المحتويات:
مقدمة:
الجزء الأول: الزواج في الإسلام-رؤية مقارنة.
المبحث الأول: في القانون الروماني.
المبحث الثاني:نظم الزواج عند العرب في الجاهلية.
الجز الثاني: آثار عقد الزواج في التشريعات العربية.
المبحث الأول: الآثار في الشريعة الإسلامية.
المبحث الثاني: الآثار: الآثار الخاصة بمكانة المرأة.
أولاً: حق المرأة في الاحتفاظ باسمها.
ثانياً: حق المرأة في الاحتفاظ بجنسيتها.
ثالثاً: استقلال الذمة المالية للمرأة وأهليتها للتجارة.
المبحث الثالث: الآثار الخاصة بالزوجين أو أحدهما.
أولاً: المهر.
ثانياً: النفقة.
ثالثاً: النسب.
رابعاً:الحضانة.
خامساً: الطلاق وحق طلب التطليق والفسخ.
الجزء الثالث: حق الطاعة أم التزام مشترك بحسن المعاشرة.
الأثر القانوني لهذا الاختلاف.
الأثر الثقافي لهذا الاختلاف.
الدور الثقافي للقانون.
الاختلاف في فهم الدين وتفسيره.
للرجال على النساء درجة.
الرجال قوامون على النساء.
نصوص القرآن الكريم تتساند في تشكيل عقل ووجدان المسلم.
آثار عقد الزواج
في التشريعات العربية للأحوال الشخصية
مقدمة:
كانت الإسلام عندما أتى الوحي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثورة كاملة في مدارج الرقي الإنساني، استهدفت بناء شكل جديد للحياة يقوم على الحرية والعدالة والمساواة والرحمة. واقتضى البناء الجديد للحياة أن تتناول الرسالة مختلف الجوانب التي تعتمد عليها هذه الحياة وتقوم بها، وكان من بين هذه الجوانب. بل من أهمها، علاقات الأسرة، التي تتشكل بها خلايا المجتمع، ومن هنا كانت أحكام القرآن الكريم والسنة الثابتة الصحيحة، مرسية للقواعد والأسس التي ينبنى عليها كل تنظيم سليم لحياة الأسرة.
على أن الله عز وجل، خالق الإنسان والعارف بأحواله، والمستغنى عنه، كان عالماً أن قانونه الأسمى الذي يحكم به العالم الذي خلقه هو التغير والتطور، لذا شاء السميع العليم أن يجعل جل الأحكام التي أنزلها، ليفسح الطريق لاجتهاد الإنسان، يواجه به تغير الأحوال، وتطور الزمان، فيجعل مما أجمل الله إطاراً تتحدد حدوده بالتمسك بالمقاصد العليا له، ويتسع الأمر في دائرة هذه الحدود لكل ما يواجه الواقع ويستنبط الحلول التي تزدهر بها الحياة. يقول بن قيم الجوزية: "إن ممارسة الاجتهاد تقتضي معرفة الحق، ومعرفة الواقع، وتنـزيل أحدهما على الأخر".
إذن معرفة الواقع هي ثاني جناحين: أولاهما معرفة ما أجمل الله في كتابه، الذي بهما يحلق طائر الاجتهاد الذي شاء الله أن يجعل سماواته مفتوحة للإنسان، حتى يظل الإسلام صالحاً لكل زمان ومكان، بمرونته، وبقدرته على إفراز الأحكام التي تواجه تغير الحياة.
على أن الإسلام نزل في بيئة كانت لها أوضاعها الاجتماعية والثقافية الراسخة منذ دهور، وهذه البيئة في مجملها رفضت الإسلامي عند مشرقه، وقاومته، ولكن الله نصر القلة المسلمة، فزادت وقويت وصارت لها الكلمة العليا، بيد أن الثقافة الموروثة لم يقض عليها تماماً، فظلت تطل من جحورها كلما واتتها الفرصة.
ثم إن الإسلام انتشر في الربوع والأمصار، فخرج المجتهدون بحق، كما خرج المفسرون والشارحون وراح كل يدلى بدلوه متأثراً في الفهم بثقافته وظروف المجتمع الذي يعيش فيه، ثم مرت على المسلمين عصور من الجمود والانغلاق والتدهور، فسادت أفكار وخرافات نسبت نفسها للدين الحنيف، وهو منها براء، ولكن المأساة أنه في عالم الفكر ينساب الخبيث مع الطيب كما يختلط الماء الملوث بالماء الصافي، فلا يعرف كيف يكون التمييز والفصل بينهما. وهكذا صار هناك تراث يختلط فيه الماس بالزجاج، والتبر بالتبن، وانساب ذلك كله إلى جميع مستويات الحياة.
يقول الأستاذ الدكتور أحمد كمال أبو المجد في شأن الأحكام الشرعية الخاصة بالأسرة: "إن قضية الأسرة والأواصر المقررة لأعضائها، وكل ما يتصل بعلاقة الرجال بالنساء… لا تزال واحدة من القضايا المعلقة في حياتنا العربية والإسلامية، ولا يزال الخلط الشديد قائماً بين ما هو من أصول الحضارة العربية الإسلامية، وبعبارة أوضح ما هو من تعاليم الإسلام وأحكامه وآدابه، وما هو من تراكم التقاليد الموروثة والأعراف السائدة التي صنعتها عبر التاريخ أوضاع وملابسات لا رابطة بينها وبين الإسلام ولا صلة. وعلى سبيل التحديد، نقول أن نظرة الإسلام بمصادره المعتمدة ونصوصه الصحيحة الثابتة إلى المرأة ومكانتها في الأسرة، ودورها في المجتمع، قد تراجعت في بلدان كثيرة أمام أعراف بدوية، أو أعراف ريفية حولها أصحابها إلى دين يعيشون عليه ويبنون سلوك الآخرين وأفكارهم ويقبلون على أساسه أنماط الحياة المختلفة أو يرفضونها.(1)
وهكذا، فإنه عندما أخذت الدول العربية تضع القوانين المنظمة لأحوال الأسرة، كان هناك تراث فكري ضاغط، أعمل آثاره في منحيين:
الأول: أنه تعامل مع الأحكام قطعية الثبوت، قطعية الدلالة، ومع الأحكام ظنية الثبوت أو الدلالة أو كليهما معاً، ومع فقه الشريعة الإسلامية الذي اجتهد فيه الأئمة والمجتهدون، باعتبارها جميعاً على درجة واحدة من القدسية.
الثاني: أنه تبعاً لقدسية الأحكام الشرعية والفقه معاً، تولد النظر بثبات الأحكام الخاصة بالأسرة وأنه لا سبيل لتغييرها أو تطويرها.
وقد غلب هذا النظر على التشريعات العربية التي نظمت أحوال الأسرة، وقلة منها التي استطاعت فكاكاً فيما أجاز الله الاجتهاد فيها، ووسع به على الإنسان ليمكنه من مواجهة مشاكل الواقع، والاستجابة لمقتضيات التطور.
في هذه الورقة نعرض لبيان: كيف كان الإسلام ثورة في مجال تنظيم علاقة الزواج، ثم نعرض لآثار عقد الزواج في التشريعات العربية، فتتناول الحقوق التي قررها الإسلام للمرأة ليضعها في مكانها الصحيح من علاقة زوجية أرساها على مبدأ المساواة، ثم نعرض للآثار التي لا خلاف عليها في إيجاز شديد، ثم نتناول في الجزء الثالث قضية جوهرية بقدر من التفصيل، وهي ما يسمى بحق الطاعة. هل هو حق للزوج على زوجته، أم هو التزام مشترك بينهما بحسن المعاشرة؟
الجزء الأول: الزواج في الإسلام- رؤية مقارنة
بسم الله الرحمن الرحيم
"وإذ قالت الملائكة يا مريم إن لله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين"
سورة آل عمران – الآية42
ارتبط تطور الحضارة الإنسانية بأنواع الأنظمة الاجتماعية التي تسود في كل مجتمع، فحيث تتمتع هذه الأنظمة بدرجة أرقى في الاستجابة لحاجات الإنسان، تتوافر القدرة على إطلاق الطاقات الإنسانية الكاملة في هذا المجتمع، بما يقود إلى التقدم والازدهار، وحيث لا تبلغ هذه الأنظمة درجة الرقي الإنساني الكافي،أو تكون حاملة لعناصر الاصطدام أو عدم الاستقرار، يصادف المجتمع أوضاعاً من القلق أو المعاناة تذهب بطاقاته، وتتبدد قدراته، وتصبح خطواته أعجز من السير على درب التقدم الازدهار.
ووسط الأنظمة الاجتماعية التي عرفتها الإنسانية خلال تاريخها الطويل، كانت أنظمة الزواج هي أكثرها أهمية، وأكبرها تأثيراً على مسيرة المجتمع، لأن نظام الزواج، هو القاعدة والإطار الذي تنبني عليه الأسرة ويتحدد به كيانها، والأسرة بمفهوم الزوجين هي القابضة على الحاضر، وبمفهوم الأبناء هي القابضة على المستقبل، بما يعني أن نظاماً جيداً للزواج، مؤداه حاضراً طيباً، ومستقبلاً مشرقاً، ونظاماً للزواج غير جيد مقضي إلى فرد ممزق أو مزعزع أو عدواني، وهو في كل الأحوال غير قادر على العطاء والبناء، بما يقود المجتمع كله إلى حالة من العقم والعجز عن التقدم وتقدير مدى ما يحمله نظام للزواج من رقي في الاستجابة لحاجات الإنسان على نحو صحيح وسليم، يرتبط بالمقارنة بالأنظمة المعاصرة له مكاناً، كما يرتبط بالأنظمة السابقة عليه زماناً. ومن هذا المنطلق، فإن تقدير القيمة الحقيقية، والمستوى الإنساني الذي أفرزه الإسلام في نظام الزواج، يوجب علينا أن نجري إطلالة سريعة على جوهر نظام الزواج في القانون الروماني، باعتبار أن هذا القانون كان من أرقى الشرائع التي سبقت الإسلام وعاصرته، وكانت تخوم الإمبراطورية الرومانية، هي الجوار المباشر للجزيرة العربية شمالاً، ثم تجري إطلالة على جوهر أنظمة الزواج عند العرب قبل الإسلام، وتتوافر بهذه الرؤية القدرة على تقدير حجم ما أتى به الإسلام، ومستواه الإنساني.ٍ
المبحث الأول: في القانون الروماني
القانون الروماني بصفة عامة (2)
المصدر التشريعي لنظام الزواج عند الرومان هو القانون الروماني الذي ينقسم، وفقاً لتقسيم جيبون إلى أربعة عهود. العهد الأول ويبدأ من تاريخ بناء روما وينتهي بتدوين قانون الألواح الاثني عشر، والعهد الثاني يبدأ من التاريخ الأخير وينتهي بعهد الإمبراطور سيسرون، والثالث يبدأ من الأخير وحتى الإمبراطور اسكندر، والرابع ويبدأ من الأخير، وينتهي بوفاة جستنيان.
