تجاوز المحكمون لنطاق سلطاتهم :-
تمهيد : -
الأصل أن التحكيم سواء كان في صورة مشارطة أو شرط أن يكن رضائي أي يخضع لمبدأ سلطان الإرادة – لذلك فإن إعمال مبدأ سلطان الإرادة في التحكيم يقتضي إعطاء الحرية لأطرافه في تنظيم عملية التحكيم وتحديد إختصاصات المحكم أو المحكمين الذين اختاروهم للفصل في النزاع – وبهذا المثابة ينطبق قانون الإرادة في شأن كل ما يتعلق بتكوين التحكيم وشروط إنعقاده الموضوعية مثل التراضي والمحل والسبب كما ينطبق كذلك على الآثار التي تترتب على هذا التحكيم سواء تعلق بأشخاصه أو بموضوعه وجزاء مخالفة الإلتزامات المتولدة عن الاتفاق على التحكيم وما يثيره ذلك من مسئولية عقدية .

إذن يمكن القول أنه إذا ما تجاوز المحكمون نطاق اختصاصهم فإن ذلك يكون سبباً لرفض تنفيذ حكم التحكيم الصادر منهم – بل ولبطلان حكم التحكيم .
وقد احتوت كافة القواعد القانونية المنظمة للتحكيم على هذا الحكم سواء في ذلك القوانين الداخلية أو في الاتفاقات الدولية وعلى رأسها اتفاقية نيويورك حيث نصت في المادة الخامسة منها (1/ج) على أنه : (( لا يجوز رفض الاعتراف وتنفيذ الحكم بناء على طلب الخصم الذي يحتج عليه بالحكم إلا إذا قدم هذا الخصم للسلطة المختصة في البلد المطلوب إليها الاعتراف والتنفيذ الدليل على ... ج- أن الحكم فصل في نزاع غير وارد في مشارطة التحكيم أو في عقد التحكيم أو تجاوز حدودهما فيما قضي به ، ومع ذلك يجوز الاعتراف وتنفيذ جزء من الحكم الخاضع أصلاً للتسوية بطريق التحكيم إذا أمكن فصله عن باقي أجزاء الحكم غير المتفق على حلها بهذا الطريق )) .
- وقد ورد نفس النص في نموذج القانون بشأن التحكيم التجاري الدولي للانستروال في المادة السادسة والثلاثين (أ/3) ، وكذلك يقرر النموذج نفس الحالة كسبب من أسباب البطلان أو الإلغاء على النحو الواضح بالمادة الرابعة والثلاثين (أ/3) .
- وقد أوردت اتفاقية واشنطن لتسوية منازعات الإستثمار لعام 1965م في المادة الثانية والخمسون (1/ب ) هذه الحالة كسبب من الأسباب التي يجوز لأي من الطرفين بناء على توافرها أن يطلب إلغاء الحكم بطلب يقدمه إلى السكرتير العام – حيث لا توجد في هذه الاتفاقية حالات لرفض التنفيذ - ولم تذكر هذه الإتفاقية إمكانية التنفيذ الجزئي للجزء الصحيح من الحكم إذا أمكن فصله .
- وقد أخذت الاتفاقية الأوربية للتحكيم التجاري الدولي لعام 1961م بهذا الحالة من خلال نص المادة (9/1/ج) .
- وقد أخذت اتفاقية عمان العربية للتحكيم التجاري التي أقرها مجلس وزراء العدل العرب في دورته الخامسة في 14/4/1987م بهذه الحالة كسبب من أسباب البطلان بناء على طلب يقدم إلى رئيس المجلس من خلال نص المادة الخامسة والثلاثين .
- وقد نص على هذه الحالة القانون المصري في قانون التحكيم الجديد ( القانون رقم 27لسنة 1994م ) وأعتبرها سبب لرفع دعوى ببطلان حكم التحكيم – لا كسبب لرفض التنفيذ ، حيث نص في المادة الثالثة والخمسون (1/ و ) على أنه : (( لا تقبل دعوى بطلان حكم التحكيم إلا في الأحوال الآتية .... و- إذا فصل حكم التحكيم في مسائل لا يشملها اتفاق التحكيم أو جاوز حدود هذا الاتفاق ، ومع ذلك إذا أمكن فصل أجزاء الحكم الخاصة بالمسائل الخاضعة للتحكيم عن أجزائه الخاصة بالمسائل غير الخاضعة له فلا يقع البطلان إلا على الجزاء الأخيرة وحدها .
ونص على هذه الحالة أيضاً القانون الفرنسي من خلال المادة (1502 ) من قانون المرافعات المدنية الجديد ، وأعتبرها أيضاً سبباً لإبطال الحكم التحكيمي .

