لذلك فإن العمل الصالح بوقف الهدر المالي بدلا من زيادة الإنفاق يكون جزاءها الكلمة الطيبة. ومقالي بدايته غرفة جدة وأواسطه كيف نحاسب الدولة وخاتمته دور المواطن، ومن باب الشفافية وليس من باب تسريب المعلومات، فقد شارك عدد من الكتاب في موضوع قرارات الرئيس الجديد الشيخ صالح التركي، ولكنها لم تعكس إلا ما في نفس يعقوب، لذلك لا مانع من عرض القرارات إعلاميا حتى نرى أين التجاوز ونحاسب. فقرارات الرئيس الجديد خلال 3 أشهر فقط هي: (أولا) اتخذ قرارا بسعودة 95 في المائة من الوظائف بدلا من 72 في المائة في السابق. (ثانيا) غير الدوام ليتناسب مع مطلب (القطاع التجاري) وليس علي مزاج الموظفين وهو التعديل الثالث عشر في تاريخ الغرفة. (ثالثا) جعل محاور منتدى جدة القادم اقتصادية وليس سياسية. (رابعا) أمر بتفعيل استثمار عقارات الغرفة في القنفذة ورابغ ومركز المعارض والمستودعات بعائد ربحي والحساب على تقرير الإدارة المالية القادم. (خامسا) ألغى شهادات الماجستير التي تصدرها الغرفة بالتعاون مع إحدى الجامعات لعدم الاختصاص. بعد هذه النقاط فإن حق المجتمع علي الرئيس الجديد ليس على الماضي وإنما على السنوات الثلاث المتبقية، كذلك فإن حق الرئيس والأعضاء بوقف هدر الأموال بطريقة عشوائية واجب شرعي، فلا يعقل القبول براتب لمسؤول في الغرفة مساو تقريبا لراتب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أو أن يدير مسؤول أحد مراكز الغرفة قيمته فعليا 180 مليون ريال ودخله (الصافي) لا يتجاوز مليونا، أو أن يمثل بند الرواتب والمكافآت للموظفين 77 في المائة من ميزانية الغرفة، على هذا الوضع نشكر أمين عام مجلس الغرف السعودية الدكتور فهد السلطان بوضعه نظاما لمحاسبة موظفي الغرف التجارية أو أعضائها إذا ثبت شرعا أي هدر أو استغلال للمناصب، فكيف يمكن محاسبة مجلس الإدارة أو الموظفين على (الباقي) إذا لم يكن هناك نظام واضح، وكيف نقبل تهجم المسلم على المسلم دون دليل، وهو مخالفة صريحة لقوله تعالى "ويل لكل همزة لمزة". ولحديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر".
أنتقل إلى المطالبة بمحاسبة الدولة في مقال (فين الباقي من الميزانية)، الذي أثير في منتديات الساحة بشأن الموازنة بين الإيرادات والنفقات للحكومة، على خلفية أن هذه الإيرادات معرّضة للنقصان بسبب انضمام السعودية إلى منظمة التجارة العالمية، والمقال مبني على تصريح وكيل وزارة المالية محمد البازعي في جريدة (الوطن) العدد 2020. ونص التصريح (إن الوزارة تبحث فرض ضريبة القيمة المضافة على السلع المباعة تماشياًً مع دول الخليج لتمويل الخزانة بقصد تعويض النقص في الإيرادات الجمركية نتيجة الانضمام لمنظمة التجارة العالمية).
من أين نبدأ المحاسبة أيها المحاسب؟ المعروف أن الإيرادات الحكومية غير المباشرة تعد واحدا من أساليب تمويل خزانة الدولة، وقد تمت مراجعة الكثير من رسوم الخدمات خلال الأعوام العشرة الماضية لتتناسب مع أسعار التكلفة على الأقل في الكهرباء والمياه. المهمة ليست سهلة وقد يكون الأمر نظريا مقبول بترشيد أو زيادة الإنفاق، فما يحدث على أرض الواقع مختلف، فلا يمكن الاعتماد علي الإيرادات النفطية وهي رهينة تذبذبات الأسعار، حتى وإن نمت بنسبة 1.2 في المائة فقط خلال خطة التنمية السادسة. إلا أن إنفاق الدولة كبير خاصة في مشاريع البنية التحتية والتجهيزات الأساسية، والذي أنفق في الخطط الأولى نحو تريليون دولار.
كما أن النمو السكاني فرض على أرض الواقع تحديات أخرى، حيث تزايد بند الأجور والرواتب الذي يشكل الحصة الكبرى من النفقات الحكومية، 216 مليار ريال في خطة التنمية السادسة. وفي التنمية السابعة وضعت عند 276.9 مليار ريال. ونمو الإنفاق الحكومي بلغ خلال سنوات الخطة السادسة 4 في المائة بزيادة قدرها 23.3 في المائة عن خطة التنمية الخامسة، والإنفاق في خطة التنمية السابعة بـ 488 مليار ريال. من السهل حساب عدد براميل البترول وضرب الأسعار، ولكن من الصعب أن تجعل من مسألة توازن إيرادات الدولة ونفقاتها هدفا استراتيجيا، خاصة منذ خطة التنمية الخامسة، هناك خطوات جريئة للتخلص من عجز الموازنة، واضعة الجميع، المسؤول والمواطن، في قمة المسؤولية. خطتا التنمية السادسة والسابعة تقومان على أولويات محددة تدعوان إلى ترشيد الإنفاق وإلى إيجاد الحلول التي تؤدي إلى توسع مستمر في التجهيزات الأساسية، والعمل على تخصيص قطاعات أخرى. ويمكن القول إن خطوات الالتزامات مع مستجدات واقع ما بعد الطفرة هي خطوات قابلة للتنفيذ قياساً على التجارب الماضية.