وهذا العهد الأخير- عهد جستنيان-هو الذي تركزت فيه القوانين الرومانية وأخذت وصفها النهائي، فتم جمع القوانين السابقة والعادات الصالحة والتقاليد وآراء الفقهاء وكل ما كان من الأبحاث الفقهية والأوامر والمنشورات والمبادئ في تأليف واحد حتى يسهل على رجال القانون من قضاة ومحامين ومشرعين الوقوف عليها حتى تنتهي حالة الاضطراب والفوضى التي كانت سائدة في العصور السابقة.
وبيان ذلك، أن جستنيان شكل لجنة في سنة 528م لجمع النصوص القانونية وانتهى في سنة واحدة من وضع المجموعات التي سبقته في مجموعة واحدة منقحة لا تكرار فيها، وقد وقعت هذه المجموعة في أثنى عشر كتاباً. وفى سنة 530م نظم لجنة أخرى لجمع آراء الفقهاء وأبحاث العلماء في إيجاز وترتيب، وفد تم ذلك بعد سنتين في مجموعة سميت بالموسوعة، ووقعت في خمسين كتاباً، وفي سنة 533م وضعت مجموعة علمية أخرى، اسمها "النظم القانونية"، وهي موجز لآراء الفقهاء في أربعة كتب، كان الغرض منها تسهيل الاطلاع والدراسة. وبخلاف هذه المجموعات الرسمية الثلاث، فق أصدر جستنيان في مدة حكمه كثيراً من القوانين والقرارات الإمبراطورية، وقد جمعت في عهده في مجموعة رابعة، أطلق عليها اسم "القوانين الجديدة".
وتسمى مجموعة هذه المدونات الأربع " مجمع القانون المدني"، وهي الخطوة النهائية التي وصل إليها تطور القانون الروماني وهي في نفس الوقت مفخرة جستنيان التاريخية.
وإذا كانت مدونة جستنيان تعتبر ميراثاً للعالم الأوروبي الذي اعتنق مبادئها واتخذ أسلوبها طريقاً للتشريع حتى اليوم، فإنه من الجدير بالإشارة إلى أهم الإصلاحات التي أحدثها جستنيان في نظم الأسرة، فقد ألغى حق الأب في قتل ابنه أو بيعه أو تسليمه في الجرائم، وتوسع في تأكيد شخصية الابن، وفي تحديد دائرة أمواله الخاصة، وقلص إلى أقصى حد من آثار السيادة الزوجية، وألغى حق الأب في حرمان ابنه من الميراث على الوجه الذي كان في القوانين السابقة، وجعل القرابة الدموية هي الأساس الوحيد للميراث دون تفرقة بين لرجال والنساء، وجعل لكل من الولد الشرعي وولد المعاشرة والولد المحرر من سلطة أبيه، والولد الذي تبناه غير أبيه، والبنت المتزوجة في أسرة أخرى نصيباً الميراث عند موته.
وفي إطار هذه اللمحة الموجزة عن القانون الروماني، وتطوره، يمكننا أن نتناول بإيجاز جوهر فكرة وعلاقة الزواج عند الرومان.
الزواج عند الرومان:
خلال التطور الطويل للقانون الروماني، نستطيع أن نميز طورين عرفهما نظام الزواج، وهما وإن تتابعا في تطورهما، إلا أنه كان هناك قدر من تداخل في قيامهما معاً في أثناء عملية التطور ذاتها.
الزواج مع السيادة:
وكان هذا الزواج يتم بأحد الطرق الثلاثة:
طريق الزواج الديني، وهو زواج رسمي وديني في آن واحد، ويتم في معهد، وفيه يقدم طالب الزواج إلى إله الآلهة قرباناً ويرتلان عبارات دينية معينة أمام عشرة شهود (وهو أكبر عدد من الشهود يشترطه القانون الروماني في عقد من العقود) وبحضور الحبر الأعظم وكاهن المعهد.
الزواج بطريق الشراء وقد يقال عنه الزواج المدني لتمييزه عن الزواج الديني. ويتم هذا الزواج بنفس الطريقة التي تكتسب بها الملكية على الأشياء النفيسة.
الزواج بطريق المعاشرة، فيعاشر الزوج زوجته مدة سنة كاملة بدون انقطاع، تكسبه السيادة على زوجته. وأيا كانت الطريقة، فإنه يترتب على هذا الزواج خضوع الزوجة لسيادة زوجها، أو لسيادة صاحب السلطة عليه، وانتقالها من عائلتها الأصلية إلى عائلة زوجها، واعتبارها ميتة بالنسبة لعائلتها الأصلية، وتنفصل عن ديانتها، وتسقط جميع حقوقها قبل عائلتها الأصلية من إرث ووصاية وقوامة، وتصبح عضواً في عائلة زوجها باعتبارها بنتاً له وأختاً لأولادها منه.
وكان للزوج أن يسترد زوجته بدعوى الاسترداد، وله بيعها وعقابها وطلاقها، ويتملك بواسطتها ويكتسب عنها الحقوق، ومن حقه أخذ مالها أو ما قد منحها أبوها من الأموال.
ولم يكن الطلاق جائزاً إلا لأسباب معينة، وهي حالة ارتكاب الزوجة بعض الجرائم كالزنا وتزييف مفاتيح المنزل وادعاء الولادة كذباً.
وكان الطلاق يتم بنفس طريقة إتمام الزواج، فيكون دينياً في المعبد، أو ببيع الزوجة بطريق الإشهاد إلى مشتر صوري.
الزواج بغير سيادة:
أما الزواج بلا سيادة، فكان يقوم على التراضٍ، وهو تراضٍ يتحقق بإرادة أصحاب السيادة على الزوجين إن كانا خاضعين لسيادة غيرهما، ويتحقق برضائهما إن لم يكونا خاضعين لسيادة أخرى، وكان هذا الزواج يبقى الزوجة في عائلتها الأصلية إذا كانت تابعة لغيرها، كما تبقى مستقلة بحقوقها بعد الزواج إذا كانت مستقلة قبله،ولكن لم يكن يترتب على هذا لزواج ارتفاع الزوجة إلى مرتبة الزوج، فلو كان من الأشراف، وهي من العامة، فإنها تبقى كذلك، كذلك فإنها لا تصبح من الأحرار الأصلاء بعد عتقها إذا تزوجها حر أصيل. ولم تكن ترث من ابنها، كما لا يرثها لابن لأنها تنتمي إلى عائلتها وابنها ينتمي إلى عائلة أبيه.
وكان الزواج بلا سيادة ينقضي إجبارياً بوفاة أحد الزوجين، أو يفقده حريته، أو فقد الرعوية الرومانية، وينتهي اختيارياً بالطلاق، فينحل بإجراءات مقابلة للإجراءات التي تم بها.
المبحث الثاني: نظم الزواج عند العرب في الجاهلية
توطنت الجزيرة العربية قبل الإسلام قبائل شتى، كانت حياتها تتمركز في الحل والترحال بسبب الظروف التي تجد فيها بعض الماء اللازم لحياتها وحياة دوابها، وكان الرعي وغزو القبائل الأخرى عمادين أساسيين لحياة هذه القبائل. وقبل ظهور الإسلام بفترة، وكأثر لوقوع مكة في موقع فريد بالنسبة لحركة التجارة بين سواحل الجزيرة الجنوبية والشرقية وبين الشام بدأت تتكون معالم لحياة المدن في مكة، وفي نفس الوقت، فإنه على بعد قليل من مكة، قامت معالم لحياة المدن في يثرب التي لظروفها الجغرافية عرفت قدراً من الزراعة وأشكالاً من الصناعة الحرفية، في ظل هذه الظروف الرعوية الطاغية والباديات المتواضعة تتشكل المدن، كانت حياة القبائل العربية قبل الإسلام.
وقد عرفت هذه القبائل أنواعا متعددة من أنظمة الزواج، يمكن إيجازها في الآتي:
تعدد الأزواج:
كانت تمارسه بعض القبائل حيث تكون الزوجة الواحدة لأزواج متعددين، وفيه تقول السيدة عائشة رضى الله عنها، عن أنكحة العرب في الجاهلية (صحيح البخاري-جـ7 صـ 15)، يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلوا على المرأة كلهم يصيبها "فإذا حملت المرأة" ووضعت ومرت ليال بعد أن تضع أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم قد عرفتم الذي كان من أمركم، أني ولدت فهو ابنك يا فلان، تُسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها، ولا يستطيع أن يمتنع منه الرجل.
التعدد المطلق للزوجات:
ولم يكن يتقيد فيه الرجل بعدد معين من الزوجات.
زواج المقت:
وهو زواج الابن الأكبر من زوجة أبيه بعد وفاته دون أن يكون لها خيار في ذلك، فهي مال يرثه وحده.
زواج الشغار:
وهو تبادل النساء بدون مهر، حيث تكون كل واحدة مهراً للأخرى.
زواج السبي:
كان الغزو شائعاً بين القبائل العربية، وكانت الغنائم والأسلاب أهم ما تسفر عنه هذه الغزوات وأهم الأغنام والأسلاب هم النساء، وكان نصر القبيلة واقتدارها يبين في أسر الشرائف من النساء.
الزواج الموقوت أو زواج المتعة:
وفيه تحدد منذ لحظة انعقاده مدة الزواج حيث ينتهي بانتهائها، ولم يكن هناك حد أدنى أو أقصى لتحديد هذه المدة، وإن كان الغالب أن تكون المدة قصيرة.
الخلافة على الأرامل أو وراثة النساء:
وكان مقتضاه أن الرجل إن مات عن أرملة خلفه عليها أحد أقاربه الأقربين، ولا تعتبر هذه الخلافة زواجاً جديداً، فلا يدفع القريب مهراً جديداً وإنما يعاشرها بالمهر الذي دفعه الزوج الميت، وعلى ذلك، فإن الأولاد الذين يولدون من علاقة الأرملة بقريب الزوج الميت كانوا ينسبون إلى الزوج الميت نفسه.
وقد نهى القرآن عن هذا النوع من الزواج، حيث فسر الطبري الآية الكريمة: "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها" (النساء- الآية19) بأنها كانت نهباً عن هذا النوع من الزواج الذي كان له قدر وافر من الشيوع.
ومن الجدير في هذا المقام الإشارة إلى بعض العادات المرتبطة بالزواج حتى يمكن استخلاص الرؤية الأكثر شيوعاً للعلاقة بين الرجل والمرأة.
أ: الاستبضاع:
وفيه يقدم الرجل زوجته إلى آخر لتحمل منه، إما لعدم إنجابه هو منها أو لدواعي النجابة، وفي ذلك تقول السيدة عائشة رضى الله عنها: "إن الرجل في الجاهلية كان يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل، فإذا تبين حمله ا أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد".
الضيافة الجنسية:
وفيه تقدم الزوجة للمتعة كمظهر من مظاهر إكرام الضيف.
الاستخلاف على الزوجة:
وفيه يختار الزوج عندما يزمع التغيب عن بيته رجلاً آخر يعهد إليه بزوجته، ويحل هذا الأخير محل الزوج في معاشرتها لحين عودة الزوج.
