بصمات في تاريخ القانون !!
لكل بلد رجاله الذين تركوا بصماتهم في كل ميدان طرقوه !
وكن رجلاً إن أتوا بعده
يقولون مرّ وهذا الأثر
هذا حديث ذكريات .. حديث أفعال لرجال .. حول .. القانون !!
هنا مقتطفات عن الشيخ / صالح الحصيّن بقلم الصحافي الأديب زياد الدريس ..
نقلتها بتصرف بسيط .. والشيخ لمن لا يعرفه .. وزير دولة سابق .. له الفضل الكبير بعد الله في سن العديد من القوانين وإضفاء اللمسة الإسلامية عليها .. يتبوأ حالياً منصب رئيس شئون الحرمين الشريفين بمرتبة وزير .. ورئيس مؤتمر الحوار الوطني .. صالح الحصيّن شخصية تجمع على احترامها الاغلبية الكاسحة من أبناء الوطن ، فهو رجل عطر السمعة وحسن السيرة وعرف عنه الكثير من الخصال الحميدة
الحصن الحصين :
حدثني من أثق به عن الثبت عن الحافظ عن شيخ الزهاد عن ابنه عن حفيده عن حفيد حفيده قال : " يا أبا غسان .. ألا أدلك على رجل في عصرنا هذا إذا رأيته حسبت نفسك في عصر التابعين .. لا تابعيهم قلت : بلى قال : إنه أبو عبدالله الحصيّن ، عالم الزهاد وزاهد العلماء فاذهب إليه راجلاً أو ماشياً فإنك لن تعدم المغنم بالجلوس معه .
في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت رحلة البحث عن هذا الرجل الذي سيأخذني من هذا العصر المشتعل إلى ذلك العصر اللامع قبل مئات السنين ، عصر الصفوة من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم أولئك الذي باعوا دنياهم بدينهم وحياتهم بآخرتهم ، أولئك الزهاد الذين اكتفوا من الدنيا بلقيمات يقمن صلب حياتهم المعيشية .. لقيمات من المأكل ولقيمات من المال ولقيمات من النوم ، تمنحهم القدرة على القيام بمناشطهم في الدعوة والعبادة ، ويشبعون بها شهوتهم من الدنيا دون الركون إليها .
لم تكن رحلة البحث عن هذا الرجل سهلة كما توقعت ، ليس ذلك لأنه شخص نكرة بين أهل المدينة المنورة ، ولكن لأنه شخص لا يفقأ أعين الناس باسمه ورسمه في كل مكان من صحيفة أو سقيفة !
كان زاهداً في الأضواء وما تحمله كل حزمة ضوئية من ضجيج وصخب لا يكاد ينطفئ حتى تنطفئ شمعة الإنسان المضجوج بالزحام من قبل .. ثم المضجوج بالإهمال من بعد !
أخذت وصف منزله من أحد العارفين بشؤونه ، قال لي : في إحدى عمارات الأوقاف قبالة الحرم النبوي ستجد الرجل " القديم " الذي تبحث عنه .
طرقت الباب ثم دخلت فإذا أنا أمام شقة لا يكاد يزورها " وزير " فكيف يسكنها ؟!
ها هو أمامي الآن : أبو عبدالله بن عبدالرحمن الحصيّن ، وإن شئت تعريفه باللغة الحديثة المفعمة باجتلاب الألقاب فإنه : معالي الشيخ صالح الحصيّن وزير الدولة عضو مجلس الوزراء سابقاً .
فتح الباب بنفسه ثم أدخلني في مجلسه الصغير المنعش بالبساطة والتلقائية .
حاولت أن آخذ منه دلة القهوة ، لكنه أصر على إبقائها معه ، كان مخجلاًَ أن يكون هو الذي يصب القهوة لمثلي ، ليس لأنه وزير فحسب ، ولكن لأنه رجل شارف السبعين من عمره ولا يزال بريئاً من عقد الألقاب وقوانين الشيخوخة !!
قال لي - عندما رأى تحرجي من شرب القهوة متن يده - : " تِقَهُوْ " .. أنا ألذ
ما عندي في القهوة صبّها !!
هذا هو الإنسان/ صالح الحصيّن ، الاقتصادي القانوني الوزير الخبير في وضع الأنظمة الأساسية لشعبة الخبراء وتأسيس صندوق التنمية العقاري ، وغيرها من المهام والأعمال التي لا يعلمها كثير من الناس .
تلفّتُّ في بساطة مجلسه .. وتواضع ملبسه ، حتى اللوحة المعلقة على أحد الجدران يبدو فيها نهر جار وحوله أشجار تبدو علامات التقشف على أغصانها الناحلة وأوراقها الشاحبة رغم قرب الماء منها ، فهي زاهدة في الارتواء من المياه المحيطة بها وكأنها تقول لأفرعها : اخشوشنوا فإن المياه لا تدوم !
