جريمة نشر فيروس الايدز
ما بين التسبب في وقوع وباء بنشر جراثيم ضارة
وقتل الناس جزافا
(رأي في تكييف الجريمة)
تعليق على
الأساس الجنائي للحكم رقم 607 / 2003 المؤرخ 6 / 5 / 2004
الصادر عن محكمة جنايات بنغازي
عمر محمد بن يونس
مستشار
موسوعة التشريعات العربية
2004
- الوقائع : تتلخص وقائع القضية في أنه في الفترة ما بين عام 1998 وعام 1999 قامت مجموعة من الليبيين والأجانب معهم عربي (فلسطيني)، وهم من العاملين بمستشفى الأطفال / بنغازي بارتكاب جريمة حقن الأطفال بمناسبة تطعيمهم وغير ذلك بحقن تحتوي على أدوية ملوثة بفيروس نقص المناعة المكتسب /الايدز Aids 1 وهو فيروس فتاك يؤدي مع مرور الزمن الى قصم عُرى جهاز المناعة الطبيعي الذي أودعه الخالق خلقه، وبما يتسبب عن ذلك سهولة اختراق الجراثيم والميكروبات لجسم الانسان وانتهاكه وبالتالي انتشار الأمراض المتنوعة والنهاية قتل الانسان. وتم القبض على الجناة أقر واعترف بعضهم في التحقيقات بارتكاب هذه الجريمة وقامت النيابة العامة باحالتهم جميعا الى محكمة جنايات بنغازي التي أصدرت حكمها باعدام بعضهم.
ولقد قامت محكمة جنايات بنغازي في 6 / 5 / 2004 باصدار حكمها بالاعدام بناء على المادة (305-عقوبات، الوباء) التي تنص على انه 'كل من سبب وقوع وباء بنشر الجراثيم الضارة يُعاقب بالسجن مدة لا تقل عن عشرة سنوات. واذا نتج عن الفعل موت شخص واحد تكون العقوبة السجن المؤبد. أما اذا مات أكثر من شخص فالعقوبة الاعدام'.
وتقع هذه المادة في هيكل قانون العقوبات الليبي الصادر عام 1953 في الفصل الأول (جرائم الغش التي يترتب عليها خطر عام) من الباب الخامس (الجرائم ضد السلامة العامة) من الكتاب الثاني (الجنايات والجنح ضد شخصية الدولة). والكتاب الثاني هذا يتناول مجمل الجرائم الخطرة التي يمكن أن تُرتكب ضد شخصية الدولة ومؤسساتها ونظامها الوضعي وثرواتها، حيث ينظر هذا الكتاب الى الدولة كشخص معنوي هائل يتحرك من خلال تفصيلات متعددة فيه.
ونحن في هذا التعليق سوف نتناول مدى صحة تكييف الواقعة الاجرامية بأنها واقعة تسبب في وقوع وباء بنشر الجراثيم الضارة وما اذا كان مذهب قضاء الجنايات الموّقر صحيحا فيما ذهب اليه أم جانبه الصواب؟ وسوف يكون تناولنا لهذا التعليق من الناحية الفنية حيث نتناول مسألة مدى أمكانية اعتبار جريمة قيام الشخص بحقن غيره بفيروس فتاك يُعد تسببا في وقوع وباء بنشر الجراثيم الضارة ام أن الواقعة تصنف تصنيفا آخرا هنا؟ وذلك –في رأينا- على أساس تصنيفها في اطار جريمة قتل الناس جزافا المقررة في المادة (202-عقوبات) التي تنص على أنه 'يُعاقب بالاعدام كل من ارتكب في أرض الدولة فعلا يرمي الى التخريب او النهب او قتل الناس جزاقا بقصد الاعتداء على سلامة الدولة'. وهي المادة التي تقع في أعمال الفصل الثاني (الجرائم ضد أمن الدولة الداخلي) من الكتاب الثاني لقانون العقوبات. وبما يعني ذلك أن كل من المادتين (305) و (202) من قانون العقوبات هما من اختصاص محكمة الجنايات دون غيرها.
ويُشار هنا الى أن ما يتناوله الرأي الفني في هذا التعليق هو البحث في البناء المادي للجريمة، وليس البحث في العقوبة التي لا خلاف عليها في المادتين (305/3-عقوبات) و (202-عقوبات)، ففي المادتين تكون العقوبة الاعدام.
وفي كل دراسة جنائية موضوعية فأن المقياس الذي يجب التزامه لتمييز نص عن آخر : هو النشاط الاجرامي او الركن المادي عموما، فمن خلال الركن المادي يكون التمييز بين الجرائم.