ولا يحتاج الأمر إلى تحليل طويل لاستخلاص النتيجة بأن مجموع هذه النظم والعادات التي نشأت في بيئة كان عمل الرجل فيها محدوداً، وأخطر الأعمال التي يمكن أن يقوم بها وهي الصيد والرعي والحرب ليس فيها ثمة دور جوهري للنساء، إن تحددت فيه مكانة المرأة دورها في الإنجاب وأداء المتعة الجنسية، ولذلك فإنه كان من الطبيعي أن علاقات الزواج التي تنتج عن هذا الواقع، إن هي إلا تعبير عنه، حيث تبهت كثيراً فكرة الرضائية التي هي دعامة التصور العقدي للعلاقة.
وهكذا، فإننا نجد من العرض السابق، أن نظام الزواج عند الرومان، لم يبلغ في أوج تطوره إلا أن يكون نظاماً للزواج بغير سيادة، وهو ما يبعد به عن العقدية الرضائية، أما الأنظمة العربية قبل الإسلام، فقد كانت أيضاً بعيدة عن هذه الرضائية، بل كانت انتهاكاً لها في بعض منها كزواج السبي أو وراثة النساء أو زواج الشغار أوالمقت.
في إطار هذه المقارنة الزمانية والمكانية، نلتفت إلى الإسلام، فنجد أنه قد جاء بمفهوم جديد تماماً عن الزواج، حيث جعل العلاقة التي يقوم بها هي علاقة تعاقدية بكل الشروط التي يستلزمها العقد من رضائية نابعة من إرادات خالية من أي عيب من عيوب الإرادة، وجعل الحقوق والواجبات بين الزوجين متبادلة، وجعل الرغبة المشتركة في تواصل الحياة الزوجية شرطاً لاستمرارها، وأجاز إنهاء الزواج بالطلاق للرجل والمرأة على السواء، وإن جعل حق المرأة في ذلك مرتبطاً بحكم القاضي إلا إذا اشترطت لنفسها هذا لحق عند الزواج، وهكذا كان الإسلام ثورة كاملة في المفاهيم التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي بشأن الزواج، كما أنه كان أكثر تقدماً بكثير مما بلغه القانون الروماني.
وهكذا، فإن الزواج في الإسلام هو عقد رضائي. يعرفه بعض الفقهاء، بأنه "عقد يفيد حل استمتاع كل من العاقدين على الوجه المشرع"(3)، ويعرفه التشريع السوري والعراقي والجزائري والأردني بأنه عقد بين رجل وامرأة، تحل له شرعاً، غايته إنشاء رابطة للحياة المشتركة والنسل.
وباعتباره عقداً، فإنه تتعلق به ثلاثة أنواع من الأحكام:
أولاً: أحكام تتعلق بإنشاء عقد الزواج وشروط صحته.
ثانياً: أحكام تتعلق بآثار عقد الزواج.
ثالثاً: أحكام تتعلق بإنهاء عقد الزواج.
والأحكام التي تعلق بإنشاء عقد الزواج يجري البحث بشأنها في الأهلية والرضاء والخلو من موانع الزواج والإشهاد والمهر والكفاءة، أما الأحكام التي تتعلق بإنهائه فتدور حول الطلاق والتطليق والفسخ، وهذه وتلك تخرج عن دائرة هذا البحث، الذي يقتصر على تناول الأحكام الخاصة بآثار عقد الزواج.
الجزء الثاني:آثار عقد الزواج في التشريعات العربية
المبحث الأول: الآثار في الشريعة الإسلامية
لم تكن الرضائية في إبرام عقد الزواج في الإسلام، واستلزام توافر الأهلية لإبرام هذا العقد، والرضاء الصحيح والكامل لطرفيه به، وهو رضاء يتساويان فيه تماماً، لم يكن ذلك كله إلا فرعاً من رؤية الإسلام للمرأة، وأنها مساوية للرجل في إنسانيتها وكرامتها المشتركة، وأنهما يحملان تكليفاً واحداً، يقول الله عز وجل:
"وأنه خلق الزوجين، الذكر والأنثى، من نطفة إذا تُمنى" سورة النجم-الآية 45
"والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله" سورة التوبة-الآية 71
"إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً" سورة الأحزاب- الآية 35
إذن جوهر الإسلام هو المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق والتكليفات، ومن هذا الجوهر، كان إنشاء العقد الذي يجمع بينهما برباط الزوجية، مستلزماً رضاء كل منهما به،فإذا نشأ العقد وقام، كان التوازن في الحقوق والواجبات هو القاعدة التي تترجم هذه المساواة. وعلى ذلك تجيء آثار الزواج منطلقة من قاعدة التوازن العادل بين طرفي العقد.
والأصل في آثار عقد الزواج أنها من عمل الشارع، فهو الذي عينها وحددها، ولكن الشروط التي يتراضى عليها الزوجان عند إنشاء عقد الزواج، تعد أيضاً من آثاره. وقد اختلف الفقهاء في شأن هذه الشروط، فالشافعية والحنفية وأكثر المالكية لا يجيزون من الشروط إلا ما كان موافقاً لمقتضى العقد. أما الحنابلة، فإنهم أجازوا للزوجين أن يتفقا على ما يشاءان من الشروط إلا شرطاً يحلل حراماً أو يحرم حلالاً.
وفي هذا البحث، نحن لا نعالج الشروط الاتفاقية التي يتراضى عليها الزوجان، وتصبح لازمة كأثر للعقد، إذ محل هذه المعالجة، يدخل في إنشاء العقد، ونقتصر هنا على الآثار التي رتبها المشرع على قيام عقد الزواج.
التوازن العادل الذي يحكم به الإسلام آثار عقد الزواج يختلف كل الاختلاف عن التوازن الكمي الذي يمكن به دراسة الالتزامات المتبادلة في أي عقد من العقود. ذلك أن الشارع الإسلامي أراد بداية أن يضع المرأة في مكانها الصحيح في العلاقة الزوجية، فرتب لها حقوقاً لم يرتبها للرجل في هذا الإطار، لأنها كانت واستمرت مقررة له. وعلى ذلك، فإنه على مستوى الإحصاء الكمي قد تبدو المرأة أوفر حظاً من الرجل فيما رتبه الشارع الإسلامي من حقوق لها كأثر لإنشاء عقد الزواج، ولكن عندما تمعن النظر من الناحية الموضوعية، فإنه تتجلى لنا القيمة الحقيقية للتوازن العادل الذي يحكم آثار عقد الزواج.
وعلى ذلك، فإننا نجد أن هناك آثاراً معينة تتعلق بالمرأة وحدها، وهي حقها في الاحتفاظ باسمها، وحقها في الاحتفاظ بجنسيتها، واستقلال ذمتها المالية وأهليتها في ممارسة التجارة. وهذه كلها آثار شخصية رتبها الشارع الإسلامي للمرأة، كي يضعها في مكانها الصحيح إنسانيا داخل إطار العلاقة الزوجية، ونفرد لها مبحثاً مستقلاً في تقسيمنا لأنها تشكل حقوقاً خاصة قصد بها وضع المرأة في مكانها الصحيح من العلاقة الزوجية.
وهناك حقوق مالية للمرأة هما حقها في قبض المهر أو الصداق، وحقها في النفقة وفي الحضانة.
وهناك حق للرجل في أن ينسب إليه أولاده من الزوجة.
وهناك حقوق مشتركة في إنهاء عقد الزواج، فحق الزوج في أن يطلق يقابله حق الزوجة في طلب التطليق أو مخالعة زوجها. ثم حقهما معاً في طلب فسخ عقد الزواج. وهذه الحقوق نعالجها جميعاً في مبحث خاص ونخصص الجزء الثالث من الورقة لبحث الالتزام المشترك بحسن المعاشرة أو ما اصطلح على تسميته بحق الطاعة.
ونتناول هذه الآثار(4) تباعاً في التشريعات العربية على ضوء أحكام الشريعة الإسلامية.
المبحث الثاني: الآثار الخاصة بمكانة المرأة
أولاً: حق المرأة في الاحتفاظ باسمها
تبلغ قضية اسم الزوجة حداً من التسليم المطلق، سواء في اصلها الديني، حيث حظر الإسلام نسبة أي شخص إلى غير ذويه، أو في الثقافة العربية، حداً يجعلها من المسلمات سواء نص عليها القانون أو لم ينص.
لذلك، فإن قوانين الأحوال الشخصية لا تشير إلى هذا الحق، الذي صار من المسلمات، ونجد صداه في القوانين الأخرى وخاصة قوانين الأحوال المدنية، وقوانين جوازات السفر، حيث تتعامل مع الموجة باعتبارها صاحبة اسم يحمل اسم عائلتها لا اسم زوجها، القانون الوحيد الذي أورد هذا الحق تحديداُ هو قانون الأحوال الشخصية العماني المنشور في العدد رقم (601) ، حيث تعدد المادة 37 من هذا القانون حقوق الزوجة، فتضع في البند الثالث من هذا النص حق الاحتفاظ باسم عائلتها، بنصها على أن من حقوق الزوجة على زوجها: "الاحتفاظ باسمها العائلي".
أيا كان الأمر، فسواء كان هذا الحق مقرراً في قانون الأحوال الشخصية ذاته أو كان مقرراً في التشريعات الأخرى، فإن القاعدة المسلم بها في جميع الدول العربية هي احتفاظ الزوجة باسمها العائلي، وعدم حملها لاسم زوجها أو عائلته.
والواقع أن حق الزوجة في الاحتفاظ باسمها العائلي أمر "توجيه اعتبارات حماية المرأة والتي قد ينتهي زواجها إما بسبب الموت أو الطلاق فإذا ما ارتبطت بزواج جديد كان عليها أن تحمل اسماً جديداً ثالثاً، وهكذا الأمر كلما تكرر زواجها، ومن ثم فإن من شأن احتفاظها باسمها العائلي أن يجلبها هذا الانسلاخ المستمر عن ذاتها"(5).
وليس من شك أنه مما ساعد على استقرار هذا الحق بهذه القوة، نهى الدين الإسلامي عن تنسيب الأبناء لغير ذويهم، وعدم وجود تراث قوي من عرف أو تشريع يجعل المرأة تفقد اسمها وتحمل اسم زوجها، وهو الأمر الذي قام في التشريع الروماني في عصر الزواج مع السيادة، وظلت آثاره من القوة لأن تنتج انعكاساتها على التشريعات والأنظمة الأوروبية فيما بعد.
ثانياً: حق المرأة في الاحتفاظ بجنسيتها
لم يعالج فقه الشريعة الإسلامية القديم قضية الجنسية، لأن تقسيم الأمصار عندهم كان يقوم على أساس الدين، فحيث يسود الإسلام يقوم دار الإسلام، وحيث لا يسود يكون دار الحرب.
وقد ظهرت قضية الجنسية مع بزوغ عصر القوميات منذ بداية القرن التاسع عشر، وأصبحت الوطنية هي الرابطة التي تربط أبناء البلد الواحد الذين يحملون جنسية هذا البلد. ولذا، فإن الاجتهاد الفقهي في هذه القضية ينبني على المبادئ المقررة شرعاً فيما يتعلق باحتفاظها باسمها، وباستقلال ذمتها المالية وأهليتها للتجارة، بما يؤدي إلى القول بأن يكون للمرأة الحق في الاحتفاظ بجنسيتها استقلالاً عن زوجها إذا كان يحمل جنسية أخرى، ما لم تقرر هي وبإرادتها تخليها عن هذه الجنسية لرغبتها في حمل جنسية ثانية".
