حق المؤلف على مؤلفاته هو حق عيني أصلي. والقاعدة العامة أن لصاحب الحق العيني أن يتنازل عن حقه وأن يهبه من يشاء وقتما يشاء وكيفما يشاء. ولكن هل تسري هذه القاعدة على حق المؤلف على إطلاقها أم أن هناك استثناءآت؟.
تنص القوانين ، الخاصة بحق المؤلف في مجملها ، على أن للمؤلف الحق في التنازل عن حق استغلال مؤلفه ، ولكنها تمنع التنازل عن الحقوق الأدبية ومنها حق النشر باسمه أو باسم مستعار!!..
ويبدو أن واضعي القوانين يرون أن الحق الأدبي لا يجوز التنازل عنه. وربما دفعهم إلى ذلك إيجاد توثيق صادق للإنتاج الفكري.
وهذه القضية قديمة قدم الأدب نفسه.
ففي كتاب العمدة ، بين ابن رشيق القيرواني أنواع السرقات الأدبية وصنفها ، ووضح ما هو شنيع منها كالمسخ والإغارة وما هو مسموح به كالسلخ والرفادة والتي تعني الإهداء.
وفي كتاب الحيوان ، بين الجاحظ كيف أن بعض الكتب تنفذ ويروج سوقها لمجرد نسبتها للغير. قال ذلك ساخراً وهو في معرض الحديث عن كساد سوق الكتب!!. ما أعجل الإنسان!!.
ومن الذين كان يُلحن كتبه غيره الحسن بن أحمد، أبو محمد الأعرابي المعروف بالأسود الغندجاني اللغوي النسابة. فقد كان في كنف الوزير العادل أبي منصور بهرام بن مافنة ، وزير الملك أبي كاليجار ابن سلطان الدولة، بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه صاحب شيراز، وقد خطب له ببغداد بالسلطنة. فكان الأسود إذا صنف كتاباً جعله باسمه، فكان يفضل عليه إفضالاً جماً، فأثرى من جهته.ذكر ذلك ياقوت الحموي في معجم الأدباء.
ومعاناة الباحثين في توثيق التأليف هي من أكبر هموم الأدباء. ولعلنا إذا أخذنا كتاب العين كمثال ، اتضحت لنا حجم تلك المعاناة. ففي كتاب المزهر للسيوطي أن أولُ مَنْ صَنَّف في جَمْع اللُّغَةِ الخليلُ بن أحمد ، ألّف في ذلك كتاب العين المشهور قال الإمام فخر الدين في المحصول: أصلُ الكُتب المصنَّفَة في اللغة كتاب العين وقد أَطْبَق الجمهور من أهل اللغة على القَدْح فيه!!.
وقال السِّيرافِي في طبقات النحاة - في ترجمة الخليل: عملَ أوَّل كتاب العين المعروف المشهور الذي به يتهيّأ ضبطُ اللغة وهذه العبارةُ من السِّيرافي صريحةٌ في أن الخليلَ لم يُكَمِّلْ كتاب العين وهو الظَّاهرُ لما سيأتي من نَقْل كلام الناس في الطَّعْن فيه بل أكثرُ الناس أنْكَرُوا كونَه من تصنيف الخليل.
وقال بعضهم: ليس كتاب العين للخليل وإنما هو لِلَّيث بن نَصْر بن سيّار الخُرَاساني.
وقال الأزهري: كان الليثُ رجلاً صالحاً عمِل كتاب العين ونسبَه إلى الخليل ليَنْفُق كتابُهُ باسمِه ويَرْغب فيه من حوله.
وقال ابن المعتزّ: كان الخليلُ منقطعاً إلى اللَّيْث فلما صنَّف كتابه العين خصَّه به فحظِيَ عنده جدّاً ووقع منه مَوْقِعاً عظيماً ووهَبَ له مائة ألف وأقبل على حِفْظِه ومُلاَزَمَتِهِ فحفظ منه النّصف واتَّفَق أنه اشترى جارية نفيسةً فَغَارَت ابنةُ عمه وقالت: واللّه لأغيظنَّه وإن غِظْتُه في المال لا يُبَالي ولكني أراهُ مُكِبّاً ليلَه ونهارَه على هذا الكتاب واللّه لأفجَعَّنه به فأحْرَقتْهُ فلما عَلِمَ اشتدَّ أسفُه ولم يكن عند غيرِه منه نسخةٌ وكان الخليلُ قد مات فأمْلَى النِّصْفَ من حِفْظه وجمع علماءَ عصره وأمرهم أن يُكَمِّلُوه على نَمَطه وقال لهم: مَثِّلوا واجتهدوا فعملوا هذا التَّصْنيف الذي بأيْدِي الناس.
وقال بعضهم: عَمِلَ الخليلُ من كتاب العين قطعةً من أوَّله إلى حرف الغين وكَمَّله الليث ولهذا لا يُشْبِهُ أولَه آخرُه.
وقال محمد بن عبد الواحد الزاهد: قال: حدَّثني فتًى قَدِمَ علينا من خُراسان وكان يقرأ عليَّ كتاب العين قال: أخبرني أبي عن إسحاق بن راهَويْه قال: كان الليثُ صاحبُ الخليل بن أحمد رجلاً صالحاً وكان الخليلُ عَمِل من كتاب العين باب العين وحدَه وأحبَّ الليثُ أن يَنْفُق سوقُ الخليل فصنَّف باقي الكتاب وسمَّى نفسه الخليل وقال لي مرّةً أخرى: فسمَّى لسانه الخليل من حبِّه للخليل بن أحمد.