- أولا : جريمة التسبب في وقوع وباء بنشر الجراثيم : وهي الجريمة المقررة في المادة (305-عقوبات) ويتكون النشاط المادي في هذه الجريمة بقيام الجاني بما من شأنه التسبب في وقوع وباء وذلك عن طريق نشر الجراثيم الضارة. فالركن المادي هنا هو بحسب ترتيبه في النص (تقديما وتأخيرا) يتمثل في قيام الجاني بنشر جراثيم ضارة وبما يتسبب عن هذا النشاط وقوع وباء واصابة الناس به، ووفقا للفقرة الثالثة من المادة (305-عقوبات) فاذا تسبب هذا الوباء في قتل أكثر من شخص فأن الاعدام وجوبي.
واذا كانت هذه الجريمة من الجرائم المادية التي يجب أن يتوافر عناصر ثلاث في ركنها المادي لكي تقع كاملة (نشاط – نتيجة – علاقة سببية) الا أن ما يُثير الانتباه في اطار الركن المادي هو نشاط الجاني تحديدا والممثل في قيامه بنشر الجراثيم. وهنا يُثار التساؤل حول عبارة الجراثيم Germs التي يقوم الجاني بنشرها وفق هذا النص.
معلوم أن الجراثيم هي كائنات حية منها الضار ومنها النافع، والجراثيم الضارة هي المقصودة بنص المادة (305-عقوبات). ولا يمكن هنا حمل الجراثيم على مدلول الفيروسات، ذلك أن عمل الجراثيم ليس هو ذات ما تسببه الفيروسات. فالجراثيم عادة ما تقوم بها الأمراض أما الفيروسات فأن دورها الاختراق الذي يُساهم في تكوين الأمراض2 وذلك بخلق بيئة صالحة للجراثيم. فمثلا مرض التيفود تسببه بكتيريا يُطلق عليها السلمونيلة التيفية ، فهذا المرض يمكن أن يحمله شخص تبدو عليه الصحة ولا يتأثر به. وهذه البكتيريا ليست فيروسا بالمعنى الدقيق لأنها لا تسبب سوى التيفود، والذي من الممكن ان يكون قاتلا في بعض الأحيان نتيجة حدوث ثقوب في الامعاء ويتسبب عن ذلك خروج محتوياتها الى باقي البطن فيحدث التلوث. ولما كان التيفود مرضا معديا فان نشره بين الناس يترتب عليه وقوع وباء وبالتالي يمكن تطبيق المادة (305-عقوبات) على هذه الحالة.
والصحيح عندنا أنه لا يمكن وفقا للمادة (305-عقوبات) القول بأمكانية تفسير عبارة الجراثيم الواردة بها لكي تشمل الفيروسات. ففي هذه الحالة سوف يتم اتهام قانون العقوبات بأنه قاصر على تتبع التفسير العلمي السليم، وأن حدث ذلك فأنه يكون تحميلا للنص بتفسير لا يتواءم مع العلم والطب.
واذا كان ذلك كذلك، فما هو النص الذي يحكم واقعة نشر فيروسات قاتلة (وليست فقط ضارة). فمثلا ما هو حكم القانون حين قيام الجاني أي كان بنشر فيروس نقص المناعة المكتسب / الايدز.
أن فيروس الايدز في الحقيقة العلمية لا يُعد مرضا وبائيا ما لم تتوافر شروطا محددة لاعتباره كذلك3. وهذه الشروط هي وسائل تنقله من أنسان الى آخر او بحقن أنسان بحقن ملوثة او باستخدام الحرب الفيروسية Virus Warfare. فما أشتهر على هذا الفيروس أنه لا ينتقل بالهواء حتى أن السائد في الطب ذهب الى التأكيد بأن الايدز يفقد قوته ويهلك اذا خرج عن جسد الانسان الى الهواء الطلق. فهو بذلك يختلف عن الجراثيم التي يمكنها الانتشار بطريق الهواء.
وما يترتب على الاصابة بفيروس الايدز تحديدا هو أفقاد جهاز المناعة الطبيعي لمقوماته التي أودعها الخالق البشر، وبما يترتب على ذلك بالضرورة فتح المجال لجراثيم وبكتيريا مختلفة التكاثر في جسم الأنسان فتتكون الأمراض. فالايدز يخلق بيئة لتكاثر تلك الجراثيم وبالتالي انتشار الأمراض في الجسد الانساني4.
