلين: عثمان عبد عبدالله عيسى وفتحي عثمان عبد عيسى.
الجنود الذين وقفوا في الطرف الآخر من مفترق الطرق شاهدوا الراعي وإبنه من مسافة قصيرة جداً, ولم يكن من الممكن أن يشعروا بالتعرض للهجوم بسبب رمي الحجارة بإتجاه الأغنام, الأمر الذي يعتبر عملاً عادياً بالنسبة للرعاة. إن قتل الراعي عثمان عيسى وإبنه فتحي بالرصاص الذي أطلق من بعد قصير لم يكن له ما يبرره.
الشاهد عمر محمود عودة (57 عاماً), وهو مزارع وتاجر, وصل إلى مفترق الطرق في شاحنته من بيتاح تكفا. وجلس الشاهد عمر بجانب السائق, في حين جلس في الخلف إبنه وشريكه, وهو مواطن من كفر برا, وعاملان من كفر قاسم, وعند إقتراب سيارة الشحن من مفترق الطرق رأى الشاهد عمر الجنود وهم يطلقون النار على أحد المواطنين, ولذلك أمر السيارة بالتوقف. وتوجه أحد الجنود إلى السيارة, ودن أي سؤال أمر سائقها بمواصلة القيادة, فإنصاع السائق لأمر الجندي. وفوراً بعد إجتياز السيارة للمفترق أطلق الجنود النار عليها من الخلف, وإستمر إطلاق النار طيلة المدة التي إبتعدت فيها سيارة الشحن من المكان. وأصيب السائق بالذهول فإنحرف بالسيارة إلى جانب الطريق, لكنه سرعان ما عاد إلى صوابه, ووصل بالسيارة إلى بيت عمر عودة الواقع خلف المدرسة. وحين إلتفت عمر عودة إلى صندق سيارة الشحن, وجد شريكه محمود عبدالغافر ريان مقتولاً جراء إطلاق النار, ولا ريب أنه قتل برصاص الجنود الذين وقفوا إلى جانب المفترق.
بعد وقت قصير على وصول سيارة الشحن المذكورة, وصلت إلى المفترق عربة من أربع عجلات مربوطة ببغل تحمل صاحبها الشاهد إسماعيل عقاب بدير, أثناء عودته من بيتاح تكفا, وكان برفقته إبن عمه الشاهد توفيق إبراهيم بدير. وعلى مسافة قريبة من مفترق الطرق أوقف جندي العربة, وأمر الشاهدين بالنزول من العربة والوقوف إلى جانبها. ووقف بجانب المفترق جندي, وقريباً منه بجوار المدرسة وقف جنديان إضافيان مسلحان. وفوراً بعد وصول العرب وصلت مجموعات من راكبي الدراجات إلى مفترق الطرق, وكان أولئك عمال في طريق عودتهم من عملهم, وكانت مصابيح دراجاتهم مضاءة, وأمرهم الجنود بوضع دراجاتهم بجانب العربة, والوقوف في صف واحد مع ركاب العربة وبقية راكبي الدراجات. مجمل عدد الناس الذين أوقفهم الجنود على هامش الطريق كان 13 تقريباً. أحدهم, وهو المرحوم سليم أحمد بشير بدير, وقف في آخر الصف, فصرخ في وجهه أحد الجنود: "يا كلب قف في منتصف الصف", فإنتقل المرحوم إلى منتصف الصف.
… وعندما لم ير الجنود في الأفق مصابيح لدراجات إضافية سأل الجندي المذكور أعلاه الواقفين في الصف من أين هم. وكان جوابهم جميعاً أنهم من كفر قاسم. وفي هذه اللحظة خطا الجندي خطوة إلى الوراء, وأمر الجنديين اللذين إستلقيا في خط عسكري لصف المواطنين (في أيدي أحدهما كان رشاش من نوع برين كما إتضح لاحقاً): "أحصدهم" وفور ذلك أطلق وابل من الرصاص على صف الرجال الواقفين في الصف, فسقطوا جميعاً ما عدا مصطفى (جينجي) السريع الذي هرب وقفز فوق الجدار. وواصل الجنود إطلاق النار على الرجال المطروحين أرضاً, والذين بدت عليهم علامات الحياة, وحين تبين للجنود أنهم جميعاً قد فارقوا الحياة أو على وشك مفارقتها, أخلوا الشارع من الجثث, وكدسوها في أكوام إلى جانب الشارع. وقتل منهم ستة وأصيب أربعة بجروح بليغة. وفيما يلبي أسماء القتلى: محمود عبدالرازق صرصور, علي نمر محمد فريج, صالح محمد أحمد عامر وسليم أحمد بشير بديير, عبدالله عبدالغافر بدير وعبدالله سليم صالح عيسى. وأتبع قتل راكبي الدراجات بوقت قصير إقتراب سيارة شحن من مفترق الطرق, وكانت مصابيحها مضاءة. وأمر الجندي سيارة الشحن بالتوقف على بعد 10-15 متراً قبل مفترق الطرق, وأمر السائق والركاب الـ 18 بالنزول والوقوف في مجموعة واحدة في الجانب الشمالي من الطريق بالقرب من سيارة الشحن. وبعد أن سأل الجندي الواقفين من أين هم, وأجابوا أنههم من كفر قاسم, أمر الجندي الجنديين الآخرين اللذين رقدا إلى جانب الشارع بين مفترق الطرق وبين العمال, وكان بحوزة أحدهما رشاش من نوع برين بإطلاق النار, فأطلقا النار على الرجال الـ 19 الواقفين, فقتل منهم عشرة, وهم عطا يعقوب عبد صرصور, رياض رجا حمدان داؤود, جمال سليم محمد فريج, جمعة محمد عبد صرصور, موسى ذياب عبد حمد فريج, عبد سليم محمد طه, صالح مصطفى أحمد عيسى, عبدالرحيم محمد أحمد بدير, أحمد محمد جودة عامر وجمعة توفيق أحمد جبارين.
… رجا, وهو مدير عمل في عسفيا, روى في شهادته أنه في الساعة الخامسة بعد الظهر جاء لمكان عمله إبنه الصغير رياض برفقة الطفل جمال إبن الجيران, وأخبره بأمر منع التجول في القرية, وأن زوجته تطلب منه العودة بسرعة للبيت. وحصل رجا على تصريح بعودة العمال إلى كفر قاسم, وهكذا ركب حوالي 12 عاملاً شاحنة عطا الذي كانت سيارته تنقل عمال المحاجر والعمال الزراعيين في محيط بيتاح تكفا, وتوجهوا إلى القرية. وكان الركاب الـ 19 الذين إستقلوا هذه الشاخحنة بمن فيهم السائق, على علم بمنع التجول في القرية, وذلك بخلاف المجموعات الأخرى من الركاب العائدين إلى القرية, لكنهم لم يروا في ذلك سبباً يمنعهم من العودة للقرية. بل العكس, فقد سارع عمال عسفيا إلى العودة بسبب منع التجول, وكان رجا يحث السائق الذي قال أنه لا يملك رخصة, لحمل الركاب جميعهم في سيارته لأنه إعتقد أن الدخول إلى البلد في السيارة آمن من دخولها سيراً على الأقدام.
وبعد أن توقفت السيارة, ونزل منها كافة العمال صاح إبن رجا من السيارة, "يابا نزلني!" وعاد الشاهد إلى السيارة, وأنزل إبنه, وإنضم إلى مجموعة العمال الواقفة بجانب الشارع. وتوجه الشاهد فيما بعد إلى الجندي الواقف أمام العمال ليريه بطاقة هويته ولسؤاله عن سبب توقيفهم, لكن في نفس اللحظة أمر الجندي بإطلاق النار, فسقط وابل من الطلقات على مجموعة العمال, فقفز رجا إلى خلف السيارة, وإختبأ فوق جدار الصبار. ولدى قيامه بذلك وجه الجنود نارهم إلى الجدار, ونجا بذلك بعض العمال. رياض إبنه (في الثامنة من عمره) وزميله جمال (في الحادية عشرة) كانا من بين القتلى.
الشاهد عيسى, وكان صبياً في الثالثة عشرة, وقف مع المجموعة التي أطلق عليها الرصاص. ووقع عيسى دون أن تصيبه أي رصاصه, وأغمي عليه, أما شقيقه موسى الذي كان في المجموعة فقد قتل.
الشاهد عبدالرحيم الذي كان هو الآخر في هذه المجموعة, وقع خوفاً من طلقات الرصاص, لكنه لم يصب حينها. وبعد ذلك توجه أحد الجنود إلى أحد المصابين بالرصاص, وأطلق النار بإتجاه من تبين أنه لا يزال على قيد الحياة, وهكذا أصيب الشاهد في رجله ويده أثناء تمدده على الأرض.
وكان الشاهد جمال واقفاً في المجموعة التي أطلق عليها الرصاص, لكنه لم يصب ولم يقع, بل هرب إلى خلف سيارة الشحن المحاذية, وإختبأ تحت صندوق السيارة فوق العجل الإضافي. وروى الشاهد أنه كان مختبئاً هناك مع ثلاثة من زملائه, وحين إكتشف أحد الجنود وجودهم أطلق النار عليهم. وكدس الجنود جميع الجثث فوق بعضها, وساقوا السيارة إلى جانب الشارع.
لقد نفذ عوفر وخليته قتل ركاب سيارة الشحن بنفس الأسلوب الذي تميز بتوقيف السيارات, وأمر ركابها بالنزول منها, ونصبهم أمام الرشاشات, والإستفسار عن هوية العائدين إلى القرية وأطلق النار صوبهم. هكذا نفذ الجنود, قبل ذلك بدقائق معدودة, قتل راكب الدراجات في مكان قريب. إن قتل الضحايا العشرة الآخرين, ومن بينهم صبيين صغيري السن, نفذ بدم بارد وبشكل متعمد.