عند مقارنة الوضع حالياً مع مصادر الإيرادات في منتصف الأربعينيات الميلادية، أي عام 1366 هـ قبل تمكن إيرادات النفط من الخزانة العامة، سنجدها متنوعة على النحو التالي: 47 في المائة عوائد وامتيازات، 16 في المائة مرور الحجاج، 16 في المائة مبيعات سلع مستوردة، و22 في المائة رسوم جمركية وضرائب. لكن بعد ذلك بأقل من عقد ونصف بدأت أول إعادة للهيكلة المالية عرفتها الحكومة السعودية الحديثة عندما صدر قرار مجلس الوزراء في 11 أيار (مايو) 1958، الذي نص ضمن أمور أخرى على صدور ميزانية عامة للدولة ووضع ضوابط لعمل الوزراء، وتبع ذلك القرار خفض فعلي كبير في إنفاق الدولة دون استثناء، بما في ذلك الخاصية الملكية والإنفاق العسكري لصالح تسديد الديون، وشهدت الواردات تراجعاً خصوصاً السلع الكمالية، فعلى سبيل المثال، فرضت الدولة حظراً مؤقتاً على استيراد السيارات. وكان تأثير إعادة الهيكلة تلك سريعاً، فقد استطاعت الدولة إعادة بناء غطاء العملة من 14 في المائة في منتصف 1955 إلى 100 في المائة في نهاية عام 1959. والمثير أنه في عام 2002 تلقى وزير المالية الدكتور إبراهيم العساف، دعما من مجلس الوزراء فيما يتعلق بأهم مهام وزارته، وهي ضبط الحسابات الجارية بين وزارة المالية وكافة أجهزة الدولة، وما ينضوي تحتها من تفعيل دور الرقابة والشفافية. وأطلق مجلس الوزراء السعودي في ذلك العام، قراراً لا أظن أن كثيراً من المراقبين والمحللين تنبهوا له.
القرار يعتبر (جرس إنذار) صريحا، فيما يتعلق بالرقابة على الحسابات الختامية للدولة ومنها ميزانيتها العامة ومطالبة المسؤولين بالشفافية التامة في تقاريرهم عن مخصصات إداراتهم وتجاوزاتها السقف المحدد لها، داعما في الوقت نفسه، الدور الذي تقوم به وزارة المالية وديوان المراقبة العامة في دورها (الرقابي)، خصوصاً وأن الجهاز الأخير يعتبر مستقلا عن الأجهزة التنفيذية الأخرى، لكي يؤدي دوره المنوط به بـ (حيادية) و(كفاءة). وطالب القرار كل جهة حكومية بأن ترفق لوزارة المالية من حسابها الختامي تقريرا مستقلا، يتضمن المبالغ التي تم الالتزام بها بما لا يتفق مع مرسوم الميزانية العامة للدولة. مطالبا في الوقت نفسه وزارة المالية عند رفع الحساب الختامي للدولة وتقرير الديوان المراقبة، إرفاق ملخص للتقارير المستقلة يتضمن التجاوزات ومدى تكرار حدوثها ومقدار التجاوز عن الاعتمادات. كما تلزم الميزانية بعدم استعمال المخصصات في غير ما خصص له أو الاعتماد أو الالتزام بأي مصروف ليس له اعتماد في الميزانية. وفيما يتعلق بالدور الرقابي، فإن مجلس الوزراء عاد ليؤكد الدور الرقابي لوزارة المالية وديوان المراقبة العامة، على اعتبار أن الأولى هي الجهة المعدة والمنفذة للميزانية، أما الثانية، فهي جهاز حيادي ويملك من الضمانات الكافية الواجب أن يؤدي دوره بفعالية وكفاءة.
ختاما إن قرار مجلس الوزراء يشير إلى نقطة مهمة وهي ضبط الحسابات الجارية بين وزارة المالية وكافة أجهزة الدولة، ودور الرقابة على جميع الإدارات الحكومية هو الأهم لإيقاف الهدر المالي. ولكن الأهم دور المواطن ووعيه بأهمية عدم الهدر في المياه والكهرباء والمحافظة على ممتلكات الدولة وكذلك مساهمة القطاع الخاص في التدريب والتعيين وفي مؤسسات الخدمة الاجتماعية واجب شرعي ووطني لا يقل عن دور الدولة والتزامها تجاه المواطن والأمة الإسلامية بخدمة الحرمين الشريفين ونحن في خير ولا نحتاج (الباقي).