وبهذا النظر أخذت معظم التشريعات العربية الحديثة بمبدأ استقلال الجنسية، بمعنى عدم ترتيب أثر مباشر وحتمي للزواج على جنسية الزوجة، سواء تعلق هذا الأثر باكتساب الزوجة الأجنبية لجنسية زوجها العربي أو تعلق بفقد الزوجة العربية لتلك الجنسية، وأعطى للزوجة حق الاحتفاظ بجنسيتها إلا إذا رغبت في الدخول في جنسية زوجها، وعلى ذلك، نصت المادة 7 من قانون الجنسية المصري على أنه "لا تكتسب الأجنبية التي تتزوج من مصري جنسيته بالزواج إلا إذا أعلنت وزارة الداخلية برغبتها في ذلك". كما تنص المادة 13 من ذات القانون على أن: "المصرية التي تتزوج من أجنبي تظل محتفظة بجنسيتها إلا إذا رغبت في اكتساب جنسية زوجها".
وقد ساد هذا المنهج في تشريعات الجنسية في معظم الدول العربية، فنص التشريع السوري والجزائري والمغربي والتونسي على ذات الأحكام.
ونلاحظ هنا، أن الأخذ بهذا المنهج تمليه ليس فقط اعتبارات العدالة التي تحكم فقه الشريعة الإسلامية، وإنما تمليه أيضاً مقتضيات اتفاقية القضاء على جميع مظاهر التمييز ضد المرأة والصادرة عن هيئة الأمم المتحدة سنة 1989، والتي تنص المادة التاسعة منها على التزام الدول المنضمة إليها بمنح النساء حقوقاً متساوية مع الرجل فيما يتعلق باكتساب الجنسية وتغييرها والاحتفاظ بها، ويضمنون بصفة خاصة أنه إذا تزوجت امرأة بأجنبي أو غير الزوج جنسيته أثناء الزواج، فإن هذه الحالة لا تنتج عنها بصفة آلية تغيير جنسية الزوجة ولا جعلها عديمة الجنسية،ولا تحتم عليها اكتساب جنسية زوجها.
على أنه يرتبط بحق الزوجة في الاحتفاظ بجنسيتها أمر يخرج عن نطاق هذا البحث، ولكنه لشدة اتصاله به يوجب الإشارة إليه ذلك أن معظم التشريعات العربية، قد غايرت بين الرجل والمرأة في مدى نقلها لجنسيتها إلى أبنائهما، ففي حين ذهبت إلى نقل جنسية الأب على نحو تلقائي، فإنها لم تنقل إلى الأبناء جنسية الأم إلا لضرورة وحيدة هي توقي أن يصبح الوليد عديم الجنسية. ولا تستثنى من تشريعات الدول العربية في هذا المنهج سوى القانون التونسي، حيث تنص المادة 6/3 منه على أنه "يعتبر تونسياً الطفل المولود من أم تونسية وأب أجنبي".
وقد أثارت هذه المفارقة مشاكل جمة، فضلاً عن مخالفتها لقاعدة المساواة بين حقوق المرأة والرجل، مما دفع الأمر في مصر، إلى تبني المؤتمر الثاني للمجلس القومي للمرأة المنعقد في القاهرة في مارس سنة 2001 إلى تبني توصية صريحة، بضرورة تعديل القانون بحيث تنتقل جنسية الأم المصرية المتزوجة بأجنبي إلى أبنائها منه، وذلك بعد أن كانت توصيات مؤتمرات المرأة السابقة في أعوام 1994،1996، 1998 أقل صراحة في مواجهة المشكلة.
ثالثاً: استقلال الذمة المالية للمرأة وأهليتها للتجارة
القاعدة الشرعية الإسلامي، هو استقلال الذمة المالية للمرأة، وأهليتها للتجارة. وقد ترجمت القوانين العربية هذه القاعدة، بطريقتين تشريعيتين. الأولى: هي النص عليها صراحة في قانون الأحوال الشخصية، كما فعل القانون التونسي في المادة 24، "لا ولاية للزوج على أموال زوجته الخاصة"، والقانون العماني حيث يجعل البند (4) من المادة 37 من حقوق الزوجة على زوجها "عدم التعرض لأموالها الخاصة، فلها التصرف فيها بكل حرية"، كذلك يفعل القانون المغربي في البند(4) من المادة 35 ومشروع القانون الموحد للأحوال الشخصية لدول مجلس التعاون، حيث يردد البند الرابع من المادة 38 نفس الحكم السابق، أما الطريقة الثانية فهي أن يغفل قانون الأحوال الشخصية النص عليها، ثم تقوم القوانين الأخرى، وأخصها القانون المدني والتجاري، على قاعدة المساواة التامة بين الرجل والمرأة، وعدم استلزام أي إذن خاص بالزوجة يتعلق بأموالها أو بممارستها التجارة، وبهذا المنهج أخذ التشريع المصري والسوري والعراقي والجزائري واليمني.
إذن نستطيع أن نقرر في نهاية هذا المبحث أن الشريعة الإسلامية، قد أكدت حق المرأة في الاحتفاظ باسمها، كما أكدت استقلال ذمتها المالية، وأنه قياساً على ذلك يكون احتفاظها بجنسيتها كأحد الحقوق المتصلة بشخصها، وقد جاءت التشريعات العربية وبلا خلاف بينها مقررة للمرأة هذه الحقوق، التي تضعها بها في مكانها اللائق بعد أن يقوم عقد الزواج وينتج آثاره.
وتعالج في المبحث الآتي، باقي آثار عقد الزواج، عدا ما يتعلق بالطاعة أو حسن المعاشرة.
المبحث الثالث:الآثار الخاصة بالزوجين أو أحدهما
أولاً: المهر
المهر حق من حقوق الزوجة على زوجها، وهو حكم من أحكام عقد الزواج الصحيح، أي أثر من آثاره، وليس شرط صحة، ولذا ينعقد الزواج من غير ذكر المهر، بل ينعقد الزواج ويلزم المهر ولو اتفق الزوجان على أن لا مهر.
وقد شرع المهر على أنه هدية لازمة وعطاءً مقرراً، وليس عوضاً كما فهم بعض الناس، ولذلك قال كمال الدين بن الهمام: "إنه شرع إبانة لشرف عقد الزواج، إذ لم يشرع بدلاً، كالثمن والأجرة، وإلا وجب تقديم تسميته".
ويختلف المهر الواجب باختلاف التسمية وجوداً وعدماً، وباختلاف مقدارها ، فقد يكون الواجب هو المهر المسمى في العقد، وقدر الواجب هو عشرة دراهم، وقد يكون الواجب هو مهر المثل، وقد يكون الواجب الأقل من المسمى وهو مهر المثل.
ولما كان المهر حقاً خالصاً للزوجة، فلها قبضه بمجرد العقد،ما لم يكن ثمة شرط لتأجيل بعضه، أو عُرف بتقديم بعضه وتأجيل الآخر.
والذي يتولى القبض هو الزوجة نفسها أو وكيلها، أي من تأذنه بالقبض صراحة أو دلالة، إذا كانت بالغة عاقلة رشيدة، ويكون قبضه بالنيابة عنها، ومن الإذن دلالة قبض الأب أو الجد الصحيح مهر البكر في حضرتها إذا لم تنههما عن القبض، لأن الظاهر إذا لم يكن ثمة نهي صريح أنها ترضى بذلك القبض، إذ هما في الغالب يقبضانه ويجهزانها جهازاً يليق بها، بل ويضيفان إليه في سبيل ذلك أضعافاُ. وليس كذلك غير الأب أو الجد من الأوليات فلا يعتبر سكوتها إذناً لغيرهما، وإذا نهت أباها أوجدها عن القبض فلا تبرأ ذمة الزوج بالتسليم إلى واحد منهما.
وإذا كانت البالغة الرشيدة ثيباً لا يعتبر السكوت منها عند القبض إذناً، أيا كان القابض لأن السكوت منها لا يعتبر رضا بالعقد، فأولى ألا يعتبر رضا بالقبض، فلا تبرأ ذمة زوجها إلا بتسليمها أو تسليم من توكله توكيلاً لا مجال للريب فيه.
أما إذا كانت الزوجة محجوراً عليها مالياً كأن كانت سفيهة أو مجنونة، تكون ولاية قبض المهر لمن له عليها ولاية مالية ولو كان غير وليها الصبي (6).
وقد حرصت التشريعات العربية الحديثة للأحوال الشخصية على تبني تلك الأحكام في نصوصها، فقررت أنه يجب المهر للزوجة بمجرد العقد الصحيح (7)، وأن العروس تستحق المهر بمقتضى القانون ويجب تسمية المهر وقت العقد (8)، وأن المهر ملك للزوجة تتصرف فيه كيف شاءت ولا يعتد بأي شرط مخالف (9) ، وأنه يمنع أن يأخذ الولي –أب أو غيره- من الخاطب شيئاً لنفسه مقابل تزويجه ابنته أو من له الولاية عليها (10) ، وأن المهر حق للزوجة ولا تبرأ ذمة الزوج منه إلا بدفعه إليها بالذات إن كانت كاملة الأهلية ما لم توكل في وثيقة العقد وكيلاً خاصاً بقبضه (11)، وأنه للأب، ثم للجد العاصب، قبض مهر البكر حتى الخامسة والعشرين من عمرها، ما لم تنه عن ذلك (12)، وأنه ينفذ على البكر الرشيدة قبض أبيها لمهرها أو قبض جدها الصحيح عند عدم الأب، ما لم تنه الزوجة عن الدفع إلى غيرها (13)، وأنه ليس للزوج أن يجبر زوجته على البناء بها حتى يمكنها من حال صداقها، فإذا سلمت نفسها له، ليس لها بعد ذلك إلا المطالبة بالصداق كدين في الذمة (14)، وأنه يحق للزوجة الامتناع عن الدخول حتى يدفع لها حال صداقها (15)، وأنه إذا اختلف الزوجان في قبض حال الصداق فالقول قول الزوجة قبل الدخول والقول قوله بعد الدخول(16).
ثانياً: نفقة الزوجة
تجب نفقة الزوجة على زوجها بالعقد الصحيح، ولو كانت موسرة، أو مختلفة معه في الدين إذا سلمت نفسها إليه ولو حكما (المادة1 من القانون المصري رقم 25 لسنة 1920 المعدل بالقانون رقم 100 لسنة 1985، والمادة 74 من القانون الكويتي، والمادة 49 من القانون العماني، والمادة 50 من مشروع القانون الموحد للأحوال الشخصية لدول مجلس التعاون الخليجي). وتشمل النفقة السكنى والطعام والكسوة ومصاريف العلاج وغير ذلك بما يقضي به الشرع وبالقدر المعروف وما يعتبر من الضروريات في العرف والعادة (المادة 1/3 من القانون المصري رقم 25 لسنة 1920 المعدل، والمادة 118 من القانون المغربي، والمادة 75 من القانون الكويتي). والسبب في وجوب النفقة الزوجية هو العقد الصحيح بشرط وجود الاحتباس أو الاستعداد له، ذلك بأن العقد الفاسد لا يوجب نفقة قط، وإذا لم يتحقق الاحتباس أو الاستعداد له فلا نفقة، وإذا تحقق الاستعداد مع إمكان استيفاء أحكام الزواج من الزوجة في الجملة وجبت النفقة، سواء انتقلت إلى بيت الزوجية أم لم تنتقل ولم تمانع في الانتقال، لأن الزوج إذا ترك حقه في نقلها فعلاً إلى بيته لا يضيع حقها في النفقة، وهذا هو الأصح في المذهب الحنفي وغيره.
