دراسة فى مدى دستورية نص المادة
(586) من قانون التجارة الجديد رقم 17 لسنة 1999
مقدمة/-
فى ظل المتغيرات الأقتصادية الحديثة التى يشهدها المجتمع المصرى , والتحول إلى الرأسمالية , والقضاء على كل صور الإشتراكية , تمضى الدولة فى محاولة جادة لفتح مجالات الإستثمار الوطنى والأجنبى , وجذب رؤس الأموال , وتشجيع الإستثمار 0
وفى هذا السياق كان لزاما على المشرع المصرى أن يسطر من القوانين مايتماشى مع هذا التغيير الذى طرأ على المجتمع , فكانت قوانين الإستثمار المختلفة , بالإضافة الى تغيير القانون التجارى القديم , وإستبدالة بالقانون التجارى الجديد رقم 17 لسنة 1999 فى محاولة جادة لمسايرة الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية التى طرأت على مجتمعنا 0
ولما كانت النظرية تختلف عن التطبيق العملى , وكانت نقاط الضعف فى التشريعات المختلفة لا تظهر إلا حال التطبيق فى المنازعات المختلفة التى تعرض على القضاء بصدد تطبيق قاعدة قانونية معينة 0
ولما كان وجود نص مثل نص المادة (586) فى التشريع التجارى الجديد , مع كل ما يحمله من سلطات واسعة للمحكمة فى التحفظ على شخص المدين المفلس ومنعه من السفر وتقييد حريته دون ضابط أو رقيب , يمثل خطورة على المستقبل الإقتصادى بمصر , كما يمثل تعارضا لمبادىء الدستور , ولا يصل للحد الأدنى للديمقراطية فى الدول المتقدمة, كان لزاما علينا أن نوضح فيما يلى أهم نقاط تعارض هذا النص مع الدستور والمواثيق الدولية0
مدى ملاءمة المادة (586) للدستور وقواعد العدالة
- نصت المادة (586) من قانون التجارة على أنه "1- يجوز للمحكمة بناء على طلب قاضى التفليسة أوالنيابة العامة أو أمين التفليسة أو المراقب أن تأمر عند الاقتضاء بالتحفظ على شخص المفلس أو بمنعه من مغادرة البلاد لمدة محددة قابلة للتجديد. وللمفلس أن يتظلم من هذا الأمر دون أن يترتب على التظلم وقف تنفيذه.
2- وللمحكمة أن تقرر فى كل وقت إلغاء أمر التحفظ على شخص المفلس أو أمر المنع من مغادرة البلاد."
- ولا يخفى ما في هذا النص من تعدى صارخ على حرية الأفراد، لما أرساه من عقوبة قد تصل بإيداع المفلس في السجون مثله مثل أي مجرم أخر لا لذنب إلا لأنه قد تعسر في سداد ديونه وتوقف عن الدفع.
- وفي الوقت الذي كفل القانون لأي من المجرمين المعاملة اللائقة وهم أشخاص قد أذنبوا في حق المجتمع محدداً لهم مدة عقوبة لا يجوز الحكم بتجاوزها، ولا يجوز الحكم عليهم بها مجدداً عن نفس الفعل، عامل المشرع المدين المفلس معاملة أسوأ وأشد قسوة من معاملته للمجرمين، فقد أعطى للمحكمة سلطة مطلقة وواسعة في التحفظ عليه لحد يصل إلي إيداعه في أحد السجون وذلك في أي وقت شأت ودون تحديد لهذه المدة التي قد تطول أو تقصر بحسب ما تراه محكمة الإفلاس.
-أي من الفريقين أحق بالحماية وكفالة حقوقه وصيانة حريته.... مجرم أذنب في حق مجتمعه، وربما قتل أو سرق، أم شخص ساقه قدره للتعثر في مشروع أو كيان إقتصادى ربما فاد المجتمع واقتصاده في أي من الأيام.
- مخالفة المادة 586 من قانون التجارة 17/99 لمواد الدستور 41، 64، 65 من الدستور:
-النص المتقدم قد خالف نص المادة (41) من الدستور المصري فما نصت عليه من أن "الحرية الشخصية حق طبيعي وهى مصونة لا تمس، وفيما عدا حالة التلبس لا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأي قيد أو منعه من التنقل إلا بأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع ويصدر هذا الأمر من القاضي المختص أو النيابة العامة، وذلك وفقاً لأحكام القانون."
