القضاة ووزير العـدل في سوريا
تبعية واقتياد
بقلم المحامي عبد الله علي
في كثير من الدول , ولاسيما تلك التي تتبع النظام الأنكلو سكسوني, يتمتع القضاة باستقلالية تامة عن السلطة التنفيذية ممثلة بوزارة العدل , التي لا يكون لها أي دور في إقامة العدالة . وتتولى السلطة القضائية من خلال هيئاتها إدارة جميع شؤونها بما فيها الإدارية والمالية. أما في البلاد العربية المتبعة للنظام اللاتيني ، وبالتحديد النظام الفرنسي ، فإن السلطة التنفيذية تلعب دوراً كبيراً جداً في الشؤون القضائية من خلال وزير العدل ، الذي تكون له روابط وثيقة الصلة بالقضاء ، ويكون تدخله في عملية إقامة العدالة ملحوظاً إلى درجة أن الوزير كثيراً ما يعتبره أغلب المواطنين , السلطة النهائية في تدرج النظام القضائي. ورغم أنه , من الطبيعي , أن تكون هناك روابط وثيقة بين وزارة العدل والسلطة القضائية , إلا أنه يجب تحديد هذه الروابط بكثير من الدقة والحرص , للحيلولة بين وزارة العدل وبين التسلل إلى داخل النظام القضائي مع ما يرافق ذلك من تدخل الوزارة في أدق تفاصيل العمل القضائي وربما الهيمنة الكاملة على أجهزته . وللأسف , فإن الوضع التشريعي الراهن في سورية , ساعد على تكريس تبعية القضاء لوزير العدل , ويسر له سبل السيطرة عليه . إذ أن القانون الناظم للسلطة القضائية , لم يبين الحدود الفاصلة بين وزارة العدل والسلطة القضائية , ولم يضع ضوابط تحول بين وزير العدل وبين التدخل في شؤون القضاء والقضاة , مما فسح المجال واسعاً أمام الوزير للسيطرة على كافة مؤسسات السلطة القضائية ووضعها تحت وصايته الكاملة . وهذا ما سوف ندرسه بالتفصيل فيما يلي .
أولاً ـ وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى:
1- في ظل الدساتير السابقة : مرَّ مجلس القضاء الأعلى بالعديد من الحالات في ظل الدساتير السابقة, نذكر منها: أ- الدستور السوري لعام 1953: لقد أضفى هذا الدستور أهمية كبيرة للقضاء وحرص على استقلاليته. حيث نص في المادة 113 على ما يلي: "1- تؤلف المحكمة العليا من سبعة أعضاء يسمى أحدهم رئيسا لها. 2- يشترط في العضو أن يكون: أ- متمتعا بشروط المرشح للنيابة. ب- حاملا إجازة الحقوق من الجامعة السورية أو ما يعادلها. ج- متما الأربعين من عمره. د- قد مارس القضاء والمحاماة والتدريس الجامعي أو أحد هذه الأعمال مدة لا تقل عن عشر سنوات". وفي نص في المادة 118 على ما يلي: "1- يؤلف مجلس القضاء الأعلى من سبعة أعضاء: أ - رئيس المحكمة العليا رئيسا. ب- اثنين من أعضاء المحكمة العليا تختارهما المحكمة. ج- الأربعة الأعلى مرتبة من قضاة محكمة التمييز. 2- يشرف هذا المجلس على شؤون قضاة الحكم المتعلقة بمهمتهم". والمادة 119: "لرئيس مجلس القضاء الأعلى ولوزير العدل حق تقديم الاقتراحات بتعيين قضاة الحكم وترفيعهم ونقلهم وتأديبهم وعزلهم وفقا لأحكام القانون ويبت مجلس القضاء الأعلى في هذه الاقتراحات بقرار يتخذه بالأكثرية المطلقة ويبلغه إلى وزارة العدل لتنفيذه بمرسوم أو بقرار وفقا لأحكام القانون". ب- في عام 1962 جاء المرسوم التشريعي رقم 120 تاريخ 11/9/1962 فنصت المادة 3 منه على ما يلي: " يلغى نص المادة 65 من قانون السلطة القضائية المشار إليه ويستعاض عنه بالآتي: يؤلف مجلس القضاء الأعلى على الوجه الآتي: رئيس محكمة النقض رئيساً ، النواب الثلاثة لرئيس محكمة النقض، الأمين العام لوزارة العدل ، أقدم مستشاري محكمة النقض. وعند غياب رئيس محكمة النقض أو أحد نوابه أو رئيس محكمة الاستئناف يحل محله من يليه في الأقدمية من ملاك محكمته وعند غياب الامين العام يحل محله أقدم قضاة الادارة المركزية ". وإن قراءة سريعة للنصوص السابقة تعطينا فكرة واضحة عن مكانة القضاء واستقلاله في الدساتير السابقة ، واتجاه المشرع لأن يجعل من الجهاز القضائي جهازا متميزا يضم خيرة الناس علما وسمعة وخبرة. 