مع تضاؤل هامش النقد السياسي الساخر
فن الكاريكاتير العربي .. مجد قديم وواقع أليم!
محمد عودة: أزمة الكاريكاتير العربي سببها غياب المشروع القومي.
جورج البهجوري: لا أجد منبراً صحافياً يتحمل أفكاري. محفوظ عبد الرحمن: المطلوب من فنان الكاريكاتير أن يتصدى "للهايفة" فقط!
إعداد: محمود صالح |
|
من طريف ما يحكى أن رئيس وزراء مصر مصطفى النحاس الزعيم "الوفدي" المعروف، هدد بتقديم استقالته إلى الملك فاروق عام 1942، عندما صورته مجلة "روز اليوسف" في كاريكاتير شهير وهو يمتطي صهوة دبابة إنجليزية ويمسك سيفاً من خشب! ويعتبر الكاريكاتير أحد الفنون التي ارتبطت بمهنة الصحافة وساهمت مع الكتابة والرأي في صياغة أفكار وخوض معارك عديدة عرفتها الصحافة المصرية والعربية منذ أن تم تعريب هذا الفن على رواده الأوائل مثل رخا وعبد السميع وطوغان ورفقي وصاروخان وسواهم. |
ومنذ أن دخل الكاريكاتير الصحافة العربية في مصر خاض معارك الاستقلال الوطني ومحاربة الفساد والظواهر الاجتماعية لم يعرف أزمة مثل التي يعيشها الآن، فقد تقلصت مساحاته وعجزت معظم المطبوعات عن إدراك أهميته أو السعي لاكتشاف مواهب جديدة تستحق الحفاوة والتقدير! وشهدت الصحافة المصرية أهم مدرسة كاريكاتير عرفتها الصحافة العربية على الإطلاق، وذلك مع انطلاق مجلة "صباح الخير" عام 1956 بعد أن رفع الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين شعار "للعقول الشابة والقلوب المتحررة" ليفتح الباب واسعاً أمام جيل جديد قامت عليه المجلة، وساهم بشكل نهائي في تحديث الكاريكاتير الذي بدأه رواد عظماء، كان معظمهم من "الأرمن" مثل صاروخان أو أجانب مثل الأسباني "سانتيس" الذي عمل في مجلة "الكشكول" الساخرة منذ عام 1925 وحتى توقف المجلة، وضم هذا الجيل أسماء حملت هذا الفن على عاتقها لأكثر من نصف قرن مثل زهري ورجائي ونيس والليثي وبهجت عثمان وحجازي وجورج البهجوري وكان "صلاح جاهين" هو الرائد الذي فتح طريقاً جديداً في الكاريكاتير الاجتماعي الذي كان منطقة غير مطروقة نظراً للاهتمام بالمعارك السياسية مع القصر الإنجليزي قبل ثورة يوليو.
|
والآن يبدو هذا الفن "غريباً" و"محاصراً" بعد توقف معظم الأسماء الكبيرة إما بالرحيل وأما باعتزال الرسم، ومع هذا فهناك رسامون كاريكاتير شباب جدد يجتهدون في إعادة صياغة مدرسة جديدة للكاريكاتير بعد أزمته الطاحنة، لكنهم يشكون من عدم وجود منابر إعلامية تهتم بهم وتنشر أعمالهم. |
مناخ ضد الجمال!
وسألنا رسام الكاريكاتير الكبير "جورج البهجوري" عن أزمة الكاريكاتير والرسامين الجدد فقال: المشكلة ليست في أن هناك رسامين شبابا لا يجدون فرصاً كافية فقط، المشكلة في مناخ عام هو ضد الفن والجمال، مناخ عام يتم فيه تسييد القبح.
|
والكاريكاتير ينتعش حينما تكون هناك رغبة لتغيير الحياة للأفضل، وهذا ما حدث مع جيلنا في تجربة "صباح الخير" و"روز اليوسف" بعد ذلك، كان القائمون على التحرير يدافعون عن رسام الكاريكاتير فى مواجهة كل أشكال الرقابة، وكان هناك اهتمام حقيقي بنقد الصور السلبية والأفكار الرجعية في المجتمع، أما الآن فالمشكلة تتجاوز هؤلاء الرسامين الجدد لخطر يدهم هذا الفن بأكمله، ولا ننسى أن جيلنا كان الأوسع تأثيراً حتى خارج مصر، فقد كان اهتمامه بما يسمى بـ "روز مصر الثقافي"، ولا أريد أن أقول إنني شخصياً لا أجد منبراً صحفياً يتحمل أفكاري، فالهوامش تضيق، والمناخ الفكري بشكل عام ضد الإبداع الأصيل، وكل ما قلته لا يمنع أن هناك جيلاً مظلوماً بالنسبة لتعامله مادياً ومعنوياً، فقد كنا في شبابنا، كرسامين، نحصل على أكبر الأجور، وكانوا يعاملون الرسام باعتبار أن "رسمه" واحده له قد ترفع توزيع المطبوعة، أما الآن فيبدوا أنه لا أحد يهتم بوصول "رسالة ما" إلى القارئ والجمهور. |
الكاتب الكبير محمد عودة يرى أن أزمة الكاريكاتير العربي مردها الأساسي يرجع إلى غياب "مشروع وطني أو قومي" يزدهر خلاله هذا الفن، فمعظم الأفكار العظيمة في هذا المجال كانت تتدفق في خضم معارك مهددة الملامح، أما بالاتفاق أو الاختلاف، أما الآن فليس هناك اهتمام بهذا الفن من القيادات المسيطرة على وسائل الإعلام، وهناك مشكلة أخرى تتعلق بالرسام نفسه، فهو يبحث أولاً عن مكان يعمل فيه، فإذا وجده صادف عوائق مالية، وإذا توافر كل هذا فالرسام تماماً مثل الشاعر لا يبدع إبداعاً كبيراً خاصاً إلا في لحظات وهج، قد تكون هذه اللحظات غضبا أو قحطا، لكن المناخ الآن كله "باهت" ويفتقد لأي وهج من أي نوع بعد أن كان الكاريكاتير في "روز اليوسف" هو المجلة نفسها!
