بسم الله الرحمن الرحيم
الاخوة الاكارم يسرني ان اتحف المنتدى بكتابة هذا البحث المهم للاخوة المحامين وهو بحث اعده المجمع الفقهي في الدورة الخامسة بعنوان :(الظروف الطارئة وتأثيرها في الحقوق والالتزامات العقدية )
نص القرار :
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد اما بعد :
فقد عرض على مجلس المجمع الفقهي الاسلامي مشكلة ما قد يطرأبعد ابرام عقود التعهد ونحوها من العقود ،ذات التنفيذ المتراخي ،في مختلف الموضوعات ،من تبدل مفاجئ ،في الظروف والاحوال ذات التأثير الكبير ،في ميزان التعادل ،الذي بنى عليه الطرفان المتعاقدان حساباتهما ،فيما يعطيه العقد كلا منهما من حقوق ،وما يحمله اياه من التزامات ،مما يسمى اليوم في العرف التعاملي بالظروف الطارئة .
وقد عرضت مع المشكلة امثلة لها ،من واقع احوال التعامل واشكاله ،توجب التفكير في حل فقهي مناسب عادل ،يقضي على المشكلة في تلك الامثلة ونظائرها الكثيرة ،فمن صور هذه المشكلة الامثلة التالية :
1- لو أن عقد مقاولة على انشاء بناية كبيرة ،يحتاج انشاؤها الى مدة طويلة ،تم بين طرفين ،وحدد فيه سعر المترالمكعب من البناء وكسوته ،بمبلغ مائة دينار مثلا ، وكانت كلفة المواد الاولية من حديد واسمنت وأخشاب وسواها ،وأجور عمال ،تبلغ عند العقد - للمتر الواحد - ثمانين دينارا - فوقعت حرب غير متوقعة ،او حادث آخر خلال التنفيذ ،قطعت الاتصالات والاستيراد ،وارتفعت بها الاسعار ارتفاعا كبيرا يجعل تنفيذ الالتزام مرهقا جدا .
2- لو أن متعدا ،في عقد توريد أرزاق عينية يوميا ،من لحم وجبن ولبن وبيض وخضروات وفواكه ونحوها الى مستشفى ،أو الى جامعة ،فيها أقسام داخلية أو الى دار ضيافة حكومية ،بأسعار اتفق عليها في كل صنف لمدة عام ، فحدثت جائحة في البلاد ،أو طوفان ،أو فيضان ،أو زلزال ،أو جاء جراد جرد المحاصيل الزراعية ،فارتفعت الاسعار الى أضعاف كثيرة ،عما كانت عليه عند عقد التوريد ،الى غير ذلك من الامثلة المتصورة في هذا المجال .
فما الحكم الشرعي الذي يوجبه فقه الشريعة في مثل هذه الاحوال ،التي أصبحت كثيرة الوقوع في العصر الحاضر ،الذي تميز بالعقود الضخمة بقيمة الملايين ،كالتعهد مع الحكومات في شق الطرق الكبيرة ،وفتح الانفاق في الجبال ،وانشاء الجسور العظيمة ،والمجمعات لدوائر الحكومة أو للسكنى ،والمستشفيات العظيمة أو الجامعات ،وكذا المقاولات ،التي تعقد مع مؤسسات ،أو شركات كبرى ،ونحو ذلك مما لم يكن له وجود في الماضي البعيد ؟
فهل يبقى المتعاقد الملتزم على حدود عقده وأسعاره ،قبل تبدل الظروف وطروء التغيرات الكبيرة المشار اليها ،مهما تكبد ذلك من خسائر ماحقة أوساحقة ،تمسكا بمقتضى العقد وحدوده في الاسعار والكميات ،أو له مخرج وعلاج ،من فقه الشريعة الحكيمة السمحة العادلة ،يعيد كفتي الميزان الى التعادل ،وبحقق الانصاف بقدر الامكان بين الطرفين ؟
وقد نظر مجلس المجمع في النظائر الفقهية ذات الصلة بهذا الموضوع ،من فقه المذاهب ،واستعرض قواعد الشريعة ذات العلاقة ،مما يستأنس به ،ويمكن أن يوصى بالحكم القياسي ،والاجتهاد الواجب فقها ،في هذا الشأن ،كما رجع الى آراء فقهاء المذاهب فوجد ما يلي :
1- أن الاجارة يجوز للمستأجر فسخها بالطوارئ العامة ،التي يتعذر فيها استيفاء المنفعة ،كالحروب والطوفان ونحو ذلك ،بل الحنفية رحمهم الله يسوغون فسخ الاجارة أيضاً بالاعذار الخاصة بالمستأجر ،مما يدل على أن جواز فسخها بالطوارئ العامة مقبول لديهم ايضا بطرق الاولوية ،فيمكن القول انه محل اتفاق ،وذكر ابن رشد في بداية المجتهد (ج2ص/192من طبعة الخانجي الاولى بالمطبعةالجمالية بمصر )تحت عنوان :(أحكمام الطوارئ) انه (عند مالك أن أرض المطر (أي البعلية التي تشرب من ماء السماء فقط ) اذا أكريت فمنع القحط من زراعتها ،أو اذا زرعها المكتري فلم ينبت الزرع لمكان القحط (اي بسببه ) أن الكراء ينفسخ ،وكذلك اذا استعذرت بالمطر ،حتى انقضى زمن الزراعة ،فلم يتمكن المكتري من زرعها ) انتهى كلام ابن رشد .
