الأخ الكريم
إن قواعد الإسناد تتعلق بتنازع القوانين
وتثور مشكلة تنازع القوانين عندما نكون بصدد علاقة قانونية تشتمل على عنصر أجنبي ، أو تكون خاضعة لأكثر من قانون ، بسبب أحد عناصرها ( المحل أو السبب أو الأطراف ) كما لو تزوج مواطن سوري من فتاة رومانية في تركيا ، أو كما إذا تعاقد تاجر مصري مع تاجر إسباني في قبرص لتوريد آلات زراعية إلى الأردن مثلا ، فالعلاقة القانونية في هذا المثال الأخير ، ترتبط بالقانون المصري والقانون الإسباني والقانون القبرصي ، وهذا الترابط يجعل قوانين تلك الدول قابلة للتطبيق على الواقعة ، وهذه القابلية للتطبيق تعني في واقع الأمر نشوب تنازع بين قوانين هذه الدول ، وحسم هذا التنازع لا بد أن يتم عن طريق قواعد إسناد ، تحدد القانون الواجب التطبيق على واقعة الخلاف
وإن تنازع القوانين ، لا يكون إلا عندما يكون هناك عنصر أجنبي في العلاقة التعاقدية ، ويمكن أن يكون التنازع دوليا كما يمكن أن يكون داخليا .
فالتنازع يكون دوليا ، عندما ينشب بين قوانين دول ذات سيادة وطنية مستقلة تتمتع بالشخصية الدولية وفقا لمبادئ القانون الدولي العام . ويكون التنازع داخليا عندما ينشب بين كيانات إقليمية تخضع كلها إلى سيادة دولة واحدة كما هو الحال في الولايات المتحدة أو سويسرا أي عندما تتعدد القوانين في الدولة الواحدة
وهناك اتجاه فقهي يشترط أن يكون القانون الأجنبي الصالح للتنازع ومن ثم الصالح للتطبيق ، يجب أن يكون مرتبطا بدولة معترف بها ، من قبل دولة القاضي
مثلا : إذا ثار نزاع حول تطبيق قانون على واقعة معينة ، وكان القانون الإسرائيلي طرفا فيها ، مثلا : تاجر سوري يستورد بضاعة من تاجر قطري يتضح أن مصدرة من إسرائيل ، فهنا لا يمكن القول بجواز تطبيق القانون الإسرائيلي لعدم اعتراض دولة القاضي ( إذا كانت سوريا ) بهذا الكيان
وعلى هذا الأساس رفضت المحاكم الفرنسية والبلجيكية والبريطانية والمصرية المختلطة قبل الحرب العالمية الثانية تطبيق القوانين التي أصدرتها الحكومة البلشفية في الاتحاد السوفييتي بعد ثورة عام 1917 باعتبارها صادرة عن سلطة غير معترف بها ، أي ليس لها وجود قانوني في نظر حكومات تلك الدول
ولكن هناك اتجاه فقهي آخر ، وهو الغالب ، يقول بأن على القاضي تطبيق القانون حتى لو كانت دولته لا تعترف بدولة القانون الأجنبي ، طالما أنه قانون صادر وفق الأصول المقررة ومطبق في محاكم تلك الدولة ، وعدم تعليق ذلك على اعتبارات سياسية ، كالاعتراف بالدولة
ويرى بعض الشراح أن منظومة قواعد الإسناد ومفهوم تنازع القوانين ، لم يعرف في الشرائع القديمة ، كون العلاقات التعاقدية في تلك الدول لم يكن يدخل فيها عنصر أجنبي ، باعتبار الرابطة كانت تقوم على الدين ، وكان من لا ينتمي إلى ذات الدين ، لا يتمتع بالحقوق التي يتمتع بها التاجر المواطن ، فالأجنبي لم يكن يتمتع بشخصية قانونية تسمح له بالتعاقد على قدم المساواة مع المواطنين ، كما كان الحال في الدولة الرومانية القديمة ، حيث كانت تنكر على الأجنبي حق الزواج من المواطنة وحق الملكية وحق مراجعة القضاء وحق التصرف وغيرها من الحقوق الملازمة للشخصية ، ويعلل الشراح ذلك بأن الرابطة كانت تقوم على الدين بحيث يعتبر كل من لا ينتمي إلى هذا الدين أجنبيا غير صالح للتمتع بالحقوق .
وبذلك ، يجب التوقف قليلا عند الشريعة الإسلامية في تاريخيتها حيث تعتبر سباقة إلى تجاوز هذه النظرة الضيقة ، إلى حد ما ، كون مفهوم تنازع القوانين في الشريعة الإسلامية يقوم على مبدأ التقسيم بين : دار الحرب ودار الإسلام ، كما بقيت آثار الرابطة الدينية وتأثيرها في التمييز بين كثير من الحقوق غير المالية .
أما الآن فندخل في الإجابة المباشرة على السؤال :
ولكن بتعريف قاعدة الإسناد أولا :
قاعدة الإسناد هي المعيار القانوني أو القاعدة التي تحدد القانون الواجب التطبيق على العلاقة القانونية ، من بين عدة قوانين صالحة للتطبيق ، فهي تسمح بتطبيق قانون أجنبي على أرض الدولة الوطنية
وهنا فارق قانوني اصطلاحي بين قاعدة الإسناد ، وبين ضابط الإسناد :
فضابط الإسناد هو الأداة التي يستند إليها المشرع ، باني قاعدة الإسناد ، لتعيين القانون واجب التطبيق . مثل الجنسية أو محل وقوع الفعل أو الموطن أو محل التسليم أو محل الاتفاق وغير ذلك فهي تعتبر ضوابط إسناد ، وهناك من يسميها عنصر الإسناد أو ظرف الإسناد
وقواعد الإسناد هي قواعد عامة مجردة ولكنها ثنائية الجانب
وقد انقسم الرأي حول مدى إلزامية قاعدة الإسناد بالنسبة للقاضي ، إلى ثلاثة اتجاهات :
1- الاتجاه الأول : لا يعترف لقاعدة الإسناد بأية قوة ملزمة . والدول التي تسلك هذا الاتجاه تمنع محاكمها من تطبيق قاعدة الإسناد وتوجب عليها تطبيق القانون الوطني على المنازعات كافة ، بما فيها المنازعات المشتملة على عنصر أجنبي ، ما لم يتمسك الخصوم بالقانون الأجنبي الذي تدل عليه قاعدة الإسناد . أي أن القاضي ليس ملزما ولا واجبا عليه من تلقاء ذاته البحث في قاعدة الإسناد والعمل بموجبها ، ومن هذه الدول بريطانيا وكندا .
2- الاتجاه الثاني : ذهب إلى إلزامية قاعدة الإسناد بالنسبة للقاضي ، وهو ملزم بتطبيقها والأخذ بمدلولها من تلقاء نفسه . ومن الدول التي أخذت بهذا الرأي ألمانيا الغربية ، حيث جعلت ذلك واجبا على القاضي في جميع المنازعات التي تشتمل على عنصر أجنبي . سواء طلب الخصوم ذلك أم لم يطلبوا .
3- وهناك اتجاه ثالث وسط بين الاثنين يقول بأن قاعدة الإسناد لا تتمتع بقوة ملزمة للقاضي ولكن له أن يأخذ بها من تلقاء ذاته ، أو بناءا على طلب الخصوم وهذا الاتجاه سائد في فرنسا . ولكن الاجتهادات الأخيرة لمحكمة النقض الفرنسية كرست إلزامية قاعدة الإسناد بالنسبة للقاضي فيما لو أثارها الخصوم وتمسكوا بتطبيق القانون الأجنبي . تماشيا مع الاتجاه العالمي والأوروبي خاصة .
وبذلك نرى أن المسألة عاد ليسودها رأيان فقط : رأي يقول بإلزامية قاعدة الإسناد بالنسبة للقاضي وعليه تطبيقها من تلقاء ذاته ، وآخر يقول بأن تلك القاعدة غير ملزمة له ما لم يثرها ويتمسك بها الخصوم .
والجدير ذكره ، أن حكم في المسألة في سوريا وغالبية الدول العربية يذهب إلى أن القاضي غير مجبر على تطبيق قاعدة الإسناد من تلقاء ذاته ، ولكن له ذلك بناءا على طلب الخصوم .
وهو ما يعبر عنه بأن قواعد الإسناد لا تتعلق بالنظام العام ، فلا يمكن تطبيقها ما لم يتمسك بها أحد الخصوم .
وعدم تعلق قواعد الإسناد بالنظام العام ، يعني عدم جواز إثارتها لأول مرة أمام محكمة النقض
ولتطبيقات الإسناد مشاكل عملية كثيرة ، لاسيما في مجال الإحالة وتضارب قواعد الإسناد وصعوبات أيضا في حالة تعدد الجنسيات للشخص الواحد .
ومن المهم التذكير أن هناك مانع قانوني أخذت به معظم التشريعات في العالم لجواز تطبيق القانون الأجنبي ، وهو عدم تعارضه مع النظام العام الوطني أي مع الأحكام الأساسية للتشريع الوطني .
ولعلي أنهي بمثال عملي :
فإذا تزوجت سورية من شخص سعودي ، ثم حدث خلاف وشقاق بينهما ، وأراد الزوج تطبيق زوجته ، أو رفعت دعوى للتفريق وطلب الطلاق ، فإن هذا النزاع القضائي يشتمل على عنصر أجنبي بالنسبة للقانون الوطني السوري ( بالنظرة القانونية الصرف ) وهي كون الزوج غير سوري
وبالعودة إلى أحكام القانون المدني السوري الذي تضمن قواعد الإسناد نجد أنه نص على أن القانون الذي يسري على الطلاق هو قانون الدولة التي ينتمي إليها الزوج وقت الطلاق أو وقت رفع الدعوى .
فإذا رفعت الدعوى على الزوج أمام المحاكم السورية فيحق له التمسك بقاعدة الإسناد التي توجب تطبيق قانون بلده .
والله أعلم .
أرجو أن أكون قد وفقت في تقديم إجابة شافية
والأجر على الله
المحامي : موسى شناني