فهو إذا قالَ في الكتاب: قال الخليل بن أحمد: فهو الخليل.
وإذا قال: وقال الخليلُ مطلقاً فهو يحكي عن نفسه فكلُّ ما في الكتاب من خَلل فإنه منه لا من الخليل.
وقال النووي في تحرير التنبيه: كتاب العين المنسوبُ إلى الخليل إنما هو من جَمْع اللّيثِ عن الخليل.
ومن ذلك ما ذكره المعري في رسالة الغفران: أن أبا علي الفارسي كان يذكر أن أبا بكر بن السراج، عمل من الموجز النصف الأول لرجل بزاز، ثم تقدم إلى أبي علي الفارسي بإتمامه. قال: وهذا لا يقال إنه من إنشاء أبي علي، لأن الموضوع في الموجز، هو منقول من كلام ابن السراج في الأصول وفي الجمل، فكأن أبا علي جاء به على سبيل النسخ، لا أنه ابتدع شيئاً من عنده.
وهلم جرا..
وقد كان بعض كبار الكتاب يهدي مؤلفه لأحد عيون المجتمع ، ويكتب ذلك في المقدمة . وعادة ما يثيبه المهدى له أضعاف ثمن الكتاب.
ومما يثلج الصدر أن بعض الكتاب كان آية في الزهد. ففي كتاب معجم الأدباء ، ذكر الحميدي أن تمام بن غالب بن عمرو المعروف بابن التيان فقال: كان إماماً في اللغة، وثقة في إيرادها، مذكوراً بالديانة والورع، مات بالمرية في جمادى، سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وله كتاب تلقيح العين في اللغة، لم يؤلف مثله اختصاراً وإكثاراً، وله فيه قصة تدل على فضله، وذلك أن الأمير أبا الجيش، مجاهد بن عبد الله العامري، وهو أحد المتغلبين على تلك النواحي، وجه إلى أبي غالب هذا - أيام غلبته على مرسية وأبو غالب ساكن بها - ألف دينار أندلسية، على أن يزيد في ترجمة هذا الكتاب: مما ألفه تمام بن غالب لأبي الجيش مجاهد. فرد الدنانير ولم يفعل، وقال: والله لو بذل لي ملء الدنيا ما فعلت، ولا استجزت الكذب، فإني لم أجمعه له خاصة، لكن لكل طالب عامة. قال الحميدي: فاعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها واعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها!!.
ومن ذلك أيضاً أن روي عن المبرد: أن يهودياً بذل للمازني مائة دينار، ليقرئه كتاب سيبويه ، فامتنع من ذلك، فقيل له: لم امتنعت مع حاجتك وعيلتك؟ فقال: إن في كتاب سيبويه كذا كذا آية من كتاب الله، فكرهت أن أقرئ كتاب الله للذمة، فلم يمض على ذلك مديدة ، حتى أرسل الواثق في طلبه ، وأخلف الله عليه أضعاف ما تركه لله.
أما أبوحيان التوحيدى فعندما لم يجد في الناس ما كان يؤمل من كتبه ، قام بحرقها!!.
ولكن عودة للسؤال الذي طرحناه من هل للقاعدة العامة من استثناءآت تجعلنا نطرح سؤالاً آخر ، وهو هل الاستثناءآت المذكورة من مصلحة الأدب عامة والأديب خاصة؟.
من النظرة الأولى تتضح المصلحة وهي الحماية والتوثيق. ولكن ، إذا تعمقنا ، ربما رأينا وجها آخر للمسألة. وهو هذا المؤلف الذي يجد من يدفع له أضعاف ما يدره له كتابه فيما لو حمل اسمه ، أليس من حقه أن يستمتع بدراهم قد يرى أنه أكثر حاجة لها؟. لماذا يُسمح لمالك العلامة التجارية ولصاحب حق الاختراع التنازل دون المؤلف. أما الحديث عن البحث فيجعلنا نتساءل، أليس مما يخلق نشاطاً للبحث والتوثيق ، محاولة معرفة المؤلف الحقيقي؟. ولعل في ما كتبه الكتاب في معرفة مؤلف كتاب العين خير مثال لذلك.ومن ناحية ثانية ، أليس بيع المؤلف حقه الأدبي مما قد يشجع على التأليف ابتداء؟.
ويبدو لي أن هواة شراء حق المؤلف الأدبي ، سيستمرون في ممارسة هوايتهم اعتمادا على الصداقة وكلمة الشرف gentleman agreement!!. ولكن نفس هذه الصداقة وذات الكلمة هي أول من يوثق للمالك الحقيقي. فما عرف الناس المؤلفين الحقيقيين لكثير من الأعمال إلاَ من خلال المؤلفين أنفسهم!! فلا المؤلف يسكت ولا المجتمع يخفى عليه شيء!!.
غير أني أود أن أختم بسؤال في القانون ، وهو : هل القانون الذي يمنع صاحب الحق العيني من التنازل هو قانون دستوري ، أم أنه قانون معيب يجوز الطعن فيه؟.
.....................................................
نشرته أيضاً في منتدى مدينتي بربر في السودان
حق المؤلف في التنازل "عن حقوقه"