بعد وقت قصير من قتل ركاب سيارة الشحن وإزاحة السيارة من الشارع, أوقف عوفر وخليته سيارة شحن أخرى في مكان يبعد عن الأول عشرة أمتار غرباً (بالقرب من نقطة رقم 14 في الرسم المسجل ت/2). وكان في مقدمة السيارة سائقها ورجل آخر. وأمر الجنود هذين الرجلين بالنزول, وسألوهما من أين هم, وبعد أن أجابا أنهما من كفر قاسم, أطلقوا النار صوبهما فأردوهما قتيلين. وهما محمود خضر جابر صرصور ويوسف محمد إسماعيل صرصور.
بعد هذا الحادث بوقت قصير, وصلت إلى المكان سيارة شحن ثالثة كانت تنقل أربعة رجال (بمن فيهم سائق من الطيبة), و14 إمرأة وطفلة تتراوح أعمارهن بين 12-66 عاماً. وكان ركاب هذه السيارة جميعاً عائدين إلى كفر قاسم من عملهم في قطف الزيتون في اللد. ودخلت السيارة مفترق الطرق دون أن تتوقف, فركض أحد الجنود الذي تواجد في مكان الحادث السابق, خلف السيارة, وصاح "قف!". ولكن السيارة واصلت طريقها, ودخلت إلى طريق المدرسة, فإجتاز الجندي الشارعين, وصرخ مرة أخرى "قف, قف!" وهو ينادي جنديين آخرين تواجدا في المكان, لمرافقته, فإنضما إليه. وتوقفن سيارة الشحن في النهاية على طريق المدرسة (بين النقاط 10 و14 في الخريطة). وأمر الجندي الركاب بالنزول من السيارة. ونصب السائق السلم بجانب صندوق السيارة, وتوجه إلى النساء قائلاً: "يا أخواتي إنزلن, وأعرضن بطاقات هويتكن". ولما لحظت النساء وجود جثث أبناء قريتهن في مفترق الطرق توسلن أمام الجندي أن يرحمهن ويبقيهن على قيد الحياة. إلا أن الجندي لم تصغ لتوسلهن ولم يهتم ببطاقاتهن, وأصر على نزول الجميع من السيارة. وعندما نزلت جميع النساء الـ 14 والرجال الأربعة, أمر الجنود الذين وصلوا إلى المكان بإطلاق النار. وواصل الجنود إطلاق الرصاصات صوب المجموعة, ولم يتوقفوا إلا حين تأكد لهم أن 17 من 18 نفراً قتلوا بالفعل. وكان الإنسان الوحيد الذي نجا هي حنة سليمان عام (16 عاماً), والتي أصيب إصابات بليغة في رأسها ورجلها, وبدت للجنود وكأنها فارقت الحياة. وفيما يلي أسماء القتلي: محمود محمد مصاروة – السائق من الطيبة, محمد ذياب عبد صرصور, محمد سليم صرصور, عبدالله محمد عبد صرصور, صفا محمد صرصور, فاطمة صالح أحمد صرصور, وآمنة قاسم سعيد طه, خميسة فرج محمد عامر, زغلولة أحمد بشير عيسى, حلوة محمد عودة بدير, فاطمة داؤود حمد صرصور, رشيقة فائق إبراهيم بدير, زينب عبدالرحمن طه, فاطمة محمود سليمان بدير, فاطمة مصطفى محمد عيسى, لطيفة داؤود محمد عيسى وزهدية (بكرية) محمود إسماعيل طه. وبلغ عمر رشيقة ولطيفة 12 عاماً, وعمر فاطمة صالح وزهدية 14 عاماً.
في هذه المجزرة تبرز النسبة العالية من القتلى في المجموعة. ومن مجموعة راكبي الدراجات والعربات الذين أوقفوا في صف واحد على طرف الشارع في ساعة مبكرة نسبياً, وكان من الممكن للجنود رؤيتهم بشكل أفضل, قتل ستة من أصل 13, ومن بين ركاب سيارة الشحن الأولى قتل عشرة من أصل 19. أما في المجموعة الأخيرة التي لم يطلب منها الإنتظام في صف, والتي أطلقت النار عليها أثناء العتمة, فقد قتل 17 واحداً من 18, والوحيدة التي نجت من القتل إعتقد أنها كانت ميتة. هذه الوقائع تثبت بشكل قاطع أن إطلاق النار بإتجاه المجموعة الأخيرة لم يقتصر على الطلقات الأولى, وأن الجنود واصلوا إطلاق النار فيما بعد. إذ أنه ليس من الممكن قتل 17 من أصل 18 نفراً من الواقفين بجانب السيارة بإطلاق النار من أول مرة.
…. إننا على يقين أن قتل الرجال والنساء المذكورين كان قتلاً متعمداً ومنهجياً لكل واحد من الضحايا (رجل أو إمرأة أو فتاة) الذين لم يقتلوا جزاء الرصاصات الأولى.
رغم أن المجزرة وقعت في 29 تشرين الأول, إلا أن تفاصيلها منعت من الوصول للرأي العام حتى 17 كانون الأول, أي بعد مرور شهر ونصف, ونشر أو خبر في الصحف بعد أسبوع من المجزرة بتاريخ 6 تشرين الثاني. وأفاد الخبر أنه: "تشكلت لجنة تحقيق للبت في أحداث كفر قاسم, جلجولية والطيبة". وأضاف أن "بعض العرب قتلوا وأصيبوا أثناء منع التجول الذي فرض على هذه القرى في 29 تشرين الأول.
في الأول من كانون الثاني, أي بعد يومين من المجزرة, عين رئيس الحكومة ووزير الدفاع, دافيد بن غوريون, لجنة تحقيق ترأسها رئيس المحكمة المركزية في حيفا آنذاك, القاضي بنيامين زوهار, والمحامي حوطير إيشاي, ورئيس بلدية حيفا أبا حوشي. وقررت اللجنة ما يلي: أولاً, إحالة ضابط اللواء وعدداً من الضباط (لم تذكر أسماؤهم) لمحاكمة عسكرية بتهمة تنفيذ أمر غير قانوني. وثانياً دفع مقدمة تعويضات بقيمة ألف ليرة لعائلات الضحايا.
ونظراً للتعميم الإعلامي الكامل عن الحدث, توجه عضو الكنسيت توفيق طوبي من الحزب الشيوعي, برسالة لمئات العناوين سارداً فيها ما حدث في كفر قاسم محاولاً كسر الطوق الإعلامي, وفرض محكمة علنية ضد المجرمين, وكشف عن المسؤولين ليس على مستوى الجيش فقط, بل على المستوى الوزاري أيضاً, هذا بعد أن إستطاع هو وزميله مئير فلنير في إختراق الطوق وتقصي الحقائق.
في رسالته الشهيرة, نادى توفيق طوبي كل أصحاب الضمائر الحية إلى عدم الوقوف مكتوفي الأيدي إزاء جريمة القتل في كفر قاسم. وحذر من محاولة الحكومة التنصل من مسؤوليتها عن المذبحة بإلقاء اللوم على ضباط الجيش الذين نفذوا أمر غير قانوني. ووجه طوبي إصبع الإتهام للمسؤولين عن سياسة ملاحقة الجماهير العربية, وممارسة سياسة الإضطهاد القومي, وفرض الحكم العسكري الذي يتعامل مع المواطنين العرب معاملة عدوانية, وكأنهم عديمي الحقوق. وإستنتج طوبي أن المذبحة في كفر قاسم هي نتاج السياسة الرسمية للحكومة تجاه الجماهير العربية.
ولم يقف توفيق طوبي عند هذا الحد, بل طالب بتشكيل لجنة شعبية موسعة للتحقيق في ملابسات الجريمة, هدفها كشف المسؤولين وخلفيات الحادث الرهيب. والبت في السياسة الحكومية تجاه الجماهير العربية, على أن تقدم إستنتاجاتها للكنيست والرأي العام. كما حذر طوبي من تشكيل محكمة صورية وسرية لا تأتي بالفائدة المرجوة.
ونجح لطيف دوري, النشيط في حزب مبام حينذاك, بالتسلل للقرية بعد ثلاثة أيام من وقوع المجزرة, وجمع شهادات الناجين من المذبحة من مصابين وناجين. وعمل بالتعاون مع صحافيين مثل أوري أفنيري, الذي حرر أسبوعية "هعولام هزيه", ونخبة من المثقفين والأدباء اليهود على توزيع نشرة بعنوان "كل شيء عن كفر قاسم" كشفت الحقائق أمام الرأي العام. وتبع ذلك موجة عارمة من المقالات ورسائل القراء مطالبة بمحكمة علنية.
إزاء ردود الفعل هذه إضطر بن غوريون للتوجه للكنيست في 12 كانون الأول, وكشف الحقائق لأول مرة بعد شهر ونصف من تاريخ المجزرة, وعمل جاهداً لمنع أي نقاش في الموضوع على مستوى الكنيست أو الصحف متذرعاً بأن يمس أمن الدولة. وفي خطابه أمام الكنيست تأسف بن غوريون بإسم الحكومة والشعب الإسرائيلي على المجزرة, وسرد تفاصيل الإجراءات التي إتخذت بحق الضباط الذين كان لهم ضلع بالمجزرة, وذكر التعويضات التي خصصت لعائلات الضحايا.
