"نهاية التاريخ"الرأسمالي!
بقلم حبيب فوعاني
2008 / 10 / 03
10:48
على خلفية الأزمة الإيديولوجية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي عصفت بالاتحاد السوفييتي في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وأدت إلى انهياره بعد حين، وجد أستاذ علوم سياسية أميركي مغمور ذو أصول يابانية الوقت مناسبا لإطلاق نظريته المؤكدة نهاية تاريخ الاضطهاد والنظم الشمولية إلى غير رجعة مع انتهاء الحرب الباردة وهدم سور برلين، وانتصار قيم الديمقراطية الغربية. لقد ذكر هذا الأستاذ أن المستقبل سيكون للرأسمالية، التي تعتمد بالدور الأول على الحرية الاقتصادية غير المحدودة.
وأقسم فرنسيس فوكوياما بأغلظ الأيمان في مقالة "نهاية التاريخ" في مجلة "ناشيونال إنترست" الأميركية عام 1989 أن اللبرالية هي "نقطة النهاية للتطور الإيديولوجي البشري" وأنها "الشكل النهائي للحكومة البشرية"، التي ستملأ الأرض قسطا وعدلا. وأنه لم يبق للوصول إلى أرض الميعاد سوى التخلص بالصواريخ "الديمقراطية" الأميركية المجنحة من نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين والأنظمة الاستبدادية، التي ملأت الشرق الأوسط ظلما وجورا، وعندها سيصبح كل شيء على ما يرام، أو كما يقول الألمان "أليس كلار".
وعلى الرغم من الشهرة، التي أكسبتها المقالة في أجواء أحادية القطب لمنظر جماعة "المحافظين الجدد"، الذين أداروا دفة الحكم الأميركية من وراء الكواليس دون أن ينتخبهم أحد، فإن غثاثة وتهافت هذه النظرية الراديكالية الكاملين ظهرا واضحين للعِيان بعد مرور عقد ونيِّف من الزمن على نشرها.
فالولايات المتحدة تقف اليوم على شفا كارثة اقتصادية اعتبرها رئيس المصرف المركزي الأوروبي جان كلود تريشيه الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية. وبرأي الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي هي الأخطر منذ أزمة "الكساد العظيم" عام 1929 عندما انهارت سوق الأموال الأميركية.
يجب القول إن جذور الأزمة الحالية تعود إلى سياسة الانفلات المالية الأميركية، التي بدئ بتطبيقها عام 1971 وأسفرت عن تخلي الإدارة الأميركية عن التغطية الذهبية للدولار، وبلغت هذه السياسة أوجها في عامي 1983-1984 من عهد الرئيس الأميركي رونالد ريغان، التي تلخصت نظريته الاقتصادية في إطلاق العنان للسلطات المالية الأميركية لطبع ما تشاء من الأوراق الخضراء دون غطاء إنتاجي حقيقي ولتخفيض سعر الفائدة الحاد والإفراط في الإقراض دون التدقيق في الجدارة الائتمانية للمقترضين، كل ذلك في سبيل تحفيز الاستهلاك والائتمان العقاري وتمويل السوق المعلوماتية الصاعدة و"حرب النجوم" الخيالية.
وبما أن جل التعاملات الاقتصادية الدولية تُجرى بالعملة الأميركية، فإن الدولارات الجديدة، التي يتم إصدارها خلافا للمبادئ النقدية السليمة، تغادر الولايات المتحدة وتهيم في أسواق البلدان الأخرى، ليعود الرأسمال الأميركي المصدر على الولايات المتحدة بأرباح هائلة لا أساس اقتصاديا لها على حساب بقية بلدان العالم.
وبقي الأمر كذلك حتى نهاية التسعينيات، عندما اصطدم الأميركيون بصعوبة إيجاد أسواق جديدة يُصدّر إليها رأسمالهم المتراكم في ظل بدء تنامي اقتصادات الدول النامية وبلدان "بريك" - البرازيل وروسيا والهند والصين.
حينئذ بدأت الأموال الفائضة تتجمع في القطاع المالي، حيث كانت تنتفخ "الفقاعات المالية"، وتنفجر أحيانا، كما حدث عام 2000 عندما انهارت سوق المعلوماتية للشركات الأميركية العاملة في تقديم خدمات الإنترنت.
وفاقمت الأزمة الحالية حيثية يتجاهلها المسؤولون الأميركيون المعاصرون، وتتمثل بازدياد شهية المجمع الصناعي العسكري الأميركي النافذ، الذي حذر من خطره على اقتصاد البلاد الرئيس الأميركي العسكري الراحل دوايت إيزنهاور عام 1953. إذ بلغت النفقات العسكرية أرقاما مهولة في عهد جورج بوش الابن لتمويل الحرب في أفغانستان وغزو العراق.
وها هي الأزمة تهدد العالم كله، وترخي بظلالها على الاقتصاد الروسي أيضا.
فروسيا، وعلى الرغم من إتباعها نهجا سياسيا وطنيا مغايرا للنهج الغورباتشوفي-اليلتسيني مع مجيء فلاديمير بوتين إلى السلطة عام 2000، استمرت في إتباع النهج الاقتصادي، الذي رسم ملامحه الاقتصاديان الروسيان المتطرفان في لبراليتهما يغور غايدار وأناتولي تشوبايس في بداية التسعينيات من القرن الماضي.
ويتابع تنفيذ هذا النهج الآن نائب رئيس الوزراء وزير المالية ألكسي كودرين ورئيس المصرف المركزي الروسي سيرغي إغناتيف، ويتمثل بوضع البيض الذهبي الروسي في سلة العملة الأميركية، وإهمال الصناعة الروسية، والاعتماد شبه التام على تصدير النفط والغاز والخامات وبالتالي على الاستيراد.
وتعتبر استثناء من ذلك مرحلة تسلم يفغيني بريماكوف لرئاسة الوزراء في نهاية عام 1998 حين نجح خلال ثمانية أشهر فقط بإنهاض الاقتصاد الروسي بعد الأزمة المالية الشاملة، التي عصفت بالبلاد جراء ذلك النهج.
وعلى أي حال، فالحديث في ضوء هذه الأزمة المالية الدورية الأميركية عن "أفول الغرب" لا يزال مبكرا، وكذلك القول إن أيام الإمبراطورية الأميركية معدودات، إذ إن البعض مثل زبيغنيو بريجينسكي مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر يمنحها 50 سنة أخرى من الاحتضار.
بيد أن العد التنازلي لنهاية تاريخ الرأسمالية المتوحشة والمنفلتة من عقالها بغير ضوابط أو قيود قد بدأ، والجذل الغربي الغامر بانهيار الاشتراكية السوفييتية كان سابقا لأوانه.
(المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع)
http://ar.rian.ru/analytics/articles/20081003/117405539.html