-فالمادة 41 من الدستور تضمنت الحديث عن أى شكل من أشكال تقييد الحرية الشخصية أو المنع من التنقل ومن ثم تنطبق أحكامها على التحفظ والمنع من مغادرة البلاد الواردين فى المادة 586 من قانون التجارة، هذا من ناحية ومن ناحية ثانية فالمادة الدستورية صريحة فى ربط بين تقييد الحرية بأى شكل وبين التحقيق الجنائى ولم يفترض الدستور جواز تقديم الحرية لأسباب مدنية ودليلنا على ذلك نص المادة ذاته حيث جعلت الوضع الاستثنائى مرتبط بحالة التلبس وهى حالة جنائية، كما استلزمت صدور أمر تقييد الحرية من جهتين محددتين هما: النيابة والقضاء وذكر النيابة هنا دلالة قاطعة على اقتصار حكم المادة على الأوضاع الجنائية، وأخيرا عندما تحدثت المادة عن أغراض تقييد الحرية حصرتها فى أمرين متلازمين هما ضرورة التحقيق وأمن المجتمع، والتلازم هنا يستخلص من استخدام النص لحرف الواو بين عبارة ضرورة التحقيق وعبارة صيانة أمن المجتمع
وهذا ما أكدته وذهبت إليه المحكمة الإدارية العليا في حكمها الذي جاء نصه:-"لا يسوغ التوغل على الحريات العامة والمساس بحق كل مواطن في الأمن والحرية وضماناته الدستورية المقررة ضد القبض والاعتقال التعسفى، فكرامة الفرد وعزته وحريته دعامة لا غنى عنها في مكانة الوطن وقوته وهيبته."
(إدارية عليا – طعن 675، 797 لسنة 22ق- جلسة 27 مايو 1978)
المادة الطعينة تتعارض مع مبدأ الدولة القانونية (64، 65 من الدستور)
- الدولة القانونية ومشروعية السلطة
وحيث أن الدستور إذ نص فى المادة 65 منه على خضوع الدولة للقانون وان استقلال القضاء وحصانته ضمانان أساسيان لحماية الحقوق والحريات، فقد دل بذلك على أن الدولة القانونية هى التى تتقيد فى كافة مظاهر نشاطها - وأيا كانت طبيعة سلطاتها - بقواعد قانونية تعلو عليها وتكون بذاتها ضابطا لأعمالها وتصرفاتها فى أشكالها المختلفة، ذلك أن ممارسة السلطة لم تعد امتيازا شخصيا لأحد، ولكنها تباشر نيابة عن الجماعة ولصالحها، ولئن ثم القول بان السلطة لا تعتبر مشروعة ما لم تكن وليدة الإرادة الشعبية وتعبيرا عنها، إلا أن انبثاق هذه السلطة عن تلك الإرادة وارتكازها عليها لا يفيد بالضرورة أن من يمارسها مقيدة بقواعد قانونية تكون عاصما من جموحها وضمانا لردها على أعقابها أن هى جاوزتها متخطية حدودها، وكان حتما بالتالى أن تقوم الدولة فى مفهومها المعاصر - وخاصة فى مجال توجيهها نحو الحرية - على مبدأ مشروعية السلطة مقترنا ومعززا بمبدأ الخضوع للقانون باعتبارهما مبدءان متكاملان لا تقوم بدونهما المشروعية فى اكثر جوانبها أهمية، ولان الدولة القانونية هى التى يتوافر لكل مواطن فى كنفها الضمانة الأولية لحماية حقوقه وحرياته، ولتنظيم السلطة وممارستها فى إطار من المشروعية، وهى ضمان يدعمها القضاء من خلال استقلاله وحصانته لتصبح القاعدة القانونية محورا لكل تنظيم، وحدا لكل سلطة، ورادعا ضد العدوان.