2- في ظل التشريع الحالي: يتألف مجلس القضاء الأعلى حسب المادة /65 / من قانون السلطة القضائية ، من: " رئيس الجمهورية (ينوب عنه وزير العدل) رئيساً رئيس محكمة النقض عضواً النائبان الأقدمان لرئيس محكمة النقض عضواً معاون الوزير لوزارة العدل عضواً النائب العام عضواً رئيس إدارة التفتيش القضائي عضواً ويختص مجلس القضاء الأعلى ، حسب المادة /67/ من نفس القانون ، بما يلي: 1- إعطاء القرار بتعيين القضاة وترفيعهم وتأديبهم وعزلهم بناءً على اقتراح من وزير العدل أو رئيس مجلس القضاء الأعلى أو ثلاثة من أعضائه. 2- إحالة القضاة على التقاعد أو الاستيداع وقبول استقالتهم وكل ما يتعلق بمهمتهم. 3- الإشراف على استقلال القضاء. 4- اقتراح مشروعات القوانين المتعلقة بالقضاء وبحصانة القضاة وأصول تعيينهم وترفيعهم ونقلهم وتأديبهم وعزلهم وتحديد أقدميتهم. 5- منح القضاة الإجازات التي تزيد مدتها عن شهر. 6- ويمنح رئيس المجلس قضاة الحكم الإجازات لمدة شهر فما دون. وغني عن البيان أن هذه الاختصاصات التي يتمتع بها مجلس القضاء الأعلى ، تتعلق في مجملها بالأحكام القانونية الناظمة لشؤون القضاة ، وهي تتناول أهم تفاصيل حياتهم المهنية من التعيين إلى النقل إلى الندب إلى التأديب إلى العزل إلى التقاعد وسواها . مما يحتم ضماناً لاستقلال القضاة ، وصوناً لهم من التعرض لضغوط أو تأثيرات أثناء قيامهم بمهام عملهم ، أن يكون المجلس الذي يمارس هذه الاختصاصات مؤلفاً من أعضاء ينتمون إلى نفس السلك القضائي ، وألا يكون للسلطة التنفيذية أي تأثير في عمل هذا المجلس . ولكن المؤسف ، أن القانون السوري لم يخالف ذلك وحسب ، بل ذهب أبعد من ذلك ، فأعطى للسلطة التنفيذية ممثلة بوزير العدل هيمنة كاملة على مجلس القضاء الأعلى ، متغافلاً بذلك عن مقتضيات مبدأ استقلال القضاء المنصوص عليه في الدستور . وسوف نبين ذلك فيما يلي :
رئيس مجلس القضاء الأعلى:
قضى نص المادة /65/ من قانون السلطة القضائية بأنَّ رئيس الجمهورية هو الذي يرأس مجلس القضاء الأعلى . وقد أتى هذا النص منسجماً مع النص الدستوري الذي جاء فيه : " يرأس رئيس الجمهورية مجلس القضاء الأعلى ... " (المادة 132من الدستور ) . لكن المادة /65/ السابقة سرعان ما عُدِّلت بموجب المرسوم التشريعي رقم 24 تاريخ 14/2/1966وبناءً على هذا التعديل أصبح وزير العدل ينوب عن رئيس الجمهورية في رئاسة المجلس القضائي الأعلى . ولا شك أنَّ هذا التعديل قد أصاب مبدأ استقلال القضاء والقضاة في مقتل , إذ أنه وسع من سلطات وزير العدل الذي , هو أحد أعضاء السلطة التنفيذية , وجعل منه الرئيس الفعلي لمجلس القضاء الأعلى , ومنحه القدرة على التدخل في كافة نواحي الحياة القضائية والتأثير فيها سلباً أو إيجاباً . ويمكن اعتبار هذا المرسوم أكبر خطر في تاريخ سوريا يهدد السلطة القضائية وينتقص من سلطتها واستقلالها , ويفسح المجال أمام السلطة التنفيذية للهيمنة عليها والتحكم بأمورها.