والسؤال الذي يطرح نفسه فأن : كيف يتجاوز المحكمون سلطاتهم ؟ وبمعنى آخر ما هي علامات وصور هذا التجاوز ؟؟

بالإطلاع على التطبيقات القضائية وأقوال الفقهاء أمكن لي حصر ذلك في التالي :-
1- تجاوز المهمة الواردة في عقد التحكيم أو وثيقة التحكيم .
2- عدم حسم كل النقاط الواردة بالمهمة .
3- عدم التقيد بالقانون المطبق أو تشويه تطبيقه .
4- عدم التقيد بالإجراءات المنصوص عليها في عقد التحكيم أو في وثيقة التحكيم .

1- تجاوز المهمة الواردة في عقد التحكيم أو وثيقة التحكيم .

وهو أن يحكم المحكمون في نقاط لم يطلب الأفراد منهم أن يحسموها – بمعنى أن قرار المحكمين يخرج جزئياً عن النطاق المحدد لهم في عقد أو وثيقة التحكيم .
فعلى سبيل المثال أبطلت محكمة استئناف باريس حكم تحكيم بفوائد عن العطل والضرر سابق للتاريخ الذي حدده المدعي في طلباته ، حيث أعطته هيئة التحكيم أكثر مما يطالب به وتجاوزت مهمتها بل وطلبات المدعي نفسه ، وأمكن إعادة الأمر إلى نصابه بعد ذلك وتنفيذ الحكم .
وهذا يقودنا إلى الإشارة إلى أهمية تحديد نقاط التحكيم في عقد أو وثيقة التحكيم تحديداً واضحاً صريحاً لا يحتمل التأويل – فمثلاً قضت محكمة النقض الفرنسية في حكم حديث لها : برفضها لمنع تنفيذ حكم تحكيم وقالت : إن الأطراف اتفقوا على إحالة ما قد ينشأ بينهم من نزعات حول التعويض وفقاً لأحكام العقد المبرم بينهم – ولا حظت المحكمة أن نطاق اتفاق التحكيم لم يكنن محدداً بطريقة قاطعة – مما برر لها القضاء برفض التنفيذ .
ومن صور الخروج على مشارطة التحكيم ما قررته محكمة النقض المصرية : ببطلان الحكم التحكمي بإبطال الشركة – نظراً لأن مشارطة التحكيم تقصر ولاية المحكمين على المنازعات الخاصة بتنفيذ عقد الشركة .

2- عدم حسم كل النقاط الواردة في مهمة التحكيم .

ومثال ذلك أن يطلب المدعي تعويضاً عن الأضرار الحالية واللاحقة التي تنتج عن تعطل الآلات عن العمل – فيقرر الحكم التعويض عن الأضرار الحالية قط ويغفل البت في التعويض عن الأضرار اللاحقة .
وهناك صعوبة تنتج من إغفال المحكم طلباً من الطلبات التي تبدى له – فأين يذهب صاحب هذا الطلب ، فهل يذهب بطلبه إلى القضاء أو يعود إلى المحكم مرة ثانية ؟
فمن جهة بمجرد إصدار المحكم حكمه في النزاع تنتهي مهمته ويرفع يده عنه ، ومن جهة أخرى القضاء ليس مختصاً بالطلب الذي أغفل المحكم الفصل فيه ، لأنه مشمول وداخل في نطاق الاتفاق على التحكيم الأمر الذي يمنع القضاء من النظر فيه .
بداية أقرر أنه لا توجد نصوص قانونية أو أحكام قضائية تخفف من حدة هذه الصعوبة – أما فقهاء القانون فقد اختلفوا في هذه المسألة : حيث يرى البعض أن الأمر يتوقف على نظام التحكيم أو القانون المطبق على التحكيم – فإذا كان ذلك النظام أو القانون يعطي للمحكم فرصة لإصلاح هذا العيب فيجب التوجه إلى المحكم ، أما إذا كان النظام المتبع أو القانون المطبق ساكتين عن مثل هذا الأمر ، فإن صاحب الطلب ليس عليه سوى التقدم بدعوى تحكمية جديدة وتشكل محكمة تحكيم جديدة للنظر في هذا الطلب ، وبإمكانه أن يرجع على المحكم بالمسئولية ليطالبه بتعويض عن نفقات التحكيم الجديدة – أما إذا كان المحكم قد أصدر حكمه وأغفل الطلب وكانت مدة التحكيم لا زالت قائمة لم تنقضي فيكون لصاحب الطلب مراجعة هيئة التحكيم ذاتها طالما أن مدة التحكيم لم تنتهي ، وليس في حاجة إلى بدء إجراءات تحكيم جديدة ، ولكن المهم أن يصدر المحكم حكمـه الذي يصلح من خلالـه العيب خلال مهلة التحكيم .