(السبت 4/1/1992 – برقم22/8 ق د - ج ر - العدد 4 فى23/1/1992)
- خضوع الدولة للقانون والحقوق المسلم بها ديمقراطيا
(1)- وحيث أن المقرر أن مبدأ خضوع الدولة للقانون - محدد على ضوء مفهوم ديمقراطى - مؤداه إلا تخل تشريعاتها بالحقوق التى يعتبر التسليم بها فى الدول الديمقراطية، مفترضا أوليا لقيام الدولة القانونية، وضمانة أساسية لصون حقوق الإنسان وكرامته وشخصيته المتكاملة، ويندرج تحتها طائفة الحقوق الوثيقة الصلة بالحرية الشخصية بالنظر إلى مكوناتها وخصائصها،
( رقم49/17 ق د -ج ر - العدد 25 فى 27/6/ 1996)
- ضرورة الالتزام بالحد الأدنى المقبول فى الدول الديمقراطية
وحيث أن الدستور ينص فى مادته الأولى على أن جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطى اشتراكى، وفى مادته الثالثة على أن السيادة للشعب، وهو يمارسها ويحميها على الوجه المبين فى الدستور، وفى مادته الرابعة على أن الأساس الاقتصادى لجمهورية مصر العربية هو النظام الاشتراكى الديمقراطى
وحيث أن مؤدى هذه النصوص - مرتبطة بالمادة65 من الدستور - انه فى مجال حقوق المواطن وحرياته الأساسية، فان مضمون القاعدة القانونية التى تسمو فى الدولة القانونية عليها، وتتقيد هى بها، إنما يتحدد على ضوء مستوياتها التى إلتزمتها الدول الديمقراطية باطراد فى مجتمعاتها، واستقر العمل بالتالى على إنتاجها فى مظاهر سلوكها المختلفة، وفى هذا الإطار، والتزاما بأبعاده، لا يجوز للدولة القانونية فى تنظيماتها المختلفة أن تنزل بالحماية التى توفرها لحقوق مواطنيها وحرياتهم عن الحدود الدنيا لمتطلباتها المقبولة بوجه عام فى الدول الديمقراطية، ولا أن تفرض على تمتعهم بها أو مباشرتهم لها قيودا تكون فى جوهرها أو مداها مجافية لتلك التى درج العمل فى النظم الديمقراطية على تطبيقها، بل أن خضوع الدولة للقانون محددا على ضوء مفهوم ديمقراطى مؤاده إلا تخل تشريعاتها بالحقوق التى تعتبر التسليم بها فى الدول الديمقراطية مفترضا أوليا لقيام الدولة القانونية، وضمانة أساسية لصون حقوق الإنسان وكرامته وشخصيته المتكاملة،
(السبت 4/1/1992 - برقم 22/8 ق د - ج ر – العدد4 فى 23/1/1992)
ومن جماع ما تقدم يتضح ضرورة النظر للاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان بوصفها أداة كاشفة لما التقت عليه إرادة المجتمع الدولى فى تنظيم الحقوق والحريات
- هذا وقد نصت المادة (9) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 ديسمبر 1948 على أنه "لا يجوز القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفاً"
وأي تعسف في حجز مواطن ليس له ذنب إلا أنه حاول أن يخدم اقتصاد وطنه عن طريق مشروعه أو كيانه التجاري أيا كان. إلا أنه تعسر بسبب أو لأخر.
هل من المنطقي ونحن بصدد تشجيع الاستثمار وجذب رؤوس الأموال لتنشيط الاقتصاد القومي أن تحتوي المجموعة التجارية المصرية على مثل هذا النص الذي يمثل سيف على رقاب كل تاجر معرض في تجارته للخسارة والمكسب.
- هذا وقد جاءت الإتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية (وافقت عليها الحكومة المصرية بالقرار الجمهوري رقم 536 لسنة 1981 البروتوكول الاختياري الملحق بالاتفاقية – بالمادة (11) منها بالنص القاطع في هذه المسألة على أنه "لا يجوز سجن إنسان على أساس عدم قدرته على الوفاء بالتزام تعاقدي فقط".
وليست المعاملات التجارية سوى التزامات تعاقدية، فلم تكن التجارة في يوم من الأيام محل للتجريم ولا يجوز أن تكون كذلك... إذن فأي مبرر لوجود مثل هذا النص في القانون التجاري، وأي عقاب هذا الذي يفرضه على شخص تاجر في تجارته ولم يوفقه الحظ للمكسب وساقه للخسارة والتوقف عن الدفع.