هيمنة وزير العدل على المجلس:
من العوامل المساعدة على تكريس هذه الهيمنة ، طبيعة تشكيل مجلس القضاء الأعلى , حيث يتكون هذا المجلس من أعضاء يتبع معظمهم لوزير العدل . مما يجعل هيمنة هذا الأخير على قرارات المجلس مطلقة وبدون أي حدود. والأعضاء التابعون لوزير العدل هم : معاون وزير العدل والنائب العام ورئيس إدارة التفتيش القضائي ( إذ أن هؤلاء يعينون من قبل وزير العدل مما لا يدع مجالاً للشك في تبعيتهم لـه) . فإذا كان المجلس مكوناً من سبعة أعضاء بما فيهم وزير العدل فيكون لوزير العدل إمكانية اتخاذ أي قرار طالما أنه سيحصل على أربعة أصوات من أصل سبعة ، لاسيما إذا علمنا أن مجلس القضاء الأعلى يتخذ قراراته بالأغلبية وليس بالإجماع. مما يعني أن وزير العدل أصبح يمارس بمفرده صلاحيات مجلس القضاء الأعلى ، المذكورة أعلاه ، وأن المجلس غدا مجرد أداة بيد وزير العدل يوجهه كيفما شاء . الأمر الذي أفقد القضاة أقوى ضمانة من ضمانات استقلالهم ، وهي وجود مجلس خاص بهم يتولى إدارة شؤونهم بعيداً عن أي تدخل أو تأثير خارجي . ونتج عن ذلك أن القضاة أصبحوا مجرد موظفين كغيرهم من موظفي وزارة العدل وباتوا يتلقون التوجيهات والأوامر بواسطة تعميمات تصدر عن وزير العدل ، وعليهم تنفيذها مهما كانت مضامينها.
ثانياً - تدخل وزير العدل في الشؤون القضائية:
لقد أصبح وزير العدل ، بحكم هيمنته على مجلس القضاء الأعلى ، الآمر الناهي بكل ما يتعلق بالقضاة سواء من ناحية التنظيم الإداري أو من ناحية النشاط القضائي نفسه.
1- من ناحية التنظيم الإداري:
فقد جمع وزير العدل بين يديه كافة السلطات المتعلقة بتعيين القضاة أو ترفيعهم أو نقلهم أو ندبهم أو تأديبهم أو إحالتهم إلى التقاعد وغيرها. وسوف نكتفي هنا بالحديث عن الصلاحيات الواسعة لوزير العدل فيما يتعلق بتعين القضاة ، فقط. فالأصل ، قبل أن يتغير تشكيل مجلس القضاء الأعلى ويهيمن عليه وزير العدل ، وجود تمايز بين دور مجلس القضاء وبين دور وزير العدل فيما يتعلق بتعيين القضاة . حيث تنص المادة /71/ من قانون السلطة القضائية على أنه : " يعين قضاة الحكم والنيابة بمرسوم يوقعه وزير العدل بناء على قرار مجلس القضاء الأعلى " . وتنص المادة /66/ على أنه : " تنفذ القرارات المتعلقة بتعيين القضاة و....و ..... بمرسوم يوقعه وزير العدل " . فقرارات التعيين ، حسب النصوص السابقة ، تتخذ من قبل مجلس القضاء الأعلى ، أما تنفيذ هذه القرارات فيتم بمرسوم ينظمه ويوقعه وزير العدل ويصدره رئيس الجمهورية . أي أن دور وزير العدل يقتصر على تنظيم المرسوم المنفذ لقرارات مجلس القضاء الأعلى ، دون أن يكون له أي سلطة للتدخل باتخاذ القرار أو حتى الاعتراض عليه ، لأنه لا علاقة له بمجلس القضاء الأعلى وكيفية ممارسته لاختصاصاته ولأن وزير العدل ملزم بتنفيذ قرارات التعيين الصادرة عن المجلس. أما بعد التعديل الطارئ على تشكيل مجلس القضاء الأعلى وهيمنة وزير العدل عليه , فقد أصبح وزير العدل ، عملياً ، هو الذي يتخذ قرار تعيين القضاة وموافقة المجلس القضائي على هذا القرار مضمونة لأن أغلب أعضائه أصبحوا ممن