بعد أن إخترقت الحقائق الطوق الإعلامي, إنتقلت القضية إلى المحكمة العسكرية التي إفتتحت جلستها في 15 كانون الثاين 1957, وترأسها رئيس المحكمة المركزية في القدس, القاضي بنيامين هاليفي. ومثل أمامه 11 ضابطاً وجندياً من حرس الحدود, وعلى رأسهم المقدم ملينكي, والملازم جبرئيل دهان, وشالوم عوفر الذي قتل شخصياً معظم الشهداء. لقد أصبحت محاضر هذه المحكمة وثيقة تاريخية من الدرجة الأولى, وتثبت من جديد في كل قراءها لها مدى الوحشية والكراهية والتوجه العدواني لكل ما هو عربي. وأدين المتهمون بالقتل بتاريخ 16 أيار من عام 1958. ولكن القضية لم تنته عند هذا الحد, فقد أستؤنف الحكم في المحكمة العسكرية. وفيها بدأت محاكمة قائد اللواء, العقيد شدمي المسؤول المباشر عن ملينكي
في الثاني من تشرين ثاين 1958 إستهلت محكمة العقيد شدمي بعد توجهه بن غوريون مطالباً إياه بإجراء محاكمة نزيهة حتى يستنى له الدفاع عن سمعته التي تشوهت أثر محاكمة المقدم ملينكي الخاضع لأوامره. ورغم أن الحكم الهزيل بتبرئته من القتل وتغريمه بدفع قرش واحد بقي محفوراً في عمق الذاكرة, إلا أن المحاضرة العلنية والسرية لهذه المحكمة كشفت وقانع لم تكشفها محكمة ملينكي, مما أضفى ضوءاً جديداً على القضية. فقد تبين أن الجنود الـ 11 المتهمين بتنفيذ مذبحة كفر قاسم لم يكونوا سوى الأيدي المنفذة لعقول خطت ودبرت على أعلى مستوى من رئاسة الأركان ووزارة الدفاع, والمعنيان هما الجنرال موشيه ديان ورئيس الحكومة ووزير الدفاع دافيد بن غوريون.
في صحيفة "حداشوت" من تاريخ 25 تشرين الأول عام 1991, الذي صادف مرور 35 عاماً على وقوع المجزرة, كشف الصحافي روبيك روزنتل حقيقة ملابسات المذبحة, وذلك بعد إجرائه بحثاً حول المجزرة لغرض كتابة مسرحية حول الموضوع, فإلتقى الكثير من الشخصيات التي كان لها ضلع بالموضوع, وسمح له بقراءة محاضر محكمتي ملينكي والعقيد شدمي في الأرشيف التابع لجيش الدفاع الإسرائيلي, ووثائق لم يكشف عنها قبل ذلك. ويقول روزنتل أنه ليس من الممكن فهم المذبحة دون معرفة المخطط العسكري المذهل الذي شكل الخلفية لها, والذي يحمل إسم "خلد". ويستهدف هذا المخطط إخلاء المواطنين العرب من المثلث ليس واضحاً إلى أين, وذلك في إطار حرب محتملة مع الأردن عشية العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
وتشير محاضرات جلسات المحكمتين إلى تناقضات بين أقوال ملينكي وأقوال قائده المباشر شدمي حول طبيعة الأوامر التي صدرت بكل ما يتعلق بفرض منع التجول على القرى العربية. وكان المخطط الوحيد الذي علم به ملينكي بكل ما يتعلق بمنع التجول, مربوطاً بنشاط حرس الحدود في حالة حرب مع الأردن, وسمي هذا المخطط بإسم (س59) أو "خلد" وكان أساسه إخلاء عام لعرب المثلث في حالة حرب مع الأردن.
مخطط "خلد" لم يبق مجرد مخطط, بل أعدت العدة لتنفيذه في سياق الإستعدادات للحرب. وكان منع التجول على قرى المثلث, والذي وافق عليه قائد منطقة الوسطى تسفي تسور حسب طلب قائد اللواء شدمي, جزء لا يتجزأ منه. وأكد ذلك العقيد حاييم هرتسوغ, الذي أصبح رئيس الدولة لاحقاً, في محكمة شدمي عندما قال أن أمر تسور بفرض منع التجول كان صحيحاً على ضوء مخطط (س59), وأن الأمر في المنطقة الخاضعة لقيادة شدمي كان معقولاً, فمخطط (س59) ألغي ولكن الخلفية بقيت كما هي. رئيس الأركان آنذاك, الجنرال موشيه ديان, شهد في محكمة شدمي مؤكداً معرفته بهذه الوثائق, ومن هنا فهو يرى أمر المنع مقبولاً بالتأكيد.
أما شدمي نفسه فقد شهد في محكمته أنه لم يطلب تقديم ميعاد بدء منع التجول للساعة الخامسة, بل طلب منع تجول الذي كان مخططاً وسلم إليه من أعلى كأمر واقع حسب مخطط معين, ويقول شدمي في سياق شهادته: "وأنا أقصد مخطط "خلد" الذي أبلغت في لحظة معينة أنه قد ألغي, فسألت: وما البديل؟" وإتضح فيما بعد عدم وجود مخطط بديل. وفي أعقاب فرض منع التجول أصبح مخططاً "خلد" الإطار العام لتصرف حرس الحدود في المنطقة.
في أوامر ملينكي لكتيبته أوضح أن منع التجول سيكون حسب مخطط "خلد", ولكن دون تنفيذ المراحل المرافقة له, ولاتي تضم إجراءات مثل الإعتقالات, المصادرات ونقل القرى. وقال قائد السرية, حاييم ليفي, أن الأمر الأساسي الذي أصدره ملينكي كان أمراً عسكرياً عاماً, ولم يخص كفر قاسم بالتحديد, بل يخص عملية أخرى (مخطط "خلد") كان المفروض أن تنفذ دون الإجراءات المرافقة لها.
قائد السرية الثانية في كتيبة ملينكي, يهودا فرينكينتل, شهد هو الآخر في محكمة شدمي. وأقز وجود مخطط مسبق يحمل إسم حيوان ما, حشرة, وأن ضباط السرايا قاموا بجولة قبل خمسة أيام من الثامن والعشرين من تشرين الأول, يوم إلغاء المخطط, وطولبوا بتخطيط المهمة بشكل مفصل. وكانت الجولات على مستوى الكتيبة والسرية وضابط الوحدات الأساسية, وإشتمل مخطط "خلد" على ترتيبات معسكرات الإعتقال التي إعتبرت إجراءات عادية إبان منع التجول.
وإتضح من أقوال الشهود والمتهمين في المحكمة أن المفهوم من منع التجول في حالة حرب عند كتيبة حرس الحدود كان التحضير لطرد عرب المثلث. هكذا شهد بنيامين كول, ضابط تحت إمرة ملينكي, أنه شعر مما جاء في المنشور أن الحرب ستكون على الجبهة الشرقية ضد الأردن, ويجب تسديد لكمة لعرب المثلث حتى يهربوا إلى الجانب الآخر للحدود, وليعملوا عندها ما شاؤوا.
وقال جبرئيل دهان, الضابط المسؤول في كفر قاسم, أن قائد كتيبة ملينكي أمره بإخلاء المكان في اليوم التالي في الساعة السادسة صباحاً, وترك السكان يعملون ما يشاؤون. ويضيف دهان: لقد فهمت أن القصد هو أن يهربوا إلى الأردن. أما العريف عوفر الذي إتهم بالقتل المباشر لـ 14 من الضحايا, فقد قال أنه فهم أنه لا بأس في الأمر, ويجب تنفيذه, وأن الدولة تريد تخويف العرب وربما طردهم.
وفي مقابلة للصحافي روبيك روزنتل مع أبراهام تامير الذي شغل منصب ضابط العمليات في القيادة الوسطى, أقر تامير أن المخطط خطط بتوجيه من رئيس الأركان موشيه ديان, وأنه قام بتنفيذ المخطط التفصيلي. وأنكر تامير أن القصد كان الطرد شرقاً نحو الأردن, بل غرباً إلى داخل إسرائيل لأغراض أمنية بحتة, وهي إبعاد العرب عن الحدود. إلا أن شهادات كل المتهمين تناقضت مع أقوال تامير الذي حاول التخفيف من خطورة ووحشية المخطط.
السبب الرئيسي لإلغاء عملية "خلد" لم يأت إحتراماً لحقوق العرب, أو خوفاً من الرأي العام, بل لسبب سياسي أمني من الدرجة الأولى, وهو الإلتزام الإسرائيلي بعدم الإعتداء على الأردن حسب الإتفاق الثلاثي الموقع من الحكومات فرنسا وبريطانيا وإسرائيل في سيفير بالقرب من العاصمة الفرنسية باريس. هذا الإتفاق الذي إعتبر سرياً لتغطية المؤامرة الإستعمارية ضد مصر. ولكن في حالة حدوث إعتداء أردني على إسرائيل تلتزم الحكومة البريطانية بعدم التدخل لصالح الأردن".
وأدخل هذا البند حسب طلب من بريطانيا التي كانت في تلك الفترة مرتبطة بإتفاق دفاعي مع الأردن يلزمها بتقديم المساعدة الجوية للأردن في حال الإعتداء عليها. النزاع بين إسرائيل والحكومة البريطانية حول سياسة بريطانيا في الأردن, وسرية الإتفاق عشية العدوان على مصر, نبعاً من حرص بريطانيا على الحفاظ على علاقاتها الودية بالدول العربية, والتستر على علاقاتها الحميمة مع إسرائيل.