وإذا فوتت المرأة على الرجل حق الاحتباس الشرعي بغير حق فلا نفقة لها، وتعد ناشزة (تنص المادة 123/1 من القانون المغربي على أن نشوز الحامل لا يسقط نفقتها).
وتقدر نفقة الزوجة على زوجها بحسب حال الزوج يسراً وعسراً مهما كنت حال الزوجة، وذلك استناداً إلى صريح الكتاب الكريم (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسراً، أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم).
وعلى الزوج أن يهيئ لزوجته مسكناً ملائماً يتناسب وحالتيهما (المادة 56 من القانون العماني، والمادة 56 من مشروع القانون الموحد للأحوال الشخصية لدول مجلس التعاون، والمادة 59 من وثيقة الكويت للقانون العربي الموحد للأحوال الشخصية).
وإذا أعد الرجل المسكن الشرعي لا يفرض القاضي أجرة مسكن الزوجة، والمسكن الشرعي يجب أن يكون خالياً من الضرة (إلا إذا رضيت الزوجة بذلك- غير أنه يحق لها العدول متى لحقها ضرر من ذلك (المادة 59 من القانون العماني، والمادة 59 من مشروع القانون الموحد للأحوال الشخصية لدول مجلس التعاون، والمادة 62 من وثيقة الكويت للقانون العربي الموحد للأحوال الشخصية)، لأن وجود الضرة في ذاته إيذاء لها، كما جرت بذلك العادة ودل الاستقراء، وكذلك يجب أن يكون خالياً من أهله إذا تضررت من وجودهم، ويكون المسكن على حسب ما يليق بالرجل.
وإذا كان الزوج موسراً، وزوجته ممن يخدمون، تجب عليه –باتفاق الفقهاء- أجرة خادم لها، لأنه يكون من نفقتها، إذ الخادم لازم لها في هذه الحال، وهو قادر على أجرته.
وإذا كان الزوج معسراً لا يملك شيئاً ولا كسب له لا يمنع ذلك من أن يفرض القاضي عليه نفقة الإعسار، وإذا فرض القاضي النفقة على المعسر ولم يستطع الأداء تكون النفقة دينا في ذمته، لأن كل واحد مخاطب بما يستطيع، وللزوجة أن تطلب من القاضي الأمر بالاستدانة أو تستدين هي من تلقاء نفسها، وتكمن فائدة أمر القاضي بالاستدانة في أن استدانتها تكون بالنيابة عن الزوج، فيكون الزوج هو المستدين حكماً.
وللقاضي في أثناء نظر دعوى النفقة أن يأمر الزوج بأداء نفقة مؤقتة إلى الزوجة إذا طلبت ذلك، وتتجدد شهرياً حتى يفصل نهائياً في الدعوى، ويكون هذا الأمر واجب التنفيذ فوراً (المادة 79/أ من القانون الكويتي)، ويكون قراره مشمولاً بالنفاذ المعجل بقوة القانون (المادة 56 من القانون العماني، والمادة 51 من مشروع القانون الموحد للأحوال الشخصية لدول مجلس التعاون، والمادة 54 من وثيقة الكويت للقانون العربي الموحد للأحوال الشخصية).
ولا يحكم للزوجة بأكثر من نفقة سنة سابقة على المطالبة القضائية، ما لم ينفق الزوجان على خلاف ذلك (المادة 1/7 من القانون المصري رقم 25 لسنة 1920 المعدل، والمادة 53 من وثيقة الكويت للقانون العربي الموحد للأحوال الشخصية، أما في المادة 78/ب من القانون الكويتي "ولا تسمع الدعوى عن مدة سابقة تزيد على سنتين نهايتهما تاريخ رفع الدعوى"، أما في المادة 121 في القانون المغربي فإنه "يحكم للزوجة بالنفقة من تاريخ إمساك الزوج عن الإنفاق الواجب عليه").
وإذا طلبت الزوجة مقاصة دين نفقتها بما عليها لزوجها أجيبت إلى طلبها، ولو بدون رضاه (المادة 80 من القانون الكويتي). أما إذا طلب الزوج المقاصة بين نفقة زوجته ودين له عليها، لا يجاب إلى طلبه إلا إذا كانت موسرة قادرة على أداء الدين من مالها (المادة 81 من القانون الكويتي) وإلا فيما يزيد على ما يفي بحاجتها الضرورية (المادة 1/8 من القانون المصري رقم 25 لسنة 1920 المعدل).
ولا تسقط نفقة الزوجية بمضى المدة (المادة 121 من القانون المغربي، والمادة 42 من القانون التونسي).
أما في القانون الصومالي فقد عالج المشرع في المادة (31) من ذلك القانون أحكام النفقة معالجة مختلفة، مراعاة للظروف الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها المجتمع الصومالي، تمثلت في ضرورة مساهمة كل من الزوج والزوجة في تكاليف الحياة الزوجية بالنسبة لدخل كل منهما، وأنه في حالة عدم قدرة أحدهما على المساهمة، يلتزم الآخر بتحمل أعباء وتكاليف الحياة الزوجية، وإذا نشأ خلاف بين الزوجين يستعين القاضي بأهل الخبرة ويحسم الخلاف بالطريقة التي يراها، وإذا قصر أي من الزوج أو الزوجة في التزامه بالنفقة الواجبة، يجب عليه (أو عليها) دفع حصته منها ما لم يكن عاجزاً تماماً عن ذلك، وإذا استحال على أحد الزوجين الحصول على النفقة من الآخر لأسباب غير العوز، يحدد القاضي هذه النفقة لتكون ديناً في ذمة من لم يوف بها، ويخول للآخر الحق في الاستدانة بما لا يزيد على المبلغ المحدد، ويحق للدائن المطالبة باسترداد هذا الدين مباشرة من الطرف الذي يلزمه القاضي بذلك.
ثالثا: النسب
جعل الشارع ثبوت الولد من الزوج أثراً للزواج وحقاً للزوج، إن أتت به الزوجة على فراش الزوجية الصحيحة على تفصيل وقيود –لا يتسع المقام لسردها- وذلك لأن الزواج يوجب ثبوت النسب ما لم يقم أمر قطعي بنفي الثبوت، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر"، والحنفية على أن السبب في ثبوت النسب هو نفس العقد من غير اشتراط الدخول، أو مكان الدخول، لأن العقد هو الأمر الظاهر الذي تتعلق له الأحكام، ولأن الحديث قد جعل فراش الزوجية هو السبب في ثبوت النسب من غير أن يشترط شرطاُ ، وقال الفقهاء: إن السبب الموجب لثبوت النسب هو العقد مع إمكان الدخول، وذلك ما اختاره القانون المصري رقم 25 لسنة 1929.
وتسير التشريعات العربية على أحكام تكاد تتطابق فيما يتعلق بالنسب الذي يثبت وفقاً لها بالفراش أو بالإقرار أو بالبينة، وأكثر الاختلاف بينها في الصياغات وترتيب الأحكام فالقانون العماني ينص في المادة (71) منه على أن:
الولد للفراش إذا مضى على عقد الزواج الصحيح أقل مدة الحمل، ولم يثبت عدم إمكان التلاقي بين الزوجين.
يثبت نسب المولود في العقد الفاسد إذا ولد لأقل مدة الحمل من تاريخ الوطء ومثله الوطء بشبهة "وتنص المادة 72 منه على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وأكثرها سنة".
وهذه الأحكام هي التي يرددها القانون المغربي في المواد من 84 إلى 86 والقانون الكويتي في المادتين 169، 172 والقانون العراقي في المادة 51، ويستفاد من حكم المادة 52 من القانون العراقي أن الزواج الفاسد ينتج أثره فيما يتعلق بالنسب ويأخذ بنفس الحكم القانون التونسي في المادتين 69، 71، أما مشروع القانون العماني، وفيما يتعلق بثبوت النسب بالإقرار، تنص المواد من 76 إلى 80 على الآتي:
مادة 76:
أ- الإقرار بالبنوة ولو في مرض الموت يثبت به النسب بالشروط التالية:
أن يكون المقر له مجهول النسب.
أن يكون المقر بالغاً، عاقلاً.
أن يكون فارق السن بين المقر وبين المقر له يحتمل صدق الإقرار.
أن يصدق المقر له متى كان بالغاً عاقلاً المقر.
ب-الاستلحاق: إقرار بالبنوة صادر من رجل، بالشروط المذكورة في الفقرة السابقة.
مادة 77:
إذا كان المقر امرأة متزوجة أو معتدة، فلا يثبت نسب الولد من زوجها إلا إذا صدقها أو أقامت البينة على ذلك.
مادة 78:
إقرار مجهول النسب بالأبوة أو الأمومة يثبت به النسب إذا صدقه المقر عليه، أو قامت البينة على ذلك متى كان فارق السن يحتمل ذلك.
مادة 79:
الإقرار بالنسب في غير البنوة والأبوة والأمومة، لا يسري على غير المقر إلا بتصديقه أو إقامة البينة.
مادة 80:
لا تسمع الدعوى من ورثة المقر بنفي النسب بعد ثبوته بالإقرار الصحيح.
وهذه الأحكام التي تضمنها مشروع القانون العربي الموحد للأحوال الشخصية في شأن الإقرار كمصدر لثبوت النسب، هي التي ترددها جميع القوانين العربية، تقنيناً منها لأحكام الشريعة الإسلامية في شأن النسب.
وعلى ذلك، فإن النسب يثبت بالفراش، وسواء كان الزواج صحيحاً أو فاسداً، كما يثبت بالإقرار، بالشروط والأوضاع السابق ذكرها والتي تتفق فيها التشريعات العربية.
أما نفي النسب باللعان، فإننا نشير في هذا الصدد إلى أحكام المادتين 78، 79 من القانون العماني حيث يجري نصهما على الآتي:
مادة 78: اللعان أن يقسم الرجل أربع مرات بالله أنه صادق فيما رمى به زوجته من الزنا والخامسة أن لعنه الله عليه إن كان من الكاذبين، وتقسم المرأة أربع مرات بالله أنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
مادة 79: أ- للرجل أن ينفي عن نسب الولد باللعان خلال شهر من تاريخ الولادة أو العلم بها، شريطة ألا يكون قد اعترف بأبوته له صراحة أو ضمناً وتقدم دعوى اللعان خلال شهرين من ذلك التاريخ.
ب – يترتب على اللعان نفى نسب الولد عن الرجل، ويثبت نسب الولد ولو بعد الحكم بنفيه إذا أكذب الرجل نفسه.
وتتطابق المادتان 81،82 من مشروع القانون العربي الموحد للأحوال الشخصية في شأن اللعان، مع الحكمين السابقين فيما عدا المدة المقررة للرجل لنفى نسب ابنه حيث جعلها مشروع القانون الأخير سبعة أيام بدلاً من شهر، وجعل مدة تقديم الدعوى خمسة عشر يوماً بدلاً من شهرين.