يتبعون الوزير ، بالإضافة إلى أنه هو الذي ينظم ، أيضاً ، المرسوم الذي يصدر تنفيذاً لهذا القرار . ولا شك أن هذه الصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها وزير العدل ، تشكل اعتداء على قدس كيان القضاء وتنتهك سلطته واستقلاله . لأن الوزير سيعمد إلى استغلال الصلاحيات الممنوحة له من أجل تحقيق مصلحة السلطة التنفيذية التي ينتمي إليها ، وسوف تكون قرارات تعيين القضاة التي يتخذها مبنية على أساس الولاء للسلطة التنفيذية ، مما يؤدي في النتيجة إلى تبعية القضاء والقضاة لهذه السلطة . كما يخشى أن يستعمل وزير العدل السلطات الممنوحة له على نحو غير قانوني لتحقيق مصلحة ذاتية ، كأن يستخدمها لممارسة الضغط على القضاة ، من خلال تهديدهم بالنقل أو الندب أو غيره ، من أجل تحقيق مصالحه الشخصية أو مصالح المحسوبين عليه . لاسيما في ظل عدم وجود ضمانة قانونية تردع وزير العدل عن إساءة استعمال هذه السلطات . وبغض النظر عن احتمال حدوث ذلك أو عدم احتمال حدوثه فإن المبدأ خاطئ ومخالف لحكم الدستور . فلا يجوز إعطاء أي شخص هذا القدر الهائل من الصلاحيات ، ولو كان شخصاً صالحاً . لأنه كما يخشى من الشخص الفاسد الذي يسيء استعمال سلطته لجني مكاسب غير شرعية ، فإنه يخشى كذلك من الشخص الصالح الذي يتصرف على أساس أن كل ما يفعله صحيح.
2- التدخل في النشاط القضائي:
أي النظر في الدعاوى وفصلها. وهو من المحظورات التي لا يجوز لأياً كان التدخل فيها . إلا أن وزير العدل لا يتحرج من التدخل فيها ، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر ، وسواء بصفته الوظيفية أو بصفته الشخصية . والمثال الأبرز على تدخل وزير العدل في عمل القضاة بصفته الوظيفية ، هو تلك البلاغات التي تصدر عن وزير العدل فيما يتعلق بنشاط القضاة . فإن بعض هذه البلاغات تتضمن توجيهاً للقضاة بشكل عام من أجل فصل دعاوى معينة على وجه معين(2)، أو تتضمن وجهة نظر وزير العدل في تفسير بعض نصوص القانون ومطالبة القضاة بالالتزام به(3) ، مع أن تفسير القانون من صميم عمل القاضي ولا رقابة عليه إلا من قبل محكمة النقض . كما تتضمن بعض هذه البلاغات تعليمات للقضاة حول حدود ممارسة حقهم في التنحي عن الدعاوى إذا استشعروا بالحرج من نظرها(3)، ولا يخفى أن موضوع التنحي من الأمور التي تتعلق بشخصية كل قاضٍ والتي يرجع إليه وحده تقدير وجودها من عدمه . أما تدخل وزير العدل في عمل القضاة بصفته الشخصية ، فلا توجد في سوريا حوادث من هذا القبيل موثقة بشكل رسمي ، يمكننا الاعتماد عليها لإثبات التدخل ، ونعتقد أن ذلك لا يعني أن مثل هذه التدخلات غير موجودة ، لكنها نظراً لغياب الشفافية تبقى خلف ستائر الكتمان . والحقيقة أن علاقة وزير العدل بالقضاة ومدى تدخله في عملهم ، تكاد تكون متشابهة في معظم الدول العربية . وقد أثبتت الأوراق المقدمة إلى مؤتمر العدالة الثاني المنعقد في القاهرة ، وجود تدخل غير مشروع من قبل وزير العدل بأعمال القضاة في معظم الدول العربية نذكر منها الأردن والسودان والبحرين وتونس . ولا نعتقد أن سوريا تشكل استثناء في هذا المجال .