العمليات الإنتقامية التي إقترفتها إسرائيل في المدن والقرى في الضفة الغربية التي كانت تحت السيادة الأردنية من ناحية, ونمو الحركة القومية العربية على خلفية بروز الرئيس المصري جمال عبدالناصر كقائد عربي يسعى لتوحيد الأمة العربية من ناحية ثانية, زعزعت جميعها إستقرار النظام الهاشمي في الأردن. وتجدر الإشارة إلى أن الجيش الأردني كان حتى عام 1956 تحت قيادة جلاب باشا البريطاني, بما يعني أن بريطانيا سيطرت تماماً على مجريات الأمور في الممكلة. ولذلك يعتبر تنحية جلاب باشا من قيادة الجيش الأردني عشية العدوان الثلاثي على مصر, وإبان ظهور حكومة سليمان النابلسي الوطنية, خطوة ذات مغزى سياسي كبير هددت النظام الهاشمي.
في تلك الظروف توجه الحسين ملك الأردن إلى إبن عمه ملك العراق طالباً منه إرسال جيش عراقي لتقوية النظام الأردني. فما كان من إسرائيل إلا أن إستغلت الوضع للإعلان على لسان وزير الخارجية, غولدا مئير, أن دخول قوات عراقية للأردن هو مثابة تهديد مباشر لسلامة أراضي إسرائيل, ولذا ستقوم إسرائيل باللازم لمواجهة هذا الوضع.
التدخل العراقي في الأردن تم بالتنسيق مع بريطانيا, إلا أن بن غوريون الذي كان يخطط لإحتلال الضفة الغربية أمر الجيش في 17 تشرين الأول 1956, إثني عشر يوماً قبل مجزرة كفر قاسم, بتجهيز قواته لإحتلال شمالي القدس والخليل. وقد نجم المخطط الإسرائيلي لإحتلال الضفة الغربية عن نظرة بن غوريون التي إستعرضها أمام الفرنسيين في مؤتمر سيفر مدعياً أن الأردن دولة مصطنعة ودون مستقبل. ومن هنا فمن المفروض تمزيق الأردن, وضم الضفة الشرقية إلى العراق مقابل إلتزامها بتوطين اللاجئين الفلسطينيين في أرضها, وعقد السلام مع إسرائيل, بينما يقام في الضفة الغربية حكم ذاتي عربي متربط بإسرائيل بعلاقة إقتصادية, تدير إسرائيل شؤونه الأمنية والخارجية.
المداولات التي أجريت في مؤتمر سيفر في فرنسا تمهيداً للعدوان على مصر نوقشت خلالها بإسهاب مسألة الحرب مع الأردن ومصر, وبناءاً على موقف بريطانيا الحازم إلتزم بن غوريون في تشرين 24 الأول بعدم الإعتداء على الأردن, وبموجب ذلك ألغي مخطط "خلد". إلا أن أمر الإلغاء هذا أعطي يوماً واحداً فقط قبل بدء العدوان. والسؤال هو لماذا إنتظروا إلى اللحظة الأخيرة؟ الجواب موجود في كتاب لمردخاي بار أون منعت الرقابة صدوره لأكثر من ثلاثين عاماً, ونشر في عام 1991 بعنوان "تحد وجدل". وكان هذا المؤلف مساعداً لموشيه ديان, وسجل في مفكرته حيثيثات مؤتمر سيفر الذي إعتبر سرياً مما أدى منع نشر الكتاب. وفيه يقول بار أون أن الإستعدادات لشن الهجوم على مصر حسب الإتفاق كانت تلزم الأركان العامة بإدخال ضباط من رتب متدنية الأمر الذي كان سيعرض سرية العملية للخطر. ولتفادي هذا الخطر قرر ديان الحفاظ على سرية العملية على أن يعلم بها أعضاء الأركان العامة فقط, بينما تصدر الأوامر لذوي الرتب الأدنى دون شرح الأسباب. وكانت الحجج للأوامر تجهيز الجيش لحرب محتملة ضد الأردن إثر دخول الجيش العراقي في أراضيها.
ومن هنا فإن عدم إلغاء مخطط "خلد" إلا قبل 24 ساعة فقط من بدء العملية ضد مصر كان حيوياً ومجدياً للحفاظ على سرية المؤامرة. وهذا ما يفسر أيضاً إبلاغ مختار كفر قاسم بمنع التجول نصف ساعة فقط قبل سريان مفعوله, الأمر الذي حال دون أية إمكانية لإبلاغ العمال العائدين من العمل خارج البلد بأمر منع التجول.
ولكن يبقى السؤال: إذا كان مخطط الطرد قد ألغي, فلماذا لم تعط أوامر واضحة في الموضوع, ولماذا طلب العقيد شدمي فرض منع التجول بكل الصرامة؟ وتأتي الإجابة عن هذا السؤال في إتفاق سيفير نفسه. فعلى ضوء البند الخامس, المتقبس أعلاه, يمكننا أن نفهم الضباب المتعمد الذي إكتنف الأوامر مما سمح لضباط لكل ضابط بتفسيرها كما شاء. ولما إتضح أن الأردن ليست معنية بالهجوم على إسرائيل لإعتقادها أن موازين القرى ليست لصالحها, إستعدت الحكومة الإسرائيلية لإحتلال الضفة الغربية في كل لحظة, ولا شك أن وضع حرب كالذي ساد في تلك الفترة, كان من الممكن أن يؤدي إلى حرب مع الأردن أيضاً. وهذا ما أكده ملينكي في محكمة شدمي حين إتهمه بعدم إصدار أوامر واضحة عندما قال له, أن إلغاء حالة الحرب مع الأردن لم تكن أكيدة, وأن مهمتنا دفاعية ولكن هناك مجال للتغيير. وفي الواقع كان على إسرائيل الإنتظار 11 عاماً إضافياً حتى تتمكن من إحتلال الضفة الغربية وغزة في حرب 1967.
في الأول من شباط عام 1959 إستأنف ملينكي وزملاؤه أمام محكمة عسكرية جلس فيها خمسة قضاة برئاسة موشيه لانداو وكان من أعضائها منير بعيل. وبعد ثلاثة شهور قررت المحكمة أن الأحكام التي بلغ أقصاها 17 عاماً كانت قاصية, فخفض أقصاها إلى 14 عاماً, وأطلق على الفور سراح المتهمين الذين حوكموا بأحكام خفيفة. وفيما بعد حصل ملينكي والآخرون على العفو, وأخلي سبيلهم في نهاية عام 1959, ولم يقبع في السجون أي من مرتكبي المجزرة أكثر من ثلاث سنوات. أما العقيد شدمي الذي أعطى الأوامر فقد إقتصر حكمه على توبيخ وغرامة رمزية بقيمة قرش واحد, بسبب فرضه منع التجول خارج نطاق صلاحيته, وهي دون شك تهمة هزيلة مقارنة بخطورة الحادث.
لما منح العفو والأحكام الخفيفة على جريمة وصفت بالقتل, وعقدت حولها محكمة مطولة جداً حظيت بإهتمام كافة وسائل الإعلام؟ والجواب هو, منع المتهمين من كشف الحقائق من وراء المجزرة. وماذا كانت الحقائق؟ الأولى والمباشرة تتعلق بمخطط الطرد "خلد", والثانية تتعلق بالإتفاق الثلاثي في سيفير (فرنسا) بين إسرائيل وفرنسا وبريطانيا الذي كان من المفروض بقاؤه سراً, ولكن هناك سر تفوق أهميته كل ما ذكر.
بعد أربعين عاماً من المجزرة تنكشف حقائق جديدة توضح أكثر فأكثر ملابسات الحادث الرهيب, والسعي الإسرائيلي الحثيث لتغطية هذه الحقائق. في الثاني من تشرين الأول 1996 نشر الصحافي يوسي ملمان في صحيفة "هآرتس" مقالاً كشف فيه أنه قبل شهر من العدوان الثلاثي على مصر وقعت إسرائيل إتفاقية للتعاون في المجال النووي بينها وبين فرنسا. وبعد إنتهاء العملية العدوانية الفاشلة عوضت فرنسا إسرائيل بمفاعل نووي ذي قابلية لإنتاج قنابل نووية وهذا حسب مصادر خارجية.
يوسي ملمان الذي يستند إلى أقوال وشهادات بار أون (مؤلف كتاب "تحد وجدل"), يقول أنه في مؤتمر سيفير الذي خطط عملية العدوان على مصر, توصلت إسرائيل وفرنسا إلى تفاهم توفر فرنسا بموجبه مفاعلاً نووياً لإسرائيل لغرض البحوث العلمية. وكانت خلفية هذا التفاهم هي المشاكل التي عرقلت التفاهم الثلاثي, وخصوصاً بين بريطانيا وإسرائيل, فالفرنسيون الذين تورطوا بالحرب في الجزائر سعوا إلى جر إسرائيل لضرب عبد الناصر. ولإقناعها بقبول المخاطر الكامنة في مغامرة حربية, قام وزير الدفاع الفرنسي, بورجيس مانوري, بإغراء بن غوريون بالوعد بتوفير مفاعل نووي. وفي عام 1957 سلمت فرنسا المفاعل النووي لإسرايل حسب تعهدها, ولكنه لم يكن مفاعلاً صغيراً للبحوث, بل كبيراً قابليته 24 (ميغا فات) من النمط الذي كان في حوزة الفرنسيين. وكان شمعون بيرس هو الذي لعب الدور الرئيسي في الحصول على القوة النووية لتقوية مكانة إسرائيل الإستراتيجية, وهو من إجتهد للوصول إلى الإتفاق الثلاثي ضد مصر والعالم العربي.