وبذات المضمون السابق يأخذ القانون الكويتي في المادتين 176، 177. أما القانون التونسي والمغربي فقد عالجا الأمر على نحو مختلف، فالمادة 75من القانون التونسي (المجلة) تنص على أنه "إذا نفى الزوج حمل زوجته أو الولد اللازم له فلا ينتفي عنه إلا بحكم الحاكم وتقبل في هذه الصورة جميع وسائل الإثبات الشرعية".
كما تنص المادة 91 على أن "يعقد القاضي في حكمه على جميع الوسائل المقررة شرعاً في نفى النسب".
وهكذا نجد أن من التشريعات العربية أو مشروعاتها من واجهت مسألة نفى النسب باللعان بنصوص صريحة، ومنها ما أحالت فيها إلى أحكام الشريعة الإسلامية.
ونظراً لأن المقرر قضاء في الدول العربية، هو أن المحاكم تعمل بأحكام الشريعة الإسلامية – سواء على إطلاقها – أو أحكام مذهب معين فيما لم يأت به نص في القانون، فإن محاكم الدول التي لم تتضمن قوانينها نصوصاً صريحة بشأن نفي النسب باللعان، تعمل أحكام الشريعة الإسلامية، سواء كانت هناك إحالة صريحة من القانون أو لم تكن هناك مثل هذه الإحالة.
رابعاً: الحضانة
الحضانة في اللغة: مأخوذة من الحضن، وهو ما دون الإبط إلى الكشح، وحضنا الشيء جانباه، وحضن الطائر بيضه إذا ضمه إلى نفسه تحت جناحيه (17)، وفي الشرع حفظ الولد في مبيته ومؤنته وطعامه ولباسه ومضجعه وتنظيف جسمه.
والحضانة، باعتبارها حفظ الصبي والقيام بشئونه، هي من واجبات الأبوين معا ما دامت الزوجية قائمة بينهما (المادة 128 من القانون العماني، والمادة 57 من القانون التونسي، والمادة 99 من القانون المغربي، والمادة 132 من وثيقة الكويت للقانون الموحد للأحوال الشخصية)، فالأب يتكفل برعاية الأسرة وتقديم كل ما تحتاج إليه من أكل وشرب ولباس ومسكن وعلاج ونفقة دراسية… والأم تقوم بشئون رعاية الأسرة داخل المسكن، إلا أنه في بعض الحالات تتعرض الأسرة لبعض الهزات التي تعصف باستقرارها، فيقع المحظور الذي قال فيه الرسول عليه السلام:"ما احل الله حلالا أبغض إليه من الطلاق"، وهنا تثار مشكلة الحضانة، كما تثار عندما ينفصل الزوجان مع بقاء الزوجية قائمة.
وقد عرفت المحكمة الدستورية العليا بجمهورية مصر العربية الحضانة في حكم لها بقولها "إن الحضانة – في أصل شرعتها – هي ولاية للتربية، غايتها الاهتمام بالصغير وضمان رعايته والقيام على شئونه في الفترة الأولى من حياته، الأصل فيها هو مصلحة الصغير، وهى تتحقق بأن تضمه الحاضنة – التي لها الحق في تربيته شرعاً إلى جناحها باعتبارها أحفظ عليه وأحرص على توجيهه وصيانته، ولأن انتزاعه منها، وهى أشفق عليه وأوثق اتصالا به وأكثر معرفة بما يلزمه وأوفر صبراً، مضرة به ابان الفترة الدقيقة التي لا يستقل فيها بأموره والتي لا يجوز خلالها أن يعهد به إلى غير مؤتمن يأكل من نفقته ويطعمه نزراً أو ينظر إليه شزراً (18)"
والأصل في الحضانة أن تكون للنساء، ولما كانت الأم بطبيعتها أحن على وليدها فقد جعلت في المرتبة الأولى من الحاضنات، فإذا ماتت الأم أو كانت غير مستوفية لشروط الحضانة انتقلت الحضانة إلى محارم الصغير من النساء الأقرب فالأقرب، لأن المحارم هن الأكثر شفقة على الصغير من غيرهن، وعاطفة الشفقة في النساء أوفر منها في الرجال، فالقرابة تكون من جهة النساء اعظم من القرابة التي تكون من جهة الرجال.
فإن لم توجد حاضنة من هؤلاء النساء، أو وجدت ولكن لا تتوافر فيها شروط الحضانة، انتقل الحق في الحضانة إلى العصبات من الرجال بحسب ترتيب الاستحقاق في الإرث، فإن لم يوجد أحد من هؤلاء أو وجد غير مستوف لشروط الحضانة، انتقل الحق إلى محارم الصغير من الرجال غير العصبات.
أما إذا بلغ المحضون سناً معينة (في القانون المصري حتى سن العاشرة للصغير وسن اثنتى عشرة سنة للصغيرة، وفي القانون العماني حتى سن السابعة للصغير وحتى البلوغ للصغيرة، وفى القانون المغربي حتى سن الثانية عشرة للصغير وسن خمس عشرة سنة للصغيرة ويخير المحضون بعد ذلك في الإقامة مع من يشاء، وحتى سن العاشرة المادة 131 من وثيقة الكويت للقانون الموحد للأحوال الشخصية)، ويجوز للقاضي إبقاء الصغير حتى سن اكبر في يد الحاضنة دون أجر حضانة إذا تبين أن مصلحتهما تقتضي ذلك (في القانون المصري حتى سن الخامسة عشرة للصغير، وللصغيرة حتى تتزوج، وفي القانون العراقي لم يقيد المشرع القاضي بمدة معينة وإنما بمعيار تبينه مصلحة الصغير)، وبعد ذلك تنتقل حضانة الصغير إلى الرجال، لأن الصغير في هذه الفترة يحتاج إلى تأديب والتخلق بآداب الرجال وأخلاقهم، والأب اقدر على التأديب والتعنيف، كما أن الصغيرة تحتاج إلى الصون والحفظ والأب فيه أقوى وأهدى.
وحتى تتوافر أهلية الحضانة يشترط في الحاضن – بصفة عامة – أن يكون بالغاً وعاقلاً وأميناً وقادراً على القيام بشئون الصغير (المادة 190 من القانون الكويتي، والمادة 126 من القانون العماني، والمادة 58 من القانون التونسي، والمادة 98 من القانون المغربي، والمادة 128 من وثيقة الكويت للقانون الموحد للأحوال الشخصية)، ويشترط في الحاضنة من النساء أن يتوافر فيها بالإضافة إلى الشروط سالفة الذكر (1) ألا تكون متزوجة بغير ذي رحم محرم للصغير (المادة 191/1 من القانون الكويتي، والمادة 127/1 من القانون العماني) ، (2) ألا تقيم الحاضنة بالمحضون مع مبغض له(3) ألا تكون الحاضنة مريضة بأحد الأمراض المعدية.
ولا يشترط في الحاضنة أن تكون مسلمة، فيجوز أن تكون كتابية أو وثنية أو مجوسية، سواء كانت الأم أم غير الألم (المادة 192 من القانون الكويتي) فلم يراع اتحاد الدين في الحضانة لأن مبناها على الشفقة الطبيعية التي فطر الله سبحانه وتعالى النساء عليها وهى لا تختلف باختلاف الدين (19)، غير أن حضانة غير المسلمة على المسلم تسقط في حالتين: الأولى – أن يعقل الصغير الأديان، والثانية – أن يخاف على الصغير أن يألف غير الإسلام ديناً (المادة 192/2 من القانون الكويتي"وفي جميع الأحوال لا يجوز إبقاء المحضون عند هذه الحاضنة بعد بلوغ سن السابعة"، وفي القانون التونسي لا تصح حضانة من كانت على غير دين أب المحضون بعد بلوغه خمس سنوات، أما في المادة 108 من القانون المغربي تصح حضانتها بشرط ألا يتبين استغلالها للحضانة لتنشئة المحضون على غير دين أبيه).
ويجب في الحاضن فمن الرجال بالإضافة إلى الشروط الواجب توافرها في الحاضن بصفة عامة، شرطان آخران هما أن يكون ذا رحم محرم للأنثى المحضونة، وأن يكون عنده من يصلح للحضانة من النساء (المادة 190/ب من القانون الكويتي، والمادة 127/2 من القانون العماني، والمادة 129/ب من وثيقة الكويت للقانون الموحد للأحوال الشخصية).
وإذا تزوجت الحاضنة بغير محرم للمحضون ودخل بها الزوج تسقط حضانتها، غير أن سكوت من له الحضانة مدة سنة –بلا عذر- بعد علمه بالدخول يسقط حقه في الحضانة، وادعاء الجهل بهذا الحكم لا يعد عذراً (المادة 191 من القانون الكويتي، والمادة 106 من القانون المغربي، والمادة 137/3 من وثيقة الكويت للقانون الموحد للأحوال الشخصية).
ولا يسقط حق الحضانة بالإسقاط، وإنما يمتنع بموانعه، ويعود بزوالها (المادة 192 من القانون الكويتي، والمادة 136 من القانون العماني، والمادة 110 من القانون المغربي، والمادة 138 من وثيقة الكويت للقانون الموحد للأحوال الشخصية).
وليس للحاضنة أن تسافر بالمحضون إلى دولة أخرى للإقامة إلا بإذن وليه أو وصيه (المادة 195/1 من القانون الكويتي) فإذا امتنع الولي عن ذلك يرفع الأمر إلى القاضي (المادة 134 من القانون العماني، وفي المادة 136 من وثيقة الكويت للقانون الموحد للأحوال الشخصية يشترط أن تكون موافقة الولي كتابية).
وإذا سافرت الحاضنة لمسافة يصر معها على الولي القيام بواجباته سقطت حضانتها (المادة 61 من القانون التونسي) وإذا استوطنت الحاضنة ببلدة أخرى يعسر فيها على أبي المحضون أو وليه مراقبة المحضون والقيام بواجباته سقطت حضانتها (المادة 107 من القانون المغربي، والمادة 137/2 من وثيقة الكويت للقانون الموحد للأحوال الشخصية).
خامساً: حق الطلاق والحق في طلب التطليق والفسخ
من آثار انعقاد الزواج قيام حق للزوج في أن يطلق زوجته، كما يقوم للزوجة حق في أن تطلب التطليق من زوجها، ويقوم للزوجين معاً حق في طلب فسخ العقد.
ونحن هنا لا نعالج الطلاق أو التطليق أو الفسخ إذ الأحكام المتعلقة بهم هي مما يتعلق بإنهاء عقد الزواج، وهو ما يخرج عن موضوع هذه الورقة، فقط تشير إلى الحق في ممارسة أو طلب أي منها.
والطلاق وإن كان شرعاً هو أبغض الحلال، إلا أنه حق مقرر للزوج يمارسه بإرادته المنفردة، يعد أن يستوفى شرائطه. لا خلاف على ذلك بين القوانين العربية إلا القانون التونسي الذي نصت المادة 30 منه (المجلة) على أن: "لا يقع الطلاق إلا لدى المحكمة".