من وحي هذه اللوحة " الصالحة " لم أجد بداً من أن أسأل الشيخ عن حكاية الزهد والمعادلة الصعبة التي يقع كثير من الناس بين كماشة شطريها ، قلت له : كيف تجمع يا شيخ صالح بين التحبيب إلى الزهد ، ثم دعوة الله عبادة إلى إظهار النعمة ؟
أجابني فوراً إجابة الخبير الممارس : ليس هناك تعارض كما قد يبدو لك وللبعض ، بل الجلاء في التوازن بين هذا وذاك ، وموجز هذا قولة ابن تيمية عن زهد النبي صلى الله عليه وسلم الشاكر لنعم ربه : " لا يرد موجوداً ولا يطلب مفقوداً " بهذه المعادلة يزن الإنسان بين زهده وشكره .
قلت : وإذا كان الإنسان يملك رصيداً ودخلاً كبيراً من المال ، فكيف يزهد ؟
التفت إليّ وقال : وهل ينبغي عليه أن يصرف كل ماله في ملذاته ، إن الرجل الرشيد ليستهلك من أمواله ما يحتاج ، ثم ينفق ما بقي لمستقبله الذي أمامه .. ليس مستقبل الدنيا فحسب بل الآخرة .
حين انتهى الشيخ من كلامه في علم الزهد أدركت كم تحمل أرقام الحسابات البنكية من حكايات البخلاء أو الزهاد ، أدركت كم من هؤلاء ينبغي أن يودع في الصحراء " الجاحظية " وكم منهم من يودع في الحديقة " العتاهية " .
إذا جلست أمام الشيخ صالح الحصين فإنك لا بد أن تستحضر في ذاكرتك " الربا " !
ربما لأن وقت الجلوس مع صالح الحصين " يربو " ويتضاعف دون أن تشعر بحركة الرصيد من الدقائق .! وربما أيضاً لأنك تدرك أنك تجلس أمام رجل حارب " الربا "
بكافة قواته وخيله ، ولا يزال يحاربه حتى يثخن جراحه ويطرده من جغرافيا الاقتصاد الإسلامي إلى تاريخ الاقتصاد اليهودي مهزوماً مدحوراً .
ولو سألت صالح الحصين إن كانت هناك إمكانية حقيقية - تماماً كما يتمنى كل مسلم - لقيام عمل مصرفي إسلامي في خضم هذه الدوامة الرأسمالية الكاسحة في العالم اليوم ؟ لأجابك بمنتهى الوضوح والصدق : إنه في كثير من الأحيان تكون العوائق وهمية وليست حقيقية ، أي أن ذهن الإنسان يخلقها لتكون معاذيره في عجزه عن العمل أو عدم رغبته فيه ، وعلى كل فإن الإنسان عندما يُحرَم العمل ويعطى الجدل يتشاغل بالبحث النظري عن النشاط العملي .
هكذا يؤمن صالح الحصين- بحكمته وحنكته - أن التغيير إلى الأفضل لا يمكن أن يتحقق بين عشية وضحاها ، وأن التدرج في التغيير هو أبرز عوامل رسوخ التغير فيما بعد ، وما لا يُدرك كله .. لا يترك جلّه !
أردت أن أنتقل بالشيخ من هموم " الإيداعات " إلى متعة " الإبداعات " .
كان ذلك في ريعان الشباب عندما أمضى خمس سنوات من عمره بين نهارات القاهرة ولياليها قبل قرابة 40 سنة ، حين كانت القاهرة تزخر بجهابذة الثقافة والأدب العربي ، وكان يمضي لياليه وأيامه في دراسة القانون حتى حصل على الماجستير فيها .
ثم انتقل إلى باريس - بعد أن أمضى عدة سنوات وظيفية في الرياض - لإتمام رسالة الدكتوراة هناك ، لكن ظرفاً وظيفياً قاهراً لم يمهله لإتمام رغبته التعليمية فعاد إلى الى مهمة جديدة في أرض الوطن .
قلت للشيخ - وأنا ابتسم - : ماذا بقي من الفرنسية ؟
أجابني بابتسامة أوسع وأودع - وقد أدرك سرّ ابتسامتي من شيخ نجدي يتحدث الفرنسية - : عدم الممارسة أفقدني معظمها ، بقي ما يكفي لقراءة روشتة الأدوية الفرنسية ، أو تصفح بعض المقالات في القانون .
وقد أفاد الشيخ صالح في تجربته تلك في التعامل مع الآخر بأن استطاع أن يدرك الصيغة التعاملية التي ينبغي أن تقوم بين المسلم والآخر دون انعزال مطلق أو انكباب مطلق .