2- وذكر ابن قدامة المقدسي في كتاب الاجارة من المغني (المطبوع مع الشرح الكبير ج6ص/30)انه :(اذا حدث خوف عام ،يمنع من سكنى ذلك المكان ،الذي فيه العين المستأجرة ،أو تحصر البلد ،فامتنع الخروج الى الارض المستأجرة للزرع ،أو نحو ذلك :فهذا يثبت للمستأجر خيار الفسخ ،لانه أمر غالب يمنع المستأجر من استيفاء المنفعة بالكلية ،فأشبه مرضه .
3- وقد نص الامام النووي -رحمه الله - في روضة الطالبين (ج5ص/239،انه لا تنفسخ الاجارة بالاعذار ،سواء أكانت اجارة عين أم ذمة ،وذلك كما اذا استأجر دابة للسفر فمرض ،او حانوتا لحرفة فندم ،أو هلكت آلات تلك الحرفة ،أو استأجر حماما فتعذر الوقود ،،قال النووي :وكذا لو كان العذر للمأجر ،بأن مرض ،أو عجز عن الخروج مع الدابة ،أو أكرى داره وكان أهله مسافرين فعادوا واحتاج الى الدار أو تأهل قال :فلا فسخ في شئ من ذلك ،اذ لا خلل في المعقود عليه .اه .
4- ما يذكره العلماء -رحمهم الله - في الجوائح ،التي تجتاح الثمار المبيعة على الاشجار بالاسباب العامة ،كالبرد والجراد وشدة الحر والامطار والرياح ونحو ذلك مما هو عام ،حيث يقررون سقوط ما يقابل الهالك بالجوائح من الثمن ،وهي قضية الجوائح المشهورة في السنة والفقه .
5- وذكر شيخ الاسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مختصر الفتاوى ص 376 أن من استأجر ما تكون منفعة اجارته لعامة الناس ،مثل الحمام والفندق والقيسارية ،فنقصت المنفعة المعروفة ،لقلة الزبون ،أو لخوف أو حرب ،أو تحول سلطان ونحوه فانه يحط عن المستاجر من الاجرة بقدر ما نقص من المنفع
6- وقال ابن قدامة ايضاً في الصفحة (29)من الجزء السابق الذكر نفسه (ولو استأجر دابة ليركبها ، أو يحمل عليها الى مكان معين ،فانقطعت الطريق اليه ،لخوف حادث ،أو اكترى الى مكة فلم يحج الناس ذلك العام من تلك الطريق ،فلكل واحد منهما فسخ الاجارة وان احب ابقاءها الى حين امكان استيفاء المنفعة جاز )
وقال الكاساني من فقهاء الحنفية في الاجارة من كتاب بدائع الصنائع (ج4ص/197) (ان الفسخ في الحقيقة امتناع من التزام الضرر ،وأن انكار الفسخ عند تحقق العذر ، خروج عن العقل والشرع ،لانه يقتضي أن من اشتكى ضرسه ،فاستأجر رجلا لقلعها ،فسكن الوجع يجبرعلى القلع وهذا قبيح عقلا وشرعا ) .
هذا وقد ذكر فقهاء المذاهب ،في حكم الاعذار الطارئة في المزارعة والمساقاة والمغارسة شبيه ما ذكروا في الاجارة .
7- قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده ،وقرر كثير من فقهاء المذاهب في الجوائح التي تجتاح الثمار ببرد او صقيع او جراد او دودة ونحو ذلك ةمن الافات ، انها تسقط من ثمر الثمار اتي بيعت على اشجارها ما يعادل قيمة ما أتلفته الجائحة ، وان عمّت الثمر كله تسقط الثمن كله .
8- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه (لا ضرر ولا ضرار ) وقد اتخذ فقهاء المذاهب من قوله هذا قاعدة فقهية ،اعتبروها من دعائم الفقه الكبرى الاساسية ،وفرعوا عليها احكاما لا تحصى ،في دفع الضرر وازلته في مختلف الابواب .