-ثم ما الضمانات التي يوفرها هذا النص للحفاظ على كرامة الشخص المدين المتحفظ عليه؟
-ما هي الضوابط التي تقيد محكمة الإفلاس وهي بصدد إصدار مثل هذا الحكم الخطير؟
-ما هي مدة مثل هذا التحفظ الذي يمثل عقوبة أشد وأشنع من العقوبة الجنائية؟
-ما هي أوجه دفاع المدين لكي يدفع عنه مثل هذا الأذى، وما هي الرقابة القضائية لحكم محكمة الإفلاس إن كان نص المادة (586) من القانون التجاري قد أعطاها السلطة التقديرية الواسعة في إصدار مثل هذا الحكم دون رقابة من المحكمة العليا؟
- أسئلة كثيرة وهامة ليس لها إجابة سوى مخالفة نص المادة (586) تجاري للدستور المصري والاتفاقيات الدولية وحقوق الإنسان.
-إن وطننا وهو بصدد تشجيع الاستثمار وبذل الجهد نحو جذب رؤوس الأموال لتنشيط الاقتصاد القومي يحتاج إلي قانون تجاري واقتصادي قوي يتعايش مع السياسية الاقتصادية للدولة بما يحفظ عليها اقتصادها قوياً ومنتعشاً، ويشجع المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال لاستثمار أموالهم وإقامة مشروعاتهم فوق أرض وطننا الحبيب.
- إلا أن وجود مثل هذا النص التعسفي (586) في قانوننا التجاري يمثل خطورة نحو تشجيع الاستثمار وتنشيط الاقتصاد القومي بما يتعارض مع سياسة الدولة خاصة ونحن في أمس الحاجة لاقتصاد قوي في مثل هذه الظروف.
-إن القانون التجاري المقارن في جميع البلدان المتقدمة لا يحتوي على نص يعطى للمحكمة الحق في حبس المدين المفلس أو التحفظ عليه وتقييد حريته.
-لقد أحتوى نص المادة (586) تجاري على إهانة لشخص المدين المفلس وكرامته دون جرم، ذلك الشخص الذي ربما كان ذات يوم ذو مكانة اقتصادية يخدم وطنه واقتصاده، وهو ما يمثل تعدي صارخ على وثيقة إعلان الدستور المصري لسنة 1971 حيث جاء بالبند الثالث منه: "أن التطوير للحياة في وطننا، عن إيمان بأن التحدي الحقيقي الذي تواجهه الأوطان هو تحقيق التقدم، والتقدم لا يحدث تلقائياً أو بمجرد الوقوف عند إطلاق الشعارات، وإنما القوة الدافعة لهذا التقدم هي إطلاق جميع الإمكانيات والملكات الخلاقة والمبدعة لشعبنا الذي سجل في كل العصور إسهامه عن طريق العمل وحده في أداء دوره الحضاري لنفسه وللإنسانية.
- كما جاء بالبند الرابع: الحرية لإنسانية المصري عن إدراك لحقيقة أن إنسانية الإنسان وعزته هي الشعاع الذي هدي ووجه خط سير التطور الهائل الذي قطعته البشرية نحو مثلها الأعلى.
- إن كرامة الفرد انعكاس طبيعي لكرامة الوطن ذلك أن الفرد الذي هو حجر الأساس في بناء الوطن وبقيمة الفرد وبعمله وبكرامته تكون مكانة الوطن وقوته وهيبته.
-إن سيادة القانون ليست ضماناً مطلوباً لحرية الفرد فحسب لكنها الأساس الوحيد لمشروعية السلطة في نفس الوقت.
-هذا وبناء على ما تقدم، وحيث أن نصوص الدستور تمثل القواعد والأصول الأساسية التي يقوم عليها نظام الحكم في الدولة كما أن نصوصه لها الصدارة بين قواعد التشريع التي يتعين التزامها، ولا يجوز للسلطة التشريعية أن تسن من القوانين ما يتعارض مع أحكام الدستور وإلا شكل ذلك مخالفة دستورية تخضع لرقابة المحكمة الدستورية العليا، التي أسندت إليها مهمة حماية أحكام الدستور.
-وحيث أن المادة (4/1) من قانون المحكمة العليا رقم 81 لسنة 1969 والمادة (29ب) من قانون المحكمة الدستورية العليا رقم 48 لسنة 1979 قد نصا على أنه (إذا دفع أحد الخصوم أمام إحدى المحاكم بمناسبة دعوى معروضة عليها بعدم دستورية القانون، المطلوب تطبيقه في الدعوى محل النزاع، فعلى المحكمة المثار أمامها الدفع أن توقف الفصل في الدعوى وتعطي للخصوم ميعاداً يرفعون فيه دعوى أمام المحكمة العليا.)