3- عدم التقيد بالقانون المطبق أو تشويه تطبيقه .
إن عدم تقيد المحكمون بالقانون المطبق قد يؤدي إلى بطلان حكم التحكيم ، هذا الأمر كثيراً ما يطرح عندما يصدر المحكم حكم تحكيمي مستند فيه إلى قواعد العدالة والإنصاف في حين أن هناك قانون كان محدد اختاروه الأطراف من خلال الاتفاق على التحكيم لتطبيقه ، وعلى كل فإن إكتشاف ذلك يعود إلى الصياغة التي يتم بها حكم التحكيم ، مع ملاحظة أن التحكيم بالصلح لا يلتزم فيه المحكمون بتطبيق قانون معين وإنما مبادئ العدالة المسلم بها ، ويجب التنبيه إلى أنه لا يوجد ما يمنع الأخذ بتلك المبادئ ولو كانت هناك نصوص قانونية تقررها في نفس الوقت .
أما عن تشويه تطبيق القانون ، فقد تثنى لي الإطلاع على تطبيق قضائي بهذا الخصوص ، حيث حدث ورفعت دعوى أمام محكمة استئناف باريس بطلب إبطال حكم التحكيم لأن القانون المصري كان هو الواجب التطبيق على نزاع التحكيم ، ومع ذلك استند المحكم إلى نصوص القانون الفرنسي : فرفضت المحكمة ذلك وقالت أن المحكم لم يشوه تطبيق القانون لأنه طبق القانون المصري وإن أشار إلى القانون الفرنسي لتطابق النصوص المطبقة في كل من القانون المصري والقانون الفرنسي .

4- عدم التقيد بالإجراءات المنصوص عليها في عقد أو وثيقة التحكيم .

ويظهر ذلك عندما يتم النص في عقد أو وثيقة التحكيم على إصدار المحكم حكم مستقل في مسألة الاختصاص ، ثم يصدر بعد ذلك حكم في موضوع النزاع ، وعليه فليس للمحكم أن يصدر حكماً واحداً بالاختصاص والفصل في الموضوع معاً .
ومن التطبيقيات القضائية بهذا الخصوص : قضاء محكمة استئناف باريس برفض طب إبطال حكم تحكيم ، لأن مقدم الطلب يتمسك بأنه قد قدم دعوى مقابلة في مواجهة خصمه أثناء نظر الدعوى الأصلية وهذه الدعوى لم يبت فيها ، حيث رفضت ذلك محكمة استئناف باريس وقالت : إن مقدم الطلب قال : أنه يقدم دعوى مقابله في الوقت الحاضر على سبيل الاحتياط وسيواصلها فيما بعد – وهذا الطلب على هذا النحو يشكل إمكانية تقديم دعوى مقابلة للدعوى الأصلية الحالية وليس تقديم طلب بالفعل ، بإلاضافة إلى أنه إمكانية بدون تحديد موضوع الدعوى وسببها ووقائعها ، الأمر الذي يعني أن المحكم لم يرتكب أي خطأ في الإجراءات المنصوص عليها في عقد التحكيم .

أشرف خليل رويه