هاهو يقول - في إحدى مشاركاته الإعلامية - في معرض الحديث عن هذه العلاقة :
" وإذا كان لا بد للمسلم أن ينتقد الغرب فليوجه انتقاده إلى عيوبه ، أما مزاياه فينبغي أن ينافسه فيها ويسابقه إليها ، واعياً أن العدل في الإسلام قيمة مطلقة ، لا مجال فيه لازدواج المقاييس أو نسبية التطبيق : وسَبْقُ الإسلام للغرب في تصور العدل لا يماثله - مع الأسف - إلا سبق الغرب للعالم الإسلامي الجغرافي المعاصر في تطبيقه - أي العدل " !
هكذا يعي صالح الحصين علاقتنا مع الغرب خصوصاً .. ومع الآخر عموماً ، في ظل العدل المغموس بالإفادة دون الرقادة .. والازدياد دون الانقياد !
تأملت وجه الشيخ فإذا هو مفعم بالنشاط والانتعاش ، وجسمه نحيل لا يكاد يسمح بقدوم " شحمة " واحدة تفترش من جسده ما يحلو لها من المكان .. ومن عنفوانه ما يحلو لها من الزمان !
قلت في نفسي : ترى لماذا ترك هذا الرجل العمل الحكومي باكراً من حياته ، هل هي رغبة في عمل أكثر إدراراً .. أو موقع أكثر ظهوراً وحضوراً ؟! ولكن أنى لهذا الرجل الزاهد أن يكون همه الإدرار أو الإظهار !.. إذاً ما الأمر ؟
قال : بعد أن أصبحت وزيراً انتظرت قليلاً حتى أتممت 20 سنة خدمة - وهي الحد الأدنى للسن التقاعدي - فوجدت حينها أن راتبي قد أصبح عشرة الآف ريال ، وأنني إذا تقاعدت سوف أحصل على نصف الراتب أي خمسة الآف ريال .. وهو مبلغ كاف لأن يوفر لي حياة في منتهى الرفاهية ! ماذا سأعمل بما يزيد على هذه الـ 5000 ريال لو انتظرت !
هذه هي إجابة الرجل الزاهد / صالح الحصيّن ، ويحسن بنا أن نطبق هنا قانون
" النسبية " لندرك أي نوع من الرفاهية تلك التي سيعيشها صالح الحصين بهذا
المبلغ من المال ؟!
هاهو الوقت يمضي مع هذا الإنسان الودود ، ولم يكن ليقطع هذا التواصل العقلي والروحي بينا سوى ما هو خير من ذلك ، إنه آذان المغرب يرتفع من مآذن المسجد النبوي تزف إلينا خبر الصلاة بجوار سيد الزهاد وأعمل العاملين الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم .
قلت في نفسي ستكون تجربة مميزة أن أحظى بمرافقة معالي " المأموم " / صالح الحصيّن إلى الحرم النبوي ، حيث ستفتح الأبواب المغلقة والصفوف المصطكّة أمام حضرة هذا " المعالي " لم يكن يشغلني - قبل الخروج من منزل الشيخ - سوى التفكير ، إن كنت سأكون الرجل الثاني خلف الإمام من اليمين ، أم الثاني من اليسار ؟! وهل سأكون ملزماً إن أخطأ الإمام أن أرد عليه لدنويّ منه قبل الناس جميعاً أم لا ؟!
كانت هذه هي الهواجس " العالية " حتى خرجنا من منزل الشيخ وقد وضع حذائه تحت إبطه ثم سار بي وسط جموع " عامة " الناس .
فلما وصلنا الحرم ، تقدم في ساحته الخارجية وسط الصفوف غير التامة من المأمومين حتى بلغ الصفوف التامة وهو لمّا يصل بعد إلى باب الحرم ، فتوقف في الساحة المكتظة ووضع حذاءه بين قدميه ثم وزن قدميه على حافة البلاط غير المفروش .. ثم كبّر للصلاة .
تلفتّ يمنة ويسرة فلم أجد الإمام أمامي ، ولا السّدنة خلفي ، أما المأمومون الميحطون بنا من كل جهة فإني أكاد أجزم أنهم قد تقاعدوا من عملهم – في بلدانهم – براتب أقل من راتب صالح الحصين ورفاهيته !
دعوت الله أن يرزقني قناعة مثل قناعة شيخي صالح الحصين .. ثم كبرّت للصلاة ..
روابط لبحوث ودراسات الشيخ :
http://saaid.net/book/open.php?cat=83&book=1626
http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=2641
http://www.islamtoday.net/sautiat/media.cfm?sautiat=1&cat=m
http://www.amanjordan.org/aman_studies/wmview.php?ArtID=590
جزء من مذكرات الشيخ القرضاوي وإعجاب السنهوري بالحصيّن عندما كان طالباً :
http://www.islamonline.net/Arabic/karadawy/2002/11/article11