أما حق الزوجة في طلب التطليق فيكون لأحد الأسباب الآتية:
للعيب المستحكم الذي لا تعيش معه الزوجة إلا بضرر كالجنون والجذام والبرص أو للعنة والجب والخصاء.
للضرر بأن تتضرر الزوجة من البقاء على الزوجية لإيذائه لها بالقول لآو الفعل.
للغيبة بأن يغيب عنها لأكثر من سنة.
للحبس –(حبس الزوج).
لعدم الإنفاق.
وتضيف بعض التشريعات إلى هذه الأسباب، عدم أداء مقدم الصداق كسبب لطلب التطليق،كما يضيف بعضها الآخر إلى هذه الأسباب الإيلاء والظهار، وهو حلف الزوج عدم مباشرة زوجته ولا يفيء قبل انقضاء أربعة أشهر.
يلحق بالأسباب السابقة طلب الزوجة التطليق للخلع، وقد أخذت التشريعات العربية بالخلع رضاء بين الزوجين. مصر وحدها التي أخذت في القانون رقم 1 لسنة 2000 بمذهب الإمام مالك، حيث يحكم وجوباً بتطليق الزوجة طلقة بائنة إذا خالعت زوجها وأرسل القاضي حكمين عجزاً عن الإصلاح بين الزوجين.
أما حق الزوجين معاً في طلب فسخ عقد الزواج فيكون لاختلال أحد أركانه أو وقوعه على إحدى المحرمات أو اشتماله على مانع يتنافى ومقتضياته، أو أن يطرأ عليه ما يمنع استمراره شرعاً.
تلك في إيجاز الأسباب التي ينهض به حق الزوجة في طلب التطليق، أو يقوم بها حق لأي من الزوجين في طلب فسخ العقد، تفاصيل الأحكام الخاصة بها تدخل في باب إنهاء العقد وهو ما يخرج عن موضوع هذه الورقة.
وإذا كنا قد عرضنا فيما سبق لآثار عقد الزواج في التشريعات العربية، وأوجزنا في العرض لعدم وجود فروق جوهرية بين هذه التشريعات في هذا الشأن، فقد أبقينا أحد هذه الآثار الهامة للجزء الثالث من هذه الورقة للمعالجة على استقلال، وهو حق الزوج في طاعة زوجته له.
الجزء الثالث: حق الطاعة أم التزام مشترك بحسن المعاشرة
أفردنا هذا الجزء من البحث لموضوع الطاعة، الذي اختلفت التشريعات العربية على مكانه من تقسيم التزامات الزوجين كأثر لعقد الزواج، فبعض التشريعات لم تشر إليه أصلاً، كالقانون السوري والعراقي والكويتي ومشروع قانون الأحوال الشخصية لدولة الإمارات.
وبعض التشريعات الأخرى أوردته في باب حقوق الزوج على زوجته، وأوردته كالتزام على الزوجة، وذلك كالتشريع العماني والمغربي والمصري، وإن كانت قرنت الطاعة بالمعروف ثم ألقت التزاماً مشتركاً على الزوجين بحسن المعاشرة، وجاء ذلك في القانون العماني والقانون المغربي، وأخيراً فإن هناك من التشريعات من عالجت الأمر باعتباره التزاماً مشتركاً بحسن المعاشرة وأخصها القانون التونسي ومشروع قانون الشخصية لدول مجلس التعاون الخليجي.
الأثر القانوني لهذا الاختلاف:
والسؤال الذي يطرح نفسه بعد تحديد أن هناك اختلافاً بين التشريعات العربية في هذا الشأن، هو ما إذا كان هناك أثر قانوني يترتب على هذا الاختلاف من عدمه. وليس من شك أن هناك أثراً قانونياً واضحاً، يتجلى في أنه إذا كانت الطاعة للزوج حقاً له، والتزاماً على الزوجة، فإن أي إخلال من جانبها بهذا الالتزام تترتب عليه مساءلتها عنه، أيا كان سبب هذا الإخلال، ولو كان السبب في الزوج نفسه،بما يترتب عليه تحملها للجزاء المقرر لهذا الإخلال، وهو يتراوح بين إجبارها على طاعته، أو اعتبارها ناشزاً بما يترتب على ذلك من حرمانها من النفقة.
أما إذا كان الأمر يتعلق بالتزام مشترك بينهما بحسن المعاشرة، فإن القاضي لا يتوقف عند ظاهر من أخل بالتزامه، ويصبح واجباً عليه أن يبحث فيما إذا كان هذا الإخلال رداً على إخلال بالتزام مقابل من عدمه، وقد ينتهي إلى نتيجة مغايرة لما يدعيه من يشكو أن الطرف الآخر قد أخل بالتزامه.
الأثر الثقافي لهذا الاختلاف:
على أن هذا الاختلاف له أثر ثقافي أشد عمقاً وأكثر تأثيراً في النفوس من أي أثر آخر، ذلك أن هناك اختلافاً بين نفوس تربت على أن حسن المعاشرة المتبادل بين الزوجين هو واجب والتزام قانوني وديني عليها، وبين نفوس تربت على أن طاعة الزوجة وحدها لزوجها هو التزام عليها، بما يقود إلى الانحراف إلى معنى الخنوع المطلق، وهو ما تغذيه الثقافات المنافية لأحكام الإسلام وأديانه. وتبلغ المشكلة أوجها عندما يعطى لهذا المفهوم بعداً دينياً فيتم تصوير خنوع الزوجة المطلق لزوجها، على أنه صحيح الدين.
لقد اصطنعت أحاديث، وترددت أقاويل تكرس لواجب خضوع المرأة وخنوعها لزوجها أيا كان أمره وبالرغم من أن العلماء والفقهاء تصدوا لهذه الأقاويل بالتفنيد، وبيان الصحيح من المصطنع من الأحاديث، إلا أن آثار ترديد الأباطيل كانت أشد، وسادت آراء وأفكار حول فكرة طاعة الزوجة لزوجها بمعنى الخنوع والخضوع-ليس لها من أساس في صحيح الدين.
الدور الثقافي للقانون:
ليس من شك أن القانون لا يكتفي بتنظيم العلاقات بين الناس، وإنما هو يلعب دوراً ثقافياً مؤثراً في حياتهم، بما يتبناه ويعتنقه من أفكار وقيم ثقافية، تكون قوته الإلزامية عاملاً على سرعة انتشارها والتمكين لها في تشكيل وجدان الناس.
لذلك فإننا نسحل هنا أن جميع التشريعات العربية قد نهجت نهجاً دينياً سليماً فيما يتعلق بموضوع الطاعة، وبالرغم من الاختلاف بينها.
فالتشريعات التي تبنت فكرة الطاعة كحق الزوج والتزام على الزوجة، قد قرنت الطاعة بالمعروف، فحققت بذلك أثراً ثقافياً إيجابياً، هو إبعاد فكرة الطاعة عن مفهوم الخنوع والخضوع المطلق.
أما التشريعات التي جمعت بين فكرة الطاعة بالمعروف، واعتبار حسن المعاشرة التزاماً مشتركاً بين الزوجين، فقد خطت بذلك خطوة أكبر في البعد عن أي مفهوم للخنوع الذي يرتبط بالطاعة.
وأخيراً، فإن التشريعات لتي تبنت فكرة أن حسن المعاشرة هو التزام مشترك بين الزوجين، قد تكون هي التشريعات الأكثر التصاقاً بالمفهوم الإسلامي الصحيح.
ومن ذلك، يبين أن الاختلاف بين المصطلحات المستخدمة في هذا الشأن، ليست مجرد اختلافات لفظية، وإنما هي اختلافات عميقة المعنى، ذات آثار قانونية وثقافية شديدة الأثر على حياة الناس وأحوالهم، بل على تحديد رؤى وأفكار وقيم الأجيال التالية.
وإذا كان الاختلاف في هذا الشأن مؤدياً إلى اختلاف شديد في النتائج القانونية، كما أنه مؤدٍ إلى اختلاف أشد في تشكيل قيم الناس الفكرية، ورؤاهم الثقافية للمرأة والحياة الزوجية، فإن الأمر -وله هذه الخطورة- يقتضي خطوة أبعد في معرفة أسباب هذا الاختلاف.
الاختلاف في فهم الدين وتفسيره:
لم يكن النـزول بمكانة المرأة، والانحراف بمعنى الطاعة في الحياة الزوجية إلى مفهوم الخنوع والخضوع المطلق، راجعاً فقط إلى موروثات ثقافية اصطنعت وزيفت على الدين الإسلامي، ونسبت إليه ما ليس منه، وإنما كان لهذه الموروثات آثارها في دفع تيار من العلماء الأجلاء في الدين إلى تفسير النصوص الحقة إلى ما ينحى بها في تجاه نفس النتائج، التي ترى تيارات أخرى أنها لا تتفق والتفسير الصحيح للإسلام.
ونعرض في إيجاز لما يمثل التيارين:
للرجال على النساء درجة:
يقول الأستاذ المرحوم الشيخ محمد أبوزهرة(20): "وحقوق الزوج على زوجته هي: أولاً-حق الطاعة في كل ما هو من آثار الزواج، وما يكون حكماً من أحكامه. وقد جعل الشارع للرجل حق تأديب المرأة بالمعروف واللائق بمكانهما، وذلك لأن طبيعة كل اجتماع تجعل لواحد منه درجة أعلى من غيره، وتجعل له سلطاناً في الإصلاح والتهذيب، وقد كانت هذه الدرجة للرجل، ولذلك قال الله تعالى: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة"، وجعلت هذه الدرجة للرجل….الخ"، ونلاحظ على هذا التفسير الآتي:
إنه ربط بين الطاعة وبين الحق في التأديب، حال أن الطاعة التي تدخل في باب حسن المعاشرة لا شأن لها بالتأديب الذي له حكم خاص يتعلق بنوع من النساء هن اللاتي يخشى في أحوال معينة من نشوزهن.
إنه لم يربط المعروف بالطاعة، وإنما ربط المعروف بحق التأديب.
إنه جعل الدرجة التي للرجل على المرأة، ليست درجة فضل وتوجيه، وإنما هي درجة بسلطان الإصلاح والتهذيب، أي أنها سيادة وليست قيادة.
في مواجهة هذا التفسير الذي يركز على الجزء الثاني من الآية الكريمة، ويربط الدرجة التي للرجال بحق التأديب، نجد تفسيرا مناقضاً له تماماً للآية الكريمة "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة".