قضية مجزرة كفر قاسم عرضت المصالح الحيوية الإسرائيلية للخطر. ومن هنا كان مهماً جداً إخفاء الحقائق, لأنها إذا إنكشفت لكان من الممكن أن يؤثر ذلك سلباً على حصول إسرائيل على القوة النووية التي كانت بلا شك من أهم إنجازاتها في مسألة العدوان على مصر. المجرم ملينكي الذي أدين في المحكمة, إلتقى بن غوريون بعد المحكمة, وحينها قال له الأخير: "انت الضحية الحية لهذه الدولة". بعد سنوات قال ملينكي أن بن غوريون عرض عليه صفقة مبطنة تنص على العفو مقابل الصمت. وقد قوى تعاطف بن غوريون عند ملينكي الشعور بأنه الضحية وليس المجرم, وخاصة بعد أن وفر له بن غوريون منصب ضابط الأمن في المفاعل النووي في ديمونا. واليوم يمكننا أن نعي بالصورة أوضح العلاقة بين صمت ملينكي ومنصبه في المفاعل النووي, ثمرة المؤامرة الثلاثية ضد العالم العربي وعلى رأسه مصر.
في محاولة لإنقاذ أنفسهم من التهمة تذرع مرتكبو الجريمة بأنهم تأثروا بالجو العام الذي شجع طرد العرب من البلاد. شموئيل يزرسكي, قائد حرس الحدود آنذاك, إعتاد على إعطاء محاضرات في الأيام الدراسية لجنود حرس الحدود, وكان يوجه الشرطيين بوجوب الطاعة لكل أمر يتلقونه. يقول يزرسكي في مقابلة أجراها معه الصحافي روزنتل (حداشوت 25/10/91): "أعطيتهم نماذج من عمليات تمت في حرب التحرير (المقصود حرب 1948) التي شاركت فيها بنفسي, مثل العملية في قرية سمسم حيث كان الهدف حمل الناس على الرحيل بأنفسهم".
من هنا يمكننا أن نسجل أن كفر قاسم لم تكن إستثناء بل تمثل القاعدة. فمنذ ما قبل إقامة الدولة, وفي كل فترة قيامها, تشغل فكرة الترحيل بال المسؤولين في القيادة الإسرائيلية على المستوى السياسي والعسكري في آن. والمهم ذكره أن كفر قاسم لم تكن فريدة من نوعها أو الأخيرة, فالمجازر مستمرة, وتنفذ بطرق شتى ومتعددة ومبررات مختلفة. وكانت آخر هذه المجازر, حتى كتابة هذه السطور, المجزرة المروعة في قانا اللبنانية. وإذا فحصنا ملابسات كل مجزرة على حدة, لوجدنا تشابهاً في الأهداف وسلوك الحكومة الإسرائيلية التي تسارع للتأسف بعد كل حادث, وتبادر لتشكيل لجنة أو عقد محكمة معينة كوسيلة لإمتصاص غضب الرأي العام العالمي والمحلي, ودفن الجريمة في أعماق التاريخ, وبرؤية تاريخه إلى 40 عاماً مضت من يوم المجزرة في كفر قاسم, يمكننا القول أن تكرر المجازر وأسلوب تعامل الحكومة معها يثبتان وجود نهج نابع من التوجه العام للحركة الصهيونية تجاه العرب, والهدف المشترك لكل المجازر كان وما زال الطرد.
قبل ثلاث سنوات فقط من المجزرة في كفر قاسم وقعت مجزرة لا تقل وحشية وشراسة هي مجزرة قبية. ففي الخامس عشر من تشرين الأول قام الجيش الإسرائيلي المكون من الوحدة 101 وكتيبة المظللين 890 بقيادة أرئيل شارون, والمعروفين بشراستهم تجاه العرب, بإجتياز حدود الأردن بهدف إحتلال قرية قبية في الضفة الغربية في منطقة اللطرون.
في الإجتماع الذي عقد في تاريخ 13 تشرين الأول 1953, وشارك فيه بن غوريون والقائم بأعمال وزير الدفاع بينحاس لابون, ورئيس الأركان, مكليف, وموشيه ديان, تقرر الرد على عملية فدائية وقعت في بلدة يهود. ووقع الإختيار على قرية قبية كموقع لتنفيذ العملية. ونقل موشيه ديان الأمر إلى العقيد مئير عميت الذي أعد الخطة, وحدد أهدافها وأحدها شن هجوم على قرية قبية بقصد إحتلالها مؤقتاً, ونسف بيوتها, وإصابة سكانها وطردهم من القرية.
في الخامس عشر من تشرين الأول دخل رجال الجيش الإسرائيلي القرية حاملين 700 كيلوغرام من المتفجرات, ونسفوا 45 بيتاً دون أن يفحصوا ما إذا كانت خالية من أصحابها. وإستمرت العملية ثلاث ساعات. ولم تسجل أية إصابة في صفوف الجيش الإسرائيلي, ولكن عندما فحص الأردنيون إنقاض البيوت كشفوا عن حجم الكارثة المروعة حيث إستشهد داخل بيوتهم 70 من سكان القرية معظمهم من النساء والأطفال. وكشفت التقارير الأردنية أن القتلى لم يسقطوا بسبب نسف البيوت بل لدخول الجنود الإسرائيليين إلى كل بيت, ورميهم بالرصاص كل شيء حي, وإلقائهم القنابل وهم على علم بأن في البيوت النساء والأطفال. ولم تنف التقارير الداخلية للجيش الإسرائيلي المعطيات الأردنية.
المجزرة في قبية أثارت رد فعل عنيف جداً على المستوى الأردني والعالمي خصوصاً في بريطانيا والولايات المتحدة, الأمر الذي أجبر الحكومة الإسرائيلية على إتخاذ موقف من الحادث. وفي المداولات الحكومية طلب موشيه شاريت الذي شغل منصب وزيراً للخاريجة آنذاك, من الحكومة التعبير عن أسفها للحادث. ولكن بن غوريون عارض الإقتراح, وبالمقابل طرح فكرة النفي التام لأي تدخل للجيش الإسرائيلي في العملية. وبأسلوبه الخاص المستهين بمشاعر العالم وعقول الناس إقترح أن تزيف الحكومة الوقائع, وتدي أن المستوطنين القاطنين بمحاذاة حدود الأردن, والذين يعانون من عمليات التسلل, بادروا بأنفسهم بالهجوم على قبية بهدف الإنتقام. وصادقت الحكومة الإسرائيلية على هذ الإقتراح. وبث بن غوريون شخصياً بيان الحكومة الكاذب في الإذاعة الإسرائيلية, وقال أن الحكومة الإسرائيلية ترفض بشكل قاطع الإدعاء الأردني الخيالي بمشاركة 600 جندي في العملية في قبية. وإدعى أنه تبين من الفحص الدقيق عدم مشاركة أي من وحدات جيش الدفاع, وحتى أنها لم تخرج من قواعدها ليلة الهجوم على قبية.
مجرة صبرا وشتيلا التي وقعت إبان إجتياح إسرائيل للبنان في عام 1982 حين دخلت قوات الكتائب المارونية إلى المخيمين, وأجهزت على سكانها أمام ناظري الجيش الإسرائيلي الذي سمح لها بالدخول, تثبت هي أيضاً أن الهدف كان الترحيل, فالحكومة الإسرائيلية التي سعت للسيطرة على بيروت, ومن خلالها على كل لبنان, خططت لطرد اللاجئين الفلسطينيين شرقاً بإتجاه الأردن, حسب مخطط شارون الرهيب لتحويل الأردن إلى دولة فلسطينية, وضم الضفة الغربية إلى إسرائيل.
وفي رده على هذه المجزرة برأ مناحيم بيغين, رئيس الوزراء آنذاك, الدولة حكومة وشعباً وجيشاً من أية مسؤولية عن الحادث, بإدعاء أن "المسيحيون يذبحون المسلمين, فماذا يريدون من اليهود؟" وفقط بعد نهوض الرأي العام العربي والمحلي تشكلت لجنة تحقيق حملت مسؤولية المجزرة لشارون دون أن يمنعه هذا الإستنتاج من مواصلة أعماله في المجال السياسي, فهو يشغل وزيراً في الحكومة الراهنة.
أما مجزرة قانا وهي آخر حلقة, حتى الآن, في سلسلة المجازر التي لا يتسع المجال في هذا السياق لذكر جميع حلقاتها, فكانت من صنع الحكومة السابقة برئاسة شمعون بيرس. وكان الإطار العام لهذه المذبحة عملية عناقيد الغضب التي إستهدفت تفريغ الجنوب اللبناني من سكانه ليتسنى للجيش الإسرائيلي تنفيذ عملياته ضد المقاومة اللبنانية, وفي رأسها تنظيم حزب الله. ومن خلال قصف بيوت المدنيين اللبنانيين تمكنت إسرائيل من تهجير 400 ألف مواطن لبناني شمالاً. وإنتهت العملية بوقوع أكثر من مئة قتيل معظمهم من النساء والأطفال كانوا قد إلتجؤوا إلى مخيم تابع للأمم المتحدة بالقرب من بلدة قانا. وأثبتت تقارير التحقيق التي قام بها مبعوث الأمم المتحدة أن قتل المدنيين في قانا لم يكن خطأ كما إدعت الحكومة, بل كان عملية متعمدة.
ما يميز هذه المذابح أنها نتاج عمليات متراكمة ضد المدنيين الأبرياء, تبدأ بإستعمال قوة معتدلة, وعندما لا تتحقق النتائج المتوقعة, يتم تصعيد الأمور حتى يخلق المناخ الذي يبيح الأعمال الوحشية التي تتحول في لحظة معينة إلى مذبحة حقيقية. فقبية مثلاً لم تأت من فراغ, فقد سبقتها عمليات إنتقامية منذ قيام الدولة وحتى عام 1956 راح ضحيتها 500 إنسان تقريباً. وكذا في كفر قاسم كانت نتيجة لنفس الجو الذي ساد تلك الأيام كما شهد بذلك المتهمون في محكمتهم.