مدى دستورية المرسوم التشريعي رقم /24/ تاريخ 14/2/1966
إن هذا المرسوم التشريعي ينطوي على مخالفات دستورية عديدة تجعل من الواجب الحكم بعدم دستوريته ، والمطالبة بإلغائه . وهذه المخالفات يمكن تلخيصها بما يلي: إن القاعدة الدستورية ، كما هو ثابت ، تحتل المرتبة الأولى بين جميع القواعد القانونية الأخرى . وفي حال التعارض بين قاعدة دستورية وقاعدة قانونية ، فإن القاعدة الدستورية هي التي تطبق. وهنا نلاحظ أن قانون السلطة القضائية قد صدر عام 1961 وأن المرسوم السابق الذي عدل المادة /65/ من هذا القانون والقاضي باعتبار وزير العدل نائباً لرئيس الجمهورية في رئاسته لمجلس القضاء الأعلى قد صدر عام 1966 ، بينما صدر الدستور المتضمن المادة /132/ التي تقضي بأن يرأس رئيس الجمهورية مجلس القضاء الأعلى عام 1973. والنص الدستوري يتعارض مع نص المرسوم التشريعي ، ووجه التعارض أن الدستور لم يذكر وزير العدل كنائب لرئيس مجلس القضاء الأعلى ، مما يعني أن الدستور قد ألغى ، ضمناً ، المرسوم التشريعي السابق. ولا يمكن هنا الاحتجاج بنص المادة /153/ من الدستور التي تقضي بأن : " تبقى التشريعات النافذة والصادرة قبل إعلان الدستور سارية المفعول إلى أن تعدل بما يوافق أحكامه" . ولمعرفة السبب في عدم إمكانية الاحتجاج بهذه المادة بغية التمسك بالمرسوم السابق ، فإنه لا بد من الحديث عن تفسيرين لهذه المادة : التفسير الأول ، أن هذه المادة /153/ من الدستور تتعلق فقط بالتشريعات التي لم يتطرق إليها الدستور ولم يقل فيها كلمته . ففي هذه الحالة يتأكد لنا على نحو يقيني صحة ما قلناه ، سابقاً ، من عدم دستورية المرسوم التشريعي . لأن الدستور تطرق لموضوع رئاسة مجلس القضاء الأعلى دون أن يذكر وجود نائب لهذا الرئيس . والتفسير الثاني ، أن المادة /153/ من الدستور تشمل جميع التشريعات دون تمييز بينها . وعلى الرغم من أن هذا التفسير يوجب الأخذ بمضمون المرسوم التشريعي السابق وتطبيقه إلى حين تعديله بما يوافق أحكام الدستور . لكنه يلاحظ أن واضع الدستور قد أدرك وجود تشريعات تتضمن قواعد متعارضة مع أحكامه، وحرصاً منه على عدم إحداث فوضى تشريعية أو فراغ قانوني في بعض المجالات ، فإنه لم يقضِ بإلغاء هذه التشريعات ، وإنما أوجب العمل بها إلى حين تعديلها . وإننا نستخلص من عبارة " إلى أن تعدل بما يوافق أحكامه " أن هناك إلزاماً دستورياً يتضمن وجوب تعديل جميع التشريعات المتعارضة بما يوافق أحكام الدستور . وإن عدم تعديل هذه التشريعات يشكل مخالفة دستورية. والمخالفة الثانية ، وهي الأهم ، أن المرسوم التشريعي ينطوي على اعتداء صارخ على مبدأ استقلال القضاء المكفول دستورياً . فالدستور عندما نص على "أن السلطة القضائية مستقلة" أو " أن القضاة مستقلون " إنما عنى بذلك استقلالهم عن السلطتين التشريعية والتنفيذية بالدرجة الأولى ، لأنه لا خشية على القضاء إلا منهما. وبالتالي فإن أي قانون يخالف إرادة الدستور هذه يجب أن يوصم بعدم الدستورية . وبما أن المرسوم التشريعي محل البحث قد تعرض لكيان السلطة القضائية وانتهك استقلالها من خلال إلحاقه مجلس القضاء الأعلى بوزارة العدل وهي من مؤسسات السلطة التنفيذية ، فإنه يكون قد خالف النص الدستوري ، ووصم نفسه بعدم الدستورية . مما يوجب إلغاءه وإيقاف العمل به وإبطال كافة الآثار المترتبة عليه.
ثالثاً- وزير العدل وإدارة التفتيش القضائي:
إدارة التفتيش مهمتها التفتيش على أعمال قضاة الحكم والنيابة والدوائر القضائية . وتتألف إدارة التفتيش من رئيس بدرجة رئيس غرفة استئنافية وستة مستشارين ، يجري ندبهم خلال شهر تموز من كل سنة بقرار من وزير العدل بناء على اقتراح مجلس القضاء الأعلى. وقضاة إدارة التفتيش مرتبطون بوزير العدل ورئيس مجلس القضاء الأعلى ومسئولون أمامهما عن سير الأعمال . وتوضع لائحة التفتيش القضائي من قبل وزير العدل بموافقة مجلس القضاء الأعلى . وفي مصر نصت المادة 78 من قانون السلطة القضائية على أن تنشأ إدارة التفتيش القضائى بوزارة العدل . وتؤلف من مدير ووكيل يختاران من مستشاري محكمة النقض أو محاكم الاستئناف ، ونصت على أن يضع وزير العدل لائحة التفتيش القضائي بموافقة مجلس القضاء الأعلى . ولاشك أن تبعية إدارة التفتيش القضائي لوزارة العدل وإخضاعها لإشراف الوزير يجعلها متأثرة بتوجيهات السلطة التنفيذية.
رابعاً- وزير العدل والتكوين الفني للقضاة :
إنَّ الأسلوب المتبع في التكوين الفني للقضاة والجهة المسؤولة عن هذا التكوين تعتبر من أهم مقومات استقلال السلطة القضائية. وينطوي موضوع التكوين الفني للقضاة على أهمية فائقة لأنه من خلال هذا التكوين سيتم تلقين قضاة المستقبل بالأفكار والمبادئ التي ستحملها عقولهم طوال حياتهم والتي ستظل تشكل المرجعية الأساسية لتفكيرهم و طريقة عملهم . ونعتقد أن مجرد تكوين القضاة تحت إشراف السلطة التنفيذية يزرع في نفوسهم بذرة التبعية لهذه السلطة , ويضعف مناعتهم في المستقبل من الصمود أمام تدخل هذه السلطة في أعمالهم .
في مصر :
صدر القرار الجمهوري رقم 347 لعام 1981القاضي بإنشاء المركز القومي للدراسات القضائية والذي يتولى مهمة تكوين القضاة وتأهيلهم . وبرغم أهمية هذا المركز إلا أن هناك العديد من الملاحظات التي تمثل تدخلا في صميم تكوين السلطة القضائية, مثال ذلك : أن هذا المركز يتبع وزير العدل - السلطة التنفيذية - وأن لوزير العدل بناء على اقتراح مجلس إدارة المركز إنشاء فروع لـه في أماكن أخرى فضلاً عن أن مجلس إدارة المجلس يتكون برئاسة وزير العدل . وأن أهم موارد المراكز المالية تتمثل في الاعتمادات المخصصة له بديوان عام وزارة العدل. والذي لا شك فيه أن تدخل وزارة العدل في أعمال المركز تمثل تدخلا في تكوين وتأهيل القضاة الذي يعتبر من صميم اختصاص السلطة القضائية.
ولا يختلف الأمر كثيراً في سوريا :
حيث صدر فيها المرسوم التشريعي رقم/42/ تا 29/8/2000 والقاضي بتأسيس المعهد القضائي ويكون مركزه مدينة دمشق . ويهدف هذا المعهد حسب المادة الرابعة منه إلى : " تأهيل و تدريب قضاة الحكم والنيابة العامة الذين يتم تعيينهم بمسابقة في أدنى الدرجات القضائية وفق قانون السلطة القضائية " . ومن المآخذ على المرسوم التشريعي السابق أنه كرس تبعية القضاء للسلطة التنفيذية من خلال وضع كافة مقاليد المعهد بيد وزير العدل . فوزير العدل هو رئيس مجلس المعهد الذي تعود إليه صلاحية " إقرار مواد ومناهج الدراسة والتدريب ومقرراتها و خطط تطويرها وتوجيه أنشطة المعهد " و " اقتراح تسمية المحاضرين والمدرسين وأعضاء اللجان الخاصة بمناقشة البحوث العلمية "( م11) وهذا الاقتراح يصدق بقرار من وزير العدل(م13). مما يعني أن القضاة سوف يتم تدريبهم وتأهيلهم وفق مناهج وخطط وضعتها السلطة التنفيذية , كما أن الأشخاص الذين سيقومون بالإشراف على عملية التدريب والتأهيل معينون من قبل هذه السلطة و تابعون لها , وإن كون هؤلاء من القضاة لن يغير من الموضوع شيئاً . إضافة إلى أنَّ الخاضعين للتدريب والتأهيل في هذا المعهد يتقاضون رواتبهم وتعويض المكتبة من موازنة وزارة العدل (المادة24) مما يجعل تبعية هؤلاء لوزارة العدل تبعية فكرية ومادية.
وهكذا نخلص إلى القول أن علاقة القضاة مع وزير العدل لا تختلف عن علاقة أيِّ مرؤوس برئيسه مع ما يترتب عليها من واجب الطاعة والانقياد لأوامره . مما يعتبر انتهاكاً صارخاً للنص الدستوري القاضي بأن القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون .
انتهى
|