- ثانيا : جريمة قتل الناس جزافا : ان استخدام فيروسات قاتلة في ارتكاب جريمة القتل يعني القيام بنشاط نشر تلك الفيروسات في جسم انسان وبما يؤدي الى قتله. وهنا فان السببية مباشرة ومكتملة بين النشاط وبين النتيجة، واذا تأخر حدوث النتيجة الاجرامية هنا فأن ذلك لا يقطع السببية بمقولة أن فترة طويلة مضت على النشاط يمكن أن ينشأ ما يقطعها خلال طول المدة. فالموت متحقق لا محالة ولو استهلك زمنا لكي يقع. فمن يقوم بحقن طفل او أطفال بفيروس الايدز (نشاط مادي) فهو يسعى الى (علاقة سببية) قتله او قتلهم (نتيجة اجرامية)، ولو لم تحدث النتيجة حالا وانما تأخر حدوثها مدة من الزمن تطول او تقصر. وهذا هو البناء المادي في هذه الجريمة، حيث أن هذا الفيروس يستهدف جهاز المناعة لدى هؤلاء الأطفال فيدمره وبالتالي يسمح بوجود بيئة صالحة للجراثيم التي تتسبب في الاصابة بالأمراض المختلفة.
واذا حدث وقام الجاني بارتكاب جريمة حقن مجموعة من الناس بما في ذلك الأطفال كما في قضية مستشفى الأطفال بنغازي فأنه بذلك يسعى الى قتلهم حقا ولكن ما يحدث في بعض الأحيان الا يتوافر للجاني نية القتل وفق ما هو مقرر في المادة ( 368-عقوبات) التي تعاقب على القتل العمد، فالجاني لم يحدد الشخص او الاِشخاص الذي يسعى الى قتلهم وانما الذي حدث هنا أن الجاني بدا بقتل الناس دون تحديد لأشخاص بعينهم، فنشاطه هنا كمن يقوم باطلاق الرصاص على ناس في شارع معين او منطقة معينة او سوق او مستشفى دون تحديد. ذلك أن القتل كما يمكن أن يحدث بواسطة الرصاص فانه يمكن أن يحدث بالسم (371-عقوبات) او باستخدام مواد كيماوية فهو يمكن أن يحدث أيضا باستخدام السلاح الفيروسي، وهو كما يمكن أن يقع على شخص بعينه (368-عقوبات) فهو يمكن أن يقع بشكل جزافي ودون تحديد للمجني عليه او عليهم، وفي هذه الحالة الأخيرة نجد المادة (202-عقوبات) تقرر العقاب على قتل الناس جزافا.
والنشاط المادي في جريمة قتل الناس جزافا يمكن ان يحدث بأية طريقة او وسيلة، فلم يتطلب المشرع أن يستخدم الجاني سلاحا معينا كالأسلحة النارية مثلا، وانما من الممكن ان تحدث عن طريق الحقن بفيروس الايدز وذلك يؤدي لا محالة بالمصاب الى الموت. كذلك لا يتطلب النص أن يكون الجاني ظاهرا للعيان، بل من الممكن ان يكون الجاني متخفيا في أحد المباني ويقوم باطلاق الرصاص على الناس، او أن يتخفى الجاني بوظيفته كأن يكون طبيبا ويقوم بحقن الاطفال بفيروس الايدز، وفي هذه الحالة الأخيرة تبدو مظاهر تعريض الثقة في وظيفة الطب للخطر، ذلك أن الطب وظيفة أساسية في الدولة وتعريضها للخطر تعبيرا عن انتهاك سلامة الدولة في مفهوم أمنها الداخلي.
وما يُميز تطبيق المادة (202-عقوبات) عن غيرها من مواد القتل في قانون العقوبات هو العامل الجزافي الذي يُشكل الهيئة العامة للنشاط المادي للجاني، والذي يجعل النشاط المادي في القتل يبتعد عن التحديد الشخصي للمجني عليه او عليهم، فكل انسان يتصادف وجوده بقرب الجاني لأي سبب عرضة لنشاط الجاني المذكور والذي يتسبب عنه القتل.