|
فنانون بلا جمهور
أما الكاتب الكبير محفوظ عبد الرحمن - والذي له اهتمام خاص بالكاريكاتير وكتب أكثر من "بورتريه" عن نجومه ويقول: إن المناخ كله مناخ أزمة، فعدد الأسماء الشابة اللامعة في أي مجال تكاد تكون قليلة جداً، والحقيقة أن هذا راجع لرغبات في أن يذهب الصحفيون لجرائدهم ولا يكتبون، ويقول الشعراء شعراً لا يصل لأحد، ونفس الحال بالنسبة للرسامين، فهناك رغبة في أن يظل هذا الفن موجوداً ولكن في إطار ضيق جداً، لأنه في الأصل فن مشاكسة ومشاغبة، وتحويل أي نظام في المجتمع لـ "مسخرة" تستدعي ضحك الجمهور، وربما فهم معظم الرسامين هذا، فلجأوا إلى نقد سلبيات هينة و"هايفة" والتغاضي عن أي قضايا كبيرة أو جادة. |
مشكلة أخرى يلفت الأنظار إليها الكاتب محفوظ عبد الرحمن وهي أن رسام الكاريكاتير بطبعه حساس جداً ولا يستطيع أن يبدع وينطلق وهو لا يجد التقدير الكافي، هناك مثلاً –رسام عظيم أسمه "رجائي ونيس" ترك مصر بعد نكسة 67 وسافر إلى أستراليا ومنها إلى اليابان ولم يستطيع تحمل الأوضاع بعد الهزيمة، وأستقر به الحال في اليابان حالياً حيث عمل طيلة هذه الفترة في مدرسة أطفال.. يعلمهم الرسم والأمل والتفاؤل بعد عدم استطاعته الاستمرار في لعبة الصحافة المرتبطة بالسياسة لتحولاتها الحادة.
|
رسام الكاريكاتير سمير عبد الغني.. أحد الوجوه الجديدة التي برزت منذ عدة سنوات حيث يرسم في عدد من المطبوعات بانتظام مثل "القاهرة" و"العربي" يقول: أي رسام كاريكاتير له طموح ومعاناة متعددة الاتجاهات، فأنا مثلاً كرسام أريد دائماً أن أجدد أفكاري بقراءة الكتب والاطلاع على معارض فن تشكيلي أو الذهاب للمسارح وهذا فقط يتطلب ما يوزاي عشرة أضعاف أجر الرسام في الصحافة الآن، ولا أريد أن أقول إن هناك عدم اهتمام، فالحقيقة أن عدداً من رؤساء التحرير يبدون اهتماما كبيراً بعملنا كرسامين، وهناك أيضاً تجاوب لافت ورائع من القراء، ولكن الإمكانيات المطروحة للعمل، وانحسار هذا الفن في مؤسسات كبرى، كل هذا جعل تطور الكاريكاتير واتخاذه شكل "مدرسة جديدة" تتواصل مع مدرسة "صباح الخير" العظيمة في الخمسينيات شيئاً صعباً ولا أريد أن أقول محبطاً.. والكاريكاتير أصلاً أحد فنون إشاعة الأمل والبهجة.. فكيف يمارسه من يتعرضون لعوامل تحجيم كثيرة بهذا الشكل المزري؟
|
كاريكاتير.. بـ "الواسطة"!
ورغم أن الواسطة مثلها مثل كل صور الفساد والنفاق الاجتماعي التي أستهدفها الكاريكاتير دائماً إلا أن هذه "الواسطة" أصبحت واحدة من أهم عوامل ترشيح وعمل ولمعان بعض الرسامين.. فمثلا "محمد عبد الله" و"مخلوف" رسامان شابان، شهد لهم كثير من الأساتذة بالتفوق في الخطوط والأفكار، ومع هذا فهم ينتقلان –سوياً- بين أكثر من جريدة ومجلة، ويرى "عبد الله" أن الكاريكاتير أصبحت لـ "الواسطة" والترشيحات دور فيه، وهناك مؤسسات طلبت رسامين كاريكاتير وتم تعيين وانتقاء من لهم علاقة شخصية أو أسرية ببعض أفراد هذه المؤسسة أو تلك، خاصة وأن من يقبلون التواجد بهذا الشكل يرسمون في الغالب "رسوماً لطيفة" لا تزعج أحداً!
|
أما "مخلوف" فيلفت النظر لمشكلة أخرى فاقمت أزمة الكاريكاتير، وهى غياب المطبوعات الساخرة، ويقول: قبل الثورة مثلاً كان هناك عدد ضخم من الصحف والمجلات الساخرة وهذه كانت تستوعب كل الرسامين الذين يثبتون جدارة وتواصلاً مع القارئ، أما حالياً فلا توجد سوى مجلة واحدة فقط هي "كاريكاتير" وهي لا تصدر بانتظام، والغريبة أنها تهتم بالكتابة الساخرة أكثر من الرسم الكاريكاتيري نفسه!! |
|