ومما لا شك فيه ان العقد الذي يعقد وفقا لنظامه الشرعي ،يكون ملزما لعاقديه قضاء ،عملا بقوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا أفوا بالعقود )
ولكن قوة العقد الملزمة ليست أقوى من النص الشرعي الملزم للمخاطبين به كافة ،وقد وجد المجمع ، في مقاييس التكاليف الشرعية ، ومعايير حكمة التشريع ،أن المشقة التي لا ينفك عنها التكليف عادة بحسب طبيعته ،كمشقة القيام في الصلاة ،ومشقة الجوع والعطش في الصيام ،لا تسقط التكليف ،ولا توجب فيه التخفبف ، ولكنها اذا جاوزت الحدود الطبيعية للمشقة المعتادة في كل تكلف بحسبه ، اسقطته أو خففته ،كمشقة المريض في قيامه في الصلاة ،ومشقته في الصيام ،وكمشقة الاعمى والاعرج في الجهاد ،فان المشقة المرهقة عندئذ بالسبب الطارئ الاستثنائي توجب تدبيرا استثنائيا يدفع الحد المرهق منها . وقد نص على ذلك وأسهب في بيانه ، وأتى عليه بكثير من الامثلة في أحكام الشريعة الامام ابو اسحاق الشاطبي - رحمه الله - في كتابه ( الموافقات في اصول الشريعة ) .
فيتضح من ذلك أن الخسارة المعتادة في تقلبات التجارة ،لا تأثير لها على العقود ،لانها من طبيعة التجارة وتقلباتها التي لا تنفك عنها ،ولكنها اذا جاوزت المعتاد المألوف كثيرا ، بمثل تلك الاسباب الطارئة الانفة الذكر توجب عندئذ تدبيرا استثنائيا .
ويقول ابن القيم - رحمه الله - في كتابه ( اعلام الموقعين ) :
(ان الله ارسل رسله وانزل كتبه بالعدل الذي قامت به السموات والارض ،وكل أمر أخرج من العدل الى الجور ، ومن المصلحة الى عكسها ،فليس من شرع الله في شئ ، وحيثما ظهرت دلائل العدل وأسفر وجهه فثم شرع الله وأمره ) اه (اعلام الموقعين ) وقصد العاقدين ،انما تكشف عنه وتحدد ظروف العقد ، وهذا القصد لا يمكن تجاهله والاخذ بحرفية العقد ،مهما كانت النتائج ، فمن القواعد المقررة في فقه الشريعة (ان العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للالفاظ والباني ).
ولا يخفى ان طريق التدخل في مثل تلك الاحوال المعروضة آنفا في العقود المتراخية التنفيذ ،لاجل ايجاد الحل العادل الذي يزيل الجور انما هو من اختصاص القضاء ،ففي ضوء هذه القواعد والنصوص المعروضة ،التي تنير طريق الحل الفقهي السديد ،في هذه القضية المستجدة الاهمية يقرر الفقه الاسلامي مايلي :
1- في العقود المتراخية التنفيذ (كعقود التوريد والتعهدات والمقاولات ) اذا تبدلت الظروف التي تم فيه التعاقد تبدلا غيّر الاوضاع والتكاليف والاسعار ،تغييرا كبيرا ،بأسباب طارئة عامة ،لم تكن متوقعة حين التعاقد ،فأصبح بها تنفيذ الالتزام العقدي ،يلحق بالملتزم خسائر جسيمة غير معتادة ،من تقلبات الاسعار في طرق التجارة ، ولم يكن ذلك نتيجة تقصير او اهمال من الملتزم في تنفيذ التزاماته ،فانه يحق للقاضي في هذه الحالة عند التنازع ،وبناء على الطلب ، تعديل الحقوق والالتزامات العقدية ،بصورة توزع القدر المتجاوز للمتعاقد من الخسارة على الطرفين المتعاقدين ،كما يجوز له أن يفسخ العقد ،فيما لم يتم تنفيذه منه ،اذا رأى ان فسخه أصلح وأسهل في القضية المعروضة عليه ، وذلك مع تعويض عادل للملتزم له ،صاحب الحق في التنفيذ ، يجبر له جانبا معقولا من الخسارة ،التي تلحقه في فسخ العقد ، بحيث يتحقق عدل بينهما ، دون ارهاق للملتزم ، ويعتمد القاضي في هذه الموازنات جميعا رأي أهل الخبرة الثققات .
2- ويحق للقاضي ايضا ات يمهل الملتزم اذا وجد ان السبب الطارئ قابل للزوال في وقت قصير ، ولا يتضرر الملتزم له كثيرا بهذا الامهال .
هذا وان مجلس المجمع الفقهي يرى في هذا الحل المستمد من اصول الشريعة تحقيقا للعدل الواجب بين طرفي العقد ،ومنعا لضرر الوهق لاحد العاقدين ،بسبب لا يد له فيه ،وأن هذا الحل أشبه بالفقه الشرعي الحكيم ،وأقرب الى قواعد الشريعة ومقاصدها العامة وعدلها .والله ولي التوفيق .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .