حقيقة محكمة العدل الدولية
يذكر أنه رغم أن فكرة محاكم جرائم الحرب نشأت بدعوى أنها محاكم دولية لمحاكمة مجرمي الحرب, الذين ارتكبوا مجازر ومذابح في حق الأبرياء من البشرية، فقد تحولت إلى محاكم تحكم بأمر القوى العظمى, التي تحكم العالم, ولصالحها, ضد الأفراد والدول, التي تعارض الهيمنة الغربية.وإليكم الأمثلة الدالة على ذلك:
1ـ محاكمة النازيين من أجل اليهود:
منذ محاكمة النازيين الشهيرة واليابانيين بعد الحرب العالمية الثانية، لم يعد أحد يسمع سوى عن محاكمة (أعداء السامية) من النازيين وأعوانهم, الذين قيل إنهم دبروا محارق الهولوكوست ليهود ألمانيا.
2ـ محاكمة زعماء الصرب من أجل مصالح أمريكا وأوروبا:
إن المجازر, التي اقترفها جزارو الصرب, قد كانت أشد بشاعة من جرائم النازيين، وأكثر وضوحا، وخشيت الدول الأوروبية وأمريكا من رد فعل إسلامي غير مرغوب فيه من جانب مسلمي البوسنة والبلقان عموما, بشكل قد يهدد الوحدة الأوروبية، ولهذا فقد اتفق على إعادة فتح هذه المحاكم التابعة للأمم المتحدة في هولندا لاستقبال مجرمي الحرب الصرب, الذين بلغ عددهم المئات, ولكن لم يقدم منهم للمحاكمة سوى حوالي 30 مجرما فقط, بل وقدم مسلمون وهم ضحايا الإرهاب الصربي, وكروات, ذرا للرماد, ولعدم إغضاب الصرب من هذه المحكمة.
وقد نقل المجرم الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش ، من بلغراد إلى سجن المحكمة الجنائية الدولية بلاهاي في هولندا، لمحاكمته بتهم ارتكاب جرائم حرب. مثل هذه الخطوة كانت منتظرة، منذ تنحية ميلوزيفيتش من كرسي الحكم في بلغراد واعتقاله، تحت ضغوط غربية وأمريكية بصفة خاصة، بعد فرض عقوبات اقتصادية وقطع المساعدات المبرمجة عن جمهورية صربيا.
إن الغرب لم يحاكم ميلوسوفيتش من أجل عيون المسلمين، بل ليمنعه من الاستيلاء على البلقان فيهدد أمن أوروبا مع إرجاع الحقوق كلها إلى كرواتيا وصربيا وتجاهل حقوق المسلمين.
و مهما كانت وجهة محاكمة رأس الإجرام الصربي، يبقى أن ميلوسوفيتش ينتمي لدائرة "العالم المتحضر" و سيستفيد بناء على ذلك ـ و بحكم أنه متهم بكل شيء ماعدا الانتماء للقاعدة أو طالبان ـ من امتيازات محاكمة "خمسة نجوم" لا توفرها حتى أمريكا، و تجدها فقط في محكمة لاهاي الدولية التي عارضت واشنطن قيامها مبدئيا. وعليه، أبدى زعيم صرب البوسنة "تفاؤله" بالأمس، في وقت وفرت له جميع شروط الإقامة "المريحة"، و المحاكمة "اللطيفة"؛ إذ ينام في زنزانة مكيفة، و يتحدث إلى أفراد عائلته و محاميه بلا تضييق، و يحق له أن يرافع و يناقش قضاة المحكمة، و أن يطعن في الحكم في نهاية المطاف، كما أنه يحرص على الظهور بشياكة قيادة الدول، و لا ينسى تلميع حذائه كلما خرج من زنزانته!. و بخلاف "الآخرين" في محتشد غوانتانامو؛ فإن ميلوسوفيتش لن يكون مجهول الهوية و مجرد رقم معلق على سياج قفص، و لن يقتاد إلى أي مكان مكبل اليدين و الرجلين، و لن ينام تحت الأضواء الكاشفة، و لن تعطل حواسه خوفا على أمن حراسه. أما ما سوى ذلك فمجرد فوارق بسيطة في فهم "النصوص" الغربية!.
3ـ إعفاء المجرمين الصهاينة مع المطالبة بمحاكمة صدام وكاسترو وطالبان من أجل عيون أمريكا واليهود:
مع أن كبار الجنرالات الإسرائيليين قاموا بعشرات المذابح ضد العرب والفلسطينيين منذ مذبحة اغتصاب فلسطين؛ مثل مذبحة "قبية" عام 1953م, وقتل الأسرى المصريين في حربي 1956 و1967م، ومذبحة صبرا وشاتيلا عام 1982م، ومذبحة قانا عام 1999، ومذابح المخيمات الحالية، إلا أن من يديرون هذه المحاكم في الغرب رفعوا شعار: لا نري.. لا نسمع.. لا نتكلم.
وحتى عندما قدم جزار الصرب ميلوسوفيتش لمحكمة جرائم الحرب, بناء على صفقة بين الحكم الجديد في بلاده والغرب لمدها بالمعونات المالية ورفع الحصار، تفاءل البعض بإمكانية تقديم جزار الفلسطينيين شارون للمحاكمة, خصوصا أن قضايا معززة بالأدلة قدمت بالفعل ضده في بلجيكا وفرنسا, ثم سرعان ما ظهر التواطؤ الدولي, لحد الضغط على بلجيكا لتغيير قانونها, الذي يسمح بمحاكمة مجرمي الحرب.
وفي المقابل ارتفعت الأصوات في الغرب تطالب بمحاكمة أفراد وزعماء دول تناهض السياسية الأمريكية, مثل الرئيس العراقي صدام حسين, أو الكوبي فيدل كاسترو, أو قادة حركة طالبان, رغم أن حالة شارون واضحة, ولا تحتاج لبرهان، وهو ما يعزز بوضوح الفكرة القائلة إن هذه المحاكم "محاكم غربية", أو محاكم للقوى الكبرى, توظفها لمحاكمة الأفراد أو الدول الخارجة على طوع هذه الدول.
4ـ أمريكا وإسرائيل تمتنعان عن التوقيع على المحكمة الدولية لجرائم الحرب لمنع محاكمة رعاياهما:
يدلل خبراء قانون دولي مصريون على أن الدول الكبرى ـ مثل أمريكا ـ لا تسعى فقط لمحاكمة أعدائها ومخالفيها السياسيين من الأفراد والدول، بل وتسعى في المقابل ـ كما سنذكر ـ لمنع محاكمة رعاياها أمام هذه المحاكم, مثلما يحدث بالنسبة للمحكمة الدولية لجرائم الحرب, التي ترفض أمريكا وإسرائيل التوقيع عليها, حتى لا تعرض مجرميها للمحاكمة أمامها!.
5ـ إجراء تعديلات على ميثاق المحكمة الجزائية لصالح أمريكا:
في عام 1990 صدر قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة بتشكيل محكمة الجزاء الدولية، وبعد مشاورات تم التوصل إلى اتفاقية روما, التي وقعت عليها 129 دولة عام 1998، وقد سعت واشنطن لعرقلة إنجاز مواد في ميثاق تشكيل المحكمة الجزائية؛ كالمساواة بين سائر الدول، أو الحيلولة دون وقوعها تحت تأثير منظمات دولية أخرى، وعلى وجه التحديد مجلس الأمن الدولي. وقد جرت تعديلات عديدة على الميثاق في الاتجاه السلبي، مما يجعل المحكمة الجزائية، وإن بدأت أعمالها، مقيدة أو دون مستوى تحقيق الهدف منها على الوجه الأمثل والنزيه.
وليست هناك معايير واضحة للمحاكمة, مما يعني فتح الباب للقوى الدولية المهيمنة عالميا لممارسة ضغوط, عبر مثل تلك المحاكمات أو التهديد بها، اعتمادا على المقاييس الغربية، والتقارير الغربية، كالتقرير السنوي لوزارة الخارجية الأمريكية حول حقوق الإنسان