هذا ولا يمكن تسمية عدم تحقق النتيجة الاجرامية (القتل) في الحال شروعا في قتل، ذلك أن الحقن بفيروس الايدز نشاطا أكثر شراسة فهو أقوى مظاهر جريمة قتل الناس جزافا، ويتفوق من هذه الناحية على استخدام السلاح الناري في ارتكاب هذه الجريمة. ذلك أن استخدام السلاح الناري لقتل الناس جزافا يحتمل امكانية وجود قتلة ووجود اصابات هنا، اما حقن الناس بفيروسات فهذا يعني أن القتل واقعا لا محالة، فالنتيجة وفقا للمعايير الطبية واقعة لا محالة ولو تأخرت مدة من الزمن، فالتأخير هنا مرتبط بطبيعة الفيروس وليس بالنشاط المادي للجاني. واذا كان من الممكن قبول القول بأن الاصابة دون القتل في حالة اطلاق الرصاص جزافا على الناس تجعل الجريمة في حالة شروع فأنه في جريمة حقن الناس بفيروس الايدز فأن القدر المتيقن هنا ليس الشروع وانما هي جريمة قتل جزافي متأخرة النتيجة.
وعليه،،،، فان التكييف الصحيح في قانون العقوبات لنشاط حقن الناس بفيروسات قاتلة، مثل فيروس الايدز وغيره، أنه يقع في خانة قتل الناس جزافا وليس التسبب في وقوع وباء بنشر الجراثيم، ولقد عددنا السبب في كون أن الفيروسات ليست هي الجراثيم، ورفضنا القول بامكانية التفسير الواسع للجراثيم في قانون العقوبات بأنها قد تشمل الفيروسات وكافة أنواع البكتريا. بل أن ما هو بطبيعته جرثومة فقط ينطبق عليه نص المادة (305-عقوبات)، وفيما عدا ذلك فان استخدام الفيروسات في قتل الناس دون تحديد لهم هو ضرب من القتل الجزافي لهم مما ينطبق عليه نص المادة (202-عقوبات).
هذا ويمكن أن يرتكب أكثر من جان جريمة قتل الناس جزافا، فقد يتفق أكثر من طبيب و مساعدي الأطباء على ارتكاب هذه الجريمة في مستشفى للأطفال، وذلك بأن يقوموا بحقن الأطفال (الناس) بفيروس الايدز او أي فيروس آخر. وفي هذه الحالة فأن المادة (211-عقوبات) تنص على أنه 'اذا أتفق عدة أشخاص على ارتكاب أحدى الجرائم العمدية المنصوص عليها في الفصلين الأول والثاني من هذا الباب والتي يفرض القانون العقاب عليها بالاعدام او السجن المؤبد او السجن، او كونوا او أسسوا او نظموا جمعية او عصابة مسلحة او غير مسلحة لارتكاب جريمة من تلك الجرائم، يُعاقب كل مشترك في الاتفاق او الجمعية او فالعصابة بالعقوبة المقررة للجريمة المتفق على ارتكابها ولو لم تقع الجريمة. ويتساوى في العقوبة كل من تسبب في الاتفاق او ايجاد الجمعية او العصابة او أسسها او نظمها او رأسها وغيره ممن أنظم او اشترك في الاتفاق او الجمعية او العصابة'.
وتبقى هنا الاشارة الى ربط نص المادة (202-عقوبات) بالقصد الخاص المقرر في عجزها من حيث أنه يقرر ''يُعاقب بالاعدام كل من ارتكب في أرض الدولة فعلا يرمي الى....قتل الناس جزاقا بقصد الاعتداء على سلامة الدولة'. حقا ان النص يتطلب أن يكون الجاني قاصدا الاعتداء على سلامة الدولة، الا أن مثل هذا القصد الخاص يمكن أثباته بكافة طرق الاثبات سواء المباشرة او بالقرائن. وعندنا أن قيام الجاني بحقن أطفال في مستشفى بفيروسات قاتلة – حال كونه طبيبا او من مساعدي الأطباء- وهو عالم ومريد لذلك (القصد العام) لأكبر دليل على توافر القصد الخاص الممثل في العدوان على سلامة الدولة، فسلامة القاعدة البشرية في الدولة أفضل تعبير عن سلامة الدولة. وهذا الرأي الذي نذهب اليه متفق عليه من حيث ان فيروس نقص المناعة البشرى / الايدز ' لا يهدد فيروس نقص المناعة البشرى / الايدز بشكل مباشر أمن و رخاء البلاد المتأثرة بشدة فحسب ، ولكن [أيضاً] يهدد مجتمعنا العالمي'5 وفي هذا ما يدعو الى التقرير بأن العدوان على سلامة البلاد قائم –بالاضافة الى تهديد المجتمع الدولي أيضا- في جريمة قتل الناس جزافا بواسطة استخدام فيروس الايدز كسلاح فتاك، وبما يصلح معه القول أن استخدام فيروس الايدز في قتل الناس جزافا يمكن ان يفترض فيه –افتراضا- تهديد سلامة الدولة والمجتمع الدولي ككل.
|