وقد إقترفت مجزرة صبرا وشتيلا المروعة بعد سلسلة من العمليات العسكرية, والعمليات الإنتقامية, والقصف المتواصل لقوات الطيران الإسرائيلي على مدى أكثر من عشر سنوات على المخيم الفلسطينية, حتى بلوغ الذروة وهي المذبحة بحد ذاتها. وسبقت مجزرة قانا عملية تصفية الحسابات التي نفذتها حكومة رابين عام 1993, والتي هجرت من خلال القصف المتعمد كل سكان الجنوب اللبناني بإتجاه الشمال.
فالنهج الإسرائيلي يحفز على إستعمال القوة ضد المدنيين إلى أقصى حد, وتكون نتيجتها المباشرة إرتكاب مجازر توصف من بعد كخطأ أو سهو وقع على مستوى الوحدات القتالية الدنيا, وبالطبع ليس كتنفيذ لسياسة مخططة من أعلى المستويات العسكرية والوزارية.
والميزة الثانية لهذه المذابح هي فشل الحكومة في تحقيق أهدافها. فبسبب الضغط الدولي على إسرائيل في أعقاب مجزرة قبية, غيرت إسرائيل سياستها تجاه العمليات الإنتقامية عبر الحدود الأردنية, وإمتنعت عن الدخول إلى القرى وقتل المدنيين, بنيما ركزت على أهداف عسكرية. اما مذبحة صبرا وشتيلا فقد أثارت الرأي العام الإسرائيلي بإتجاه إستحالة تصفية القضية الفلسطينية, وضرورة الإعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وبعد مجزرة قانا إتضح أن العالم لا يمكنه القبول بإستخدام المدنيين وبطريقة وحشية في الحرب ضد المقاومة اللبنانية, وأصبح من الواضح أن تبرير الحكومة الإسرائيلية للمجزرة على أنها خطوة دفاعية لسلامة الجليل أضحت ممنوعة ومرفوضة, ولم تجلب أية نتيجة غير المأساة لضحيتها.
أبراهام تامير الذي وضع مخطط "خلد", قال في مقابلة نشرت في نفس المقال المذكور أعلاه (من صحيفة "حداشوت") أن ملينكي تمسك بمخطط "خلد" كمخرج من المأزق الذي دخل فيه. وإدعى ملينكي أن مجزرة كفر قاسم كانت نابعة من المناخ الذي خلقه مخطط "خلد". ولكن, يقول تامير, المحكمة قررت عدم وجود أية علاقة بين مخطط "خلد" وبين ما حدث في كفر قاسم, وإلا لتوجب محاكمة الجميع بداية من رئيس الأركان وحتى آخر جندي.
أقوال تامير لا تدل على طبيعة العدالة الإسرائيلية فحسب, بل تعيد إلى الذاكرة المستشار القضائي للحكومة, يوسف حريش, الذي مثل أمام المحكمة بعد 30 عاماً من مجزرة كفر قاسم في قضية أخرى معروفة ب "قضية الشاباك", والتي تمحورت حول العفو الذي منح لرئيس الشاباك, أبراهام شالوم ومساعديه الذين إتهموا بالقتل المتعمد لإثنين من خاطفي باص رقم 300, عام 1984, وأثناء مثول حاريش أمام المحكمة العليا التي بتت في الإلتماس ضد منح العفو, ومن أجل إعادة تحقيق الشرطة في الموضوع, عبر المستشار القضائي عن موقفه الرافض لأي تحقيق بحجة أن رجال الشاباك سيضطرون بغرض الدفاع عن أنفسهم للكشف عن أسرار دولة إسرائيل منذ تأسيسها أمام المحكمة. (عن كتاب "هزة في الشاباك" ليحيئل غوتمان 1995).
تماماً مثل ملينكي فقد رأى رئيس المخابرات المستقيل نفسه ضحية وليس مجرماً. وقد نص كتاب العفو الذي منح له ولزملائه من قبل رئيس الدولة آنذاك حاييم هرتسوغ, على أن تصرف حسب المطلوب منه وضمن صلاحياته. هذه المرة منح العفو حتى قبل أن تقرر الحكومة تقديم المجرمين إلى المحكمة.
لماذا تخاف الحكومة من الحقائق وماذا هي الأسرار التي تخفيها؟ إن ما حدث في كفر قاسم يشير بوضوح إلى أن المخابرات الإسرائيلية تنفذ نشاطها حسب سياسة مخططة مسبقاً. وعملية القتل في قضية باص 300 لم تكن الأولى, ولكنها أثارت المخاوف من أنه في حال تقديم المتهمين للمحكمة, سيتم إستدعاء كل المسؤولين الإسرائيليين من اليوم الأول لتأسيس الدولة وجلبهم من قبورهم إذا لزم الأمر, وهذا يتبين من أقوال أبراهام تامير في قضية ملينكي من ناحية, والمستشار القضائي حاريش في قضية الشاباك من ناحية أخرى.
العفو الذي منح للمتهمين بإقتراف مجزة كفر قاسم, والقرش الواحد الذي قضي على يد شدمي دفعه, هو ككل الأحكام الهزيلة, والعفو الذي منح لرجال الشاباك, ومن بعده لأعضاء التنظيم السري اليهودي الذين أدينوا بتهمة القتل المتعمد لطلاب جامعة الخليل ومحاولة إغتيال رؤساء البلديات في الضفة الغربية, لا يشير إلى سياسة مخططة من أعلى مستوى فحسب, بل إلى وجود نهج متواصل بكل ما يتعلق بتوجه الدولة للعرب وإحترامهم كبني بشر. وتدل كل هذه الفضائح على أن السياسة المجرمة تجاه العرب صالحة ما دامت سرية, فإذا إنكشفت, تحكم فيها العدالة, ومن بعدها يمنح القانون عفوه, وتموت القضية إلى أن تولد من جديد عند بروز جريمة جديدة.
المجزرة, كما تبين, لم تقع فقط نتيجة غموض الأوامر, أو بسب الإلتزامات الإسرائيلية تجاه بريطانيا, أو المخطط الرهيب "خلد" الذي تقرر إلغاؤه في اللحظة الأخيرة, بل بسب أمر أساسي أكثر بكثير, وهو الغموض في السياسة الإسرائيلية تجاه الجماهير العربية بشكل عام.
في محكمة العقيد شدمي شهد ملينكي الذي حاول إلقاء اللوم على قائده, بأنه لو أوضح شدمي أن سياسة المستويات العليا هي عدم الإعتداء على العرب ووجوب التعامل معهم كمواطني الدولة, وبأنه ممنوع إسقاط شعرة من رؤوسهم إلى الأرض, لكان ألغى أوامره رأساً, ولكن ليس هذا ما كان. ومن ناحيته نفى شدمي أقوال ملينكي, وقال: "بعد تسلمي الأمر أبلغت الضباط فوراً أن المخطط السابق قد ألغي, وأوضحت أن الهجوم سيتم تجاه الجنوب, وأن سياسة المنطقة الخاضعة لتصرفنا هي الحفاظ على الهدوء, ومن المفروض التعامل مع قرى الأقليات كمواطني الدولة".
ولا يعنينا في هذا المقام من منهما الصادق في إدعاءاته, إذ من الأقوال الإثنين يمكننا أن نفهم الكثير عن وضع الجماهير العربية في هذه الأيام, أيام الحكم العسكري. ففي اللحظة التي يتوجب فيها على قائد معين التوضيح أن التعامل مع العرب يجب أن يكون على أساس كونهم مواطنين, فيفترض إذن وجود إمكانية أخرى للتعامل معهم, بمعنى التعامل العدائي. كان هذا الغموض بالتعامل حتمياً من مجرد إستتباب نظام الحكم العسكري, ولكن الكيل بالمكيالين بكل ما يتعلق بالمواطنين العرب لا يزال ساري المفعول حتى أيامنا هذه.
حالة الجماهير العربية بعد حرب 48 وحتى إلغاء الحكم العسكري كانت حالة مزدوجة. فبحكم بسيط النفوذ الإسرائيلي على الجليل والمثلث والنقب أصبح السكان العرب في تلك المناطق بشكل تلقائي مواطني الدولة, ويمارسون حقهم السيادي الأول, أي حق الإقتراع وإنتخاب ممثليهم في الكنيست. ولكن من ناحية أخرى, كانوا خاضعين للحكم العسكري, ويلائم هذا النظام تجمعاً سكنياً تحت الإحتلال. فمثلاً سكان الضفة الغربية خضعوا للحكم العسكري, ولكنهم حملوا الجنسية الأردنية, بينما الجماهير العربية في إسرائيل حملت الجنسية الإسرائيلية وإعتبر كل إتصال لها مع أشقائها العرب جريمة لأن الدول العربية في حالة حرب مع إسرائيل.
مصطلح الطابور الخامس إستخدم في كل مناسبة نوقش فيها وضع الجماهير العربية في إسرائيل. وقد إستخدم المتهمون في إقتراف مجزرة كفر قاسم نفس المصطلح لتبريد أعمالهم الإجرامية مكررين مرة تلو الأخرى أن سياسة الدولة تجاه مواطنيها العرب تعتمد على أساس أنهم إمتداد للعدو داخل الدولة, ووجودهم يعتبر خطراً على أمنها. وكان واضحاً من البداية أن المعاملة كانت أحادية الجانب, فالمواطنون العرب خضعوا تماماً للدولة, ولم يقوموا بأي عمل عدائي كما تثبت كل الإحصائيات حول إعتقالات العرب داخل إسرائيل أو مشاركتهم في المقاومة ضدها. وبالرغم من قرب كفر قاسم من الحدود التي شهدت إشتباكات يومية بين القوات الإسرائيلية والفدائيين الفلسطينيين فأهل كفر قاسم إبتعدوا عن أي عمل يبرر التعامل الصارم الذي عانوا منه.
