المطرقه !!
بقلم / المعاون القضائي
( أوروبا - 40 يوماً - 40 دولاراً $$ ؟!؟! )
40 ثانية هو الوقت الذي استغرقه حاجبا ( ديفيد ) ليعودا إلى وضعهما الطبيعي !!
صفقة مربحة بكل المعايير .. هذا ما حدّث به نفسه .. تأبط المجلة ومضى لا يلوي على شيء إلى العنوان البارز على صفحات News Week ( المجلة الأشهر في أميركا ) .
علامات التعجب ما تزال تحوم حول رأسه وهو يدلف إلى مكتب السفريات ..
اندس بين الحضور الكثيف وانتظر دوره ..
لحظات ... ثم قطع أفكاره صوت السكرتيرة وهي تجهد في سبيل تنبيهه إلى دوره المرتقب ..
أخرج ديفيد الإعلان من جيبه وأراه لوكيل السفريات متشككاً : "هل هذا صحيح .. أيمكنني حقاً رؤية أوروبا بأربعين دولاراً فقط " ؟؟
رد الوكيل بثقة : " لن يثنيك عنها إلا نَقْدِيَ الثمن وتعبئة هذه الاستمارة "
وقّع ديفيد الورقة بعد أن دفع المبلغ .. ليفاجأ بالرجل ينحني ثم يهوي بالمطرقة على أُمِّ رأسه وهو لا يكاد يُبِين ؟!!!
أفاق ( ديفيد ) .. ليجد نفسه جالساً في جوف سفينة خشبية .. مقيداً بسلاسل إلى مجداف .. ويشاركه مائة رجلٍ الوضع نفسه .. ما أن وعى بالمكان حوله حتى ظهر زنجي ضخم أصلع الرأس ، عاري الصدر، قد أحاط معصميه بسوارين من الفولاذ ، وراح يفرقع السوط على رؤوسهم قائلاً بين الفينة وأختها بصوت جهوري :
" جدّفوا !! جدّفوا !! جدّفوا عليكم اللعنه !! "
بعد مضي أربعين يوماً مترعة بالجَلَد والتعب .. سرى بين الرجال خبر وصول السفينة لأوروبا !!
نزعت قيودهم أخيراً ، واصطفوا في طابور الحرية .. كان ( ديفيد ) لا يزال يشعر بالدوار عندما التفت إليه أحد رفاقه ليسأله : " لم يسبق لي أن قمت بأي رحلة بحرية من قبل ، فما رأيك أن أعطي حامل السوط بخشيشاً على هذه الرحلة المثيرة " !!!!!
القصة متخيلة كما رواها توم رِدل صاحب كتاب ( مكة .. خمس عوامل لحياة ناجحه )
وهي تحكي بجلاء قصة استمراء المجتمعات للثقافات السائدة ، وصعوبة الخروج عن نسقها إلا ما شاء الله .
ولذلك اعتبر العظماء حقاً .. من يخرجون عن نمط الأفكار المتوارثة في مجتمعاتهم ، وهم بحق من يعلقون في خبايا ذاكرتنا التاريخيه ..
والذاكرة لا شك ملئ بقصص النوابغ الذين حوّلوا الصفعات إلى صفقات تُدَوِيْ من حولهم وقلوب أعدائهم تكاد تميّز من الغيظ ..
من منا لا يذكر شيخ الإسلام ( ابن تيمية ) ومعاركه الفكرية القاسية مع خصومه ..
عندما ألفى عصره بحق ملكاً خالصاً للأشاعرة ، فأقام عليهم الدنيا ولم يقعدها .. ولقي نتيجة ذلك عنتاً وظلماً .. ولوبياً ضخماً حاول أن يطفأ نوره ويطمس آثاره .. فما الذي حصل ؟
ما زال ذكره يتردد منذ 800 سنة وكأنه حي لم يمت .
أفلا نستعيد صورة ( المنصور بن أبي عامر ) عندما أوصل الأندلس وفق مفاهيم ابن خلدون إلى أوج القوة لتبدأ الأندلس بعده سُنَّةَ الأُفول .. ( أبوعامر ) الذي قلب الموائد وغمر الخليفة وسحق مخالفيه بل أركع ملوك النصارى عند قدميه .. بعد صفعة تلقاه من غلمان القصر الصقالبة .. وجميع المحيطين بالخليفة ..
لا ..لا يمكن أن نزيح عن ذاكرتنا دولة القرامطة وقصة ( أبي طاهر الجنابي ) عندما امتدت دولته من لا شيء إلى شوكة في خاصرة ( بغداد ) تنبسط من سواد الكوفة إلى البحرين ..
( الجنابي ) .. الذي ما فتأ يذكر أباه ( الوضيع ) وهو يتلقى السخرية والطعن بدينه في سوق الكوفة .. فينطلق إليها ويعيث فيها فساداً وهتكاً للأعراض .. حتى عندما خلع الحجر الأسود من مكانه وفكّر بهدم الكعبة كانت روح أبيه تحوم حول رأسه ليذكر ما كان .
ألم يتحول ( ابن حزم ) من عامي لا يجيد مسألة فقهية يعرفها صغار طلبة العلم إلى عالم الدنيا وشاغل العصور بعده .. وهو الشاب الأندلسي المدلل .. من كبار بيوتات أشبيلية .. يدخل المسجد في وقت نهي ليصلي .. فينهره أحد الجالسين ضاحكاً من جهله بهذه المسألة الفقهية الصغيرة .. فيتلقى عالمنا الصفعة على خده الأيسر .. ويدير الأيمن لطلب العلم حتى بلغ منه أن قال ابن تيمية فيه : " بيت ليس فيه المحلّى ، جياع أهله " !!
ما أردت قوله أن مجتمعاتنا لا تزال بخير ، طالما كانت الثقافة لا تعيد انتاج نفسها ..
وما كانت عبارة : " ليس في الإمكان أفضل مما كان " بعيدة عنا .
فلقد قضتِ السُّننُ الربّانيّةُ أنَّ النجاحَ والفلاحَ والنصرَ لمن يحتملُ الضرباتِ اليوم ليوجهها لغيره غداً ، وأنّهُ لا يصمدُ تحتَ مطارقِ الزمان إلا المعدن الحقيقي ..
من منا يتمنى تلك المطرقة التي هَوَتْ على رأس ( ديفيد ) ؟؟
Judge_assistant@hotmail.com