بسم الله الرحمن الرحيم
الأيام طويلة سوداء كاحله و دروب لياليها ألغام شائكة .. و سماؤها لاحت فيها أدخنه خانقه و سموم قاتله .. صيف حار بلهيب شمسه المحرقة و شتاء قارس ببرده و أعاصيره المثلجة. قلب واحد يحترق بلهيب الصيف و سود الليالي و ينقرس ببرد الشتاء و زمهريره كل ذلك سيان عند أم نايف.
أم نايف التي شلّ عقلها بالتفكير و انعقد لسانها عن القيل و ضعف نور بصيرتها ببعد الحبيب تقلب طيات فؤادها المحموم و تعاود النظر بمقلتيها السقيمتين و تعيد خطى الماضي من جديد.
( ربّـــــاه ) تسمع صداها في دجى الليل الكئيب بتسبيحاتها و سجداتها متقلبة على سجادتها في زاوية من محراب غرفتها.
( ربّـــــاه ) طال صبر الحبيب على فراق حبيبه و الأنيس عن أنس أنيسه، فمتى تجمع الشمل و تعيد اللّـم و ترحم و أنت خير من رحم و تلطف و أنت خير من لطف ..
( ربّـــــاه ) يا من لطفت بيونس و هو في بطن الحوت ألطف بي و به و يا من نجيته بـ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) نج ابني بها يا من سجد لك المصلون و يا من أمرك بين الكاف و النون يطول السجود و تسمع الأنين و الزفرات و الآهات، و يتعب الجسد من طول المكوث فلا تلبث إلا أن تجده ملقى على الأرض كجثة هامدة بلا حراك و قد أعياه التعب و طول السهر و إن أشرق نور الصبح بضيائه فما من جديد يشرق عليها سوى شريط ماض ٍ يدور و يدور على شاشة قلبها السوداء فما يزيدها سوى ظلام في ظلام.
يبدأ العرض منذ ولادته حينما وضعته في المنزل و قد دوت صرخة ميلاده أركانه و نواحيه فكانت بصمة ميلاده فيه و شيئا فشيئا إلى أن بدأ يحبو على أرض المنزل يمنة و يسرة و يضع في فمه كل ما تصل إليه يديه الصغيرتان فتركض الأم مهرولة و تصرخ محاولة إخراج ما وضعه في فيه. و يستمر العرض إلى مشيه متخطرفاً محاولاً الإفلات من قبضة يديها إلى تلفظه بأعذب لحن ( ماما ) .. و لعبه و صراخه و ركله الكرة بقدميه الصغيرتان.
و يدور الشريط سريعا و هو على أبواب مراحل الدراسة الابتدائية و الإعدادية و الثانوية ثم المرحلة الجامعية حينما يودع والديه للذهاب إلى الدراسة في الولايات المتحدة حينها تشعر بالغصة و تندب ذلك اليوم الذي فارقها فيه. و لو كانت تعلم ما تخفيه له الليالي و ما تحيكه له الأقدار لما توانت في منعه و صده عن الذهاب إلى هناك و لكنه المقدر و المكتوب أن يكون الفراق مؤبدا و الحبيب مبعدا و الحديد حاجزاً ساخناً ملسعاً. قدر للأم أن ينتثر كحل حبيبتيها و أن ترمي المكحلة و المرود بعيداً عنها فما فائدتهما بدون الكحل. هجرت كامل زينتها و ودعت أنسها و مسرتها و اعتدّت لفراق بكرها ( نايف ) الذي كان أقرب ما يكون منها ملازماً لها يرتمي بين أحضانها و يجعلها متكئا له يأنس بحديثها و يبوح لها بسره و خلجات نفسه.
|
أما اليوم ...... فقد تبدل الحال إلى حال آخر و تغير حضن الأم الدافئ إلى قضبان حديد و تبدلت صاحبته الحنونة إلى سجان ٍ قاس ٍ لا يرحم .. و اليد الناعمة الملمس إلى سلاسل قاسية و الوجه البشوش المقبل إلى عبوس مدبر .. تمر الليالي حالكة بسوادها و الأيام مريرة بطولها و لكن العين بصيرة و اليد قصيرة كما يقولون ..
حسبي الله ونعم الوكيل أولاً و آخراً .....
ثم أمل و شعور ينتابني بين ألفينة و الأخرى أن هناك بصيص ضوء ينساب من طريق أهل الخير و من بهم يشـّد الظهر و تحل العقد .. كأني بهم أتصفحهم واحداً واحداً أمام عيني التي لم يبقى فيها من بصيرة سوى قليل من نور معقود بعودة الغالي الحبيب ( نايف ) علني أكتحل برؤياه قبل أن ينطفئ نور حبيبتاي من كثرة ما تهيج به مآقيها من دمع حفر و سطر على وجنتاي ما يفعله السيل العرم في الوديان ..
تكبر الصورة في مخيلتي و يشير إليها بناني و ينبض بها قلبي نعم سحابة خير ستمطر بإذن الله، ستمطر بإذن الله كما أمطرت من قبل و ستظل ينهمر منها الماء مدرارا ..
سيدي سمو ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود، نعم، كم أنا فخورة بترديدها باللسان و حفظها في الجنان. هو المغوار الذي لا يفتأ عن الصّول و الجول حين يحمى الوطيس و يثار الغبار و تسمع قعقعة الحديد. وسام خير يناله الداني و البعيد و الشيخ و الوليد و العدو و الحبيب، و السقيم و الصحيح و المقهور و المقتور و المظلوم و المسجون و المضهود .. عجز الشعراء عن إطرائه و شلـّت القوافي من بعد وصفه و افترشت الأرض ربيعا من بعد جوده و كرمه.
سيدي سلطان .. أنا أم السجين نايف، أنا من أصطلي بنار وجده، أنا المتيمة في هواه، المعذبة ببعده. أنا من طعنها الزمان بغدره، أنا من وطأت قدماها الشوك في سبيل لقياه من بعد صيف عام 1999 م إلى دخوله قبر السجن 2001 م. أنا من تتقطع كبدها و تكتم أنفاسها و تسلّ روحها و تسلب مقلتاها و يشيب شعر رأسها و تخور قواها و ييبس عود شبابها و ينطفئ بريق صباها و تؤثر الخشن على الأثير و الأسود على الأبيض و الشقاء على السعادة، و تشارف على الانتهاء و ليس لها من هم في هذا الوجود سوى عودة ثمرة فؤادها و قرة ناظريها.
تصرخ و ما من مغيث! و لا من رحمة !
و قد قيل " الراحمون يرحمهم الله " .. " ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " و لا من تفريج كربة!
و في الحديث : " من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة "
فما بال الحال بنا فلا حول و لا قوة إلا بالله. و قديماً حينما صرخت العامرية و استنجدت بالمعتصم و نادت وا معتصماه، دوت صرختها و لقت لها صدىً فشمر لها المعتصم من بعيد و سار يطوي الفلاة طياً كطي السحاب ليلبي دعوتها و يستنصر لها.
و إني على يقين و حسن ظن بالله أن من أوجد معتصم الأمس أوجد معتصم اليوم و أن الدنيا ما زالت بخير و أن الأرض التي طوى ثراها من سبق، قد أخرجت من صلبها رجالاً عظاماً هم أسلاف عبد العزيز نيازك و شهباً قد تربعوا عرش السماء. للفقير عانة، و للمظلوم نصرة، و للسقيم بلسماً، و للضيف مقرئاً. لهم في كل شأن رفعة، و في كل ميدان عزة، و في كل نـفـس رايـة طـريـقـهـم واحـد و ديـنـهـم واحـد لـذلـك أدويـهـا صيحة وأقول:
http://www.rahimh.com/pages/wa_soltan.htm