يقول الإمام محمد عبده في تفسير لهذه الآية:
"هذه كلمة جليلة جداً، جمعت –على إيجازها_ ما لا يؤدي بالتفصيل إلا في سفر كبير. فهي قاعدة كلية ناطقة بأن المرأة مساوية للرجل في جميع الحقوق، إلا أمراً واحداً عبر عنه بقوله تعالى: "وللرجال عليهن درجة" –وسيأتي بيانه- وقد أحال في معرفة ما لهن وما عليهن على المعروف بين الناس في معاشراتهم ومعاملاتهم في أهليهم، وما يجري عليه عرف الناس هو تابع لشرائعهم وعقائدهم وآدابهم وعاداتهم. فهذه الجملة تعطي الرجل ميزاناً يزن به معاملته لزوجته في جميع الشئون والأحوال، فإذا هم بمطالبتها بأمر من الأمور، يتذكر أنه يجب عليه مثله بإزائه. ولهذا قال بن عباس رضى الله عنهما "إنني أتزين لامرأتي، كما تتزين لي، لهذه الآية" وليس المراد بالمثل المثل بأعيان الأشياء وأشخاصها، وإنما المراد أن الحقوق بينهما متبادلة وأنهما أكفاء، ويضيف الإمام محمد عبده في تفسيره لقوله تعالى: "والرجال عليهن درجة"، فهو يوجب على المرأة شيئاً وعلى الرجال أشياء، ذلك أن هذه الدرجة هي درجة الرياسة والقيام على المصالح المُفَسّرة بقوله تعالى:"الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم" فالحياة الزوجية حياة اجتماعية، ولابد لكل اجتماع من رئيس، لأن المجتمعين لابد أن تختلف آراؤهم ورغباتهم في بعض الأمور، ولا تقوم مصلحتهم إلا إذا كان لهم من يرجع إلى رأيه في الخلاف" (21)
وعن الدرجة التي للرجال على النساء، ما قاله الطبري عن ابن عباس وهو أن"الدرجة التي ذكر الله تعالى ذكره في هذا الوضع، الصفح من الرجل لامرأته عن بعض الواجب عليها، وإغضاؤه لها عنه، وأداء كل الواجب لها عليه"، وأنها حض للرجال على حسن العشرة والتوسع للنساء في المال والخلق، أي أن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه(22).
وهكذا نجد أن نفس النص "وللرجال عليهن درجة"، فسره الأستاذ الشيخ أبوزهرة على أنها درجة سلطان التأديب والإصلاح، وفسره الإمام الشيخ محمد عبده، بأنها درجة الرئاسة في القيادة بالرأي، وكان ابن عباس قد فسره بأنه درجة في الصفح والإغضاء عن بعض الواجب عليها، وفي العطاء في المال والخلق وفي التحامل على النفس.
إذن، الأمر يتعلق بمناهج التفسير، والمؤثرات الثقافية التي ينحاز إليها المفسر، عند تفسيره للنص. وقل أن نعرض لذلك نشير إلى قضية أخرى.
الرجال قوامون على النساء:
ويشيع الاعتقاد لدى البعض هو بأن قوامة الرجل على المرأة قوامة مطلقة في السيطرة والاستبداد بها حال أنها قوامة ترتبط:
أولاً: بباقي ما تضمنته الآية الكريمة"الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم".
ثانياً: بمفهوم القوامة الذي قال فيه الإمام محمد عبده "هو الرياسة التي يتصرف فيها المرؤوس بإرادته واختياره، وليس معناها أن يكون المرؤوس مقهوراً مسلوب الإرادة، لا يعمل عملاً إلا ما يوجهه إليه رئيسه.
والمعنى الثاني يرجحه في الآية الكريمة، أنها عللت توافر القوامة بأسبابها فيما جاء بباقي الآية والمشار إليه في أولاً، ولم تجعلها واردة على إطلاقها، فمناط تحققها ، هن توافر الفضل، والاتفاق. وهما إذا تحققا، تحققت شروط الرئاسة. ولكن ما طبيعة هذه الرئاسة؟
يقول الأستاذ عبدالحليم أبوشقة:
إن الرئاسة في الأسرة ليس استبدادية، بل هي شورية، لأن الشورى خلق للمسلم في كل شئونه، ثم هي شرعية أي تحكمها ضوابط شرعية كثيرة منها القاعدة الجليلة "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف"، فضلاً عن جميع الأحكام الخاصة بالزواج والطلاق وآداب العشرة". ويضيف أن كمال أداء مسئولية القوامة، يقتضي :
طاعة المرأة زوجها، طاعة نابعة من القلب أي مع الرضا والحب، وأن تكون طاعة في غير معصية.
التشاور بين الزوجين في القضايا التي تهم الأسرة.
نيابة المرأة عن زوجها في إدارة شئون الأسرة حال سفره.
إذن، حاصل ما تقدم أن القضية كانت دوماُ قضية تفسير، وتراث ثقافي تدفع إلى القانون لهذا التفسير أو ذاك، وأن أعتقد المشاكل إنما أتت من التفسيرات التي اجتزأت نصاً من سياقه، ومن تسانده مع باقي النصوص، لتعطيه تفسيراً يتجاوب مع مؤثر ثقافي معين.
نصوص القرآن الكريم تتساند في تشكيل عقل ووجدان المسلم:
يقول الله في كتابه العزيز:
"والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله، إن الله إن الله عزيز حكيم" سورة التوبة- الآية 71
"ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً" سورة النساء –الآية 124.
"من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون" سورة النحل- الآية97.
"إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات، والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراُ عظيماُ" سورة الأحزاب-ا الآية 35.
"ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليماً" سورة النساء- الآية 32.
"والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهم جزاء بما كسبا نكالاً من الله، والله عزيز حكيم" المائدة- الآية 38.
هذه أمثلة من آيات زاخر بها القرآن الكريم، قاطعة في أن المؤمنين والمؤمنات أولياء بعض، وأن منزلة المرأة المؤمنة عند الله هي نفس منـزلة الرجل، وأن كليهما يجازى نفس الجزاء عن عمله الصالح، كما أن مسئوليتهما الجنائية واحدة، والخطاب يتوجه إليهما على قدم المساواة في وعدهما بالمغفرة والأجر العظيم، وأن لكل منهما نصيباً مما أكتسب. وسط هذه الأحكام القاطعة المشعة بالمساواة والمنـزلة الواحدة في الدنيا والآخرة، إذا جاء نصان، أحدهما يتكلم عن القوامة المشروطة بالفضل والانفاق، والثاني يتحدث عن درجة الرجال على النساء، فلا يجوز فهم هذين النصين إلا في دائرة هذا الإطار القرآني الشامل، حيث لا تكون القوامة إلا رئاسة التوجيه في نطاق الشورى، ولا تكون الدرجة إلا درجة الصفح والعطاء والتحامل على النفس كما قال ابن عباس.
ومن هنا، حق لنا أن نقول أن التشريعات العربية التي جعلت الالتزام بحسن المعاشرة هو التزام مشترك على الزوجين، قد وفقت كل التوفيق في الابتعاد بالأمر عن دائرة الطاعة بمفهوم الخنوع والخضوع من جانب الزوجة، والتسلط والاستبداد من جانب الزوج، كما أنها استجابت بحق للفهم القرآني في تساند آياته وما تشغله أحكامها من مساواة يترجمها أكثر معنى حسن المعاشرة.
والله ولي التوفيق،
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش
د. أحمد كمال أبو المجد- الحقوق القانونية للأسرة في الوطن العربي. مقال، مجلة الحق العدد 1،2 سنة 1995 ص103.
عبدالعزيز فهمي- مدونة جستنيان في الفقه الروماني- القاهرة 1946.
الشيخ محمد أبوزهرة- الأحوال الشخصية- قسم الزواج- 1950 ص16.
هناك تقسيمات أخرى عديدة لآثار عقد الزواج تتفق في لجوهر والمضمون وإن كانت تختلف في منهج التقسيم والأمر في ذلك يقع بحسب المنهج الذي يتبعه الفقيه أو الباحث في التقسيم، وقد آثرنا اتباع هذا المنهج الذي يوافق مقتضيات البحث الماثل، وهناك من التشريعات العربية من أجرى تقسيماً لآثار عقد الزواج وهو التشريع المغربي، حيث تنص المادة 34 من مدونة الأحوال الشخصية الصادرة سنة 1957 والمعدل في عام 1993 على أن "الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين: 1- المساكنة الشرعية 2- حسن المعاشرة وتبادل الاحترام والعطف والمحافظة على خير الأسرة 3- حق التوريث بين الزوجين 4- حقوق الأسرة كنسب الأولاد وحرمة المصاهرة". " أما حقوق المرأة على الزوج، فتنص المادة 35 من نفس القانون على أنها: 1- النفقة الشرعية من طعام وكسوة وتمريض وإسكان. 2- العدل والتسوية إذا كان الرجل متزوجاً بأكثر من واحدة. 3- السماح للزوجة بزيارة أهلها واستزارتهم بالمعروف. 4- للمرأة حريتها الكاملة في التصرف في مالها دون رقابة الزوج إذ لا ولاية للزوج على مال زوجته. وتنص المادة 36 على حقوق الرجل على المرأة وهي: 1- صيانة الزوجة نفسها وإحصانها. 2- طاعة الزوجة لزوجها بالمعروف. 3- إرضاع أولادها عند الاستطاعة. 4- الإشراف على البيت وتنظيم شئونه. 5- إكرام والدي الزوج وأقاربه بالمعروف. وقد أخذ بذات منهج التقسيم المغربي مشروع القانون العربي الموحد للأحوال الشخصية لدول مجلس التعاون. المواد 37،38،39.
د. أحمد الهواري. وضع المرأة في تشريعات الدول العربية. مجلة الحق السنة26، 1995 ص246.
فإذا كانت الزوجة محجوزاً عليها لعته ووليها العاصب عمها، ولها وصي من قبل المحكمة غير عمها، فإن عمها هو الذي يتولى زواجها ولا يقبض المهر، بل الذي يقبضه هو الوصي المعين من قبل المحكمة، وذلك لأن قبض المهر، وقد صار مستحقاً لها، فإنما هو لمن عُهد إليه بالمحافظة على أموالها وإدارتها.
المادة52 من القانون الكويتي، والمادة 42 من مشروع القانون الاتحادي الإماراتي، المادة 53 من القانون السوري.
المادة 24 من القانون الصومالي.
المادة 18 من القانون المغربي، والمادة 12 من القانون التونسي، والمادة 23 من القانون العماني، والمادة 33 من مشروع القانون الموحد للأحوال الشخصية لدول مجلس التعاون الخليجي، والمادة 26 من وثيقة الكويت للقانون العربي الموحد للأحوال الشخصية.
المادة 19 من القانون المغربي.
المادة 60 من القانون السوري.
المادة 56 من القانون الكويتي.
المادة 48 من مشروع القانون الاتحادي الإمارتي.
المادة 26 من القانون المغربي، والمادة 13 من القانون التونسي.
المادة 25 من القانون العماني، والمادة 38/1 من وثيقة الكويت للقانون العربي الموحد للأحوال الشخصية، والمادة 35 من مشروع القانون الموحد للأحوال الشخصية لدول مجلس التعاون.
أضافت المادة 76 من القانون الكويتي لذلك النص عبارة "على ألا تقل عن الحد الأدنى لكفاية الزوجة".
فقه السنة، ج3، 338.
القضية رقم 7 لسنة 8 قضائية "دستورية"- الجريدة الرسمية العدد 22 تابع في 5/6/1993.
فتوى دار الإفتاء المصرية بتاريخ 28 من أكتوبر سنة 1918.
محمد أبوزهرة- الأحوال الشخصية- قسم الزواج- 1950 ص158، 159.
الشيخ محمد عبده- الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده ص201 وما بعدها.
عبدالعليم أبوشقة. تحرير المرأة في عصر الرسالة، الجزء الخامس ص95، ص99-100.
المرجع السابق ص101،103.
--------------
من المنتدى الأول لمؤتمر قمة المرأة العربية من على النت