إذا كان الحكم يعرف بأنه : " القرار الصادر من محكمة مشكلة تشكيلاً صحيحاً ومختصة في خصومة رفعت إليها وفق قواعد المرافعات " .
فإن السؤال الذي يطرح نفسه ما هو محل قوة هذا الحكم ، هل منطوقة الذي يجيء في نهاية الحكم بعد الأسباب في عبارة لذلك قضت المحكمة بــ ...............
أم أن محل قوة هذا الحكم يشمل كافة أجزائه ( الوقائع ، الأسباب ، المنطوق ) ؟
الرأي الراجح في الفقه والقضاء يذهب إلى أن : محل قوة الحكم هو منطوقة فقط ، ويراد به القرار الفاصل فيما ثار من نزاع ، ولا يشمل الأسباب أنها مجموعة من الحجج التي تدعم وتفسر الحكم من ناحية الوقائع أو من ناحية القانون .
- هناك رأي أخر يرى أن محل قوة الحكم كل ما يضمنه الحكم دون تفرقة بين الأسباب والمنطوق .
- وهناك رأي ثالث يرى أنه يتعين الفصل بين أسباب الحكم الموضوعية وأسبابه الشخصية ـ فالأولي تحدد العناصر القانونية محل النزاع وتبين الحل الحاسم لهذا النزاع وهي وحدها التي لها القوة ، أما الثانية فتضم الاعتبارات التي أثرت على تفكير القاضي وحملته على القول بالأسباب الموضوعية ، وهذه الأخيرة تتجرد من القوة ، والأسباب الموضوعية قد يكون محلها المنطوق وقد يكون محلها التسبيب ، بل أنها قد تستخلص من مجموعة أوراق الدعوى .
ولكن ......
إذا كان المنطق القانوني يقضي بقصر قوة الحكم على منطوقة فقط كما ذهب الرأي الراجح في الفقه والقضاء ، حيث أن الأسباب تقتصر على تدعيم الحكم وتسانده وتعلل قضاءه ، فإن هذا المنطق ليس على إطلاقه لأنه حينما يكون منطوق الحكم غامضاً فإنه يتعين الرجوع إلى الأسباب حتى يمكن تفسيره ومعرفته _ ففي هذه الحالة تصير الأسباب مكملة للمنطوق وكلاهما جزء واحد وبالتالي يتعين اعتبارهما معاً محل لقوة الحكم ، وهذا هو الغالب في صيغة الأحكام الصادرة من المحاكم الشرعية بالمملكة والتي تثنى لي الإطلاع عليها ، حيث لا يوجد فاصل بين أسباب الحكم ومنطوقة على النحو المتعارف عليه في الأحكام الصادرة في محاكم الدول الأخرى أو حتى محاكم الجهات القضائية الأخرى بالمملكة – وبذلك يكون هناك نوع من عدم التبويب للحكم الصادر من المحاكم الشرعية بالمملكة ، وربما يؤدي ذلك إلى حمل قضاة الدول الأخرى على الاستغراب عندما يعرض أمامهم حكم صادر عن المحاكم الشرعية بالمملكة لتنفيذه أو للتمسك به كدليل في الدعوى .
- وعلى كل فقد رأينا في البداية أن هناك خلاف حول مسألة محل قوة الحكم هذا الخلاف ناتج عن التفرقة بين منطوق الحكم وأسبابه ، وربما ظهور هذا الخلاف ناتج من أنه ليس هناك قاعدة قانونية بخصوص شكل الحكم وتبويبه وإنما هذه المسألة تركت لاجتهاد القاضي وأسلوب صياغته لحكمه ، فعلى قدر حسن صياغة الحكم يكون تقدير الجهد المبذول من القاضي في صياغة حكمه وفهم عناصر الدعوى ووقائعها وأساببها ، ومن ثم إنزال حكم القانون أو الشرع على الدعوى .
- وبالتالي فإننا نقر وبحق أن كل ما يضع تنظيماً للعلاقة القانونية بين طرفي الدعوى هو منطوق الحكم الذي يحمل محل قوته ولو ورد مع الأسباب وعلى من يٌقَدم له مثل هذا الحكم للاعتراف به أن يبذل وسعه في معرفة منطوق الحكم باستخراج الجزء من الحكم الذي قرر تنظيم العلاقة القانونية بين طرفي الدعوى وأن ينسب إليه قوة الحكم سواء ورد ذلك الجزء مع أساب الحكم في صياغة واحدة أو ورد منفصلاً بذاته على النحو المألوف في أحكام محاكم الدول المختلفة .
وعليه فقد وفقت محكمة استئناف القاهرة عندما حكمت بالاعتراف بحكم صادر من محكمة الدمام الشرعية الكبرى والقاضي بإلزام إحدى الجهات المصرية بدفع مبلغ من المال ورفض الدفاع المقدم من المحكوم عليه ببطلان مثل هذا الحكم لصدوره في صوره على غير المألوفة في صدور الأحكام حيث لم يفرق بين أسبابه ومنطوقة بل جاء الحكم في صياغة لفظية واحدة ولا يعرف أين منطوقة - فرفضت المحكمة هذا الدفاع اعترفت بصحة الحكم ، وقالت : أنه ليس للحكم قالب أو شكل خاص محدد لكي يصدر على مقتضاه ، وأنه وإن كانت أسباب الحكم الماثل متداخلة مع المنطوق ، فإنه يمكن معرفة منطوق الحكم ونسبة قوة الحكم إليه وبالتالي منحه قوة الاعتراف والتنفيذ .
- وبناء على ما تقدم فإنه يمكن لنا استخلاص قاعدة في هذا الشأن مقتضاها : أن محل قوة الحكم وما يحوز الحجية هو منطوق الحكم لأن الحقوق هي التي يتعلق بهذا المنطوق ولا تتحدد إلا به ، ولا يمكن أن يكون كل ما يدونه القاضي في ورقة الحكم حكماً بالمعنى الفني .
- وإن كنا في النهاية نرى أنه لا يوجد ما يمنع من صياغة الأحكام الصادرة من القضاء الشرعي بالمملكة على نحو مبوب تبدأ بالوقائع ثم الأسباب ثم المنطوق ، لأنه لا يأمن تصرف محاكم الدول الأخرى تجاه هذا الحكم بمناسبة الاعتراف به ، ونشيد بهذه المناسبة بمحكمة استئناف القاهرة على الجهد الفكري المبذول من القضاة في فهم وتطبيق صحيح القانون على مثل هذا الأمر .
أشرف خليل رويـه