ومن هنا يمكن الإستنتاج ان إزدواجية الوضع القانوني للجماهير العربية في إسرائيل ساهمت مساهمة فعالة في ما حدث في كفر قاسم. ومن هنا يتضح أن وجود الحكم العسكري كان دليلاً على عدم تسليم الدولة والمؤسسة الحاكمة, وعلى رأسها بن غوريون, بوجود عربي مكثف في مناطق معينة في البلاد. وما حدث في حرب 1948, أي التهجير الجماهيري بإتجاه الدول العربية, شجع القيادة الصهيونية للتفكير بإمكانية خلق وضع مشابه لإرغام العرب على الرحيل, خاصة لأن الحدود التي خلقتها إتفاقيات الهدنة إعتبرت موقتة, والإستعدادات على قدم وساق. ومن هنا كان ضرورياً, بل وحيوياً, إدامة الحكم العسكري, والتعامل مع السكان العرب كأعداء.
مخطط "خلد" كبقية مخططات الترحيل, بقي سراً محكماً لأن في إثبات الطبيعة العنصرية للدولة التي إدعت مراراً أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة, وكانت بحاجة لدعم من العالم الخارجي. ومن ناحية أخرى إلتزمت إسرائيل من خلال وثيقة الإستقلال التي تعتبر دستورها, بإحترام حقوق العرب والتعامل معهم على قدم المساواة. ولكن من خلال المعاملة اليومية مع المواطنين العرب كانت الرسالة واضحة وهي: أنتم غير مرغوب بكم في هذه الدولة, وتعتبرون غرباء فيها.
لا شك أن مجزرة كفر قاسم فضحت السياسة الإسرائيلية تجاه مواطنيها العرب رغم كل الجهود التي بذلتها الدولة لتغطية الأمور. فبسبب ردود الفعل القوية التي أعقبت المذبحة على المستوى الدولي والمحلي على حد سواء, وتحديداً في صفوف الجماهير العربي في إسرائيل, أصبحت مخططات الطرد مستحيلة. مذبحة كفر قاسم أثبتت فشل سياسة الحكم العسكري, وأدت مع بقية المذابح الأخرى التي إركتب قبلها وبعدها, ومع ردود الفعل العارمة, لإجبار الحكومة على تغيير سياستها. ويجوز القول أن هذه المجزرة كانت مثابة بداية النهاية للحكم العسكري الذي بدأ يضعف تدريجياً حتى ألغي تماماً عام 1966 أي بعد إنقضاء عشر سنوات على المجزرة.
كانت مجزرة كفر قاسم مثابة ضريبة الدم التي كان على العرب دفعها لتثبيت وجودهم في وطنهم كمواطنين متساوين. فكفر قاسم إضطرت للوقوف في الجبهة الأمامية في النضال من أجل البقاء. وكان صمود أهلها, والدرس الذي تعلموه من إخوانهم في 1948, والذي أفشل المؤامرة, إعلاناً حازماً لدولة إسرائيل أن مواطنيها العرب يعتزمون البقاء, ولا بد لها من مواجهة هذه الحقيقة, وتغيير سياستها القديمة التي لن تجلب أية نتيجة سوى المزيد من سفك دماء الأبرياء.
اليوم, بعد إنقضاء أربعين عاماً على وقوع المجزرة يبقى السؤال مطروحاً, هل حدث تغيير في السياسة الحكومية تجاه الجماهير العربية بشكل عام وكفر قاسم بشكل خاص؟ إن المعاملة الحكومية مع كفر قاسم بالذات تعطينا صورة واضحة للتوجه العام تجاه العرب من مواطني الدولة. النظرة الحكومية تجاه قرى المثلث تغيرت بلا ريب, لكنها في جوهرها بقيت كما هي, فقرى المثلث لم تكن مشكلة أمنية في نظر الدولة, ولكنها إتضحت مشكلة ديموغرافية.
صحيح أن كفر قاسم لا تزال موجودة في موقعها الجغرافي, إلا أن وضعها الإقليمي تغير تماماً. ففي أيام المجزرة كانت البلد قرية حدودية, وإعتبرت كبقية قرى المثلث مشكلة أمنية. ولكن بعد إحتلال الضفة الغربية إمتدت الحدود شرقاً حتى نهر الأردن, وفقدت كفر قاسم بذلك موقعها الحدودي, وتحولت إلى تجمع سكاني موجود على هوامش مركز إسرائيل السكاني الأكبر, إذ تبعد عن تل أبيب مسافة 30 كم فقط.
وضع كفر قاسم الإقليمي الجديد نابع من التغيير في الوضع السياسي بعد إحتلال الضفة الغربية. فالإحتلال لم يغير الوضع القانوني لهذه المنطقة لأسباب عدة, منها التخوف من ضم مليوني عربي إضافي إلى إسرائيل, والمعارضة الشديدة للحركة الوطنية داخل المناطق المحتلة, وكذا المعارضة العربية والدولية, لإتخاذ خطوة من هذا القبيل. ولكن إستحالة ضم المناطق المحتلة إلى إسرائيل لا يعني وجود نية للتنازل عن هذه المناطق أيضاً, إذ إنتهجت طريقة الإستيطان. وفي حين إنتقلت الحدود شرقاً, بدأت إسرائيل بعملية إستيطانية مكثفة كان هدفها شطب الخط الأحمر كخط فاصل بين الضفة الغربة المحتلة وبين إسرائيل.
واليوم هناك إجتماع على إختلاف التيارات الفكرية والحزبية الصهيونية بالنسبة لضم هذه المستوطنات القائمة في المناطق المحاذية للخط الأخضر إلى إسرائيل ضمن الحل النهائي مع الفلسطينيين. ولكن من أجل تحويل هذا المطلب إلى أمر واقع فعلى إسرائيل خلق تواصل سكاني مباشر بين التجمعات الإستيطانية والمراكز السكانية داخل الدولة, وهنا تدخل كفر قاسم إلى الصورة. فهذه القرية, ومثلها بقية قرى المثلث, تشكل اليوم حاجزاً سكانياً عربياً بين المستوطنات في الضفة الغربية وبين المراكز السكانية داخل إسرائيل, إذ يشكل العرب في المثلث الأغلبية الساحقة من السكان.
وبهدف التغلب على هذه المشكلة الجديدة, شرعت حكومة الليكود عام 1991 في تخطيط خطة إستيطانية في منطقة المثلث بالذات لتغيير طبيعتها الديموفرافية, من خلال بناء قرى ومدن يهودية بمحاذاة الخط الأخضر لخلق هذا التواصل السكاني اليهودي, وبموجب ذلك يصبح المستوطنون في الضفة الغربية جزءاً لا يتجزأ من التركيبة السكانية الإسرائيلية تماماً كما يحدث اليوم في القدس. وفي فترة حكم حزب العمل الأخيرة تم تنفيذ مخطط النجوم السبع الإستيطاني, فأقيمت مدن جديدة مثل "حاريش" بالقرب من باقة الغربية ووسعت مدينة رأس العين المجاورة لكفر قاسم.
ويقضي مخطط النجوم السبع على كل إحتياطات الأراضي في جوار القرى العربية. والشارع القطري رقم 6 الذي يتمركز دوره الأساسي في ربط التجمعات الجديدة في مركز إسرائيل, يمر في الأراضي الزراعية للقرى العربية مبتلعاً ما تبقى من أراضيها. واليوم تحول مخطط الطرد الفاشل إلى سياسة خنق تمنع القرى العربية من إمكانية التطوير. ولا يزال الكثير من الشخصيات التي لعبت دوراً سياسياً أو عسكرياً في أيام المجزرة, موجودة في مراكز صنع القرار في أيامنا هذه.
ووقع في نصيب كفر قاسم التعايش مع رأس العين, وهذا النوع من التعايش يدل على نوع التعايش بين دولة إسرائيل ومواطنيها العرب. في عام 1991, أي قبل الشروع في تنفيذ خطة النجوم السبع, كان عدد سكان كفر قاسم ورأس العين متساوياً, وبلغ حينها 11,000 نسمة, ولكن اليوم في أعقاب إتساع رأس العين شرقاً, تضاعف عدد سكانها, وأصبحت مدينة متطورة وجميلة, بينما بقيت كفر قاسم على ما كانت, وتأزمت معاناتها من المشاكل السكنية كما هو الحال في بقية القرى والمدن العربية.
ولكن القضية لم تنته عند هذا الحد. فقد فقدت كفر قاسم مساحات واسعة من أراضيها بعد المجزرة مباشرة من خلال تسوية الأراضي مع دائرة أراضي إسرائيل, ومن خلال لجان الحدود المختلفة التي شكلتها وزارة الداخلية, والتي حظيت من خلالها رأس العين بأراض إضافية صودر جزء كبير منها من أصحابها العرب. ومما يزيد الطين بلة إقامة المنطقة الصناعية لرأس العين على أراض محاذية لبيوت كفر قاسم من الجانب الجنوبي بهدف إستيعاب القادمني الجدد. ولا شك أن هذا يشكل نموذجاً لما يسمى بالتعايش غير المتكافئ, إذ من الجلي تطوير رأس العين يأتي على حساب كفر قاسم.
مخطط "خلد" ألغي بالفعل وفشلت أهدافه, إلا أن خطة النجوم السبع أتت لتسد الفراغ. ولا يزال إستهداف عرب المثلث مستمراً. فمن طابور خامس تحولوا إلى مشكلة ديموفرافية, ثم إلى حاجز بين جانبي الخط الأخضر أو إمتداد سكاني للمحيط العربي في الضفة الغربية. إن المواصفات تتغير من خبير لخبير ومن مسؤول حكومي لآخر, ومن حكومة لأخرى, ولكن تبقى كفر قاسم مشكلة بحاجة إلى حل دائم, وليس قرية لها وجود طبيعي ومتساوي في البلاد. والحقيقة هي واحدة: دولة إسرائيل لا تتعامل مع كفر قاسم بإنصاف, فالتفرقة بين المجتمع العربي واليهودي بقيت على ما هي من اليوم الأول لتأسيس الدولة حتى يومنا هذا.
