كثيرا ما يصادفنا أناس تقف على قارعة الطريق ترتدي ثيابا بالية شديدة الاتساخ وتطلق شعر الرأس واللحية إلى أطول ما يكون ، ومثل هؤلاء نسميهم بالمجاذيب ، كذلك نرى غيرهم ممن يتقمصون شخصية شرطي المرور فتجده يقف في مفترق طرق ويشير بيديه في جميع الاتجاهات للسيارات القادمة من هنا والقادمة من هناك ، أو واحد تراه يقف على ناصية أحد الشوارع الرئيسية ويلقي خطبه عصماء وكأنه من كبار الساسة والسياسة ، أو "فشار" يقول انه بعد تخرجه بأقل من عام في كلية الحقوق كان يعمل مستشارا لدى صحيفة واسعة الانتشار، أو كان مستشارا قانونيا لواحد من الأندية الكبرى ، ورغم انه في هذه الوظيفة أو تلك لم يتجاوز دور محام تحت التمرين جل مهامه أن يرسله أستاذه الكبير ببعض المذكرات هنا أو هناك ، ولكنه لفرط غروره فهو يتحدث دائما على نمط "أنا وحضرة الناظر بنقبض ميه وخمسة" ومثل هؤلاء لا نسميهم بالمجاذيب كأقرانهم الأول من أبناء الشوارع ، بل نسميهم بالمجانين ، ربما كان جنونهم جنون عظمة ، وربما نتج الجنون عن خوف وهلع مما يحمله القادم من الأيام وهذا ما نطلق عليه "هلوسة الخوف".
في إحدى ليالي الشتاء المظلمة ، وكنت حينها تحت العشرين بقليل ، وبينما أنا في طريقي لتأدية واجب عزاء في قرية تبعد عن قريتنا حوالي عشرة كيلومترات مستعينا بدراجتي الهوائية ، وبينما أنا في الطريق الموصوف إلا وأجد نفسي اشق مدافن إحدى القرى كانت مرصوصة على جانبي الطريق الضيق المعتم الذي كنت أسير فيه وحيدا ، أصابتني ساعتئذ حالة من الرعب والخوف صحبتها نوبة من الهلوسة جعلتني أتحدث بأعلى صوتي كي أتغلب على فزعي وخوفي "أنا جدع ، أنا جن ، العفريت اللي حشوفه حقطعه ستين حته " وهكذا حتى خرجت من هذا المأزق المخيف..
لما أفقت من حالتي المؤسفة صرت أتلفت خلفي كل دقيقة ، ولاحظت بعد أن ابتعدت قليلا عن معمعة الرعب هذه أن جسمي كله لا يرتعش فحسب ، بل كان يرتعد ، وأن البلل قد لفني من كل جانب ، وقاكم الله شر استبداد الخوف من مجهول لا يعلمه إلا الله...
وصاحبنا الذي نشفق عليه من غرقه كل ثانية في وسط مائه بعد أن سلك مسلكا غير حميد وسط مدافن عزبة العفاريت الحمر ، ودخل في متاهاتها المعقدة التي لن يخرج منها سالما بإذن الله ، نسمعه هو الآخر يهذي ، أنا جدع ، أنا جن ، العفريت اللي حشوفه حوريه مالا عين رأت ولا أذن سمعت"
وصاحبنا يهذي دون أن يعلم أمور ثلاثة
أولهم .. أن منتداه الشاتنشاهي هو أكثر ما يسيء للعالم الجليل
وثانيهم .. هذه المشاركة التي تناولت نفس الأمر مسبقا .. فلماذا لم يرُد للعلم الجليل اعتباره وكان حينها يستطيع أن يفعل
وثالثهم .. أن ما كتبناه عن العالم الجليل ليس إلا نتاج قراءات سواء عن هيكل أو عن الصديق للعالم الجليل الاستاذ / توفيق الحكيم أو غيرهما كثيرون ممن تناولوا هذا الامر بالنقد اللازع.
أما الامر الوحيد الذي كان يعلمه ، أنني ورغم افراد هذه المشاركة ، كنت على رأس المدعويين لحضور هذا التدشين الذي يحدثنا عنه ، ولكني وفي اللحظات الأخيرة ، تأكدت أنها المؤامرة بكل خيوطها ، فرفضت الحضور