بعد إنصرام عام وشهر على المجزرة, وقبل أن تنتهي محكمة ملينكي وجنوده العشرة, عقدت في كفر قاسم في ساحة المدرسة حفلة الصلحة بين الدولة والقرية. ففي 20 تشرين الثاني 1957 نصب الحاكم العسكري خيمة كبيرة جلس في ظلها كل رجالات القرية, وعلى رأسهم المختار, ومن الجانب الإسرائيلي شارك وزير الشرطة, بخور شطريت, وقائد المنطقة الوسطى تسفي تسور, وضابط الحكم العسكري العقيد شاحار, وممثلون عن وزارة الأمن والدائرة العربية في الهستدروت, ورئيس بلدية بيتاح تكفا, ف. راشيش. وتسلم العرافة أبراهام شابيرا الذي إعتبر شيخ الحراس إذ كان عمره يناهز 87 عاماً, وقد ترأس اللجنة الشعبية لفحص مطالب سكان كفر قاسم. وكتبت الصحف تفيد أنه ذبح في تلك المناسبة 15 خروفاً و 100 دجاجة حسب الشريعة اليهودية, وعلى حساب الجيش الإسرائيلي.
وإجتهدت الصحف العبرية في تلك الفترة لإعطاء الإنطباع بأن أهل كفر قاسم هم كبقية العرب, أناس بسطاء ومن السهل أن ينسوا ما حدث, فمقابل 15 خروفاً كانوا على إستعداد أن يغفروا للدولة جرمها. وللتخفيف من حدة خطورة الحادث الذي كان عبارة عن قتل مبرمج ومخطط عمداً, فقد صور على أنه شجار نجم عن سوء تفاهم وأوامر غامضة. ولكن الواقع الذي نشأ في أعقاب المجزرة كان العكس من ذلك. فكما أن تكثيف الوجود الإستيطاني في الخليل, والضغوطات على أهلها تصعدت بعد مجزرة الحرم الإبراهيمي عام 1994, فكذلك الضغط على سكان كفر قاسم بعد المجزرة تفاقم, ومع أن الأمور أختتمت بالصلحة إلا أنها لم تتم حسب الإختيار الحر للسكان وأقرباء الضحايا, بل نتيجة الضغوطات المتواصلة للحكم العسكري وأعوانه.
الحكومة الإسرائيلية, وتحديداً بن غوريون, كانا معنيين جداً بإتمام الصلحة لسببين: طبيعة الأول منهما سياسية, والثاني يتعلق بموضوع التعوضيات. بالنسبة للسبب السياسي فقد تمت الصلحة قبل إنتهاء محكمة المتهمين بإقتراف المجزرة. وإتضح فيما بعد أن بن غوريون كان يخطط لمنح العفو لملينكي بهفد شراء صمته, ولا شك أن الصلحة كانت ضرورية جداً لإفساح المجال أمام بن غوريون لمنح العفو ولإغلاق الملف نهائياً. وبطبيعة الحال فبعد غفران أهل البلد لمرتكبي الجريمة, يفقد حكم المحكمة فعاليته. ومن الواضح أن هذا الصلح شكل ذريعة إضافية لمن إضطر ضد رغبته لتقديم المجرمين للمحاكمة, فإذا كانت الضحية نفسها قد غفرت فكم بالحري الحكومة التي بعثت المجرمين لتنفيذ المهمة, وكانت هي المسؤولة عنهم.
أما السبب الثاني فيتعلق بتنصل الحكومة من المسؤولية الكاملة عن دفع التعويضات لعائلات الضحايا والمصابين. وجاءت الصلحة نتيجة لتصفية قضية التعويضات, وكانت جزءاً لا يتجزأ من هذه الصفقة التي كما ذكرنا, كان للحكم العسكري الدور الرئيسي فيها. فقد وكلت العائلات محامين مقربين من حزب مبام, ومنهم المحامي ش. زاهايم, لتمثيلها أمام الدولة. وقد تفاوض المحامون مع المستشار القضائي آنذاك, حاييم كوهين, وطلبوا تشكيل لجنة وزارية للبت في قضية التعويضات. وذكر أن بن غوريون تعهد في الكنيست بدفع تعويض كامل وعادل للضحايا. وبالفعل وافق المستشار القضائي على الطلب بتشكيل لجنة وزارية من ثلاثة أشخاص برئاسة القاضية هينمان.
إلا أن هذا الإتفاق بقي حبراً على ورق, إذ تبين أن وزارة الأمن التي كانت تحت تصرف بن غوريون, رفضت إرسال ممثلها للجنة الوزارية. ولعب المستشار القضائي دوراً هاماً في تأجيل الإجراءات, وماطل في الرد على رسائل المحامين. وهكذا أفسح المجال لتشكيل لجنة بديلة تابعة للحكم العسكري عقدت صفقة من وراء الكواليس بموجبها تقرر منح 5,000 ليرة فقط لكل عائلة شهيد وهو ما يعادل ثلث المبلغ المستحق. وقد تولى التأمين الوطني دفع التعويضات بدل وزارة الدفاع كما يحدث عادة مع المصايبن اليهود في حوادث الحرب. وهكذا, وبعد نجاح بن غوريون في تحييد دور المحامين, أوضح المستشار القضائي للحكومة للعائلات أن المجال مفتوح أمامها لتقديم شكواها أمام المحكمة.
وفي خطوة إحتياجية على هذه الممارسات نظم المحامون مؤتمراً صحفياً لكشف الحقائق, رافضين قرار اللجنة الشعبية. كما ندد المؤتمر الصحفي بالصفقة التي نظمها بن غوريون من خلال الحكم العسكري. وحتى حمدالله صرصور, الشخص الوحيد الذي تجرأ على المثول في المؤتمر الصحفي, وهو إبن لأحد شهداء المجزرة, والذي تحدث عن الضغوط التي يمارسها الحكم العسكري على العائلات, إضطر لسحب كلامه في يوم الصلحة نفسه. ولا يتبقى أمامنا إلا أن نستشهد بكلمات رئيس مجلس محلي كفر قاسم الحالي الذي قال أن الشهداء ذبحوا مرتين, مرة يوم المجزرة, ومرة يوم الصلحة الذي كان يعني الإستهتار التام بمشاعر أهل كفر قاسم والجماهير العربية برمتها.
واليوم تمر أمام ناظرينا السنة الأربعون على وقوع مجزرة كفر قاسم ليغلق بذلك عقد إضافي على هذه المجزرة المروعة. وبعد كل ما شهدناه من إتفقايات سلام من ناحية وأحداث دموية من ناحية أخرى سواء في الجنوب اللبناني, أو الحرم الإبراهيمي, أو الأقصى, ينتصب أمامنا السؤال عنيداً, هل آن الأوان لصلحة حقيقية؟ والجواب ليس في جعبة الجماهير العربية بل عند حكام إسرائيل ومديري هذه الدولة. العفو عن ملينكي, وتغريم شدمي بدفع عشرة قروش, والمحاولات المكثفة للتستر على مخطط "خلد", كل ذلك لا يقوي من روابط الثقة بني الجماهير العربية.
شعار الذكرى الأربعين: "إعترفوا بالمجزرة كي لا تتكرر" يعبر دون أدنى شك عن مشاعر الجماهير العربية برمتها. فحتى الآن لم ترفض دولة إسرائيل الإعتراف بحقائق وملابسات المجزرة فحسب, بل تنكر أيضاً تلوث معاملتها مع الجماهير العربية بالأفكار المسبقة والنظرة العنصرية. الفروق الشاسعة القائمة بين المجتمع العربي واليهودي, والتميييز العنصري الذي يمارس بحق المواطنين العرب هي نتيجة لسياسة مبرمجة لإضعاف تمسك العرب بأرضهم ووطنهم. ورغم أن التاريخ إبتلع مخطط "خلد" إلا أن الرؤية التي صحبته محفورة في أذهان الكثيرين في المؤسسة الحاكمة في إسرائيل.
المجازر التي أعقبت المجزرة في كفر قاسم طوت هي أيضاً صفحات إضافية في تاريخ الشعب الفلسطيني. عشرات الآلاف من الشهداء, من خيرة أبنائنا وبناتنا إستشهدوا في سبيل الوطن, ومن أجل إحقاق حقهم في العودة وتقرير المصير. والصلح الذي لا يمكن أن يشترى بالخراف أو الليرات لأن أرواح شهدائنا ليست للفصال. وإذا كانت هناك نية لإبرام الصلح, فهذا يتطلب طرفين لا طرفاً واحداً. وإذا أرادت إسرائيل الصلح حقاً وصدقاً فالطريق مفتوحة واليد ممدودة, ولكن الأسس يجب أن تكون واضحة. فلا صلح دون الإعتراف بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشريف, والإعتراف بحقه في تقرير مصيره فيها.
لقد سجلت كفر قاسم بمعاناتها ودم شهدائها فصلاً إضافياً في تاريخ النضال الفلسطيني, والصلح الحقيقي مع أهلها سيأتي مع إطلاق فجر السلام العادل, يوم يأخذ كل ذي حق حقه, ويوم يتمكن المواطن العربي أن يعيش ككل مواطن في دولة إسرائيل بحرية وعلى قدم المساواة.
البريد الالكتروني
mohmedalsayed2000@yahoo.com
|